قَـتَـلُـوا الأَنْبِـيَـاءَ وَاتَّـخَـذُوا الْعِـجْـ
ـلَ أَلاَ إِنَّـهُــمْ هُــمُ السُّـفَـهَــــاءُ
ذكر فيما ذكر من ذمهم وذكرهم بأعظم الخطايا وأكبرها قال : قتلوا الأنبياء وهو كفر بالله تعالى واتخذوا العجل عبدوه من دون الله وهو الكفر الصحيح حيث فعلوا هذا قال : {ألا إنهم هم السفهاء} [البقرة : 13] وكونهم سفهاء لم يتبعوا ما يعلمون من طريق الرشد فإن طريق الرشد الإيمان بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وتعظيم جانبهم لله تعالى واحترامهم حتى لا يتجاسروا عليهم بأقل قليل من الأذى ثم أيضا توحيد الباري سبحانه وتعالى بالعبادة وعدم التفاوت لغيره بالعبادة فخالفوا طريق الرشد واتبعوا طريق الغي والضلال وهم يعلمون أنها مهلكة لم يكونوا فيها على غرور فهذا هو حقيقة السفيه الذي يعلم الهلاك فيه ثم يقتحمه باختياره ، ثم قال رضي الله عنه :
وَسَـفِـيـهٌ مَـنْ سَـاءَهُ الْمَـنُّ والسَّـلْــ
ـوَى وَأَرْضَــاهُ الْفُـــومُ والْقِـثَّـــاءُ
الواو هنا ليست حالية ولا استئنافية محضة إنما مرتبة على سؤال مقدر وتقديره هو العيب على الشيخ فيما سمى به بنو إسرائيل سفهاء كان المعارض له يقول : أمة آمنت بموسى ووجدت الله وعبدته باتباع كناية فاسم الإيمان محقق عليهم كيف حل لك أن تسميهم سفهاء ؟ فأجاب بالجملة الاستئنافية المبدوءة بواو الترتيب يقول : إذا عبت كونهم سفهاء قال : وسفيه من ساءه المن والسلوى وأرضاه الفوم والقثاء وما معها قليلة الفائدة كثيرة التعب في تحصيلها فمن اتبعها وترك المن والسلوى هو السفيه ، ثم قال رضي الله عنه :
مُـلِـئَـتْ بِـالْخَبِـيـثِ مِنْـهُـمْ بُـطُـونٌ
فَهْــيَ نَــارٌ طِـبَـاقُــهَا الأَمْـعَــاءُ
قال : ملئت بالخبيث منهم بطون والمراد بالخبيث هنا ما خالف أمر الله تعالى ، قال : فحينئذ بطونهم هي نار طباقها الأمعاء صار طباق الأمعاء في بطونهم كطباق النار وفي عالم الوجود ، ثم قال رضي الله عنه :
لَـوْ أُرِيـدُوا فِي حَـالِ سَـبْـتٍ بِـخَـيْـرٍ
كَـانَ سَـبْـتــاً لَـدَيْـهِـمُ الأَرْبِـعَــاءُ
قال : لو أريد في سبتهم بخير حيث فرضه الله عليهم ، لو أريدوا في سبتهم بخير لكان سبتا لديهم الأربعاء لأن الأربعاء يوم مبارك خلق الله فيه الأنوار ، لو أراد الله بهم الخير ما وضع السبت عليهم ، فلما أرادهم بالشر سبحانه وتعالى جعل الله عليهم السبت ، ثم قال رضي الله عنه :
هْــوَ يَـوْمٌ مُـبَــارَكٌ قِيــلَ لِلتَّـصـْ
ـرِيـفِ فِـيـهِ مِـنَ الْيِـهُـودِ اعْـتِـدَاءُ
أي هو يوم السبت هو يوم مبارك ولكن جعل شؤما على اليهود لما كان مغضوبا عليهم كما قال سبحانه وتعالى : {إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه} [النحل : 124] حل بهم الهلاك ، ثم قال رضي الله عنه :
فَبِظُـلْـمٍ مِـنْـهُـمْ وَكُـفْـرٍ عَـدتْـهُـمْ
طَـيِّـبَــاتٌ فِـي تَـركِـهِـنَّ ابْـتِـلاَءُ
ذكر في هذا البيت إشارة إلى ما ذكره ربنا سبحانه وتعالى في الآية مخبرا عن اليهود ، قال سبحانه وتعالى : {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} [النساء : 120] فهذا هو المراد في هذا البيت في ترك تلك الطيبات وتحريمها ابتلاء عظيم عليهم ، ثم قال رضي الله عنه :
خُـدِعُـوا بِـالْمُنَـافِـقِـيـنَ وَهَـلْ يُـنْـ
ـفَـقُ إِلاَّ عَـلَـى السَّـفِـيـهِ الشَّـقَــاءُ
قال : خدعوا بالمنافقين وخدعهم بالمنافقين حين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ظلما وحسدا وأصروا على ظلمهم وحسدهم لكنهم خدعوا بالمنافقين من الأنصار حيث تبعوهم على ذلك الكفر وغروهم فوقع عليهم الهلاك والوبال والشقاء والذل والهوان والقتل والسبي وكان الذي بلغهم لهذا خداعهم للمنافقين حيث قالوا لهم : {لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا ولئن قوتلتم لننصرنكم} [الحشر : 11] الآية ، ثم قال : وهل ينفق الشقاء إلا على السفيه أما الشقاء فهو اتباع الطريق المهلكة وذلك الشقاء لا ينفعه منفقه إلا على السفيه ، أما الرشيد إذا رآه أو علمه يفر منه لا يتبعه ، ثم قال رضي الله عنه :
وَاطْـمَـأَنُّـوا بِـقَـوْلِ الأَحْـزَابِ إِخْــوَا
نِـهِــمُ إِنَّـنَـــا لَـكُـمْ أَوْلِـيَـــاءُ
أشار في هذا البيت إلى ما وقع لهم في غزوة الأحزاب وذلك أنهم حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أحبار اليهود مع قريش وغطفان يريدون في ظنهم أن يستأصلوه صلى الله عليه وسلم وجميع الأنصار معه قتل فخيب الله ظنهم وأنزل الله في شأنهم هذه القضية : {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال} [الأحزاب : 25] الآية ، قالوا لهم : إننا أولياء معشر اليهود كانوا قد حالفوهم وعاهدوهم أن لا يبرحوا الفرصة حتى يستأصلوا محمدا صلى الله عليه وسلم ومن معه واطمأن اليهود بقولهم وخدعوا بذلك فأنزل الله بهم بأسه ورجسه وأنزل بالأحزاب خذلانه وإذلاله وأنزل سبحانه وتعالى بنبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه نصره وعزه وكشف ما بهم من الكرب ، ثم قال رضي الله عنه :
حَـالَـفُـوهُـمْ وَخَـالَـفُـوهُـمْ وَلَــمْ أَدْ
رِ لِـمَــاذَا تَـخَـالَــفَ الْحُـلَـفَـــاءُ
قضية المخالفة بينهم بعد الجمع والتحالف أن نعيم بن مسعود رضي الله عنه وكان من أكابر أشراف غطفان أسلم وأقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحده ولم يعلم بذلك أحد من قومه ، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له : يا رسول الله إن شئت قاتلت معك الكفار وإن شئت تركتني وفرقت عنك جمعهم وكلمتهم فقال له صلى الله عليه وسلم : بل فرق عنا جمعهم أو كما قال صلى الله عليه وسلم مما هذا معناه ، فجاء رضي الله عنه إلى بني قريظة ودخل عليهم وحده وقال لهم : أنتم أحبابنا وإني لكم ناصح وقد دخلتم معنا في قتال هذا الرجل ، والرجل في بلادكم ولا أنتم وحدكم لا معين لكم عليه ونحن وقريش ليس معناه في البلاد ، وقومنا قريش أصحاب ربح فقط إن أصابوا فرصة انتهزوها وإلا رجعوا إلى بلادهم وتركوكم والرجل لا طاقة لكم به ، فقالوا له : فما تأمرنا ؟ قال لهم : لا تقاتلوا مع القوم حتى يعطوكم رهونا من أشرافهم من قريش وغطفان على أنهم لا يقلعون عن قتاله حتى يستأصلوه ومن معه وإلا فلا تقاتلوا معهم ، فقالوا له : صدقت ، ثم جاء قريشا وغطفان وقال لهم : إني لكم ناصح وقد ألقي إلي خبر أن يهودا ندموا على الدخول على عهدنا وقالوا : لا طاقة لنا بقتال هذا الرجل وقد أرسلوه صلى الله عليه وسلم وقالوا : ندمنا على ما فعلنا من الدخول في حربك فهل يرضيك أن نأخذ لك جمعا من أشرافهم فتقتلهم ونرجع معك إلى عهدنا كما كنا ؟ فقال لهم : إن أتيتموني بجمع من أشرافهم نقتلهم فأنا على عهدكم ، فقال لهم : وإني لكم ناصح إذا طلبتكم يهود بأخذ الرهون منكم فلا تعطوا رجلا واحدا فإنهم غادرونا وأخلفونا وعدهم وارتحلوا إلى بلادكم ولا حاجة لكم بهم . فما وقع هذا الأمر تكلم قريش وغطفان وقالوا : نذهب إليهم وليخرجوا معنا إلى القتال فإنه طال بنا المقام هاهنا ، فجاؤوا إليهم وقالوا لهم : طال بنا المقام هنا أخرجوا معناه لنقاتل هذا الرجل حتى يقع ما يريد ، فقالت لهم اليهود : إن الليلة ليلة السبت وما نقدر أن نقاتل فيه ، وقد بلغكم خبر ما فعل الله بمن اعتدى في السبت من اليهود وما نستطيع أن نقاتل فيه ، ثم مع ذلك ما نحن مقاتلون معكم حتى تعطونا رهونا من الفريقين بهم فلا يزال القتال ديننا حتى نستأصله فإنكم إن لم تعطونا رهونا كنتم في سبيل ربح إن أصبتم فرصة انتهزتموها وإلا رجعتم إلى بلادكم وتركتمونا والرجل في البلاد ولا طاقة لنا به فيستأصلنا فما نحن مقاتلون معكم حتى تعطونا رهونا منكم ، فقالت لهم قريش وغطفان : لا نعطيكم رجلا واحدا ، فقالوا : وإنكم عاهدتمونا على أن تقاتلوا معنا فاخرجوا لوفاء العهد وإلا فما نعطيكم رجلا واحدا فقال لهم اليهود : ما نحن مقاتلون معكم إلا أن تعطونا رهونا منكم ، فغضب القوم وانصرفوا عنهم فقال بعضهم لبعض : إن الذي حدثكم به نعيم بن مسعود لحق ، وقالت اليهود : إن الذي حدثكم به نعيم بن مسعود لحق ، فافترقت كلمتهم وكان سبب ذلك انصرافهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال رضي الله عنه :
أَسْلَمُـوهُــمْ لأَوَّلِ الْحَـشْــرِ لاَ مِـيــ
ـعَـادُهُــمْ صَــادِقٌ وَلاَ الإِيـــــلاَءُ
أشار هنا إلى إجلاء بني النضير عن بلادهم قال : مازال بهم خداع المنافقين حتى أجلوا بني النضير عن بلادهم لأول الحشر وهو الشام وتركوا بلادهم ، قال : ميعادهم صادق يعني المنافقين بقولهم : لئن أخرجتم لنخرجن معكم وإن قوتلتم لننصرنكم لا ميعاد صادق في ما وعدوهم به الإيلاء ، والإيلاء هو اليمين الذي حلفوه لهم ولا إيلاؤهم تام بل كذب وزور ، ثم قال رضي الله عنه :
سَـكَــنَ الرُّعْـبُ وَالْخَـرَابُ قُـلُـوبــاً
وَبـُيُـوتـاً مِنْـهُـمْ نَـعَـاهَـا الْجَــلاَءُ
أشار رضي الله عنه للآية في قوله سبحانه وتعالى : {وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم} [الحشر : 2] الآية ، قال : سكن الرعب والخراب منهم قلوبا وبيوتا ، تلك القلوب والبيوت التي ملأها الرعب والخراب نعاها الجلاء ، والناعي هو الباكي يحزن لما أجلوا عن تلك الديار ، ثم قال رضي الله عنه :
وَبِـيَــوْمِ الأَحْــزَابِ إِذْ زَاغَــتِ الأَبْـ
صَـــارُ فِـيــهِ وَظَـلَّـــــتِ الآرَاءُ
ثم عطف على سكون الرعب في القلوب قال : كما سكن الرعب في قلوب بني النضير حتى جلاهم الرعب عن بلادهم إلى أول الحشر ، فكذلك سكن الرعب في قلوب المؤمنين بيوم الأحزاب ، الباء بمعنى في يعني : في يوم الأحزاب كذلك سكن الرعب في قلوب المؤمنين وامتلؤوا خوفا ، قال : إذن زاغت الأبصار فيه ، وزيغ الأبصار فيه هو عدم ثبوت رؤيتها لما تراه فإنها كادت أن تكون تشطح ارتعادا من شدة الخوف فهذا معنى زيغ الأبصار ، قال سبحانه وتعالى في وصف المنافقين في هذه القضية قال : {فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة} [الأحزاب : 19] وهذا من شدة الخوف فهذا معنى زيغ الأبصار . قوله : ضلت الآراء معناه : الآراء جمع رأي ضل على كل ذي رأي رأيه من شدة الخوف فلا يلتئم فكره من تشتيته لمعرفة عاقبة الأمر وصلاحه من فساده ، هكذا أخبر عن شدة الخوف كما أخبر سبحانه وتعالى في الآية : {إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار} إلى قوله : {شديدا} [الأحزاب : 10 ، 11] وكان مراد الله في ذلك الزلزال تمحيص المؤمنين وطموحهم في محك النظر ليعرف الصادق في إيمانه من الكاذب ففضح بذلك سرائر المنافقين ، يقول سبحانه وتعالى في وصفهم : {وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا} [الأحزاب : 12] إلى قوله : {فرارا} [الأحزاب : 13] ثم قال في وصف طائفة أخرى : {قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا} [الأحزاب : 18] إلى قوله : {المغشي عليه من الموت} [محمد : 20] ، {فإذا ذهب الخوف سلقوكم} [الأحزاب : 19] إلى قوله : {يسألون عن أنبائكم} [الأحزاب : 20] ثم ذكر سبحانه وتعالى وصف أهل الصدق والثبات والقيام مع الله بأتم القيام قال سبحانه وتعالى : {ولما رأى المومنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله} [الأحزاب : 22] إلى قوله : {إيمانا وتسليما} [الأحزاب : 22] الآية ، فصل الأمر سبحانه وتعالى في هذه القضية فأظهر أحوال أهل الصدق من أحوال الكذابين ، ثم قال رضي الله عنه :
وَتَـعَــدَّوْا إِلَـى النَّـبِــيِّ حُــــدُوداً
كَــانَ فِـيـهَـا عَـلَـيْـهِـمُ الْعَــدْوَاءُ
أخبر هنا عن ما وقع من بني قريظة فإنهم كانوا في عهد مع النبي صلى الله عليه وسلم لا يؤذيهم ولا يؤذونه فتعدوا هذه الحدود حين رأوا الأحزاب وغدروا ودخلوا مع الأحزاب في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاربته بعد تأكيد العهد بينهم وبينه فكانت العدواء التي تعدوها وبالها عليها وبلاؤها فقد ظهر ما فعل بهم صلى الله عليه وسلم من قتل جميع رجالهم وسبي نسائهم وأولادهم وأخذ أموالهم وأملاكهم فهذا وبال غدرهم عاد عليهم ، ثم قال رضي الله عنه :
وَنَهَتْـهُـمْ وَمَـا انْـتَـهَـتْ عَـنْـهُ قَـوْمٌ
فَـأُبِـيـــدَ الأَمَّـــارُ وَالنَّـهَّــــاءُ
قال : ونهتهم يعني طائفة منهم في حين الغدر عن الغدر وحذروهم وباله أي الغدر فما انتهوا بذلك بنهي من نهاهم ، قال : فأبيد يعني : ملك الأمار والنهاء ، الأمار بالغدر والنهاء عن الغدر أبيدوا كلهم بالقتل عن آخرهم ، ثم قال رضي الله عنه :
وَتَعَـاطَـوْا فِـي أَحْـمَـدٍ مُـنْـكَـرَ الْقَـوْ
لِ وَنُـطْـــقُ الأَرَاذِلِ الْعَــــــوْرَاءُ
أشار في هذا البيت إلى ما روي أنه صلى الله عليه وسلم لما قارب الوصول إلى بني قريظة وكان قد سبقه طائفة من الصحابة إليهم فسمعوا شتم النبي صلى الله عليه وسلم وسبه من ألسنة الملعونين فاعترضه علي رضي الله عنه حين جاء فقال : يا رسول الله صلى الله عليك وسلم لا عليك أن لا تقرب من هؤلاء الأخابيث فقال له صلى الله عليه وسلم : لعلك سمعت شيئا ؟ فقال له : أجل ، فدفع صلى الله عليه وسلم حتى وصل إليهم ثم ناداهم : يا إخوان القردة
هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته ؟ فناداه بعضهم : والله يا أبا القاسم ما كنت جهولا فسكت ولم يقل صلى الله عليه وسلم شيئا . قال : وتعاطوا في أحمد منكر القول بالسب والشتم والأراذل هم اللئام نطقهم العوراء يعني : السب والشتم وهو اللفظ الذي في غاية البشاعة ، ثم قال رضي الله عنه وأرضاه :
كُـلُّ رِجْــسٍ يَزِيـدُهُ الْخُـلُـقُ السُّــو
ءُ سِـفَـاهــاً وَالْمِـلَّــةُ الْعَـوْجَـــاءُ
الرجس هاهنا هو الظلام الذي تتعمر به القلوب وهو ظلام الكفر أعاذنا الله منه . قال : رجس يزيده الخلق السوء وهي الأخلاق اللئيمة يزيده سفاها ، والسفه هو البعد عن طريق الرشد والملة العوجاء هي ملة الكفر أعاذنا الله منه تزيده بعدا عن الرشد ، ثم قال رضي الله عنه :
فَانْـظُـرُوا كَـيْـفَ كَانَ عَـاقِـبَـةُ الْقَـوْ
مِ وَمَـا سَــاقَ لِـلـبَــذِيِّ الْبَــــذَاءُ
قال : فانظروا كيف كان عاقبة القوم وهم بنو قريظة وانظروا ما ساق للبذي البذاء هو كثير النطق بالسب والشتم فانظروا ما صار لهم ببذاءة ألسنتهم ، ثم قال رضي الله عنه :
وَجَـدَ السَّـبَّ فِـيـهِ سُـمّـاً وَلَـمْ يَــدْ
رِ إِذِ الْمِـيــمُ فِـي مَـوَاضِــعَ بَـــاءُ
قال : المتكلم فيه بالسوء ممن تقدم ذكره وجد السب فيه سم قتله إذ الميم الخ أصله سم قاتل فانقلبت ميمه باء فصار سبا فهذا معنى قوله إذ الميم في مواضع باء يعني انقلبت باء ، ثم قال رضي الله عنه :
كَــانَ مِـنْ فِـيـهِ قَـتْـلُـهُ بِـيَـدَيْــهِ
فَـهْـوَ فِـي سُـوءِ فِـعْـلِـهِ الـزَّبَّــاءُ
الساب له صلى الله عليه وسلم كانت عاقبته أشد القتل قال : كان قتله بيديه من فيه يعني مما تكلم به من فيه باختياره كان سبب قتله فكأنه قتل نفسه بيده ، ثم قال رضي الله عنه : فهو في سوء فعله الزباء ، الزباء قضيتها معلومة مشهورة لا نطيل بذكرها حكاها أبو الحسن المسعودي في مروج الذهب ، ثم قال رضي الله عنه :
أَوْ هُوَ النَّـحْـلُ قَـرْصُهَـا يَجْلِـبُ الْحَـتْـ
ـف إِلَـيْـهَـا وَمَا لَـهَــا إِنْـكَـــاءُ
مثله أو أي الساب له صلى الله عليه وسلم حيث كان قتله بسبب سبه مثله أولا بالزباء حيث قتلت نفسها بالسم وشبهه ثانيا بالنحل حيث كانت تجلب حتفها بيدها لأن لدغها تلدغ بشوكتها ، فإذا لدغت بشوكتها التصقت شوكتها بالملدوغ وزالت منها فإنها تموت بسبب زوالها وما لهما إنكاء يعني ما لها إنكاء في الملدوغ لأن إنكاءها في نفسها أعظم بلاء من نكايتها للملدوغ ، ثم قال رضي الله عنه :
صَـرَعَـتْ قَـوْمَـهُ حَـبَـائِـلُ بَـغْــيٍ
مَـدَّهَـا الْمَـكْـرُ مِـنْـهُـمُ وَالدَّهَـــاءُ
قومه وهم قريش يعني : صرعت قومه يعني ألقتهم مصروعين بالأرض قتلى وجرحى ذلا وإهانة بعد الشرف والعز ، وكان الذي صرعهم في ذلك الأمر حبائل البغي التي نصبوها لهلاكه صلى الله عليه وسلم صنعوها وأتقنوا صنعها فيما يظنون لشدة المكر والدهاء ، وشدة المكر هو إظهار الخير والفرح والسرور والمحبة من الماكر للممكور به ظاهرا ، وفي الباطن هو متحيل على هلاكه بما أظهره لما لم يقدر عليه ظاهرا فهذا هو المكر والدهاء وهو شدة الفطنة في العقل فطنة زائدة على المعتاد فطنا لطريق الحيل والمكر وشدة معرفة كيف يصاد العدو بطريق المكر ومعرفة بواطن الأمور والتفطن لما يراد بها باطنا مخالفا للظاهر فهذا هو الدهاء ، يعني قوله صلى الله عليه وسلم نصبوا لهلاكه صلى الله عليه وسلم حبائل بغي اصطنعوها بطريق المكر والدهاء فانقلب مكرهم عليهم وصرعوا في تلك الحبائل وهلكوا فيها ، والحبائل جمع حبالة وهي الآلات التي ينصبها الصيادون لأخذ الصيد فهذه هي الحبالة ، والبغي هو الظلم والحسد والعناد بالباطل ، ثم قال رضي الله عنه :
فَـأَتَتْـهُـمْ خَـيْـلٌ إِلَـى الحَـرْبِ تَـخْـ
ـتَـالُ وَلِلْخَـيْـلِ فِـي الْوَغَـى خُـيَـلاَءُ
قال : لما نصبوا لهلاكه صلى الله عليه وسلم الحبائل المذكورة فبسبب نصبهم له أتتهم خيل طالبة للحرب تختال تمشي مشي الخيلاء هو مشي المتكبر المتعاظم في نفسه فهذا مشي الخيلاء ومعناه : يمشي متخيلا تعظيم نفسه وتكبيرها ، قال : أتتهم خيل والمراد بهم الصحابة رضوان الله عليهم الذين غزوا معه صلى الله عليه وسلم في فتح مكة قال : وللخيل في الوغى يعني وضع القتال خيلاء يعني مشية الخيل تمشي مشية المتعاظم المتكبر ، ثم قال رضي الله عنه :
قَـصَـدَتْ فِـيـهِـمُ الْقَـنـا فَـقَـوَافِـي
الطَّـعْـنِ مِنْهَـا مَـا شَـانَـهَـا الإِيطَـاءُ
قال : قصد القنا وهي الرماح قصدت الطعن فيهم فلما طعنتهم قال : فقوافي الطعن منهم ما شأنها الإبطاء معناه : قوة انهمار الدماء فيهم بسبب طعن الرماح قوي فيهم انهمار الدماء وكان هذا الانهمار المذكور شأنه أن لا يبطأ بالطعن فإن بطأ ولم يسل الدم كان شيئا على الضارب لضعف قواه فإنه لو قويت قواه أعني الضارب لانهمر الدم من ضربته ، فإن بطأ خروج الدم من ضربته كانت تلك الضربة شيئا على الضارب لعدم تحصيلها الفائدة وهو الإبطاء الذي ذكره ، ثم قال رضي الله عنه :
وَأَثَــارَتْ بِــأَرْضِ مَـكَّــةَ نَـقْـعــاً
ظُـنَّ أَنَّ الغُــدُوَّ مِـنْـهَـا عِـشَـــاءُ
والخيل المذكورة التي قدمت لقتال أهل مكة أثارت بها نقعا ، والنقع هو كثرة ثوران الغبار المسمى بالعجاج ، أثارت بأرض مكة نقعا حتى ظن من بمكة أن الغدو وهو وقت الضحى من النهار عشاء وهو وقت اشتداد الظلام بعد الضوء ، ثم قال رضي الله عنه :
أَحْـجَـمَـتْ عِـنْـدَهُ الْحَـجُـونُ وَأَكْـدَى
عِـنْــدَ إِعْـطَـائِـهِ الْقَـلِـيـلَ كُــدَاءُ
قال : ذلك الغبار الذي أثارته الخيل بمكة أحجمت عنده الحجون ، والحجون هو المسمى بباب المعلى بمكة يعني أن الغبار الذي أثارته الخيل بمكة من كثرته صارت الحجون عنده محجمة يعني كأنها لم تبعث غبارا بالنسبة لما بمكة من كثرته كأنه لم يكن شيئا . قوله : وأكدى دون إعطائه القليل كداء معناه أن ذلك الغبار الذي أثارته الخيل بمكة من كثرته أن كداء وأن ثار به الغبار صار بالنسبة لما بمكة كأنه بخل بغباره ومعنى أكدى بخل وأمسك عن الإعطاء فهذا هو الإكداء ، وكداء هو الجبل المطل على مكة ، وأكدى جبل كداء يعني بخل ببعث بخاره وصار الغبار الذي ثار به لقلته كأنه ليس بشيء بالنسبة لما بمكة فهو البخل الذي نسبه له ، ثم قال رضي الله عنه :
وَدَهَــتْ أَوْجُـهــاً بِـهَـا وَبُـيُـوتــاً
مُــلَّ مِـنْـهَـا الإِكْـفَـاءُ وَالإِقْـــوَاءُ
أخبر عن وقعة مكة في وقفة الفتح مما نزل بهم من الهلاك والذل والهوان دهتهم داهية عظيمة لم يجدوا منها فكاكا ولم يستطيعوا منها حراكا كانوا منها صرعى بين قتل وذل وهوان وانعدام الناصر . فهذه هي الداهية التي دهت أهل مكة دهت وجوههم فصارت وجوههم صفراء غبراء تتراءى عليها صورة الذل ودهت منها بيوتا حتى دخلت بيوتهم قهرا ولم يستطيعوا دفاعا ولم يجدوا امتناعا حتى كانوا مثل العبيد المملوكين لا يدفعون عن أنفسهم ضربة ضارب فهذه الداهية التي دهت البيوت حتى دخلت قهرا ، قال : تلك الداهية مل منها الأقواء ، والأقواء هو إطعام الضيف وإكرامه فهو الإقراء ، ولما نزلت بهم تلك الداهية صاروا من الذل والهوان وصيرورتهم تحت الأقدام لو نادى الضيف عليهم ألف مرة لم يستطيعوا إجابته ولا إكرامه من الهلاك والكرب الذي حل بهم ومل منها الإكفاء ، والإكفاء هو إعطاء الأموال يعني : مل منها إعطاء الأموال فإنهم كانوا أيام عزهم وسلامتهم من هذه الداهية متى ورد على كرمائهم وارد يشكو شدة فاقته أو شدة فقره يستعطف منهم المواساة بما يقدرون عليه من المال ليكفي بذلك نوائبه ، فلما حلت بهم تلك الداهية وصيرتهم إلى ما ذكر من الذل والهوان ملوا الإكفاء وهو إعطاء المال لكفاية النوائب لسائل يستعطف النوال وقد شغلهم ذلك ما هم فيه من الداهية ، ثم قال رضي الله عنه :
فَـدَعَــوْا أَحْـلَــمَ الْبَـرِيَّــةِ والْعَـفْـ
ـوُ جَــوَابُ الْحَـلِـيـمِ وَالإِغْـضَـــاءُ
قال : حين نزلت بهم تلك الداهية دعوا أحلم البرية صلى الله عليه وسلم ، دعوه يعني طلبا للعفو والرفق بهم وعدم المؤاخذة بما صنعوا معه فكان دعاؤهم له صلى الله عليه وسلم طابق وقتا طفي فيه حلمه صلى الله عليه وسلم فعفا عنهم جودا وكرما ولم يؤاخذهم بما سبق منهم من كثرة الزلل معه والعداوة والشحناء والعناد ، وشأن الحليم الإغضاء ، والإغضاء هو غض الطرف وهو التغميض والمراد به عدم الالتفات لما سبق من إساءة المسيء وبسط رداء العفو عليهم فهذا هو الغض وهو الإغضاء ، ثم قال رضي الله عنه :
نَـاشَـدُوهُ الْقُـرْبَـى التِـي مِنْ قُـرَيْـشٍ
قَـطَـعَـتْـهَـا التِّـراتُ وَالشَّـحْـنَــاءُ
قال : حين ظفر بهم صلى الله عليه وسلم وانعدم منهم الدفع والامتناع والناصر وصاروا مثل الحجر الملقاة في الطريق بين يديه صلى الله عليه وسلم وعرفوا بما صنعوا معه أنه لا سبيل ولا بقاء فيهم حينئذ استغاثوا وناشدوه القربى صلى الله عليه وسلم التي بينهم وبينه إذ كان منهم وابن عمهم ، ناشدوه تلك القربى ليعفو عنهم ، وتلك القربى هي التي قطعتها التراث والشحناء ، والتراث هي الأشعار التي ينشدها أصحاب الحزن لأجل المقتولين بما رثوا من كثرة الأشعار في المقتولين بينهم وبينه فإن تلك التراث قطعت تلك القربى وأنستها وكذلك الشحناء وهي العناد والمكابرة التي بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم بسبب ما وقع بينهم وبينه من الحروب ، تلك الشحناء قطعت تلك القربى بينه وأنستها فتلك القربى هي التي ناشدوه بها والمناشد هو المستغيث طالب للخلاص من الكرب الذي حل به ناشدوه تلك القربى الأولى صلى الله عليه وسلم ، ثم قال رضي الله عنه :
فَـعَـفَـا عَـفْـوَ قَـادِرٍ لَـمْ يُـنَـغِّـصْـ
ـهُ عَـلَـيْـهِـمْ بِـمَـا مَـضَـى إِغْـرَاءُ
قال : فحين ناشدوه تلك القربى عفا عنهم عفو قادر لا عجز به ولم ينغصه عليهم إغراء ، ما أراد إغراءه على إهلاك الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم قال رضي الله عنه :
وَإِذَا كَــانَ الْقَـطْــعُ وَالْوَصْــلُ لِـلـ
ـهِ تَـسَـاوَى التَّـقْـرِيـبُ وَالإِقْـصَــاءُ
ثم ذكر السبب الذي أوقع منه صلى الله عليه وسلم الحلم والعفو لأن ذلك كان منه صلى الله عليه وسلم في الله إذ كان نظره إليهم صلى الله عليه وسلم بعين الإضافة ، وعين الإضافة هو كونهم عباد الله يعفو عنهم لأجله ويكرمهم لأجله ونسي إساءتهم لأجله فهذه عين الإضافة ، ثم عين الإضافة نظر إليهم بعين الرحمة الإلهية إذ تخلق بخلق الله تعالى إذ كان الرب سبحانه وتعالى أبدا عباده أبدا يسيئون الأدب في حضرته وهو أبدا يعفو عنهم ولا يقطع عنهم نعمه لإساءتهم فهو يعاملهم سبحانه وتعالى رحمة بهم ولا يبالي بما صدر منهم من الهفوات لأن تلك الرحمة عامة لجميع خلقه فهذه العين نظر في خلق الله صلى الله عليه وسلم بعين الرحمة الإلهية وعين الإضافة ، قال : إذا كان القطع والوصول لله يساوي فيه التقريب كون الشخص قريبا منه في غاية القرابة وتساوي الإقصاء ، والإقصاء هو البعد ، فإذا كان الوصل والقطع لله استوى عنده في ذلك القريب والبعيد على حد سواء ، ثم قال رضي الله عنه :
وَسَــوَاءٌ عَـلَـيْــهِ فِـيـمَـا أَتَـــاهُ
مِـنْ سِـــوَاهُ الْمَــلاَمُ وَالإِطْــــرَاءُ
قال : إذا كان للقطع والوصل في الله استوى عنده ما يأتيه من غيره من الملام ، والملام هي أفعال الشرور التي يلام بها صاحبها ، والإطراء هي المدائح التي يمدح الشخص بها حتى يمتلئ بها فرحا ورضا إذا كان القطع والوصل لله استوى عنده الملام والإطراء ، ثم قال رضي الله عنه :
وَلَـوَ اَنَّ انْـتِـقَـامَـهُ لِـهَــوَى النَّـفـ
ـسِ لَـدَامَــتْ قَـطِـيـعَـةٌ وَجَـفَــاءُ
أخبر هنا ما فعل معهم من الحلم والعفو كان لله ، ولو كان ما فعله لهوى النفس ولم يكن لله لدامت منه قطيعة وجفاء ، ثم قال رضي الله عنه :
قَــامَ للـهِ فِـي الأُمُــورَ فَـأَرْضَـــى
اللـــهَ مِـنْــهُ تَـبَـايُـنٌ وَوَفَـــاءُ
قال : قام لله صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور كلها والقيام لله لا يعلمونه حقيقة إلا العارفون بالله ومن سواهم لا مطمع لهم في معرفته ، قال : قام بالله تعالى ليس بنفسه في جميع الأمور ، قال رضي الله عنه : يعني أن أفعاله كلها مرضية لله يرضي بها في كل ما فعله مع الخلق من تباين ووفاء ، وحقيقة التباين هو فعله مع الناس بما أظهر فيهم من إقامة الحدود من قال كافر إذ أبى عن الإجابة أمر الله وقطع يد السارق ورجم الزاني وجلد القاذف إلى غير ذلك من الحدود ، فإن هذه مباينة لأغراض الناس فيها ملائكة ووفاء بأغراض الناس بما يبدو لهم من الأموال إذ طلبوه ، ومن كثرة العفو عن جرائمهم وعدم مؤاخذتهم بسيئاتهم فهو الوفاء بأغراض الناس ، كل أفعاله صلى الله عليه وسلم مرضية لله تعالى في كل ما فعل مع الخلق من مباينة أغراض الناس ومن وفاء لأغراضهم ، ثم قال رضي الله عنه :
<< الصفحة السابعة
الصفحة التاسعة >>