وَتَـخَــالُ الْـوُجُــوهَ إِنْ قَـابَـلَـتْــهُ
أَلْـبَـسَـتْـهَـا أَلْـوَانَـهَـا الْحِـرْبَــاءُ
قوله : وتخال الوجوه عن حاله صلى الله عليه وسلم في مقابلته الناس وملاقاة الناس له فإن كل من لاقاه أو قابله صلى الله عليه وسلم ارتعب من هيبته صلى الله عليه وسلم لأجل أنه مكسو باطنه صلى الله عليه وسلم بالأوصاف الباطنة وهي الكمالات الإلهية الذاتية التي لا اطلاع لأحد عليها فسبب تلك الصفات وشروقها في باطنه صلى الله عليه وسلم ألبسه الله لباس الهيبة الإلهية ، فكل من قابله أو لاقاه ارتعب من هيبته صلى الله عليه وسلم وذلك الرعب الذي يقع في باطن من قابله أو لاقاه يتلون منه ظاهره بألوان مختلفة ما بين بياض واصفرار واحمرار وخضرة وغيرها من الألوان يتلون الناظر فيه صلى الله عليه وسلم بتلك الألوان من إفراط الهيبة والتعظيم وتلوينه أي النظر في ذلك مماثل لتلون الحرباء لأنها في الوقت الواحد تتلون بألوان كثيرة وهي التي يسمونها العامة للبوبية ، ثم قال رضي الله عنه :
فَــإِذَا شِـمْــتَ بِـشْــرَهُ وَنَــــدَاهُ
أَذْهَـلَـتْـــكَ الأَنْــوَارُ وَالأَنْــــوَاءُ
قوله : إذا شمت بشره وهو ظاهر وجهه وجسده الشريف صلى الله عليه وسلم ونداه هو جوده وعطاؤه صلى الله عليه وسلم إذا رأيت ذلك أذهلتك الأنوار عن تعقلاتك وأذهلتك الأنواء عن تذكر العطاء معها لا تذكر معها عطاء حتى يقول قائل فيه صلى الله عليه وسلم : وتضاءلت عند وجود يمينه الغمائم والبحار ، ثم قال رضي الله عنه :
أَوْ بِـتَـقْـبِـيــلِ رَاحَـةٍ كَـانَ لـلــهِ
وَبِـاللــهِ أَخْــذُهَـــا وَالْعَـطَـــاءُ
قال : إذا شمت بشره ونداه يعني إذا نظرت أذهلتك الأنوار والأنداد بسبب النظر وهكذا يقع هذا الحال وهو الذهول بأنواره وندائه بسبب تقبيل راحته صلى الله عليه وسلم يعني : يغشى على المقبل راحته صلى الله عليه وسلم حتى يذهل عن تعقلاته بسبب الأنوار والأنواء ، ثم وصف الراحة وهو اليد الشريفة إذا صارت في الشرف في الرتبة العلياء بحيث أنه يأخذ لله بالله ويعطي لله بالله بكمال تنزيهه صلى الله عليه وسلم عن متابعة دائرة الهوى من الشهوات لما وصل إلى حد قوله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي : "كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ..." الحديث ، فبهذا صار أخذه لله بالله وعطاؤه لله بالله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال رضي الله عنه :
تَتَّـقِـي بَـأْسَهَـا الْمُـلُـوكُ وَتَـحْـظَـى
بِـالْـغِـنَـا مِـنْ نَـوَالِـهَـا الْفُـقَــرَاءُ
ثم ازداد في وصف يده الكريمة صلى الله عليه وسلم بأنها تخافها الملوك على شدة تجبرهم يتقون بأسها وهو ظهور الهلاك من يده صلى الله عليه وسلم وخوفهم منه صلى الله عليه وسلم لأنه يبطش لله بالله فلا يتجرأ عليه من الملوك إلا من كان جاهلا بمرتبته صلى الله عليه وسلم ، ثم قال رضي الله عنه : وتحظى بالغنى من نوالها الفقراء ، بسبب ذلك النوال ، ثم قال رضي الله عنه :
لاَ تَـسَـلْ سَيْـلَ جُـودِهَـا إِنَّـمَـا يَـكْـ
فِـيـكَ مِـنْ وَكْـفِ سُـحْـبِـهَا الأَنْـدَاءُ
قال : لا تسل سيل جودها يعني لا تطلب سيل عطائها لتقف منه على الغاية فإنه لا غاية له ينتهي إليها صلى الله عليه وسلم ، قال : إنما يكفيك من وكف سحبها الأنداء يعني : إذا طلبت الوقوف على غاية سيل عطائه صلى الله عليه وسلم لم تقف له على غاية ولكنه يكفيك في استعظامه ما تراه من كثرة جوده وعطائه صلى الله عليه وسلم عطاء خارجا من العادة ، ثم قال رضي الله عنه :
دَرَّتِ الشَّـاةُ حِـيـنَ مَـرَّتْ عَـلَـيْـهَــا
فَـلَـهَــا ثَــرْوَةٌ بِـهَـا وَنَـمَــــاءُ
ثم أخذ يصف توقعات اليد الكريمة منه صلى الله عليه وسلم ، قال : درت الشاة حين مرت عليها يده صلى الله عليه وسلم وقضيته معلومة حين هاجر صلى الله عليه وسلم وكان رابع أربعة صلى الله عليه وسلم هو وأبوبكر وخادمهما عامر بن فهيرة ودليلهما عبد الله بن أريقط الليثي فمروا بخيمة أم معبد الخزاعية وكانت الغنم إذ ذلك في جهد شديد من الهزال فنزلوا بخيمة أم معبد فلما دخلوها نظر صلى الله عليه وسلم في جانب الخيمة فرأى فيها نعجة مربوطة شديدة العجف حبسوها عن الغنم لكونها لم تقدر على المشي مع الغنم لشدة الهزال فقال صلى الله عليه وسلم لصاحبة الخيمة : أتأذنين لنا أن نحلب تلك الشاة ؟ فقالت له : هي أجهد من ذلك ، فقال لها : إن أذنت لنا حلبناها أو كما قال لها مما هذا معناه فأمرر يده الشريفة على ضرعها فانبعث الضرع لبنا وحلب حتى أروى أصحابه الثلاثة وأروى أم معبد ومن معها في البيت وشرب هو صلى الله عليه وسلم وحلب لها منها لبنا كثيرا وتركه عندها بالخيمة وذهب مع أصحابه فجاء بعده زوجها أبو معبد فقدمت له اللبن فتعجب وقال لها : أنى لك هذا ؟ قالت : مر بنا رجل هو رابع أربعة وهو أبهاهم وأجملهم والكل يخدمونه ، إن أمر امتثلوا أمره ، له منطق كأنه خرزات نظمت يعني في جمال ذلك المنطق وحسن ذلك الكلام وعدم اختلاطه بالهذيان وانبهار العقول من كلامه صلى الله عليه وسلم قالت له : ثم أخذ الشاة وأمرر يده على ضرعها فانبعث الضرع لبنا أروى منه أصحابه ونفسه وأروانا جميعا وترك هذا اللبن عندنا منها ، قال لها : هذا صاحب قريش صلى الله عليه وسلم ، والقضية معلومة في كتب السير فلا نطيق بها ، ثم قال رضي الله عنه :
نَـبَـعَ الْمَـاءُ أَثْـمَـرَ النَّـخْـلُ فِـي عَـا
مٍ بِهَـا سَـبَّـحَـتْ بِـهَـا الْحَـصْـبَـاءُ
ثم أخذ يعدد مآثر يده الكريمة صلى الله عليه وسلم قال : نبع الماء منها أي من أصابعه وقضيته معلومة في كتب السير ، وأثمر النخل في عامه وذلك قد وقع في قضية سلمان الفارسي رضي الله عنه وحديث طويل مشهور وكان قد جاءه صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة فذكر له صلى الله عليه وسلم قصة حديثه إلى أن مر في حديثه بالرجل الذي وجده بالعيضة يتعرض له الناس بمرضاهم فيخبرهم أسباب الشفاء ، قال : فسأله قلت له : فأسألك عن الحنفية دين إبراهيم فقال له الرجل : إنك لتسأل عن أمر ما يسأل عنه أحد اليوم ولقد أظلك زمان نبي يبعث بهذا الدين يحملك عليه ، قال : قلت له : أخبرني ما علامته ؟ وأين يكون ؟ قال له : أما أن يكون فبأرض ذات نخل ومن وصفها وصفتها ووصف له المدينة ، وأما علامته : يقبل الهدية ، لا يأكل الصدقة ، بين كتفيه خاتم النبوة . قال : فخرجت من عنده أطلب أن أصل إلى المدينة فلما توسط أرض العرب عمد إليه ناس من العرب فغصبوه وباعوه ظلما ثم الذين اشتروه باعوه بأرض قرب المدينة أرض اليهود ، قال : فلما رأيتها قلت هذه هي ، فمكث بها مدة وقد بعث صلى الله عليه وسلم بعدها بمكة ولم أسمع بخبره لاشتغالي بأمر الرق ، قال : فلما هاجر إلى المدينة صلى الله عليه وسلم كان في يوم هجرته حين دخل المدينة قال : لم أعلم بشيء إلا أن سيدي كان في أصل النخلة وأنا في رأس النخلة ألقمها ، وكانت العشية فقدم عليه رجل من يهود هو أخوه أو غيره ، قال : فاشتغل يحدثه قال له : قاتل الله بني قيلة إنهم الآن ليجتمعون على رجل قدم من مكة يزعم أنه رسول قال : يعيهم بذلك وقد غاضه ذلك ، قال : فلما سمعته كدت أسقط من رأس النخلة فنزلت بسرعة ثم قلت للرجل : ماذا تقول ؟ قال : فانتهرني سيدي نهرا شديدا وقال : أقبل على عملك أمر ليس من شأنك ، قال : فتركته وسامحت ، قال : فلما كان الغد أتيته صلى الله عليه وسلم والناس مجتمعون عليه وكان صاحبه الذي وصف له صفاته قال : فلما رأيته صلى الله عليه وسلم وجدت الصفة التي وصف لي صاحبي ، ثم قلت : لابد من علامة ، فذهبت وصنعت طعاما ثم أتيته به وأصحابه مجتمعون عليه فقلت : هذه صدقة أتيتكم بها لكونكم أتيتم غرباء فأنتم أحق بها ، قال : فقال لأصحابه صلى الله عليه وسلم : كلوا ، وأمسك يده ، قال : فقلت : هذه واحدة ، ثم ذهبت وصنعت طعاما وأتيت به من الغد أيضا فأتيت به حتى وضعته بين يديه صلى الله عليه وسلم فقلت له : إني رأيتك لم تأكل بالأمس من الصدقة فأتيتك بهذا الطعام هدية لك فتناول صلى الله عليه وسلم وأكل وأكل الناس معه فقلت : هذه علامة أخرى ، قال : ثم جعلت أحوم حول ظهره أريد لعله ينكشف لي ما بين أكتافه فلما رآني صلى الله عليه وسلم أدور هنا علم مرادي فكشف عن أكتافه حتى رأيت الخاتم بين أكتافه صلى الله عليه وسلم فلما رأيته تحققت ذلك ثم سألني صلى الله عليه وسلم عن الخبر فأخبرته بالحديث من أوله إلى آخره فقال صلى الله عليه وسلم : "لئن كنت صدقتني يا سلمان لقد لقيت عيسى بن مريم" عليهما الصلاة والسلام ثم أسلم رضي الله عنه وشغله رق قال : حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد والخندق فما كان ذلك أتيته يوما وشكوت له ما أنا فيه من الرق فقال له صلى الله عليه وسلم : كاتب يا سلمان ، فذهبت وطلبت الكتابة ، قال : فكاتبني سيدي على أربعمائة نخلة يغرسها كلها وتحيى ، وأربعين أوقية ، والأوقية فيها أربعون درهما ، فلما كتبت أتيته صلى الله عليه وسلم وأخبرته فجاءه بعض الناس بشيء من بعض المعادن وكان قليلا فأعطاه له صلى الله عليه وسلم فقال له : وأين تقع هذه ؟ من الذي علي ، قال : أذهب فأد لهم منها ، قال : فذهبت وأديت المال الذي عليّ منها وبقيت بقية ثم قلت له : النخل يا رسول الله ، فأمر الأنصار فأتوني بأربعمائة نخلة ثم أمرهم صلى الله عليه وسلم أن يحفروا لها فأمرهم أن لا يضعوها في مواضعها حتى يضعها بيده الشريفة صلى الله عليه وسلم فوضعها كلها بيده صلى الله عليه وسلم فحييت كلها وأثمرت في عامها ببركته صلى الله عليه وسلم وتحرر سلمان من الرق صلى الله عليه وسلم .
قوله : سبحت بها الحصباء في كفه صلى الله عليه وسلم حتى سمعه الحاضرون ، ثم قال رضي الله عنه :
أَحْيَـتِ الْمُـرْمِـلِـيـنَ مِنْ مَـوْتِ جَـهْـدٍ
أَعْــوَزَ الْقَــوْمَ فِـيـهِ زَادٌ وَمَــــاءُ
ذكر هنا مآثره الكريمة أنها أحيت المرملين ، والمرملين جمع أرملة وهي المرأة المحتاجة التي لا زوج لها وكانت النساء في حال الجهد بالجوع حال الأموات فنقلهن إلى صورة الأكل وهي صورة الحياة التي نقلهن إليها وله في الباب كم أرملة أحياها من موت الجهد صلى الله عليه وسلم ، والجهد هو الجوع وتلك الحالة التي كان المرملون فيها أعوزهن فيها الزاد والماء فهي صورة الموت عندهم فنقلهن إلى الأكل والشبع وهي صورة الحياة ، ثم قال رضي الله عنه :
فَـتَـغَــذَّى بِـالصَّـاعِ أَلْـفٌ جِـيَــاعٌ
وَتَــرَوَّى بِـالصَّــاعِ أَلْــفٌ ظِـمَــاءُ
وَوَفَـى قَـدْرُ بَـيْـضَــةٍ مِـنْ نُـظَــارٍ
دَيْـنَ سَـلْـمَـانَ حِـيـنَ حَـانَ الْـوَفَـاءُ
كَـانَ يُـدْعَــى قِـنّـاً فَـأَعْـتَـقَ لَـمَّـا
أَيْـنَـعَـتْ مِـنْ نَـخِـيـلِـهِ الأَقْـنَــاءُ
وهذا كله تقدم في قضية سلمان رضي الله عنه وأرضاه ، ثم قال رضي الله عنه :
أَفَـلاَ تَـعْــذُرُونَ سَـلْـمَــانَ لَـمَّــا
أَنْ عَـرَتْــهُ مِـنْ ذِكْــرِهِ الْعُـــرَوَاءُ
خاطب اليهود عند إذايتهم لسلمان وهم يعلمون أن الذي يسأل عنه هو حق عندهم لا ريب ، ثم قال رضي الله عنه :
وَأَزَالــتْ بِـلَـمْـسِـهَــا كُـــلَّ دَاءٍ
أَكْـبَـرَتْـــهُ أَطِـبَّــةٌ وَإِسَـــــاءُ
قال : وأزالت بلمسها كل داء يعني كم من ذي عاهة لمسه بيده الشريفة صلى الله عليه وسلم فزالت عاهته من حينها ومن هذا الباب وقائع لا تعد ولا تحصى وذلك الداء العضال الذي استعصيت زوال ذلك الداء الماهرون في الطب وهم الرؤساء ، ثم قال رضي الله عنه :
وَعُـيُــونٌ مَـرَّتْ بِـهَـا وَهْـيَ رُمْــدٌ
فَـأَرَتْـهَــا مَـا لَـمْ تَـرَ الـزَّرْقَـــاءُ
وكم من عيون رمد مرت بها يده الكريمة صلى الله عليه وسلم فزال الرمد عنها من حينه وأرتها من قوة البصر يده الكريمة صلى الله عليه وسلم ما لم تره الزرقاء ، والزرقاء امرأة مشهورة باليمامة وكانت ترى مسيرة ثلاثة أيام وحكايتها معلومة ، ثم قال رضي الله عنه :
وَأَعَــادَتْ عَـلَـى قَـتَــادَةَ عَـيْـنــاً
فَـهْــيَ حَـتَّـى مَـمَـاتِـهِ النَّـجْــلاَءُ
وقتادة هذا من أحد الصحابة من الأنصار كانت قد سقطت عينه فردها صلى الله عليه وسلم بيده الكريمة صلى الله عليه وسلم وبقيت في قوة بصرها إلى مماته ، وقوله : النجلاء هي المتسعة أراد بها اتساع بصره وقوته بتلك العين ، ثم قال رضي الله عنه :
أَوْ بِـلَـثْــمِ التُّــرَابِ مِـنْ قَـــدَمٍ لاَ
ـنَـتْ حَيـاءً مِنْ مَشْـيِـهَـا الصَّـفْـوَاءُ
وكذا التراب صلى الله عليه وسلم بقدمه كم من ذي عاهة تلثم ذلك التراب يعني : مسح به عاهته فزالت العاهة من حينها .
قوله : من قدم لانت حياء من مشيها الخ ، يعني أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى على الصخرة الصماء لانت تحت قدمه فأثرت فيها قدمه الكريم كما تؤثر في وطئ الطين ، ثم قال رضي الله عنه :
مَـوْطِـئُ الأَخْـمُـصِ الذِي مِنْـهُ لِلْـقَـلْـ
ــب إِذَا مَـضْـجَـعِـي أَقَـضَّ وِطَــاءُ
قال : موطئ الأخمص . الأخمص هاهنا هو ما كان مرتفعا فارغا من قدمه صلى الله عليه وسلم وهو المحل المعروف بين عقب القدم وأول القدم ، قال : موطئ الأخمص أخذ يمدحه كأنه يقول : نعم ، ذلك الموطئ أو ما أعظم شأنه ، قال : ليت قلبي له وطاء يعني فراشا إذا انقض مضجعي للمنام ليت قلبي له وطاء يطأ عليه ذلك الأخمص ، ثم قال رضي الله عنه :
حَـظِـيَ الْمَـسْـجِـدُ الْحَـرَامُ بِمَـمْـشَـا
هَــا وَلَـمْ يَـنْــسَ حَـظَّـهُ إِيـلْـيَـاءُ
قال : حظي المسجد الحرام ، والحظوة هنا هي ارتفاع الدرجة والمرتبة ، قال : حظي المسجد الحرام وهو حظي مسجد مكة يمشي ذلك الأخمص فيه علت رتبته وعظمت عن الله تعالى ولم ينس حظه إيلياء يعني : مسجد إيلياء وهو مسجد بيت المقدس فإنه مسجد عظيم المقدار لكونه صلى فيه أكثر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلم ينسه الله تعالى يعني : لم يتركه هملا من مشي أخمصه صلى الله عليه وسلم في المسجد بل قيض الله رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد مشى إليه ليلة الإسراء وقضيته معلومة ، ثم قال رضي الله عنه :
وَرِمَـتْ إِذْ رَمَـى بِـهَـا ظِـلَـمَ اللَّـيْــ
ــلِ إِلَـى اللــهِ خَـوْفُـهُ وَالـرَّجَــاءُ
قوله : ورمت ، أخبر هاهنا عما نقل الرواة متواترا أنه قام الليل حتى تورمت قدماه صلى الله عليه وسلم يعني : صارت ذات قروح من طول قيامه لله تعالى ، قال : ورمت قدماه صلى الله عليه وسلم يعني صارت ذات ورم .
قوله : إذ رمى بها خوفه ورجاؤه وهو فاعل رمى بها إلى الله تعالى خوفه ورجاؤه ، وقوله : ظلم الليل ظرف الفعل وهو قيامه لله في ظلام الليل وتركيب البيت وهو ورمت قدمه الكريمة من التورم ، وإذ بمعنى : حين ورمت قدماه حين رمى بها إلى الله خوفه ورجاؤه ، فحين رماها بها خوفه ورجاؤه قامت بين يدي الله تعالى حتى تورمت ، وقيامها في ظلام الليل ، والظلم جمع ظلمة وهو تكرر ذلك القيام في ليال كثيرة صلى الله عليه وسلم ، ثم قال رضي الله عنه :
دَمِيَـتْ فِـي الْـوَغَـى لِتُـكْـسِـبَ طِيبـاً
مَــا أَرَاقَــتْ مِـنَ الـدَّمِ الشُّـهَـــدَاءُ
قوله : دميت في الوغى أراد بها قدمه الكريمة صلى الله عليه وسلم ، والوغاء هو مجمع القتال موضع ضرب السلاح ، دميت قدمه الكريمة في الوغى صلى الله عليه وسلم لأجل أنها أرادت أن تكسب طيبا في دماء الشهداء بعد لما ورد في الخبر أن الشهيد يوم القيامة يأتي تنبعث جراحه دما ، اللون لون الدم والريح ريح المسك كل الشهداء على هذا المنوال مستمدة دماء الشهداء تلك الرائحة الطيبة من دم قدمه الكريمة حين دميت في الوغاء ، ثم قال رضي الله عنه :
فَهْـيَ قُطْـبُ الْمِحْـرَابِ وَالْحَـرْبِ كَـمْ دَا
رَتْ عَـلَـيْـهَـا فِـي طَـاعَـةٍ أَرْحَــاءُ
وصف القدم الكريمة منه صلى الله عليه وسلم لأنها هي قطب المحراب في التعبد والمحراب محل قيام لعبادة الله تعالى ، فالقدم الكريمة هي قطب المحراب عليها مدار العبادة وهي قطب الحرب ، فالحرب صدر منه على أمر الله تعالى له بالجهاد والقتال امتثل أمر الله ذلك وشمر عن ساقه وشد حزامه صلى الله عليه وسلم للنهوض بأمر الله وبذلك جهده على قتال المشركين ومن أبى عن الاستجابة لأمر الله ، فمازال كذلك صلى الله عليه وسلم حتى توفاه صلى الله عليه وسلم ، فالقدم الكريمة هي قطب تلك الحروب ، أعني عليها مدارها كم دارت عليها أرحاء الحرب التي سميتها العرب رحاء الحرب وشبهت بالرحاء لأن الرحاء تطحن الزرع وتخرجه دقيقا ، والحرب تطحن رقاب الرجال وتخرجه من حد الحياة إلى الممات فلذا سميت بالرحى كم دارت على قدمه الكريمة في الحروب أرحاء وهي ثابتة لا تتزلزل لأن الهزيمة والشجاعة والثبات والزوال عن الحرب كلها تنسب للقدم ، إذا ثبتت القدم ثبت صاحبها وإذا زلت زلت ، ولذا طلب أصحاب طالوت تثبت أقدامهم في الحرب قالوا : {ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا} [البقرة : 250] ، ثم قال رضي الله عنه :
وَأُرَاهُ لَــوْ لَـمْ يُـسَـكِّـنْ بِـهَـا قَـبْـ
ــلُ حِــرَاءً مَـاجَـتْ بِـهِ الـدَّأْمَــاءُ
أخبر عن قضيته صلى الله عليه وسلم أنه كان جالسا على جبل حراء وهو جبل معروف بمكة ومعه الصحابة تحرك به الجبل فقال له صلى الله عليه وسلم : "اسكن يا حراء فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان" الصديق سيدنا أبو بكر رضي الله عنه والشهيدان سيدنا عمر رضي الله عنه وسيدنا عثمان رضي الله عنه ، قال الناظم : أراه لو لم يسكن بها حراء بقدمه الكريمة لماجت بحراء الدأماء وهو البحر ، ثم قال رضي الله عنه :
عَـجَـبـــاً لِلْكُـفَّــارِ زَادُوا ظَـــلاَلاً
بِـالـذِي لِـلْـعُـقُـولِ فِـيـهِ اهْـتِــدَاءُ
ذكر التعجب من ظلال الكفار بظهور ما فيه الهدى عينا لعيونهم وهو ظهور كتاب الله تعالى حيث أعجزهم أن يأتوا بسورة مثله وبما أظهر من انشقاق القمر الذي لا يشك فيه أحد أنه من عند الله تعالى وهاتان الآيتان أعظم ما أتى به صلى الله عليه وسلم من المعجزات لبعدها عن التحمل والقطع بأن صاحبها صادق ، وفي كل ما جاء به ، فلما ظهرت تلك المعجزات زادوا بها ضلال وسموها سحرا ، كهانة ، جنونا كل ذلك جحد لأمر الله تعالى مع اتضاحه ، وقد قال سبحانه وتعالى : {إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} [الأنعام : 33] فهذا الضلال الذي زادوا به من شدة العناد ، ثم قال رضي الله عنه:
والــذِي يَـسْـأَلُــونَ مِـنْـهِ كِـتَــابٌ
مُـنْــزَلٌ قَـدْ أَتَـاهُــمُ وَارْتِـقَـــاءُ
أراد الناظم أنهم كانوا يسألون عن النبي صلى الله عليه وسلم آية بينة وهو قولهم : فليأتنا بآية كما أرسل الأولون ، وقولهم أيضا فيما أخبر الله عنهم : {لولا أنزل عليه آية من ربه} إلى قوله : {أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم} [العنكبوت : 51] والذين يسألون منه هو ظهور المعجزات على يديه صلى الله عليه وسلم ، قال : جاءهم فيما سألوا عنه بكتاب أعجزهم فيه أن يأتوا بمثله فهو الآية التي لا آية بعده وهو أكبر دليل على صدقه صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به الكتاب العزيز من أخبار الأمم الماضية وما وقع بينهم وبين رسلهم عليهم الصلاة والسلام من الأحوال والأمور بحيث أن لا يقدر على استيفاء ذلك أكابر الأحبار ثم الذي جاء به صلى الله عليه وسلم أمي لم تعرف له مخالطة أهل الكتاب ولا عرف منه أنه ألم بشيء من مجالسته أهل القصص والأخبار بل هو في أميته لا يعلم شيئا من ذلك ولا يقرأ ولا يكتب ، ثم جاءهم بالأخبار العجيبة والقصص الغريبة التي لا يهتدي إليها أكابر أهل العقول عن أقل القليل منها ، ثم جاء بكتاب ففصل فيه تلك الأخبار العجيبة والقصص الغريبة بلسان عربي مبين بين المعاني مستحسن الأسلوب والمباني بحيث أن لا يستريب عاقل في أنه من عند الله إلا من جحد الحق بعد وضوحه وعاند أمر الله تعالى بالعناد الشنيع البين الكذب فكفى بهذا الكتاب معجزة دل على صدق الآتي به أنه من عند الله وفي هذا الكتاب ارتقاء إلى العلوم العلية مثل العلم بالله وصفاته وأسمائه وتعريف نعمه سبحانه وتعالى وامتنانه وتفصيل أحوال يوم القيامة وما ذكر فيها من ذكر الجنة والنار والوعد والوعيد فهذا هو الارتقاء بهذا الكتاب إلى العلوم العلية ، ثم قال رضي الله عنه :
أَوَ لَـمْ يَـكْـفِـهِـمْ مِـنَ اللــهِ ذِكْــرٌ
فِـيــهِ لِلنَّـاسِ رَحْـمَــةٌ وَشِـفَـــاءُ
قال الناظم : في هذا رد على الجاحدين والكفرة بما تعسفوا عليه صلى الله عليه وسلم بظهور آية خارقة للعادة مثلما تقدمهم من الرسل ، قال : أو لم يكفهم من الله ذكر وهو القرآن فيه للناس رحمة وشفاء ورحمة في تلاوته ، والشفاء دوما شفيت به أغلال العقول المستريبة بما قدمنا ذكره في الأخبار والقصص وما فيه من كمال العلم بالله وصفاته وأسمائه وما ذكر فيه من أحوال يوم القيامة والجنة والنار والوعد والوعيد حتى تبين لكل ذي عقل وإن كان كافرا أنه لا يقدر أن يأتي به كاذب ، ثم قال رضي الله عنه :
أَعْجَــزَ الإِنْـسَ آيَـةٌ مِـنْـهُ وَالْـجِــ
ـنَّ فَـهَـلاَّ تَـأْتِـي بِـهَـا الْبُـلَـغَــاءُ
قوله : أعجز الجن والإنس على أن يأتوا بآية من مثله كما قال اللعين الوليد بن المغيرة حين اعترف بالحق جهرا مع شدة جحوده وشدة كفره ذكروا بين يديه القرآن يوما فقال لهم أي لجلسائه : إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أسفله لمغدق وإن أعلاه لمثمر وما يقدر أن يأتي به بشر ثم بعد ذلك أنكر الحق فقال لعنه الله : إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر ، ثم قال رضي الله عنه :
كُـلَّ يَـوْمٍ يُـهْـدَى إِلَـى سَـامِـعِـيــهِ
مُـعْــجِـزَاتٌ مِـنْ لَـفْـظِـهِ الْقُــرَّاءُ
أخبر الناظم عما كان فيه من المشركين يقع أسماعهم بتوقيعات القرآن وهو يغاديهم ويراوحهم أن يأتوا بمثله فلم تتحرك منهم أنفة مع أنهم أصحاب الأفعة العظمى تتحرك وقوتهم بأقل قليل مما يتوهم فيه تعجيزهم وإذلالهم فأتاهم صلى الله عليه وسلم بكتاب من جنس ما يتكلمون به في السياق والمنوال لا في العلم والاختبار ، ويقرع أسماعهم بذلك غدوا ورواحا مع حدة أنفتهم فما تحركت بينهم ولا شعرة واحدة للنهوض أن يأتوا بمثله ما كان إلا أن بواطنهم التي يتحركون بقواها أخبرتهم باطنا أنه أمر إلهي لا تمكن معارضته وما يقدر للبشر أن يأتي بمثله فألقوا القياد مستسلمين مسلوبي القوة في عدم معارضته فهذا هو التحقيق أن البواطن تخبرهم إخبارا قطعيا أنه من عند الله لا تقدر البشر أن تأتي بمثله ، وألسنة العناد منهم تفوه بالأباطيل كقولهم : لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين مع أنه برز أعظمهم فجورا وأكبرهم فصاحة نهض لإدارة معارضة الكتاب ، فبينما هو ذاهب لمجالستهم سمعه صبيا من فوق السطح يتلو قوله سبحانه وتعالى : {وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين} [هود : 44] وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين ، فأرخى قياده واستسلم وصرح بالعجز والحق وقال : أشهد أن هذا لا يعارض ورجع على عقبيه ، ومع هذا فإنهم مازالوا معاندين وهو صلى الله عليه وسلم يغاديهم ويراوحهم في كل يوم يأتيهم بعجائب يسمعونها غير التي تقدمت على ما أقام فيهم وعجائب القرآن متجددة على أسماعهم يسمعونها من تال ، ثم قال رضي الله عنه :
تَـتَـحَـلَّــى بِـهِ الْمَـسَـامِــعُ والأَفْـ
ــوَاهُ فَـهْـوَ الْحُـلِـيُّ وَالْحَـلْـــوَاءُ
أخبر الشيخ هاهنا عن حالة القرآن أنه تتحلى به المسامع والأفواه من التحلي وهو لباس الزينة ومن التحلي الذي هو ذوق الحلاوة في القوة الحاسة ، فالقرآن له هاتان الحالتان تتلذذ الأسماع والأفواه بعذوبة لفظه وقوة اختصاره وإحاطته بالمعاني البعيدة مع كونه يخرج من لسان تاليه ملبوسا بهيبة الربوبية فهذا هو التحلي بزينته والتحلي بذوق حلاوته وخضوع النفوس باطنا واستحلائها لمعانيه فهي الحلواء التي فيه كما قال الملعون بن المغيرة حين خطبوا بين يديه في القرآن قال : إن له حلاوة وإن عليه لطلاوة هي الطلاوة حلة الجمال المكسو بها وإن أسفله لمغدق وإن أعلاه لمثمر وما يقدر أن يأتي به بشر مع شدة كفره وعناده كما قيل في المثل السائر : الفضل ما شهدت به الأعداء ، ثم قال رضي الله عنه :
رَقَّ لَـفـْظـاً وَرَاقَ مَـعْـنـىً فَـجَـاءَتْ
فِي حُـلاَهَـا وَحَـلْـيِـهَـا الْخَـنْـسَـاءُ
قال : رق لفظا ، واللفظ الرقيق هو الذي تستحليه النفوس باطنا وتميل إليه ولا تمل من تكراره عليها فهذا هو اللفظ الرقيق . وراق معنى : راق بمعنى صفا معناه وصفت معانيه أي معاني القرآن فليس فيها تخليط ولا هذيان وليس فيه ما يستبشعه العاقل من المعاني ، ولقد بلغت معانيه في الصفا كلما مرت على العقل السليم منه آية ازداد تعجبا من وقوعها كأنه ما سمعها ولا سمع غيرها فهو على ترداد تكراره دائما في هذا الميدان حتى ذهب بعض الصوفية إلى من تلا القرآن وكانت معانيه المرة الثانية هي التي في الأولى كأنه ما تلا القرآن ولا عرفه بل عندهم في كل مرة منه فاضت عليه علوما وأسرار وعجائب غير التي في الأولى وهكذا دائما كلما كرر على طول عمره ، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم : "لا تنقضي عجائبه إلى يوم القيامة" فتشبهت بحليها وحلاها الخنساء بالقرآن وإن كانت لا تصل إليه ولا بوجه ما لأنها كانت شاعرة عظيمة القدر في الشعر ، وقد كان يستنشدها صلى الله عليه وسلم ويستحسن شعرها ، كلما رآها أرادت السكوت يقول : إيه يا خناس حتى قال لها عمر يوما : ما أنت أشعر من ذات خصي فقالت : ومن كل خصيين ، ثم قال رضي الله عنه :
وَأَرَتـْنَـا فِـيـهِ غَـوَامِــضَ فَـضْــلٍ
رِقَّـــةٌ مِـنْ زُلاَلِـهَــا وَصَـفَــــاءُ
الزلال هو الماء العذب الصافي البارد وسمي بهذا الاسم لشدة ميل النفوس إليه عند العطش ، معاني القرآن شبهها في صفائها وعلو مأخذها وإحاطتها بالمحاسن بالماء العذب الزلال ، وصفاء معانيه أرتنا فيه غوامض علم وأسرار ، سماها غوامض لبعد إدراكها عن العقول فلا تنال إلا بفيض إلهي وهي تلك العلوم والأسرار والفيوضات والتجليات التي في القرآن ، ثم قال رضي الله عنه :
إِنَّـمَـا تُـجْـتَـلَـى الْـوُجُـوهُ إِذَا مَــا
جُـلِـيَـتْ عَـنْ مِـرْآتِـهَـا الأَصْـــدَاءُ
قال : إنما تجتلى الوجوه يريد من المرائي الصقيلة معناه يراه الناظر في المرآة بحكم المقابلة لكن لا تجتلي الوجوه في المرآة إلا إذا جليت من الصداء ، كذلك معاني القرآن الغامضة لا تجليها العقول إلا إذا بلغت الرتبة الحقية وهي ذهاب غير الله تعالى من نظرها عينا وأثرا لم يبق إلا الله وحده فهناك تجلى معاني القرآن للعقل في تلك المرآة وما لا فلا ، ثم قال رضي الله عنه :
صُــوَرٌ مِـنْـهُ أَشْـبَـهَـتْ صُــوَراً مِـ
ـنَّـا وَمِـثْـلُ النَّـظَـائِـرِ النُّـظَــرَاءُ
قال : صور من القرآن أشبهت صورا منا والمشابهة بيننا أنها مماثلة الموقع على وتيرة واحدة مثل الصور الآدمية على وتيرة واحدة لا تختلف كيفيتها ولكنها تختلف في غير هذا الحد بالألوان والأخلاق والأحوال والأحكام واللوازم والمقتضيات وصورتها في الشبه يعني صور الآدميين صورة واحدة مختلفة في المباني والمعاني لاختلاف الآثار الواردة عليها من الحضرة الإلهية بحسب اسم القائم بها والفيض الطارئ عليه من المشيئة الربانية والحكم الواقع عليها من الكلمة الإلهية وهي كن فهي في هذا الميدان متفقة متفرقة مؤتلفة مختلفة كذلك سور القرآن هي متفقة على قانون واحد لأنها كلام الحق سبحانه وتعالى ومن حيث حقيقتها مفترقة المعاني والأسرار والطوالع والتجليات فهي مثل صور الآدمي فهي متفقة متفرقة مؤتلفة مختلفة . ثم قال : ومثل النظائر النظراء هذه كلمة جاء بها لصحة التقابل لأن التقابل الذي بين النظائر هو الذي بين النظراء ، والنظائر جمع نظيرة هو جمع التأنيث ، والنظراء جمع نظير هو جمع التذكير هو كما تقابلت سور القرآن بالصور الآدمية اتفاقا وافتراقا وائتلافا واختلافا كذلك تقابلت النظائر بالنظراء هي آيات القرآن ، والنظراء هم أشخاص بني آدم ، ثم قال رضي الله عنه :
وَالأَقَـاوِيـلُ عِـنْـدُهُـمْ كَـالتَّـمَـاثِـيـ
ــلِ فَـلاَ يُـوهِـمَـنَّـكَ الْخُـطَـبَــاءُ
قوله : والأقاويل عندهم وهي الأقاويل المفتريات في القرآن بقولهم : هو سحر أو أساطير الأولين ، أو هو قولهم : إنما يعلمه بشر ، وكذا قولهم : أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا إلى غير ذلك من وجوه الافتراء التي افتروها في القرآن ، قال : الأقاويل عندهم كالتماثيل ، والتماثيل هي وضع تماثيل الصور المتحركة في طرز الثياب وعلى الجدران وغيرها فإن تلك التماثيل لا تعطي الحقائق المثلية شيئا مثل أن كتبوا صورة البغل مثلا وكذا غيره من الحيوانات والطيور فإن تلك التماثيل حقيقتها زور لا تعطي من التحقيق شيئا لأن الحيوان الطائر مثلا والسائر كالفرس وغيره مثلا بين الهيئة والكيفية رؤيته تغني عن وصفه وتماثيلها المصورة ليس فيها حركة ولا طيران ولا سير ولا ما يستفاد من الحيوان في ركوبها أو حلبها أو ذبحها أو أكل لحمها أو الحمل عليها للأثقال فإن تلك التماثيل لا يستفاد منها من هذه الأمور شيء فهي زور وافتراء إذا أطلق عليها اسم الحيوان فهو زور
لمفارقته للحيوان في جميع وجوهه كذلك الأقاويل المفتريات في القرآن لم تعط من التحقيق شيئا إنما هي زور كذلك لأن القرآن في تحقيق مبانيه وتوضيح معانيه ووجوه نزاهة وسياقه وكشفه عن الأمور المغيبات ومكارم الأخلاق ومحاسن الآداب مما لا يحصى مما اشتمل عليه القرآن كل ذلك بين لذوي العقول لا يقدر ذو عقل أن ينكر منه شيئا ، وما زخرفوه فيه من الأقاويل المزورة بنية الكذب لذوي العقول السليمة . قوله : فلا يوهمنك الخطباء ، العرب لا يوهمنك من الزخاريف المزورة اهـ ، ثم قال رضي الله عنه :
كَـمْ أَبَـانَــتْ آيَـاتُــهُ مِـنْ عُـلُــومٍ
عَـنْ حُـرُوفٍ أَبَـانَ عَـنْـهَـا الْهِـجَـاءُ
قال : كم أبانت آياته من علوم يعني آيات القرآن ، وتلك الإبانة من الحروف يعني حروف الهجاء وتركبت كلمات ، والكلمات تركبت آيات ، والآيات أبانت عن العلوم التي أبان عنها القرآن لا نهاية لها ولا تفرغ إلى الأبد ، يقول صلى الله عليه وسلم : "لا تنقضي عجائبه إلى يوم القيامة" أراد صلى الله عليه وسلم أنه في كل عصر يفتح على أهل ذلك العصر من علوم القرآن ومعانيه ما لم يفتح على من قبلهم من أهل الأعصار وهكذا إلى يوم القيامة فلا نهاية لعلومه ومعارفه إلى يوم القيامة ، ثم قال رضي الله عنه :
فَهْـيَ كَـالْحَـبِّ وَالنَّـوَى أَعْـجَـبَ الـزُّ
رَّاعَ مِـنْــهُ سَـنَـابِـــلٌ وَذَكَــــاءُ
قال : يعني آيات القرآن شبهها بالحب والنوى لزارعيها وغارسيها فإنه يبدلهم من غرسها وزرعها في آخر أمرها ما لم يكن يعلمونه من أنواع الثمار والسنابل كذلك آيات القرآن لتاليها بشروطها برز في كل تلاوة من علومها ما لم يكن يعلمه قبل ، ثم قال رضي الله عنه :
<< الصفحة الخامسة
الصفحة السابعة >>