نفحات7 ـ الإرشادات الربّانيّة ـ الصفحة السابعة
الرّئيسيـة > مكتبـة على الخـطّ > الإرشادات الربّانيّة ـ الفهـرس > الصفحة السابعة


فَـأَطَـالُــوا فِيــهِ التَّــرَدُّدَ والـرَّيْــ
ـبَ فَقَـالُـوا سِحْـرٌ وَقَـالُـوا  افْـتِـرَاءُ
يعني في القرآن وهي الأقاويل المزورة التي قالوا فيها سحر وقالوا افتراء ، ثم قال رضي الله عنه :
وَإِذَا  الْبَـيِّـنَـاتُ لَـمْ تُـغْـنِ شَـيْـئــاً
فَـالْـتِـمَــاسُ الْهُـدَى بِـهِـنَّ عَـنَـاءُ
يعني : إذا كانت البينات لم تفد البيان لناظرها . التماس الهدى بهن عناء ، قال صلى الله عليه وسلم لبعض أحبار اليهود وكان أعلم أهل زمانه إلا أنه شاب وجد صلى الله عليه وسلم في انقطاع عن الخلق ليس إلا هما فقال صلى الله عليه وسلم للحبر : يا فلان أنا الموصوف في التوراة وذكر له صلى الله عليه وسلم صفاته في ذلك المحل من التوراة قال له : تزعمون أني لست به يعني ذلك الموصوف فنظر الحبر يمينا وشمالا فلم ير أحدا فقال له : يا محمد كل أحبار اليهود مطبقون عالمون أنك المنعوت في التوراة من غير شك ولا ريب فيه من يجهل هذا ويتردد فيه أو كمال قال له الحبر مما معناه هذا ، ثم قال : ولكن غلبهم الحسد وأنا منهم أعاذنا الله من بلائه ، ثم قال رضي الله عنه :
وَإِذَا ضَـلَّــتِ الْعُـقُــولُ عَـلَـى عِـلْـ
ـمٍ فَـمَــاذَا تَـقُـولُـهُ  النُّـصَـحَــاءُ
يعني أن العقول إذا ضلت على علم فما تفيدها النصيحة شيئا ، ثم قال رضي الله عنه :
قَوْمَ عِـيـسَـى عَامَـلْـتُـمُ قَوْمَ مُـوسَـى
بِـالــذِي عَـامَـلَـتْـكُـمُ الْحُـنَـفَــاءُ
ثم أخذ يخاطب أهل الكتابين التوراة والإنجيل قال : بدأ بالنصارى قال : قوم عيسى وهم القوم الذين آمنوا بعيسى عليه الصلاة والسلام قال : عاملتم قوم موسى بالذي عاملتكم الحنفاء معناه : أنكم معشر النصارى آمنتم بموسى عليه الصلاة والسلام بالتوراة المنزلة عليه بأن الجميع حق وكفروا بكتابكم ورسولكم وهو عيسى عليه الصلاة والسلام هكذا عاملتموهم كذلك عاملتكم الحنفاء بهذا الأمر وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم آمنوا بكتابكم ورسولكم وكفرتم بكتابهم ورسولهم سواء بسواء كما فعلتم مع اليهود مع كفرهم بكم كذلك عاملتكم الحنفاء بمثل ما عاملتم به اليهود وقد تقدم الإيمان والكفر ، ثم قال رضي الله عنه :
صَـدَّقُـوا كُـتْـبَـكُـمُ وَكَـذَّبْـتُـمُ كُـتْـ
بَـهُــمُ إِنَّ ذَا لَـبِـئْــسَ  الْبَــــوَاءُ
معناه أن الحنفاء صدقوا بالإنجيل وعيسى وآمنوا بهما وهم دين النصارى ، وكذبتم كتبهم وهم الحنفاء ، وكتبهم القرآن وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إن ذا لبئس البواء يعني : المرجع الذي رجعتم وهي الفائدة التي يحصلها الطالب للأمر إما فائدة أو خسارة ، يقال : رجع عن مطلبه بكذا يعني من فائدة أو خسارة ، ثم قال رضي الله عنه :
لَـوْ جَحَـدْنَـا جُحُـودَكُـمُ لاَسْـتَـوَيْـنَـا
أَوَ لِـلْـحَـقِّ بِـالضَّــلاَلِ  اسْـتِـــوَاءُ
قال يخاطب النصارى قال : لو جحدنا بكتابكم ورسولكم في عدم الإيمان بهما كما جحدتم الإيمان بكتابنا ورسولنا وأنتم تعلمون أنهما حق بما أخبركم الإنجيل وعيسى عليه الصلاة والسلام قال : لو جحدنا كجحودكم لاستوينا نحن وأنتم ، قال : أو للحق بالضلال استواء معناه لا يستوي متبع الحق على بينة مع الضلال عن الحق على بينة فإنهم ضلوا عن الحق على بينة فإنهم يعلمون أنه حق فكان ضلالهم عنادا وحسدا ليس جهلا ، ثم قال رضي الله عنه :
مَــا لَـكُـمْ إِخْـوَةَ الْكِـتَــابِ  أُنَـاسـاً
لَيْـسَ  يُـرْعَـى لِلْحِـقِّ مِـنْـكُـمْ إخَـاءُ
قال : ما لكم هنا هي استفهامية إلا أنها واردة مورد الإنكار والتوبيخ والطرد للوبال الذي يحل بصاحبها فإنهم لما كفروا بالقرآن وبالنبي صلى الله عليه وسلم وهم يعلمون أنهما حق ليس عندهم في ذلك شك ولا ريب قال لهم : ما لكم ؟ يعني : أي شيء حملكم على هذا الجحود وأنتم على بينة من حقه ؟ وقوله : ما لكم إخوة الكتاب ، وإخوة الكتاب هم المصاحبون له لكون أن الله سبحانه وتعالى خاطبهم فيه وكلفهم بالعمل بمقتضاه ويسألهم عنه يوم القيامة فبهذا الحد كانوا إخوته يعني : أصحاب الكتاب وهو الإنجيل ، قال : ما لكم إخوة الكتاب ؟ قوله : أناسا هم تمييز لإخوة الكتاب منصوب على التمييز قال : ما لكم لا يرعى للحق منكم إخاء يعني صحبة ومتابعة فهو يوبخهم بهذا ، ثم قال رضي الله عنه :
يَـحْـسُــدُ الأَوَّلُ الأَخِـيــرَ وَمَـــا زَا
لَ كَــذَا  الْمُـحْـدَثُــونَ وَالْقُـدَمَـــاءْ
قال : الأول يحسد الأخير لأن الأول لما حصل في غاية الشرف لإعطائهم النبوة والكتاب وتساهلهم بذلك ومتابعتهم له حلوا منزلة عالية عند الله من الشرف وتلذذوا بأن لا مثل لهم في الشرف ، فلما أعطى من بعدهم مثلما أعطوا من النبوة والكتاب ليحصل لهم الشرف الذي حصل لمن قبلهم حسدوهم لكونهم ماثلوهم في الرتبة فأنفوا من ذلك لأنهم تلذذوا أولا بعدم وجود مثيلتهم ، وقد دعا الكلام هنا إلى تبيين حقيقة الحسد ما هو وما سببه ؟ اعلم أن حقيقة الحسد هو جزع الشخص الحاسد من مزاحمة غيره في الوصول إلى مرتبة في الشرف حل بها الحاسد قبل ، فكلما رأى شخصا حل فيها معه وسعى في الوصول إليها أبغضه وعاداه لأن نفسه كانت قد حصل لها التلذذ للاختصاص بتلك المرتبة ونظر غيره تحت حيطته لأن اختصاصه في المرتبة شاهد غيره محتقرا تحت مرتبته والغير ينظر إليه بعين العظمة والجلال والاختصاص وهو قد حصل له التعزز والاستكبار بشهوده لتعظيم غيره لمرتبته فهو يحب التوحد بالاختصاص في تلك المرتبة ويعادي كل من رآه قد حل معه في تلك المرتبة أو ماثله بمرتبة مماثلة في العظمة والجلال فهذا أحد وجوه الحسد ، والرتبة الثانية في الحسد إذا كان الشخص الحاسد في مرتبة عالية قد ماثله في تلك المرتبة أفراد كثيرة فيما هو فيه من العلو والعظمة والجلال ولا يستطيع دفع غيره من مزاحمة تلك المرتبة فيشاهد نفسه حينئذ ساكنة لأنها عالية العالمين تنظر إلى شرفها بشهود أهل المراتب النازلة عنها المحتقرة لعدم تحصيل تلك المرتبة التي هو فيها ، فنفسه أيضا راضية بشرفها مع الأشراف في تلك المرتبة ، راضية بعلوها مع العالين في تلك المرتبة ، فإذا رأى شخصا رقى فوق رتبته وعلا شرفه عليه وزاد تعظيمه وإجلاله عليه حسده وعاداه وأبغضه لأجل زيادة مرتبته عليه فهو مع العالين في مراتبهم لا يحسدهم لأجل ما حصل عليه من العلو ولكن يحسد من يزيد على رتبته في العلو والعظمة والجلال ، فتحصل لك من هذا أن الحسد قسمان : قسم يكون من علو مرتبة المحسود على رتبته ، والقسم الثاني من طلوع الأسفل المحقور إلى تحصيل رتبة تماثل رتبته في العظمة والجلال والعلو والاستكبار ، فمن الوجه الأول يكون حسد العلماء للأولياء والملوك لبعضهم بعضا لأنهم يطلبون العلا على مراتبهم فهم يحسدونهم ويبغضونهم على هذا الأمر ، ومن الوجه الثاني في الحسد حسد أهل الأموال وأهل الرياسة في من كان محتقرا تحتهم وحصل في مثل مراتبهم فهذه وجوه الحسد ، وحقيقة الحسد هو استنكاف الحاسد من حصول المحسود في مثل رتبته علوا واستكبارا بعدما كان محتقرا مهانا ، أو من طلوع من كان مثله في الرتبة فوق رتبته علوا واستكبارا وتعذرا وافتخارا فهذه حقيقة الحسد ، ثم قال رضي الله عنه :
قَـدْ  عَلِمْـتُـمْ بِظُلْـمِ قَـابِـيـلَ هَـابِـيـ
ـلَ وَمَـظْـلُــومَ الإِخْـوَةِ الأَتْـقِـيَــاءُ
قصة قابيل مع هابيل معلومة باستقراء الأخبار لا تحتاج إلى ذكر هي أشهر من أن تذكر ، ومظلوم الإخوة الأتقياء هو سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام وإخوته حيث وصفوه بالسرقة بقولهم : قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ، فعيروه بما لا عار فيه إنما أرادوا الدفع لما لحقهم من العار في ظهور صورة السرقة على أخيهم وهم معيرون بها على ما جرت به العادة فأراد دفع ذلك بقولهم : {إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل} [يوسف : 77] فأجابهم بقوله : {أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون} [يوسف : 77] وقصته في السرقة معلومة عليه الصلاة والسلام لأنه سرق صنم جده من أمه وذهب به حتى لا يرى وكان من ذهب وفضة مرصع بالياقوت فحملته الغيرة الإلهية أن يرى أن يعبد من دون الله تعالى فسعى في تلفه بما قدر عليه ، وما حمله على ذلك طلب المال والهلع في الحرص على الدنيا كما هو شأن العوام وإنما هي الغيرة الإلهية كما قلنا في إهلاكه لمن يعبد من دون الله تعالى ، فكانت له تلك السرقة في غاية المدح والشرف وشفوف المرتبة علوا وظلمهم له حيث عيروه بها وليست بعار ولذا قال : والله أعلم بما تصفون عليه الصلاة والسلام ، ثم قال رضي الله عنه :
وَسَـمِـعْـتُـمْ بِكَـيْـدِ أَبْـنَـاءِ يَـعْـقُـو
بَ أَخَـاهُــمْ وَكُـلُّـهُــمْ صُـلَـحَــاءُ
عليه الصلاة قصة أولاد سيدنا يعقوب والسلام معلومة مشهورة لا يحتاج إلى ذكرها . وقوله : وكلهم صلحاء الراجح والجمهور على أنهم أنبياء ، ثم قال رضي الله عنه :
حِـيـنَ أَلْـقَــوْهُ فِـي غَـيَـابَـةِ  جُـبٍّ
وَرَمَــوْهُ بِـالإِفْــكِ وَهْـوَ بَـــــرَاءُ
فَتَـأَسَّـوْا  بِمَـنْ مَـضَـى إِذْ ظُـلِـمْـتُـمْ
فَـالتَّـأَسِّــي لِلنَّـفْــسِ فِيـهِ عَــزَاءُ
الإفك الذي رموه به هو قول الذين باعوه إنه عبد مملوك لنا ، هذا هو الإفك الذي رموه به وهو منه براء ، وقد قال لهم الذين اشتروه منهم حين قالوا : هو عبد مملوك لنا قالوا لهم : ما نرى عليه صورة العبودية نرى أخلاقا حسنة ومكارم من الأوصاف عالية ليست من العبودية في شيء ، قالوا لهم : إنه عبد مملوك لنا ولكن ربي في وسطنا وتخلق بأخلاقنا ، فسألوا يوسف يعني سألوه المشترون له عما قال إخوته فقال عليه الصلاة والسلام : ربيت في وسطهم وتخلقت بأخلاقهم فسكتوا واشتروا وذهبوا به فهذا هو الإفك الذي رموه به وهو منه براء لأنه ولد أبيهم عليه الصلاة والسلام ، ثم قال رضي الله عنه :
أَتَـراكُـمْ  وَفَّـيْـتُـمُ حِـيـنَ خَـانُــوا
أمْ تَـراكُـمْ أَحْـسَـنْـتُـمُ إِذْ أَسَــاءوا
اعلم أنه يخاطب أهل الكتاب وهم النصارى في كفرهم بنبينا صلى الله عليه وسلم وبالقرآن بقوله : أتراكم يعني : يا معشر النصارى وفيتم بأمر الله حين خانه اليهود في عدم الوفاء بعهده ، وفيتم يعني بما عهد الله إليكم في الإنجيل وعلى لسان عيسى عليه الصلاة والسلام من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ونصرته ، أتراكم وفيتم لله بهذا العهد حين خانوه اليهود في عهده ، أم أتراكم أحسنتم في القيام بأمر الله تعالى والوفاء بعهده إذ أساؤوا يعني اليهود أساؤوا لمخالفة أمر الله تعالى وهو الأمر الذي أمرهم به في التوراة وعلى لسان موسى عليه الصلاة والسلام فيما أمرهم وعاهدهم في الإيمان بعيسى وبمحمد عليهما الصلاة والسلام والإيمان بالإنجيل والقرآن ، فحين أساؤوا اليهود بمخالفتهم لهذا العهد أتراكم أنتم أحسنتم في الوفاء بعهد الله حين عهد إليكم بالإيمان بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن ؟ فهو استفهام لكنه ورد مورد الإنكار والطعن والطرد للمستفهم ، ثم قال رضي الله عنه :
بَـلْ  تَـمَـادَتْ عَـلَـى التَّـجَـاهُـلِ آبَـا
ءٌ تَـقَـفَّــتْ آثَـارَهَــا الأَبْـنَــــاءُ
بعد فراغه من الاستفهام الذي أراد به الإنكار والتوبيخ الخ أجاب عن استفهامهم بعد أن استفهمهم قال : إنكم لم تجيبوا أمر الله سبحانه وتعالى ولم تمتثلوه ، بل تمادت على الجهالة آباؤهم الذين حضروا وقت النبي صلى الله عليه وسلم وعرفوه صورة وعينا وزمانا ثم كفروا به ظلما وحسدا وعنادا فهذه الآباء الذين تمادت على الجهالة وتقفت آثارها أبناؤها يعني : عملوا مثل عملهم في مخالفة عهد الله وأمره ، ثم قال رضي الله عنه :
بَـيَّـنَـتْـهُ  تَـوْرَاتُـهُـمْ وَالأَنَـاجِـيــ
ـيـلُ  وَهُـمْ فِـي جُـحُـودِهِ شُـرَكَــاءُ
يعني أن الذي بينته لهم توراتهم والأناجيل هو عهد الله إليهم وشدة تأكيده عليهم في وجوب الإيمان بالختم الأكبر خاتم الرسالة والنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وذلك العهد بينته توراتهم وأناجيلهم وهو مسطر في كتبهم بحيث أن لا محيض لهم في رده وتكذيبه قال : فهم في جحودهم شركاء فيما خالفوا فيه أمر الله وعهده يعني اليهود والنصارى ، ثم قال رضي الله عنه :
إِنْ تَـقُـولُـوا مَـا بَـيَّـنَـتْـهُ فَـمَـا زَا
لَـتْ بِـهِ عَـنْ عُـيُـونِـهِـمْ  غَـشْـوَاءُ
يعني : إن تقولوا معشر أهل الكتابين ما بينته التوراة والإنجيل يعني : وهو عهد الله لهم بالإيمان بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إذا أنكرتم وقلتم ما بينته التوراة والإنجيل فما زالت الغشاوة عن أعينهم بالتوراة والإنجيل بل هم في عمى وظلام على البصائر ، ثم قال رضي الله عنه :
أَوْ  تَقُـولُـوا قَـدْ بَـيَّـنَـتْـهُ فَـمَـا لِلْـ
أُذْنِ  عَـمَّــا تَـقُـولُــهُ صَـمَّــــاءُ
يعني : إن قلتم ما بينته التوراة والإنجيل فالغشاوة على الأعين والبصائر ، أو تقولوا : قد بينته فما للأذن عما تقوله صماء يعني : لا تسمع ولا تعقل ، يعني : لا وجه لاستمساككم بدينكم وإعراضكم عن دين الإسلام ، ثم قال رضي الله عنه :
عَـرَفُــوهُ وَأَنْـكَــرُوهُ وَظُـلْـمــــاً
كَـتَـمَـتْــهُ الشَّـهَـادَةَ  الشُّـهَـــدَاءُ
يعني أنهم شهداء في تقرير عهد الله في أعناقهم من وجه لا يجدون عنه مصرفا ولا إلى غيره معدلا وهم مقرون بهذه الشهادة ثم كتموا هذه الشهادة ظلما وهم بها شهداء يعلمونها ويعرفونها وكتموها ظلما وعدوانا ، ثم قال رضي الله عنه :
أَوَ نُــورَ  الإِلَــهِ تُـطْـفِـئُــهُ الأَفْــ
ـوَاهُ وَ هْـوَ الـذِي بِـهِ  يُـسْـتَـضَــاءُ
ثم استفهم تعجبا قال : أو نور الإله تطفئه الأفواه وهو في غاية البعد عن إطفاء الأفواه فإنها لا سبيل لإطفائه . قوله : وهو الذي به يستضاء ، استفهم في هذا البيت تعجبا وإنكارا أو نفيا لما استفهم عنه لكونه من البعد في غاية لا تلحقها العقول ، أو نور الإله تطفئه الأفواه فإن هذا في غاية البعد لأن نور الإله امتلأ الكون به والفم إذا نفخ فإنه في غاية الضعف ومثاله في الشاهد نور الشمس فليست تقدر الأفواه على إطفائه ولو نفخت عليه طول الأبد كأنها لم تنفخ فإنه قال : به يستضاء يعني أن نور الإله به استضاءت الأكوان كلها وهي في غاية كثرتها وتعددها فكيف يمكن أن تطفئه الأفواه ، والمثال الذي ذكرناه في الشمس بين اهـ ، ثم قال رضي الله عنه :
أَوَ لاَ يُـنْـكِــرُونَ مَـنْ طَـحَـنَـتْـهُـمْ
بِـرَحَـاهَـا  عَـنْ أَمْـرِهِ الْهَـيْـجَـــاءُ
معنى معشر أهل الكتاب فيما أخذتم به من جحودكم أمر نبينا صلى الله عليه وسلم وهو بين في كتبكم كالشمس ثم لم ترجعوا عن ضلالكم وخروجكم عن أمر الله تعالى أفلا تنكرون أحوال الطوائف الذين مضوا قبلكم وإنكارها هنا هو تركهم الطريق التي كان عليها الأوائل من الجحود لأمر نبينا صلى الله عليه وسلم مع معرفتهم به في كتبهم لعهد الله المأخوذ عليهم في إيمانهم به ونصرتهم له ، ألا تنكرونهم ؟ يعني أفلا تفارقون طريقهم . قوله : الهيجاء معناه شدة مواقع ضرب السيوف حتى يصير النهار بها كأنه ليل والهيجاء بها تطحن رقاب الرجال وأعناقهم وقطع الأطراف والأعضاء ، فإذا مات الإنسان بهذا فكأنما طحنته الرحاء واستعير للفظ الحرب اسم الرحاء لكونها تهلك الرجال وتقتلهم بعدم رجوعهم إلى الدنيا مثلما تفعل الرحاء بالزرع حيث تصيره دقيقا فذلك موته أي الزرع ألا تذكرون من طحنتهم الهيجاء برحاها عن أمره يعني بإدبارهم عن أمره صلى الله عليه وسلم ، والهيجاء هاهنا هي المواطن التي حارب فيها الكفار مثل بدر وأحد والخندق وحنين والطائف وفتح مكة وخيبر وبني قريظة وبني النضير إلى غير ذلك من مواطنه صلى الله عليه وسلم ، ثم قال رضي الله عنه :
وَكَـسَـاهُـمْ  ثَـوْبَ الصَّـغَـارِ وَقَدْ طُـلْـ
ـلَـتْ دِمـاً مِـنْـهُـمُ وَصِـيـنَـتْ دمَـاءُ
النضير حيث أخذ أيضا جميع أموالهم وأملاكهم وطردهم إلى الشام عن بلادهم ، ومثلما فعل بقريش حيث كانوا في عز عظيم ومنعة فأذلهم واستعبدهم وصاروا تحت حكمه مقهورين حتى أدخلهم في الإسلام كرها في ذل وإماتة . وأن الله سبحانه وتعالى قابلهم بذلك وعاقبهم بما فعلوا حين خرج من عندهم إذ خرج مستخفيا صلى الله عليه وسلم من خوف شديد منهم وما تخلص منهم إلا بكثرة الحيل والتخفي ، عاقبهم الله سبحانه وتعالى بما لم يفعله بقبيلة من العرب إذ أدخله عليهم عزة وقهرا بعدما كانوا في منعة وعز ورفعة ترفعها ترفعها جميع القبائل فأدخلهم الله تحت حكمه في ذل وإهانة وحقارة ومسكنة حتى كان يقتل منهم من شاء ويترك منهم من شاء ولم يستطيعوا دفاعا ولم يملكوا في نصرة أنفسهم امتناعا حتى دخلوا في دينه صلى الله عليه وسلم قهرا وكرها مثل العبيد المقيدين بالسلاسل ، ومثلما فعل بهوازن في حنين بعدما كانوا في عز ومنعة فملك رقابهم ونساءهم وأولادهم وأخذ جميع أملاكهم وأولادهم إلى غير ذلك من القبائل الذين أذاقهم الوبال صلى الله عليه وسلم ، قال : بعدما كساهم ثوب الصغار وأريقت منهم دماء طلت يعني : أريقت وأهرقت واستعار هذا الطلل لسفك الدماء مأخوذ من سيلان ماء الأمطار في الطلل لأن المطر إذا سقط على طلل وهو المكان العالي انحدرت مياهه سائلة فهذا وجه تسمية سيل الماء بالطلل ، أخبرنا عما فعل صلى الله عليه وسلم بالمشركين حيث قال : كساهم ثوب الصغار وطلت دماء منه يعني : سفكت دماء منهم وصينت دماؤهم عن القتل يعني من الفكر قتل صلى الله عليه وسلم طوائف حين أظفره الله بهم وترك طوائف من القتل وهو المراد بقوله : وصينت دماء ، ثم قال رضي الله عنه :
كَيْـفَ يَـهْـدِي الإِلَـهُ مِنْـهُـمْ قُـلُـوبـاً
حَشْـوُهَـا  مِنْ حَـبِـيـبِـهِ الْبَـغْـضَـاءُ
ثم استفهم مستبعدا للأمر ومنكرا لوقعه قال : كيف يهدي الإله منهم قلوبا ؟ يريد : كيف تحلها أنوار الهداية وهي محشوة بظلام وبغضه صلى الله عليه وسلم ؟ وكيف يتأتى هذا والقلوب ممتلئة بظلام بغضه صلى الله عليه وسلم ونور الهداية مرسل من عند الله تعالى بشروط وقوع محبة رسوله صلى الله عليه وسلم في القلب ، فإذا انعدمت المحبة والعياذ بالله تعالى انسدل الظلام على القلب فلا تحله الهداية ولا نوره ، فلذا استفهمه مستبعدا ومنكرا معناه أنها لا تقع أصلا ، يقول سبحانه وتعالى في الآية : {كيف الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله} [آل عمران : 86 ، 87] الآية ، ثم قال رضي الله عنه :
خَـبِّـرُونَـا  أَهْـلَ الْكِتَـابَـيْـنِ مِـنْ أَيْـ
ـنَ أَتَـاكُـمْ تَـثْـلِـيـثُـكُـمْ  وَالْبَــدَاءُ
أما أهل الكتابين أهل التوراة والإنجيل قال : خبرونا عن هاتين القضيتين وهما : حكمهم بأن الله ثالث ثلاثة ، والبداء وهو إنكارهم للنسخ في حقه سبحانه وتعالى كيف ينسخ الأحكام بعد وقوعها وتقريرها ؟ قالوا : لا يتأتى النسخ أبدا له أي ظهر فهذا وجه إنكارهم للنسخ في الآية قالوا : ما له ينسخ إبداله ؟ يعني : بعدما قدر الحكم وشرعه ثم نسخه وأحدث حكما آخر يعني إبداله خفي عنه وجه المصلحة في الحكم الأخير حتى حكم بخلافه ، هذا عندهم مستبعد ، وفي النسخ فإن الله تبارك وتعالى محيط بكل شيء ، قال : استفهم الشيخ قال لهم : يا أهل الكتابين خبرونا من أين أتاكم تثليثكم والبداء . أما التثليث فلم يقل به إلا النصارى دون اليهود قالوا : إن الله ثالث ثلاثة قال : خبرونا من أين أتاكم هذا التثليث والإله واحد ، إذ بعثت الرسل كلها وصرحت كلها بوحدانية الإله فقال من أين ضمنه التكذيب لهم والرد عليهم كأنه يقول لهم : افتريتم على الله إفكا كذبتم دعواكم أن الله ثالث ثلاثة إذ لا أصل لما تدعون ولم يساعدكم من أهل الشرائع على ما ذكرتم إذ الشرائع الصحيحة كلها مطابقة على الإقرار بأنه واحد لا ثاني له ولا مضاد له فلا أصل لما ذكرتم . وأما قوله : والبداء هو خطاب للنصارى ولليهود حيث أنكروا النسخ في أحكام الله تعالى لأنهم أنكروا ذلك لاستحالة البداء عليه سبحانه قال لهم : من أين أتاكم هذا البداء ؟ ومن أي حجة ركبتموه ؟ فهو زور وكذب منكم على الله تعالى إذ مذهبنا نحن معشر المسلمين في النسخ أن الله سبحانه وتعالى يقرر شرعا لعباده محدودا بمدة معلومة لا يتعداها ، فإذا تناهت مدته نسخه بشرع آخر ولا منازع له في حكمه يحكم على عباده بما شاء وكيف يشاء لا يسأل عما يفعل وهو المحيط علما بكل شيء فلا يقال فيما نسخ من الحكم بعد تقريره أنه بدا له يعني أنه يخفى عليه وجه المصلحة التي في غير ذلك الحكم فحكم به ، فلما تراءت له المصلحة في غيره تركه وحكم بذلك الحكم وهذا معنى البداء وهو مستحيل على الله تعالى ، ثم قال رضي الله عنه :
مَـا  أَتَـى بِـالْعَـقِـيـدَتْـيْـنِ كِـتَــابٌ
وَاعْـتِـقَــادٌ لاَ نَــصَّ فِـيـهِ ادِّعَــاءُ
قال لهم : العقيدتان اللتان اعقدتموهما في الله تعالى قال : ما أتى بالعقيدتين كتاب وهما التثليث في الألوهية والبداء في نسخ الأحكام ما أتى بهما كتاب من عند الله تحتجون به ، واعتقاد لا نص فيه من كتاب يدل عليه من ادعاء من صاحبه بالكذب فلا يلتفت إليه ، ثم قال رضي الله عنه :
وَالدَّعَـاوِي مَا لَـمْ تُقِيـمُـوا  عَـلَـيْـهَـا
بَـيِّـنَــاتٌ  أَبْـنَـاؤُهَــا أَدْعِـيَـــاءُ
والدعاوي وهو جمع دعوى والمراد بها إثبات الأمر وهو الحكم بالكذب والزور بغير كتاب يشهد عليها فهذه هي الدعاوي ، والفرق بين الدعوى والحجة أن الحجة ما قام لها الدليل والبرهان بصحتها وثبوتها فهي الحجة ، وما جاء بغير دليل ولا برهان فهي الدعاوى إثباتها كذب وزور لا يلتفت إليه ، قال : ما ادعيتموه من التثليث في الألوهية والبداء في نسخ الأحكام هي دعوات فقط لا حجة عليها ، وكل دعوى لا يلتفت إليها ، قال : الدعاوي التي لا تقوم عليها والبينات وهي الدلائل والبراهين قال : أبناؤها أدعياء يعني تلك الدعاوي التي لم تقيموا عليها دليلا ولا برهانا أبناؤها الناشئة منها أدعياء لا آباء لهم . والمراد بالأبناء هي النتائج المتحصلة على تلك الدعاوي والنتائج هنا التي سماها أبناء هو ما أنتجت له تلك الدعاوي الكاذبة من عدم وجوب متابعتها لنبينا صلى الله عليه وسلم وعدم إيمانهم به زاعمين بأن الله لا يطالبهم بذلك يوم القيامة مدعين أن الله جعلهم على شرع ومنهاج ثابت بنصوص كتاب الله التي جاء بها الرسل عن الله تعالى وهو بحيث أن لا يمكن تكذيبها ولا مناقضتها . فهذه هي النتائج التي سماها أبناء لهم وأولئك الأبناء أدعياء لا آباء لهم فكله باطل ، ثم قال رضي الله عنه :
لَـيْـتَ  شِـعْـرِي ذِكْـرُ الثَّـلاَثَـةِ وَالْـوَا
حِـدِ نَـقْـصٌ فِـي عَـدِّكُـمْ أَمْ  نَـمَــاءُ
وليت هذه وضعت للتمني وهي من أخوات ظن تنصب الاسم والخبر وتركيبها ليت شعري واقعا والشعر هنا هو العلم ، ليتني شعرت بذلك ، قال : ليت شعري أذكر الثلاثة عندكم والواحدة التي وقع التركيب منها أهو عندكم نقص في حق الخالق سبحانه وتعالى ؟ أم هو عندكم نماء ؟ يعني زيادة يزيد على كل حال لا يستقيم هذا العدد في جانب الإله إن هو إلا إله واحد ، ثم قال رضي الله عنه :
كَـيْـفَ وَحَّـدْتُـمُ إِلَـهـاً نَـفَـى التَّــوْ
حِـيـدَ عَـنْــهُ الآبَــاءُ وَالأَبْـنَـــاءُ
إن إيمانكم إيمان التوحيد وقد نفى التوحيد عنه سبحانه وتعالى آباؤكم بدعواهم أن الله ثالث ثلاثة يريد : إذا كان مذهب آبائكم وأبنائكم وأنتم على سبيله فما عندكم وما عندهم شيء من التوحيد ، ثم قال رضي الله عنه :
أَأَلِـــهٌ مُـرَكَّــبٌ مَـا سَـمِـعْـنَـــا
بِــإِلَــــهٍ لِــذَاتِـــهِ أَجْــــزَاءُ
يعني : حيث قالوا إن الله ثالث ثلاثة وهم عندهم الأب والأم والابن تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ، الثلاث عندهم الإله فرد عليهم بقوله : أإله مركب ؟ يعني : ذاته تتركب من أجزاء فإن هذه صفة الجسم وكل جسم حادث ليس بإله ، ثم قال رضي الله عنه :
ألِـكُـلٍّ مِنْـهُـمْ نَـصِـيـبٌ مِـنَ الْمُـلْـ
ـكِ فَـهَـلاَّ تُـمَـيَّــزُ الأَنْـصِـبَـــاءُ
قال : الثلاثة الذين في زعمكم هو إله المملكة التي ترون أهي متفرقة بينهم ؟ لكل واحد منهم نصيب من الملك ، وإن كان كما قلتم لكل واحد نصيب من الملك فهلا تميز الأنصباء ، تميز لكل واحد نصيبه من الملك فهذا لم يكن ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، ثم قال رضي الله عنه :
أَتُــرَاهُــمْ لِـحَـاجَــةٍ وَاضْـطِــرَارٍ
خَـلَـطُـوهَـا وَمَـا بَـغَـى الْخُـلَـطَـاءُ
أتراهم لحاجة واضطرار خلطوها وما بغى الخلطاء ثم أخذ رضي الله عنه يسألهم عن حجتهم فيما ادعوه من التثليث ، ونفس السؤال لهم هو عين الرد عليهم وتكذيبهم فيما قالوه ، قال : ألم تروا هذه الثلاثة الذين أشركتموهم في المملكة ؟ أترونهم اشتركوا الحاجة واضطرار كل واحد منهم لا يقدر على مخالفة الآخرين . قوله : وما بغى الخلطاء يبغي بعضهم على بعض كل واحد منهم يبغي قهر الآخر أي الشريك ، ثم قال رضي الله عنه :
أَهُـوَ  الـرَّاكِـبُ الْحِـمَـارَ فَـيَـا عَـجْـ
ــزَ إِلَـــهٍ يَـمَـسُّــهُ  الإِعْـيَـــاءُ
قال : أهو الراكب ؟ يعني : استفتهم عن حجتهم أن الله تعالى سبحانه لا إله إلا هو عما يقول الكافرون علوا كبيرا أهو عيسى الذي يركب الحمار ، فإن ادعيتم هذا بأن عيسى هو الله فعيسى كان يركب الحمار ، ومعلوم أن الركب عجز عن المشي أو ضعف عنه فهذا أمر بعيد لا حجة لكم فيه تعالى إلى الله عما نسبتموه إليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، ثم قال رضي الله عنه :
أَمْ  جَـمِـيـعٌ عَلَـى الْحِـمَـارِ لَـقَـدْ جَـ
ـلَّ حِـمَــارٌ بِـجَـمْـعِـهِـمْ مَـشَّــاءُ
قال : الثلاثة الذين قلتم بإلهيتهم أهم جميع فوق الحمار في مظهر عيسى ؟ وإن كان ما زعمتم فقد جل ذلك الحمار الذي ركبوه عليه الثلاثة فهذا باطل لا حجة لكم فيه ، ثم قال رضي الله عنه :
أَمْ سِـوَاهُــمْ هُـوَ الإِلَـهُ فَـمَــا نِـسْـ
ـبَـةُ عِـيـسَـى إِلَـيْـهِ وَالإِنْـتِـمَــاءُ
يعني : إذا كان الثلاثة في زعمكم أنهم ليسوا هم الإله لكن الإله هو غيرهم إذا قلتم هذه القولة فأخبروني ما نسبة عيسى عندكم إلى هذا الإله الذي هو غير الثلاثة أي هو ابنه أي ابن الإله كما تزعمون أم هو الذي حل في ذات عيسى كما تزعمون أيضا ، وكل هذه الدعاوي باطلة لا أصل لها ، ثم قال رضي الله عنه :
أَمْ أَرَدْتُـمْ بِـهَـا الصِّـفَـاتِ فَلِـمْ خُـصْـ
ـصَـتْ ثُــلاَثٌ بِـوَصْـفِـهِ وَثُـنَـــاءُ
يعني : أم الثلاثة الذين ركبتم الإله منها عنيتم بها الصفات ، وإذا كان قصدكم بها ذكر الصفات فلم خصت الثلاث والاثنان بذكر الصفة والصفات لا حد لها ولا غاية ؟ ، ثم قال رضي الله عنه :
أَمْ  هُـوَ ابْـنٌ لـلــهِ مَـا شَـارَكَـتْــهُ
فِـي  مَـعَـانِـي الْبُـنُـوَّةِ الأَنْـبِـيَــاءُ
قال يعني استفهاما لهم وردا عليهم وتكذيبا لهم : أم هو ابن الإله فيما تزعمون لنبوته ؟ قال : شاركته في معاني البنوة الأنبياء الذين زعمتم أنهم أبناء الله فلا ابن لله تعالى عما يقولون علوا كبيرا فلا وجه لتخصيصه بالبنوة وحده ، وكل النبيين قد شاركوا في النبوة فلا وجه لتخصيصه ، ثم قال رضي الله عنه :
قَـتَـلَـتْـهُ الْيَـهُـودُ فِـيمَـا زَعَـمْـتُـمْ
وَلأَمْــوَاتِـكُــمْ بِــهِ  إِحْـيَـــــاءُ
هذا أحد الوجوه الذين قيل بهما في عيسى أنه هو الإله ، قال الإمام الفخري للرازي : ناظرت بعض رهبان النصارى قلت له : بماذا ادعيتم في عيسى أنه هو الله وأعطيتموه صفات الألوهية ؟ قال : بما ظهر على يديه من الخوارق كإحياء الموتى وتصوير الطير من الطين ونفخ الروح فيه وغيرها من الخوارق قلت : إن ادعيتم في عيسى أنه دليل ألوهيته هو إحياؤه للموتى فقتل اليهود له في زعمكم دليل على عدم ألوهيته لعجزه فلا ألوهية له . قوله : ولأمواتكم به إحياء قلنا : عندهم دليل ألوهيته كان يحيي الموتى وجعلوا ذلك حجة لما يدعونه فبطل قولهم بقتل اليهود في دعواهم عجزه عن دفع ذلك عن نفسه فهو أكبر دليل على عدم ألوهيته ، ثم قال رضي الله عنه :
إِنَّ  قَـوْلاً أَطْـلَـقْـتُـمُــوهُ عَـلَـى اللَّـ
ـهِ تَـعَـالَــى ذِكْـراً لَـقَــوْلٌ هُــرَاءُ
قال لهم هذا : والقول الذي أطلقتموه على الله تعالى في هذه الدعاوي الكاذبة من كونه ثالث ثلاثة كونه عيسى ابنه ونظائره من الدعاوي كلها قول هراء ، والهراء هو الكلام الذي يتكلم به فاقد العقل فلا عبرة به ، وبما ادعيتموه ، ثم قال رضي الله عنه :
مِـثْــلَ مَـا قَـالَـتِ الْيَـهُــودُ وَكُــلٌّ
لَـزِمَـتْـــهُ مَقَـالَــةٌ شَـنْـعَــــاءُ
يعني هذه الدعاوي التي ادعيتموها معشر النصارى في جانب الحق سبحانه وتعالى كلها دعاوي باطلة وزور وإفك مثلما قالت اليهود في قولهم : عزير ابن الله ، وكل من اليهود والنصارى ولزمتهم جانب الله مقالة شنعاء يشقى بها صاحبها ويكفر نعوذ بالله من ذلك ، ثم قال رضي الله عنه :
إِذْْ  هُـمُ اسْـتَـقْـرَءُوا الْبَـدَاءَ وَكَمْ سَــا
قَ وَبَــالاً إِلَـيْـهِــمُ  اسْـتِـقْـــرَاءُ
وَأَرَاهُـمْ لَـمْ يَـجْـعَـلُـوا الْـوَاحِـدَ الْقَـ
ـهَّـارَ فِي الْخَـلْـقِ فَـاعِـلاً مَا  يَـشَـاءُ
قال : إذ هم يعني أهل الكتابين استقرؤوا البدء في مذهبهم وبذلك أحالوا النسخ في الشرائع قال : ذلك الاستقراء الذي به استقرأ والبداء كم ساق إليهم من وبال ثم قال : أراهم بدعوى البداء فهو وجه إحالة النسخ في الشرائع ، قال : أراهم لم يجعلوا الواحد القهار وهو الإله فاعلا في خلقه ما يشاء منعوا عليه هذه الصفة وهي الألوهية لأن الجميع مقهور تحت حكمه وغلبته بفعل فيه ما يشاء ، ثم قال رضي الله عنه :
جَـوَّزُوا  النَّسْـخَ مِثْـلَ مَا جَوَّزُوا الْمـسْـ
ـخَ عَـلَـيْـهِـمْ لَـوْ أَنَّـهُـمْ فُـقَـهَـاءُ
يعني كما جاز المسخ عليهم في الذوات بانتقال ذوات بعضهم إلى الصورة الخنزيرية والقردية كذلك يجوز النسخ في الشرائع لأنه في كل ذلك يفعل في خلقه ما يريد في تبديل ذواتهم بذوات أخرى وتبديل الشرائع بشرائع أخرى ، ثم قال رضي الله عنه :
هُـوَ  إِلاَّ أَنْ يُـرْفَـعَ الْحُـكْــمُ بِـالْحُــ
ـكْـمِ وَخَـلْــقٌ فِـيـهِ وَأَمْـرٌ سَــوَاءُ
يعني أن النسخ في الذوات بمسخها إلى ذوات أخرى هو مثل رفع الحكم بالشرائع وتبديله بحكم آخر والخلق والأمر فيه سواء كما يبدل الخلق بنقل هذه الصورة إلى صورة أخرى كذلك يجوز نقل الحكم إلى حكم آخر ، ثم قال رضي الله عنه :
وَلِـحُـكْـمٍ  مِـنَ الزَّمَــانِ انْـتِـهَــاءٌ
وَلِـحُـكْــمٍ مِـنَ الـزَّمَــانِ ابْـتِــدَاءُ
فَسَلُـوهُـمْ  أَكَـانَ فِي نَسْـخِـهِـم مَـسْـ
ـخٌ لآيَـــاتِ اللـــهِ أَمْ إِنْـشَــــاءُ
يعني : اسألوا أهل الكتابين عن المسخ الواقع فيهم أكان في مسخهم وهو التبديل بذوات أخرى أكان ذلك نسخا لآيات الله لأن جميع الخلق آيات الله تعالى والمسخ فيها هو تبديل آية بآية . أم إنشاء يعني : إنشاء خلق جديد أفنى الخلق الأول وأنشأ مكانه خلقا آخر وعلى كل حال فهو جائز سواء قلنا أنه رفع الحكم في آيات الله وتبديله بحكم آخر وهو إنشاء لإعدام الصورة الأولى وإنشاء الصورة التي بعدها في مكانها على كل حال فهو جائز وبجوازه يجوز نسخ الشرائع ، ثم قال رضي الله عنه :
وَبَــدَاءٌ  فِـي قَـوْلِـهِــمْ نَــدِمَ اللَّــ
ـهُ عَـلَـى خَـلْــقِ آدَمَ أَمْ  خَـطَـــاءُ
يعني : أن البداء الذي ادعوه في نفي النسخ بقولهم : خلق الله آدم وندم عليه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، أو أخطأ في خلقه لأن آدم عليه الصلاة والسلام أحل الله في شرعه نكاح بنيه لبناته ثم حرمه الله تعالى بين الإخوة والأخوات وهم يعلمون هذا ولا يجهلونه ، ونكاح الإخوة والأخوات في شرائعهم محرم يقال : ندم الله على خلق آدم حيث أحل له نكاح بنيه لبناته ثم حرمه بعد ذلك في شرائع الأنبياء أكان ندما من الله تعالى أم كان خطأ في تحليله لآدم وتحريمه على من عداه من النبيين والمرسلين ؟ وكلاهما مستحيل على الله تعالى وهذا كله رد عليهم وتكذيب لهم في عدم نسخ الشرائع ، ثم قال رضي الله عنه :
أَمْ مَـحَــا اللـهُ آيَـةَ اللَّـيْـلِ ذُكْـــراً
بَـعْــدَ سَـهْـوٍ لِـيُـوجَـدَ الإِمْـسَــاءُ
يعني قال : حين محا الله آية الليل أمحاها ذكرا بعد سهو ؟ يعني : خلقها ساهيا ثم ذكر بعد ذلك فمحاها وكل هذا بعيد على الله وكله مجوز لنسخ الشرائع فإنه خلق آية الليل وهو القمر خلقها من الضوء كالشمس فمحاها وطمسها لأجل وجود الليل أكان هذا العمل إذكارا بعد سهو وفي ضمن هذا أنه تقريع لهم وتكذيب لما يدعونه ، ثم قال رضي الله عنه :
أَمْ بَــدَا لِـلإِلَـهِ فِـي ذَبْـحِ  إِسْـحَـــا
قَ وَقَــدْ كَـانَ الأَمْـرُ فِـيـهِ مَـضَــاءُ
يعني أن هذه الحجج في نفي البداء على الله تعالى في نسخ أحكام الشريعة قال : أم بدا للإله في ذبح إسحاق بعد أن أمر بذبحه ثم عفا عنه وفداه بذبح عظيم أكان هذا بدءا منه سبحانه وتعالى أم هو ما قررناه لكم من جواز الأحكام في الشرائع ، ثم قال رضي الله عنه :
أَوَ مَــا حَــرَّمَ الإِلَــهُ نِـكَــاَ الأُخْــ
ـتِ بَـعْـدَ التَّـحْـلِـيـلِ فَـهْـوَ الزِّنَـاءُ
يعني احتج عليهم بما يعلمون وقوعه قال : أو حرم الإله نكاح الأخت بعد التحليل فهو الزنا يعني : بعدما كان حلالا متعبدا به صار اليوم هو الزنا فكان دليلا على جواز نسخ الأحكام ، ثم قال رضي الله عنه :
لاَ تُـكَــذِّبْ أَنَّ الْيَـهُــودَ وَقَــــدْ زَا
غُـوا عَـنِ الْحَـقِّ مَـعْـشَـرٌ لُـؤُمَــاءُ
معناه : لا تكذب أن اليهود ضلوا على علم وقد زاغوا عن الحق ، معنى زاغوا زالوا عن طريق الحق إلى طريق الباطل ، قوله : معشر ، والمعشر هو الجمع والقبيلة . قوله : لؤماء جمع لئيم واللئيم ضد الكريم ، فإن الكريم في اللغة هو الجامع لجميع الأخلاق الحسنة وجميع مكارم الأخلاق ، واللئيم هو الذي اجتمعت فيه الأخلاق السيئة واتصف بأخلاق الأسواء ، قال : اليهود معشر لؤماء كل منهم جمع الأخلاق السيئة وأكبرها الحسد للنبي صلى الله عليه وسلم على ما أعطاه الله من فضله فإنهم بذلك جمعوا الأخلاق السيئة ، ثم قال رضي الله عنه :
جَـحَـدُوا  الْمُـصْـطَـفَـى وَآمَـنَ بالطَّـا
غُـوتِ قَـومٌ هُـمْ عِـنْـدَهُـمْ شُـرَفَــاءُ
أخبر هنا عن جماعة من أحبار اليهود لعنهم الله تعالى كانوا قد لقيهم أبو سفيان بن حرب أيام كفره في جماعة من أشراف قريش فسألوا أحبار اليهود وقالوا لهم : أخبرونا أديننا خير أم دين محمد صلى الله عليه وسلم ؟ فإنا نطعم الطعام ونسقي اللبن وذكروا مآثرهم الحسنة فقالوا لهم أحبار اليهود : دينكم خير من دين محمد صلى الله عليه وسلم فأنزل الله من شأنهم قوله سبحانه وتعالى : {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله} [النساء : 51 ، 52] الآية ، فهذا معنى البيت وقد جحدوه صلى الله عليه وسلم وهم يعلمونه بالصورة والعين يعني اليهود بما أخبر الله من أمر نبيه صلى الله عليه وسلم في التوراة آمنوا بالجبت والطاغوت وجحدوا النبي صلى الله عليه وسلم هم قوم عندهم شرفاء وهم أحبار اليهود الذين أنزل الله في شأنهم الآية المتقدمة ، ثم قال رضي الله عنه :

<< الصفحة السادسة    الصفحة الثامنة >>