نفحات7 ـ الإرشادات الربّانيّة ـ الصفحة الخامسة
الرّئيسيـة > مكتبـة على الخطّ > الإرشادات الربّانيّة ـ الفهـرس > الصفحة الخامسة


لاَ  تَـحُـلُّ الْبَأْسَـاءُ مِنْـهُ عُـرَى الصَّـبْـ
ــرِ وَلاَ تَـسْـتَـخِـفُّـــهُ السَّـــرَّاءُ
أخبر في هذا البيت عن حاله صلّى الله عليه وسلّم إذا حلّت به البأساء والضرّاء لا تحُلّ منه عُرى الصبر بل هو ثابت لأمر الله تعالى ، والصبر هاهنا هو صبر الأكابر لا صبر العامّة ، فإنّ صبر العامّة للمكاره لا يصبرون إلاّ قهرا حيث تنعدم الحيل كلّها ، ويُسمّى عند الأكابر صبر النفاق ، فإنّهم إن وجدوا حيلة هربوا منه . وصبر الأكابر إذا واجههم أمر الله تعالى بالبأساء والضرّاء تلقّوْه بالبشر والترحيب والرضا والتسليم وملازمة موقفه في محلّه فلا يتزحزح عن موقفه ، وهو المعبّر عنه بالثبات لأمر الله تعالى ، يقول سبحانه وتعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا [ الأنفال : 45 ] ، فإنّها ملاقاة البأساء والشدائد في القتال ، وهو سار عند الأكابر في جميع المصائب والآلام ، فلا ينزعجون من أمر الله تعالى إذا لاقاهم فيثبتون له حتّى ينقضي أمره ، كما فعل الخليل عليه الصلاة والسلام حيث زُجَّ به في المنجنيق ذاهبا به إلى النار فناداه الروح الأمين عليه السلام ، وقد جاءه بسرعة لتخليصه ، قال له : " ألكَ حاجة يا إبراهيم ؟ " ، قال له إبراهيم : " أمّا إليك ، فلا حاجة لي إليك " ، قال له هذا وهو يعلم أنّ الله بعثه إليه ليخلّصه ولكن أبى من الانزعاج عن أمر الله تعالى حتّى ينقضي أمر الله تعالى فقال له " أما إليك فلا " ، قال له : " سَلْهُ " ، قال له : " حسبي من سؤالي عِلْمُه بحالي " ، فقال الله تعالى : قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [ الأنبياء : 69 ] حيث ينزعج عن التعلّق بغير الله تعالى ، ونسي جميع غير الله فلم يتعلّق بجبريل لتخليصه ، ولم يتعلّق بسؤاله من الله تعالى ، بل تعلّق بالله حتّى يخلّصه الله منه من غير واسطة ، فهذا هو الثبات لأمر الله .
قال : لا تحلّ البأساء منه عُرى الصبر ولا ينزعج عن أمر الله تعالى .
قوله : ولا تستخفّه السرّاء ، معناه : السرّاء هو ما ورد على العبد من مواهب الله من مطابقة أغراضه وشهواته ، فإذا حلّت به السرّاء صلّى الله عليه وسلّم لا ينزعج ولا تستخفّه السرّاء بانزعاجه عن أمر الله تعالى ، وانزعاج السرّاء عن أمر الله ليس كانزعاج الضرّاء ، فإنّ انزعاج الضرّاء هو الهرب من أمر الله تعالى والضعف عن تحمّل أعباء الصبر وعن تحمّل أعباء الثبات لأمر الله تعالى ، فهذا انزعاج الضرّاء ، وأمّا انزعاج السرّاء فهي النفس عند تكامل السرّاء به تسرع النزول إلى حضيض طبعها من الزهو والفرح وعدم المراعاة لأمر الله تعالى وعدم الاستحياء من عظمته وجلاله شغلا بحظوظها ، فهذا هو كفر النعمة ، فإنّ النعمة في حقيقتها تقتضي القيام بحقّ الشكر ، والشكر في السرّاء هاهنا هو حكم ما اقتضاه حكم الحقّ في النعمة ، وهو الوقوف بها على حدود الأدب والخوف من سوء عاقبتها أن تنقلب عليه بسوء المنقلب ، وهي أن تصير تلك النعمة نقمة عليه ووبالا وفتنة ، فإنّ الشكر أنْ يكون منقطعا إلى الله تعالى بقلبه فرحا به سبحانه وتعالى قائما بحقوق شكره ، وحقوق الشكر هنا هو عدم المبالاة بغير الله تعالى وعدم المساكنة لغيره وعدم الملاحقة لغيره ، بل لسان حاله يمرح في النعمة أن لا مراد لي غيرك ولا فتنة لي بغيرك ، وُجِد أم عُدِم ، وحقيقة شكري في هذا المحلّ هو لزومي للأدب معك والوقوف على توفية حقوقك ، فهذا هو حقّ الشكر للنعمة ، وأمّا مَن خالف هذا ونزل إلى حظوظ النفس من الزهو والفرح بالنعمة نسْيًا لعظمة الله وجلاله فهذا هو الطغيان في النعمة ، يقول سبحانه وتعالى : كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي [ طه : 81 ] . فقال : لا تستخفّه السرّاء ، فهذا شكر النعم ، فلا يقدر على هذا إلاّ العارف بالله تعالى .
ثمّ قال رضي الله عنه :
كَـرُمَـتْ نَـفْـسُـهُ فَمَـا يَخْـطُـرُ السُّـو
ءُ عَلَـى قَـلْـبِــهِ وَلاَ الْفَـحْـشَــــاءُ

أخبر في البيت أنّه صلّى الله عليه وسلّم كرُمتْ نفسه ، يريد أنّ نفسه اتّصفت بجميع أشتات أخلاق الكرم إذ كان متّصفا بصفات الحضرة الإلهيّة إذ صار مسمّى أسمائها ، فبهذا اتّصف بالكرم الذي لم يتّصف به غيره ، حيث اتّصف بأخلاق الله تعالى ، وتَسَمَّى بأسمائه فقد جمع بأشتات الكرم ، وإلى هذه الجمعيّة يشير قوله صلّى الله عليه وسلّم : « إنّ الله خلق آدم على صورته » ، فمضمون هذا الحديث لا يدرك إلاّ ذوقا ولا يفيد المقال فيه شيئا ، فمَن ذاقه عرفه .
قوله : فما يخطر السوء على قلبه ولا الفحشاء ، يعني حيث كرمت باتّصافها بصفات الله وأسمائه فلا يخطر السوء على قلبه ولا الفحشاء ، والسوء هو سوء الأدب مع الله تعالى باقتحامه ما لا يرضاه سبحانه وتعالى بخلاصة محبّة ذاته طهّرَهُ من جميع سوء الأدب وأقامَهُ في مقام الانقطاع إليه سبحانه وتعالى عن كلّ ما سواه فلا يلتفت لغير الله لحظة ، فهذه هي طهارة النفس ، حيث لا يخطر السوء على قلبه ولا الفحشاء . والفحشاء هو ما يستبشع من القول والفعل كالزنا وشرب الخمر والكذب والبهتان وأشباهها ، وكلّ موبق من الموبقات السبعة التي هي رؤوس الذنوب وأعلاها التي يقول فيها صلّى الله عليه وسلّم : « ما من أحد يتّقي السبع الموبقات إلاّ فتحت له يوم القيامة ثمانية أبواب من الجنّة حتّى أنّها لتصفّق » وفي الحديث الآخر يقول صلّى الله عليه وسلّم : « إتّقوا السبع الموبقات قالوا : وما الموبقات قال الشرك والخمر وقتل النفس التي حرّم الله وأكْل الربا وأكل مال اليتيم ظلما والتولّي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات » ، فهذه هي رؤوس الذنوب وهي أعظم الفواحش .
ثمّ قال رضي الله عنه :
عَـظُـمَـتْ نِـعْـمَـةُ الإِلَـهِ  عَـلَـيْــهِ
فَـاسْـتُـقِـلَّـتْ  لِـذِكْـرِهِ الْعُـظَـمَــاءُ

قال : عظمت نعمة الإله عليه على حدّ قوله سبحانه وتعالى : وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [ النساء : 113 ] ، معناه أنّ الذي أعطاه الله تعالى من فضله في الدنيا والآخرة ما لو جمع جميع ما أتى الله جميع خلقه من فضله ونعمه في الدنيا والآخرة ومن الحظوة والمقامات والمراتب والعزّ والتعظيم والإجلال له والصور المكنوزة في الجنّة على ما هي عليه وجمع ذلك كلّه من أوّل الوجود إلى آخره لكان جميع ذلك بالنسبة إلى ما أعطاه الله من فضله كنقطة في البحر المحيط ، وإذا عُرِف هذا فكلّ العظماء ، وإنْ بلغت رتبتهم في العظمة إلى غير نهاية ، تستقلّ كلّها عند ذلك الفضل الذي آتاه الله تعالى من فضله ، وتصير نزرا يسيرا .
ثمّ قال رضي الله عنه :
جَـهِـلَـتْ قَـوْمُـهُ عَلَـيْـهِ فَـأَغْـضَـى
وَأَخُــو الحِـلْــمِ دَأْبُــهُ الإِغْـضَــاءُ

قال : جهلت قومه عليه صلّى الله عليه وسلّم مواقع كثيرة من الجهل ، وأساءوا عليه الأدب ، وتعرّضوا لمساخطته ومغاضبته ، فأغضى عنهم ، والإغضاء تغميض العينين عن مقابلة المسيء بإساءته .
قوله : وأخو الحلم ، يعني من دأبه الإغضاء ، وحقيقة الحلم هو أنْ لا يتأثّر قلبه بالإساءة إليه ولم يزل عن مركز الصفاء لا يزال قلبه صافيا يصير عند الإساءة كأنّه لم يُسأ إليه ولا سمع شيئا ، فإنْ تأثّر قلبه بالإساءة وأصابه من ذلك حرارة وغضب ثمّ زمّ نفسه وأمسكها عن مؤاخذته ومقابلته بالإساءة فهو صبور وليس بحليم ، على حدّ قوله تعالى : وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [ آل عمران : 134 ] .
ثمّ قال رضي الله عنه :
وَسِـعَ الْعَـالَـمِـيـنَ عِـلْـمـاً وَحِلْـمـاَ
فَـهْـوَ  بَـحْـرٌ لَـمْ تُـعْـيِـهِ الأَعْـبَـاءُ

قال : وسع العالمين صلّى الله عليه وسلّم علما وحلما ، يعني أنّه وسع جميع العوالم بأسرها ، فكلّ ما في مخلوقات الله من جميع العلوم من أيّ خلق كانت وعلى أيّ قانون وقعت فمصدرها كلّها من فيضه صلّى الله عليه وسلّم . قال بعض الصوفيّة في قوله سبحانه وتعالى : أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا [ الرعد : 17 ] قال : الماء هاهنا هو محمّد صلّى الله عليه وسلّم ، فاض ببحار جميع العلوم فاستقبلته جداول الفهوم فسال في كلّ جدول ما قسم له من مقداره على حدّ ما سبق في المشيئة الإلهيّة . فلهذا معنى قوله : وسع العالمين صلّى الله عليه وسلّم علما ووسعهم حلما ، فلا يتأثّر في الإساءة صلّى الله عليه وسلّم كما سبق في البيت قبل .
بحر لم تعيه الأعباء ، والأعباء جمع عبء وهي الشربة الغليظة ضدّ الشربة الضعيفة ، فهو بحر في العلم والحلم لم تعيه الأعباء بالشرب وغيره .
ثمّ قال رضي الله عنه :
مُـسْـتَـقِـلٌ  دُنْيَـاكَ أَنْ يُـنْـسَـبَ الإِمْـ
سَــاكُ مِـنْـهَـا إِلَـيْــهِ والإِعْـطَــاءُ

يعني : احتقرت الدنيا في عينيه صلّى الله عليه وسلّم حتّى كانت عنده لا شيء ، فلا يرضى أن ينسب إليه منها الإمساك والإعطاء لاحتقارها عنده . قال الشبلي ، إذ سأله السائل عن الزهد ، قال : " فيها الزهد إنّما الدنيا كلّها كخصلة ملقاة في فلاة من الأرض " . فهذا هو احتقار الدنيا ، فلا يرضى صلّى الله عليه وسلّم أن ينسب إليه منها الإمساك والإعطاء .
وفي الخبر يقول صلّى الله عليه وسلّم : « الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلاّ ذكر الله وما والاه » ، يعني ما عان عليه من درك قوام الجسد من ملبوس ومطعوم ومسكن وزوجة وما يتبع ذلك ممّا لابدّ منه ، كدابّة يركبها إذا اشتدّت حاجته إليها ، وعالم ، ومتعلّم ، معناه : العالم هو العالم بأمر الله الموفي بحقوق الله ، والمتعلّم هو الساعي بنفسه في إدراك مرتبة العالم بالتعلّم ليقيم حقوق الله تعالى ، وما سوى هذين لا عبرة به .
ثمّ قال رضي الله عنه :
شَـمْـسُ فَـضْـلٍ تَحَـقَّـقَ الظَّـنُّ فِـيـهِ
أَنَّـهُ الشَّـمــسُ رِفْـعَــةً  وَالضِّـيَـاءُ

قوله : شمس فضل ، أراد أنّه صلّى الله عليه وسلّم في فضله على جميع ما خلق الله هو فيها في مرتبة الشمس في ظاهر الأمر وإن كان أكبر في باطن الأمر ، فإنّه ضرب له مثلا بالشمس من حيث أنّها سلطان الوجود ، ومنها فيض المنافع على جميع الوجود الذي نحن فيه من تنمية الأجسام وتبليغها إلى غايتها ، وإفاضة حرارتها عليها للمنافع ، ونضجها للثمار الذي به انتعاش الأجسام ، وإعطائها لذوات الوجود مرتبة الاعتبار ، فإنّ الذات أو الذرّة تبرز من عالم العدم إلى الوجود ، فلا تزال تنمو طورا بعد طور إلى أن تنتهي إلى الغاية التي سبقت لها في علم الله فترجع إلى العدم كما كانت ، مثل الأشجار وأوراقها ومختلفات صنوف الحيوان وضروبها ، وتعطي الناظر فيها من الاعتبار أن لا شيء في الوجود إلاّ الله تعالى ومن سواه كلّه يدركه العدم بعد وجوده فلا اعتبار به ، كما قال الخليل عليه السلام : " لا أحبّ الأغيار " ، وأنّه لا دوام في ظاهر الوجود وباطنه إلاّ لله وحده بدليل أنّا نرى كلّ شيء من الوجود من حين بروزها من العدم لا يزال يتنقل طورا بعد طور إلى أن ينتهي إلى غاية ظهور ، فيعطي هذا من صريح التوحيد أن لا باقي إلاّ الله ، ولا معوّل عليه إلاّ الله ، إلى غير ذلك من أحوال التوحيد ، فلهذا ضرب له مثلا بأحوال الشمس من حيث أنّ الشمس حَوَتْ جميع صنوف الأنوار ، واحتوت على جميع ضروب الاعتبار ، وأعطت بذلك كمال البقاء والدوام لله الواحد القهار ، فهي في نفسها مشتملة على جميع الفضائل ولذا كان مقامها في الأوسط ، فإنّ حكمها على الأعلى كحكمها على الأدنى ، فالتوسّط أقلّ من العلوّ ، قال سبحانه وتعالى في حقّ إدريس عليه السلام قال : وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [ مريم : 57 ] ، ومكانه في الفلك الذي فيه الشمس ، فلها العلوّ على غيرها بالنسبة إليها .
قال : إذا عرفت أمر الشمس وما جمعت من الفضائل فإنّه صلّى الله عليه وسلّم هو شمس الفضل ، فإنّه في مرتبة علوّه على جميع ما خلق الله وإفاضة الرحمة والمنافع على جميع خلق الله بمنزلة الشمس ، بل الشمس وما فيها من الفضائل نقطة من بحر جوده ومدده ، والشمس وما فيها تستمدّ منه صلّى الله عليه وسلّم ، فمن حيث ما حوى جميع الفضائل والمراتب العاليّة صحّ تمثيله بالشمس من باب ضرب المثل الأعلى بالأدنى كما قال سبحانه وتعالى في الآية : اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ [ النور : 35 ] الآية .
قوله : تحقّق الظنّ فيه أنّه الشمس رفعة والضياء ، يعني تحقّق الظنّ فيه ، أشار بهذا إلى ما تعتقده الخاصّة العليا من العارفين ، وهو أنّه صلّى الله عليه وسلّم أبو الوجود كلّه ، فإنّما الوجود كلّه تناسل عنه وأمدّ بعضه من بعض فيض حقيقته صلّى الله عليه وسلّم ، وأنّه صلّى الله عليه وسلّم في مرتبته العليا لا يمكن أن يبرز الله شيئا من العدم إلى الوجود إلاّ بامتداد خيط من نوره إليه صلّى الله عليه وسلّم ، ولولا ذلك الخيط ما برز من العدم إلى الوجود ولا تصوّر وجوده ، وأنّه لا يكمل نضج ثمرة بعد ظهورها إلاّ بامتداد خيط من نوره صلّى الله عليه وسلّم ، ولولا ذلك الخيط ما وقع فيها طيب ولا حلاوة ولا شمّت لها رائحة طيّبة ، واتبع هذا الأمر فيما بعد ذلك من التلذّذ بظلال الأشجار والتقاط وجوه المنافع منها وهي كثيرة ، فما ذلك إلاّ بامتداد خيوط نوره صلّى الله عليه وسلّم إليها ، بل الإيمان في قلب كلّ مؤمن ، والعمل الصالح في ذات كلّ عامل ، ورسوخ التوحيد في قلب كلّ موحّد ، وما برز من التصرّف بالقبضة الإلهيّة التي قبضها الحقّ تعالى وقال فيها مولانا سبحانه : « هؤلاء إلى الجنّة ولا أبالي » فصرف هذه القبضة من الإيمان والتوحيد والسعادة وضروب النعيم في القبر والبرزخ ، وضروب النعيم في مواطن يوم القيامة لأصحابه ، وضروب النعيم في دار القرار واختلاف أشكاله وألوانه وأحواله ، كلّ ذلك فردا فردا ممدود بخيط من نوره صلّى الله عليه وسلّم . هذا الأمر لم يرد به ظاهر الشرع فلا علم للعامّة به ، إنّما أعطاه كشف العارفين ووقوفهم منه على عين التحقيق ، فإذا سمّاه اعتقادا وهو الظنّ لمّا لم يكن مشهودا للعامّة ولا معروفا عندهم لم يعلموه ، أيّ نازعوا لأنّ هذا أمر لا يعرف إلاّ من أخبار الغيب ، ليس له سبيل عن العامّة إلاّ ما ورد به التنزيل أو أقوال الرسول صلّى الله عليه وسلّم ، وما سوى ذلك لا يسلّمونه لمدّعيه ، فإنّ عند العامّة أنّ هذه الإحاطة التي ذكرناها له صلّى الله عليه وسلّم أنّه لا يصل إلى العلم بها إلاّ نبيّ أو ملَك لا مَن عداهم ، ولا يعلمون أنّ للعارفين في الغيوب مدارك كمدارك النبيّين والمرسلين سواء بسواء . فإنّه سبحانه وتعالى أظهر للخاصّة العليا من خلقه من أكابر العارفين جميع ما أظهره للنبيّين والمرسلين من الغيوب وأحوالها ومختلفات ضروبها ، وعندهم من أخذ العلم بالتعلّم عن الله تعالى بلا واسطة كأخْذ النبيّين والمرسلين ، فلمّا لم يكن مشهودا للعامّة هذا الأمر ولا يسلّمونه ، أيّ باحثوا فيه ، سمّاه ظنّا واعتقادا ، وما كان ظنّا إلاّ لعدم اجتماع قلوب العامّة على أنّه حقّ ، فلذا قال : تحقّق الظن فيه ، أراد ما ذكر من مشاهد العارفين ، قال : صار حقّا . قال : تحقّق الظنّ أنّه الشمس ، يعني محيط كإحاطتها بالأنوار والمنافع .
قال : رفعة ، يعني هو صلّى الله عليه وسلّم في غاية العلوّ والرفعة كالشمس في غاية الضياء ، فإنّ الضياء في الوجود هو أكبر المنافع ، فإنّ به يعرف نور الأبصار ، وبه يقع التعريف الإلهيّ بين المبصرات لأنّ هذا حيوان مثلا وهذا جماد مثلا وهذا عود وهذا ثمار ، وهكذا إن تبعث ظواهر الوجود كلّ تمييزها إنّما كان عن الضياء البارز فيها ، وبواسطة الضياء تعرف منافع الأشياء ومضارّها ومحامدها وخدّامها وشريفها ووضيعها ، فحاصل الأمر أن بالضياء المنبسط في الوجود تمايزت مراتب الوجود وما أحاطت به من لوازمها ومقتضياتها حتّى ظهر الوجه أنّه لولا الضياء المنبسط ما عرف شيء من الوجود . قال : هو الضياء الذي عرفت به مراتب الوجود ، فهو صلّى الله عليه وسلّم الضياء المنبسط في الوجود من حيث أنّ الضياء ممتدّ من نوره صلّى الله عليه وسلّم وما ذكرنا من مدارك العارفين كمدارك النبيّين والمرسلين من غير ما اختصّت به النبوءة من الإدراك الذي هو عين النبوّة فهذا لا مطمع فيه للعارفين ، ولو أدركوه لكانوا أنبياء ، فلا مطمع لأحد في نيل النبوّة إذْ طُوي بساطُها وغلق بابها به صلّى الله عليه وسلّم ، فمدّعيها بعده كاذب كافر ، والسلام .
ثمّ قال رضي الله عنه :
فَـإِذَا مَـا ضَـحَــا مَـحَـى نُـورُهُ الظِّـ
ـلَّ وَقَـدْ أَثْـبَـتَ الظّــلاَلَ  الضَّـحَــاءُ

يعني : تبدّى نوره للوجود صلّى الله عليه وسلّم ، محا نوره الظلال ، الظلال هاهنا هي أجزاء الظلّ الإضافي ، هو ذات الموجودات من كلّ ما سوى الله ، فهي ظلال للذات المقدّسة لأنّ الظلّ هو الظاهر وجوده بواسطة الشمس من صورة كثيفة أو كالكثيفة ، فإنّ الجواهر اللطيفة لا ظلّ لها إنّما يصل في الشواهد عن الذوات الكثيفة بواسطة الشمس ، ولولا هي لم تعرف الظلال في الشاهد ، فإنّ الحقيقة : المنبسطة في الظاهر موجودة عن حقيقتين لو فُقدت إحدى الحقيقتين لم يظهر للظلّ وجود ، فالحقيقة الأولى : ظهور النور المنبسط بلا حائل ، وهو نور الشمس ، والحقيقة الثانية : الذات الكثيفة ، فإنّه لولا الذوات الكثيفة ما ظهر ذلك في النور . قلنا : فالظلال في الشاهد الذي ذكرنا إذا عرفنا حقيقة الظلّ ومن أين كان وبأيّ ، فالعالم كلّه على اختلاف أجزائه وتراكيبه هو ظلّ الذات المقدّسة ، وهو أيضا موجود عن حقيقتين : الحقيقة الأولى هي الذات من حيث ما هي هي ، فإنّه لولاها ما كان وجود شيء في العالم ، والحقيقة الثانية : مرتبة الألوهيّة التي هي تحت حيطة اسمه الله ، فإنّ المرتبة هي التي ظهرت في الوجود وعنها ظهور كلّ شيء من الموجودات . والذات غيب لا مطمع في معرفتها لأحد من النبيّين والمرسلين ومن عداهم ، ومن ادّعى العلم بها كفر ، ولأنّه لا يحيط بها علما ، لقوله تعالى : وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [ طه : 110 ] ، فهي غيب لا تدرك ولا تعرف ، ومن هنا وقع السؤال عنها من الشيوخ سابقا فما أجاب عنها أحد لا بنفي ولا بإثبات . ونص السؤال : " أخبرونا عن الذات المقدّسة هل هي حسّيّة أو معنويّة ؟ " ، فما قدر أحد أن يجيب عنها بشيء ، إلاّ الشيخ أحمد بن يوسف الراشدي أجاب عنها بقول : " هي حسّيّة غير مدركة " ، وقد تكلّم بعض الشيوخ على نصّ هذا السؤال ، قال : " قولكم حسّيّة أو معنويّة إن أردت بالحسّ ما أدركه حسّ ظاهر الموجودات حتّى تصير حسّيّة كالمحسوسات فليست في هذا الميدان حسّيّة أصلا إذ لا مطمع للحواسّ في إدراكها ، وإن أردت بالمعنويّة تصوّرها في الذهن ولا وجود لها في الخارج فهي في هذا الميدان حسّيّة في الخارج ، وإن قصدت بالمعنويّة استتارها عن محلّ الإدراك حتّى عجز جميع الوجود عن إدراكها مع كونها موجودة في نفسها فهي في هذا الميدان معنويّة ، وإن قصدت بالحسّ وجودها في حقيقتها مع كونها لا ترى ولا تعرف فهي في هذا الميدان حسّيّة " ، وحاصل ما ينفصل عنه بالجواب فيها ما قاله الراشدي رضي الله عنه " حسّيّة غير مُدرَكة " .
قلنا : فالذات من حيث ما هي هي غيب ، والمرتبة العليا ، وهي مرتبة الألوهيّة ، ظاهرة بجميع الوجود فيها ، وهل العلم بالذات إلى الوجود ؟ والعلم الذي وصل إلى الوجود بالذات هو أنّها موجودة متّصفة بجميع صفات الألوهيّة وحقيقتها غيب لا تدرك ولا تعرف ، إنّما هي غيب . ومرتبة الألوهيّة ظاهرة ، فما ظهر للوجود سبحانه وتعالى إلاّ بمرتبة الألوهيّة ، والذات غيب ، ومِن هنا تعرف أنّ الجهل بالله عين الكفر ، وأنّ الجهل بالله عين الإيمان ، فالجهل بالله الذي هو عين الإيمان هو بذاته العليّة بأن لا تعرف حقيقتها ولا تدرك ، والجهل بالله الذي هو عين الكفر هو الجهل بمرتبة الألوهيّة الظاهرة ، قلناه لوجود الذي هو الظلّ الإضافيّ ظهر عن حقيقتين ، الحقيقة الأولى : الذات المقدّسة ، والحقيقة الثانية : مرتبة الألوهيّة ، والوجود ظهر هنا عنها ، وإلى هذا المعنى الإشارة بقوله سبحانه وتعالى في مفتتح الإنجيل قال : باسم الأب والأمّ والابن إلها واحدا ، فركّبه الكفرة لجهلهم بحقيقته فقالوا : إن الإله مركّب من ثلاث أقانيم : أقنوم العلم وأقنوم الحياة وأقنوم الكلمة ، فأقنوم العلم عندهم هي الذات المقدّسة ، وأقنوم الحياة هي مريم ، وأقنوم الكلمة هو عيسى ، تعالى الله عمّا يقولون علوّا كبيرا ، وإنّما المعنى الذي أراده الحقّ سبحانه وتعالى في كلامه : باسم الأب والأم والابن ، هاهنا ، هو اسم الجلالة لأنّه هو أب الوجود كلّه فعنه ظهر الوجود لأنّه عين مرتبة الألوهيّة ، والأمر هاهنا هي الذات المقدّسة ، فإنّ مِن تصرّفها ظهر الوجود ، فإنّها تصرّفت في الوجود بحكم المشيئة والقدرة والكلمة بقوله : كُنْ ، فإنّها له بمنزلة الأمّ للوجود الذي وُجد عن اسم الجلالة وعن الذات ، هو الوجود الظاهر وأدرجه مع قوله : إلها واحدا لأنّه تجلّى في حقائق الوجود بكمال ذاته وبصور صفاته وأسمائه ، فلهذا قال : باسم الأب والأم والابن إلها واحدا ، فإنّ الوجود كلّه ما فيه إلاّ الألوهيّة المحضة لأنّه صور الصفات والأسماء ، فما فيه ذرّة فما فوقها إلاّ ولها اسم من أسماء الله تعالى باطن لا ظاهر ، فبذلك الاسم نظامها وبه قوامها ولولا ذلك الاسم ما ظهرت في الشاهد ولا رؤيت ولا عرفت ، وبهذا يقول في الحديث صلّى الله عليه وسلّم : « إنّما قامت ذوات الوجود بأسماء الله الظاهرة والباطنة » ، وذوات الوجود كأنّها عين الأسماء الإلهيّة ، فلهذا أدركها بقوله : إلها واحدا ، وتعالى الله عمّا يقوله الجاهلون علوّا كبيرا .
قوله : فإذا ما ضحى محا نوره الظلّ ، معناه أيّ إذا ما تبدّى نوره الأصليّ الذي هو أوّل موجود أوجده الله تعالى ، وهي الحقيقة المحمّديّة ، فإنّها إذا ظهرت من حيث ما هي ظهرت بصورة الفردانيّة لله تعالى ، فإنّه فرد في وجوده لا ثاني معه ، وعند تجلّيها بهذا الوصف ، وهي الحقيقة المحمّديّة ، انمحقت ظلال الوجود وظهرت الفردانيّة لله تعالى ، فإنّه وحده لا موجود سواه .
فإذا ما ضحى ، أيّ ظهر نوره الأصليّ ظهورا بيّنا كظهور الشمس في وقت الضحى ، أيّ محا نوره الظلّ ، والظلّ هاهنا هي ذوات الوجود ، فهذا الظلّ هو الذي ينمحق بوجود نوره صلّى الله عليه وسلّم . قال : والحال أنّ الظلال أثبتها ضحاء الشمس فإنّه شبّه ظهور نوره بضحاء الشمس ، ثمّ قال : بعد ظهور نوره والحال أنّ الضحى ضحى الشمس أثبت الظلال لأنّ الظلال ترى بواسطة الشمس ، يعني أنّ تشبيه نوره صلّى الله عليه وسلّم بضحى الشمس ليس من كلّ وجه ، فإنّ الشمس إذا ضحت ظهرت الظلال بضحاها ، ونوره صلّى الله عليه وسلّم إذا ظهر محا الظلال كلّها ، فعند ذلك ظهرت الفردانيّة لله تعالى وحده بذلك النور ، فبذلك فارق نور الشمس وهو أرفع منها وأعلى ، فهذا التعبير على مشرب العارفين ، أما مشرب أهل الشريعة فهو : إذا ما ضحى محا نوره الظلّ ، إذا ما بدا نوره للوجود الذي فاض ببعثه صلّى الله عليه وسلّم على القرب محا نوره جلال الكفر من القلوب وأثبت فيها نور الإيمان ، فشبّه الكفر بالظلّ الموجود إذا ظهر ومسّه النور تلاشى الظلّ ، كذلك وجود نوره صلّى الله عليه وسلّم الفائض ببعثه محا جلال الكفر من القلوب وأثبت فيها نور الإيمان حتّى استضاءت القلوب بنور الإيمان ، قال سبحانه وتعالى : أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [ الأنعام : 122 ] ، فالظلام هاهنا هو ظلام الكفر والقلوب الذي كان قبل وجوده صلّى الله عليه وسلّم فمحاها نور وجوده وبعثته صلّى الله عليه وسلّم وصيّرها منوّرة بنور الإيمان .
قال : فإذا ما ضحى ، يعني إذا ظهر نور بعثته بالرسالة ظهورا بيّنا كظهور الشمس في وقت الضحى محا نوره الظلّ ، يعني بعثه بالرسالة محا ظلّ الكفر من القلوب بنور الإيمان ، فهذا هو الظلّ . وفي الخبر أنّ الله سبحانه وتعالى خلق الأرواح كلّها في ظلمة حين خلقها أوّل مرّة ، ثمّ رشّ عليها من نوره ، فمن أصابه من الرشّ ولو أقل قليل منه صار مؤمنا في الدنيا وانتقل بنور الإيمان إلى الآخرة ، ومن لم يصبه شيء من ذلك النور فهو المختوم عليه بظلام الكفر ، فإنّه سبحانه وتعالى ما أصاب الأرواح من نوره حين رشّ إلاّ أصحاب القبضة متى قبضها قال : « هؤلاء إلى الجنّة ولا أبالي » ، والأرواح التي لم يصبها شيء من النور حين رشّ هي التي وقعت في القبضة الأخرى بقوله : « هؤلاء إلى النار ولا أبالي » . ، وذلك النور المرشوش هو قسط من نوره صلّى الله عليه وسلّم وأولئك الذين رشّ عليهم في الأزل وأصابهم النور هُم الذين وقعوا في الدنيا وطوّقوا في أعناقهم شرائع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فَهُمْ أصحاب القبضة المرشوشة بالنور ، وذلك النور المرشوش الذي هو قسط من نوره صلّى الله عليه وسلّم الذي رشّه الحقّ على الأرواح في الأزل وهو الذي محا ظلال الكفر من القلوب في دار الدنيا ، وكلّ من أصابه من ذلك النور فإنّما مرجعه إليه صلّى الله عليه وسلّم لأنّ الرسل كلّها نوّابه في تبليغ الرسالة إلى الخلق وهو المراد بالرسالة صلّى الله عليه وسلّم وحده ، وقد سبق في أوّل القصيد مِن ذِكْرِ الأنبياء قال : إنّما مثّلوا صفاتك للناس ، البيت . وقد تقدّم الكلام عليه فانظره هناك إنْ شئتَ .
يعني إذا ما بدا نور بعثته صلّى الله عليه وسلم حين بعثه رسولا إلى الخلق فمحا نور بعثه ظلال الكفر من القلوب وقد أثبت الظلال الضحاء ، كأنّه يقول : إذا سمعت تشبيهنا نوره بضحى الشمس فلا تعقل أنّه مثلها بل هو أرفع وأعلى صلّى الله عليه وسلّم لأنّ نور بعثته صلّى الله عليه وسلّم محا ظلال الكفر من القلوب حتّى لا وجود له فيها ممّن أراد الله سعادته ، وأمّا نور الشمس فقد ظهرت الظلال عنه حين ظهر فهو ناقص عن نوره صلّى الله عليه وسلّم .
ثمّ قال رضي الله عنه :
فَـكَــأَنَّ  الْغَـمَـامَـةَ اسْـتَـوْدَعَـتْــهُ
مَـنْ  أَظَـلَّـتْ مِـنْ ظِـلِّـهِ الـدُّفَـفَــاءُ

هاهنا ذكر إحدى معجزاته صلّى الله عليه وسلّم ، منها الغمامة التي كانت تظلّه في وطيس الحرّ ، أخبر أنّها كانت لا تفارقه صلّى الله عليه وسلّم ، كلّما كان يمشي في الحرّ كانت تظلّه ، أخبر عن شدّة ملازمتها صلّى الله عليه وسلّم كأنّ الله استودعها إيّاه حتّى كانت دائمة الملازمة له لا تفارقه كلّما مشى في الحرّ . ثمّ أخبر عن تخصيصها به من جهة خرق العادة فإنّها كانت تظلّه وحده وما أظلّت الذين يمشون ، وإنّما وقع عليه ظلّها صلّى الله عليه وسلّم وحده .
والدفاء من الجيش الذين يغزون في الحرّ والقرّ ، قال : ما أظلّتهم مع ظلّه صلّى الله عليه وسلّم مع اتّحاد المكان ، وهذا غاية ما يكون من خرق العادة ، أخبر أنّها كانت ملازمة له ، وأنّها لا تفارقه كأنّها استودعته . ثمّ قال : ما أظلّت الدفاء معه ، أيّ المدافعين له .
ثمّ قال رضي الله عنه :
خَـفِـيَـتْ  عِنْـدَهُ الْفَـضَـائِـلُ وَانْـجَـا
بَــتْ بِـهِ عَـنْ عُـيُـونِـنَـا الأَهْــوَاءُ

معناه إنّه لمّا تبدّى صلّى الله عليه وسلّم بفضائله العظيمة ممّا عُرف من كرمه وجوده وبسطه يديه بالأموال ، وممّا عُرف من عفوه وصفحه عن العثرات والزلاّت ، وحلمه عن السفهاء صلّى الله عليه وسلّم ، وشدّة ثباته لأمر الله تعالى ممّا لا تثبت له الجبال الرواسي ، وتوفيته في جميع ذلك بحقوق كمال الألوهيّة وما يتبع ذلك من فيوض أقواله وعلومه ومعارفه على جميع الوجود ، فعند ظهور هذه الفضائل منه صلّى الله عليه وسلّم خفيت عنده جميع الفواضل وصارت بإفاضتها إلى فضائله صلّى الله عليه وسلّم كلا شيء ، كالنقطة في بحر المحيط ، فلذا قال : خفيت عنده الفضائل ، فلا نعد فضائل جميع الوجود مع فضائله صلّى الله عليه وسلّم ، وسبب ذلك استواؤه وتمكينه في مرتبة العنديّة التي لا مطمع لأحد في نيْلها ولا أن تحوم حول ساحتها ، فأُفيضَ عليه في تلك الحضرة ما لا يحدّ ولا يحصى ولا تدرك له غاية من الفضل الأقدس والأحوال العليّة والأخلاق البهيّة الكريمة والسجايا العظيمة ، فهذا لا مطمع لأحد في حقوق فضله صلّى الله عليه وسلّم ، التخصيص بمرتبة العندية .
قوله : وانجابت ، الانجياب هو كشط الشيء وزواله من محلّه ، قال : وانجابت به ، أيّ بسببه صلّى الله عليه وسلّم ، عن عقولنا الأهواء ، والأهواء هو فاعل انجابت حتّى عرفنا طريق الرشد والهدى واتّضحت لنا اتّضاح الشمس في حين الظهيرة ، ثمّ قذف بنا في بحارها غرقى لا يلمّ بنا غيرها ، فلذلك كان بسببه صلّى الله عليه وسلّم ، والعقل له ثلاث مراتب ، ومن حيث هو هو صفة الروح فهو للروح كالبصر للعين ، تبصر به الأمور وتميّزها ، وتدرك به حقائق الأشياء وتعرف عواقبها ، ثمّ هو ، أيّ العقل ، في نفسه منقسم إلى ثلاث مراتب ، المرتبة الأولى ، وهي العقل الأكبر ، وهو النور الفائض من حضرة القدس ، ويُسمّى عند الأكابر ، بالعقل الربّانيّ ، وهو في نفسه غاية الوضوح والاتّضاح ، تكشف به الأشياء على ما هي عليه بحيث أن لا تقبل غلطا ولا خطئا ولا تقتحم شيئا من السفه ، وصاحبه يأخذ العلم عن الله بلا وساطة ، ولا سبيل للهوى إلى هذا العقل ، فإنّ الروح في هذه المرتبة عند حلولها بها تفتّش على النفس فلا تجد شيئا من آثارها ، فيقول : " أين النفس التي كانت تضلّني وكانت على خبالها ؟ " ، فيقال لها : " حيلَ بينك وبينها بحجب الأنوار فلا مطمع لها في لحوقك ولا يصلك شيء من خبالها " . فهذه المرتبة العقل الأكبر .
والمرتبة الثانية من العقل هي مرتبة العقل الكلّي ، وهو الذي ارتفع عن مرتبة العقل المعاشي ، فإنّه ما اتّصف خروجه عن الظلمات لكن قدحت فيه قوادح من أنوار العقل الأكبر فارتفع بها عن مرتبة العقل المعاشي ، فليست له قاعدة ينظر بها ولا يتقيّد بعادةٍ لغلبة الأنوار عليه ، فتصرّف صاحبه به في العوالم إيجادا وإعداما دفعا وجلبا بوجه لا يندفع تصرّفه في كلّ شيء لكنّه نقُصَ عن العقل الأكبر وإنْ كانت له هذه السجيّة التي هي كمال التصرّف في العوالم وتفوّق حكمه فيها ، لكن غلب عليه جلال الربوبيّة وغرق في بحار أنوارها فاشتغل بمراعاة ما هنالك من العظمة والكبرياء ، فهو مشغول بربّه لا بنفسه ، فلا يتفرّغ بالتصرّف في العوالم إيجادا وإعداما ، لا يقول لشيء كن ولا تكن ، مع تمكّنه من كلمة التكوين ، لعظمة الشاغل له بما تبدّى له من جلال الربوبيّة . فبهذا فاق عن العقل الكلّيّ وكان اشتغاله في هذه المرتبة من تميّزها فيها تبدّى له من صفات الله وأسمائه والخوض في معرفة خواصّها ولوازمها ومقتضياتها وأحكامها فاشتغل بتفصيل ذلك بما يتفرّغ لنظره إلى نفسه لاشتغاله بالله تعالى ، وهذه كانت حالة الروح قبل تركيبها في الجسم لغلبة هذا العقل عليها ، بخلاف العقل الكلّيّ فإنّه لمّا أطلق من عقال التقييد بالعادات ، وأطلق سراحه في فضاء الجبروت ، أدركه فرح عظيم فاشتغل بفرحه ، واشتغل بقهره للأشياء وسيرها تحت حكمه منذ مَلّكَهُ الله أزِمَّةَ ظواهر الأشياء لا تستعصي عليه في شيء ، لكنّه لا يأمن من مكر الله في هذه المرتبة لشدّة اشتغاله بنفسه إلاّ بتأييدٍ إلهيّ يدركه وإلاّ فالإهلاك أقرب إليه من شراك نعله .
والمرتبة الثالثة للعقل فهي مرتبة العقل المعاشي ، وهي أسفل المراتب وأشدّها خوضا في مخالفة الله إلاّ أن يقذف الله به قذفا من الرشد يقوده وإلاّ فهو غريق في بحر الهوى لا يسعى إلاّ في شهوات نفسه ، وخوضه دائما في مقتضيات عاداته ومألوفاته ، وصاحبه أسير في يد النفس لغلبة الهوى عليه ، والهوى - نعوذ بالله منه - هو الظلام الفائض من استيلاء النفس على العبد ، إذا استولى هذا على العبد قذف به في بحر الضلال والخبث وإنْ كان له علم قائم ، فإنّ الهوى يغلب لقوّة سلطان النفس إذا انعدم الناصر من الله تعالى .
فهذه هي مراتب العقل الثلاثة
فلذا قال : انجابت من عقولنا الأهواء ، وهي تبعات الهوى ، فإنّها كانت في أوّل الأمر ، قبل ظهوره صلّى الله عليه وسلّم في الجاهليّة ، كانت عقول الخلق لا تخوض إلاّ في الكفر بالله تعالى لانعدام النور الإلهيّ ، إلى أن بعثه الله للخلق ففتح سبحانه وتعالى أبواب الهدى والرشد بفيض الأنوار الإلهية على القلوب حتّى تطهّرت العقول من متابعة الهوى وسعَت بذلك في ترقّي المراتب إلى أن بلغت مرتبة العقل الأكبر ، وكلّ ذلك بسبب النور الفائض منه صلّى الله عليه وسلّم من حضرة القدس ، فلذا قال : انجابت به عن عقولنا الأهواء .
ثمّ قال رضي الله عنه :
أَمَـعَ الصُّـبْــحِ لِلـنُّـجُــومِ تَـجَــلٍّ
أَمْ مَــعَ الشَّـمْـــسِ لِلظَّـلاَمِ بَـقَــاءُ

لمّا ذكر زوال الأهواء بسبب الأنوار الإلهيّة عن العقول بسبب ظهوره صلّى الله عليه وسلّم ضرب لنا مثلا بنور الشمس وضيائها ، فإنّه يغطّي ضياء النجوم حتّى لا ظهور لها فيه ، ويكشط الظلام من الكون حتّى لا ظهور له فيها ، أيّ في ضياء الشمس ، شبّه الأنوار الواردة منه صلّى الله عليه وسلّم حين بعث فإنّها كشفت ظلام الضلال من القلوب حتّى لا بقاء لها معه ، وكذا النجوم التي ظهورها في ظلام الليل يقضيها ضياء الشمس ، والاستفهام تعجب وإنكار .
ثمّ قال رضي الله عنه :
مُـعْـجِـزُ الْقَـوْلِ وَالْفِـعَـالِ كَـرِيـــمُ
الْخَـلْـقِ وَالْخُـلْـقِ مُقْـسِـطٌ مِـعْـطَـاءُ

قوله : معجز القول والفعال ، لأنّه صلّى الله عليه وسلّم أعجز جميع الناطقين ، عزّ إحصاء مآثره الكريمة قولا وفعلا في أقواله وأفعاله ، فلا قدرة لأحد على إحصائها واستقصائها .
قوله : كريم الخلق والخلق ، معنى الكرم وهو الذي جمع أشتات المحامد ، فهو صلّى الله عليه وسلّم باستكمال معاني الجمال في ذاته صلّى الله عليه وسلّم حتّى لم يشهد منها شيء ، وهو ظاهر جسده الكريم .
ثمّ قال : كريم الخلق وكريم الخلُق ومعناهما : جمع أشتات محامد الأفعال ، مثل الصدق في جميع أحواله ، ومثل البذل والعطاء للأموال ، ومثل الحلم عن السفهاء والصبر وعدم مقابلة المسيء بإساءته ، والعفو مع قدرته على الظالم ، وهي كثيرة لا تنحصر .
ثمّ قال : مقسط معطاء ، مع كونه كريم الأخلاق هو فيها مقسط يراعي مراتب الخلق في الأفعال ، فقد قطع يد السارق في السرقة ، وجلد الزنا ورجم فيه ، وجلد من شرب الخمر والقذف ، ولم يقف في شيء من هذه الأمور لأنّها مرتبة القسط والحقّ ، فهو مع كونه صلّى الله عليه وسلّم في المرتبة العليا في مكارم الأخلاق لا يتهافت فيها تهافتا يؤدّي إلى إسقاط حقوق الله تعالى فيمن ظلم نفسه وتعدّى أمر الله تعالى .
يقول قاصر العقل ، إذا حُدِّثَ عن مكارمه وعفوه وحلمه ثمّ رأى ما يفعل بأرباب الحدود المتقدّمة ، يقول : " هذا ليس بحليم وليس بعفُوٍّ حيث لم يعْفُ عن الزلاّت " ، قلنا : إنّه كان متّصفا بالعفو والحلم اتّصافا لا يخرجه عن ترك حدود الله تعالى في الجرائم ، فلذلك أردفها بقوله : مقسط بعد كريم الخلق ، فهو مقسط لا يخرج عن الحقّ في مراتبه .
قوله : معطاء ، يعني كثير الإعطاء للأموال بحيث لا حدّ لذلك ولا يقاس بمقياس ، فهذا معلوم من أحواله صلّى الله عليه وسلّم .
ثمّ قال رضي الله عنه :
لاَ تَـقِـسْ بِـالنَّبِـيِّ فِـي الْفَضْـلِ  خَلْقـاً
فَـهُــوَ الْبَـحْــرُ وَالأَنَــامُ إِضَـــاءُ

حقيقة القياس بالشيء هو المساواة به ، قال : لا تقس بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم خلقا من المخلوقات ، فلا يقاس بشيء لاتّصافه بما لا يذكر من أمر الربوبيّة ، فلا مطمع لأحد من المخلوقين في نَيْل تلك المرتبة ، فلذا امتنع القياس به صلّى الله عليه وسلّم .
قال : هو في هذا الميدان بحر لا ساحل له ولا قعر له صلّى الله عليه وسلّم ، والأنام إضاء وحدها ، أضاة ، وهو الغدير الذي يترك فيه الماء بعد سيلانه .
ثمّ قال رضي الله عنه :
كُـلُّ  فَضْـلٍ فِي الْعَـالَمِيـنَ فَمِـنْ فَـضْـ
ـلِ النَّـبِــيِّ اسْـتَـعَـارَهُ الْفُـضَــلاَءُ

يعني كلّ فضل محمودا في العالمين من الأزل إلى الأبد ، وإن بلغ الغاية في الكثرة والتضاعف كأخلاق النبيّين والمرسلين والملائكة ، فكلّ ذلك مستعار من فضله صلّى الله عليه وسلّم ، فإنّه سبق لنا في غير ما مرّة ، أنّ كلّ ما أوتي الوجود بما يحمد أو يطلب من ملاءمة الأغراض والمحامد الكريمة ، كلّ ذلك مستمدّ من حضرة القدس ، فإنّ الله تعالى هو الذي وهبه لخلقه ، وكلّ ما يبرز من حضرة القدس يجتمع في حقيقته صلّى الله عليه وسلّم ، ومنه يفيض على الوجود ، فالخيرات له بالإصالة صلّى الله عليه وسلّم ولغيره بالإعارة والتمنّع له صلّى الله عليه وسلّم حتى قال بعض الأكابر في نسبة عقله صلّى الله عليه وسلّم : أنّك لو أخذت رمال الدنيا حبّة حبّة ثمّ جمعتها كانت نسبة عقول جميع المخلوقات بالنسبة إلى عقله صلّى الله عليه وسلّم كرملة من رمال الدنيا ، أعني إذا اجتمعت عقول الخلق وانضافت بعضها إلى بعض كانت نسبتها إلى عقله صلّى الله عليه وسلّم كنسبة رملة إلى جميع رمال الدنيا . فكلّ عقولنا فهي فيهم أنوار إلهيّة مقسومة بينهم ، على قدر نور كلّ واحد إدراك عقله ، وجميع الأنوار التي في الخلق من عند الله إنّما هي نقطة من بحر نوره .
ثمّ قال رضي الله عنه :
شُــقَّ عَنْ صَــدْرِهِ وَشُــقَّ لَهُ  الْبَــدْ
رُ وَمِـنْْ شَــرْطِ كُـلِّ شَــرْطٍ  جَــزَاءُ

قوله : شقّ عن صدره صلّى الله عليه وسلّم ، إشارة الشقّ هنا إلى حيث كان عند مرضعته حليمة ، أهبط عليه جبريل وميكائيل عليهما السلام وشقّا صدره واستخرجا منه علقة سوداء ، وهو الدم المنعقد ، وقالا له : هذا حظّ الشيطان منك ، وقد تقدّمت القضيّة . وشقّ أيضا عن صدره صلّى الله عليه وسلّم ليلة الإسراء وأوتي بطست من ذهب مملوء حكمة وإيمانا وأفرغت في قلبه صلّى الله عليه وسلّم . فهذا هو الشقّ ، وجزاء هذا الشقّ فيه صلّى الله عليه وسلّم أنّه طُهّر من جميع الأخلاق البشريّة التي اقتضتها الطباع وتفارق الأخلاق الإلهيّة مثل الحرص على الدنيا ، وشدّة الانهماك في الشهوات ، وحبّ كثرة الأموال ، ونسيان الآخرة ، وهي كثيرة . وتخلّق صلّى الله عليه وسلّم بالأخلاق الإلهيّة مثل الزهد فيما سوى الله تعالى ، وكمال الانشغال بالله أو غضّ طرف القلب عن غير الله تعالى ، والانقطاع إلى الله تعالى من كلّ شيء ، والتعويل على الله تعالى في كلّ أمر وعلى كلّ حال ، وعدم المبالاة بغير الله تعالى . وأكبر ذلك هو حبّ الذات المقدّسة من حيث ما هي هي لذاتها ، فإنّ هذه الخصلة هي القطب الذي عليه مدار الأخلاق الإلهيّة والأحوال الربّانيّة ، كمُلتْ له تلك الحالة ، وهي حبّ الذات المقدّسة ، استولى على أشتات الأخلاق الإلهيّة واتّصف بالصفات الكريمة ، لِمَا عُرِف في العادة : " المرء على دين خليله " . فمن اجتمع بالله تعالى في حضرة قدسه وأحبّ ذاته لذاته خلع عليه سبحانه وتعالى خلعة الصفات والأسماء الإلهيّة واتّصف بها بما لا يذكر ولا يعرف إلاّ ذوقا .
وكانت منزلته من شقّ الصدر أن يغضب لغضبه ويرضى لرضاه . وسرّ الشقّ هو أنّ الشقّ الأوّل طهّر فيه من الأخلاق البشريّة المناقضة للأمور الإلهيّة ، والشقّ الثاني ، ليلة الإسراء ، كملت له الإحاطة بجميع صفات الله وأسمائه حتّى كأنّه هو .
والشقّ الأوّل عند مرضعته السيّدة حليمة ، والثاني هو ليلة الإسراء .
وقد يَرِدُ هاهنا الاعتراض على هذا الكلام ، فيقال أنّه صلّى الله عليه وسلّم كان قطبا والقطبية وليّها عند فتْح النبوّة ، ومن المعروف أنّ القطب في كلّ عصر يتّصف بجميع صفات الله وأسمائه حتّى وكأنّه هو ، فكيف قُلْتُمْ أنّه اتّصف بها ليلة الإسراء مع كونه كان قطبا قبلها ؟
والجواب : أنّ الأمر الذي تحصل به القطبانيّة والخلافة تمّ له عند فتح النبوّة ، وتمّت له مرتبة الخلافة . وما وقع ليلة الإسراء فإنّما اتّصف بصفات الله الباطنة التي لا يصل إليها غيره ، فإنّ الله سبحانه وتعالى لا نهاية لصفاته وأسمائه . فإنّ القطب ، وإنْ أحاط بها في مرتبته ، فإنّما حصل له من صفات الله وأسمائه نزر قليل بالنسبة إلى ما بقي ، فإنّ القطب ، بل وسيّدنا صلّى الله عليه وسلّم ، فإنّه منذ بُعِث وهو تفاض عليه من صفات الله وأسمائه في كلّ طرفة عين في طول عمر الدنيا وفي غاية الأسماء والصفات ويحيط بها . فإذا كان هكذا فالأمر الذي تتّصل به مرتبة القطبانيّة هو اتّصافه بالكمالات الإلهيّة بحيث إذا نقص شيء منها عنه لم تتأتَّ له الخلافة والقطبانيّة . ووراء هذه الكمالات ممّا لا تحيط به العقول ولا تنتهي إليه الأفكار من صفات الله وأسمائه وأسراره وعلومه ومعارفه .
قوله : وشقّ له البدر ، البيت ، وشقّ البدر قضيّة معلومة ، أنّه اقترحه عليه المشركون حيث طلبوه بآية كظهور النبيّين بالآيات ، فقال لهم : " ما تريدون ؟ " ، فقالوا : " نريد أن ينشقّ لك القمر نصفين ونحن نراه " ، فقال لهم : " نعم " . فلمّا كان الليل رأوا القمر ، أراه لهم مشقوقا نصفين ، وكان على رأس الجبل ، فكانت قطعة منه دون الجبل وقطعة وراء الجبل ولم يحتجب عنهم ، فطلبهم بإيمان ، فقالوا : " حتّى نسأل مَن يأتي من بعد هل رأوا من القمر ما رأينا أم لا ؟ " ، فلمّا كان الغد سألوا الرفاق الواردة على مكّة ، وَهُمْ كثيرون ، فقال كلّ واحد منهم : " رأيناه انشقّ نصفين " ، فقالوا : " هذا سحر مستمرّ سحر به الغائب والحاضر " ، وآمن به بعض مَن كان كافرا ، وظهر بعدها الإيمان به في الناس ما جحده كفّار قريش .
قال : ومن شرط كلّ شرط جزاء ، وجزاء هذا الشقّ شقّ البدر ، انتشر به الإيمان في الأرض به صلّى الله عليه وسلّم وكثر الخلق في اتباعه .
ثمّ قال رضي الله عنه :
وَرَمَـى بِالْحَـصَـى فَـأَقْـصَـدَ جَـيْـشـاً
مَـا الْعَـصَــا عِـنْـدَهُ وَمَـا الإِلْـقَــاءُ

معناه أنّه رمى صلّى الله عليه وسلّم بالحصى مرّتين في يوم بدر وفي يوم حنين . قلنا : وذلك الرمي هزم به جيوش المشركين ومنح الله المسلمين أكتافهم يأسرون منهم كيف شاؤوا بعد القتل . قال : وهذا الرمي ما العصا عنده وما الإلقاء ، يعني ما العصا كأنّها ليست بشيء وما إلقاء السلاح للقتال بسلّ السيوف وطعن الرماح وضرب النشاب كأنّهم ليسوا بشيء فإنّها لم تفعل كهذا الرمي ، فإنّه هزم به صلّى الله عليه وسلّم جيوش المشركين أكثر مِن ضرْب العصا والإلقاء ، وهذه إحدى معجزاته صلّى الله عليه وسلّم .
ثمّ قال رضي الله عنه :
وَدَعَـــا لِـلأَنَــامِ إِذْ دَهَـمَـتْـهُـــمْ
سـَنَـةٌ مِـنْ مُـحُـولِـهَـا شَـهْـبَــاءُ

وقضيّة هذه الدعوة معلومة ، فإنّه صلّى الله عليه وسلّم كان على المنبر يوم الجمعة يخطب ، وكان الناس في شدّة عظيمة مع الجوع والقحط ، فقام إليه بعض الأعراب ، وهو على المنبر يخطب ، فقال : " يا رسول الله هلك المال وجاع العيال فادع الله أن يسقينا " ، فرفع يديه صلّى الله عليه وسلّم حتّى ظهر بياض إبطه صلّى الله عليه وسلّم ، ثمّ قال : « اللهمّ اسق بلادك وارحم عبادك » ، فقام أبو أيوب الأنصاريّ رضي الله عنه فقال : " يا رسول الله التمر في المرابد " ، فزاد صلّى الله عليه وسلّم فقال : « اللهمّ اسق بلادك وارحم عبادك » فقال أبو أيوب الأنصاريّ مثل مقالته الأولى ، فقال صلّى الله عليه وسلّم في الّثالثة أو في الرابعة : « اللهمّ اسق بلادك وارحم عبادك » ، حتّى يقول أبو أيوب ، يسدّ مربده بردائه ، فانهالت السحاب على المدينة وأقبلت كأفواه القرب فبقيت من يوم الجمعة إلى يوم الجمعة . فلمّا كان صلّى الله عليه وسلّم يخطب قام إليه رجل من المسلمين وقال : " يا رسول الله هلك الحال وتهدّم البنيان " ، مشتكين له ممّا وقع ، فأبى أن يدعو برفع المطر ، وقال : « اللهمّ حوالينا ولا علينا اللهمّ على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر » ، فانجابت السحاب عن المدينة كانجياب الثوب ، وأخبر أنّ واديا بقي يسيل شهرا كاملا ، وفاض الخصب والخيرات في الأرض حتّى كانت تلك السنة تُعرف في السنين المتباعدة " الغرّة البيضاء في الدابّة السوداء " .
قال : ودعا للأنام إذ دهمتهم ، والدَّهْمُ هو الاقتحام بعنف يعني تلك السنة لشدّة قحطها وجوعها دهمت الأنام وذوّقتهم من وبالها أمرا شديدا .
قوله : سنة من محولها شهباء ، وحقيقة المحل هي شدّة الضيق في المعيشة وتباعد آثار الخير ، فكانت تلك الشدّة من محولها وتمكّن القحط فيها أنّ الأرض كلّها شهباء منها ، يعني الأرض .
ثمّ قال رضي الله عنه :
فَـاسْتَهَـلَّـتْ بِـالْغَـيْـثِ سَـبْـعَـةَ أَيَّـا
مٍ عَـلَـيْـهِــمْ  سَـحَـابَـةٌ وَطْـفَــاءُ

فبأثر دعوته صلّى الله عليه وسلّم استهلّت سحابة الغيث ، والاستهلال هو الظهور بشدّة ، فاستهلّت سحابة بالغيث ، وهو المطر في ساعته ، ودام سبعة أيّام إلى الجمعة الأخرى وهو متّصل الليل والنهار .
وطفاء : معناه أنّها دائمة النزول والوبل .
ثمّ قال رضي الله عنه :
تَتَـحَـرَّى مَـوَاضِـعَ الرَّعْـيِ والسَّـقْـيِ
وَحَـيْـثُ الْعِـطَـاشُ تُـوهَـى  السِّـقَـاءُ

أخبر أنّ تلك السحابة التي دام انصبابها ووابلها كانت تتحرّى مواضع السقي والرعي ، والسقي هو سقي الزارعين للحراثة ، والرعي هو الذي ترعاه المواشي ، يعني أنّ تلك السحابة كانت تتحرّى مواضع السقي والرعي لينتفع الناس بذلك .
ثمّ قال رضي الله عنه : وحيث العطاش يوهى السقاء ، معناه أنّ مياه السحابة كانت تجري في الأماكن الثلاثة : أماكن الرعي وأماكن السقاء والأماكن التي توهي العطاش ، أيّ يدلى دلاؤهم وقِرَبُهم .
ثمّ قال رضي الله عنه :
وَأَتَـى النّــاسُ يَـشْـتَـكُـونَ  أَذَاهَــا
وَرَخَـــاءٌ يُــؤْذِي الأَنَــامَ  غَـــلاَءُ

أخبر هنا عن قول الرجل الذي أتى في الجمعة الأخرى وقال : " يا رسول الله غرق المال وتهدّم البنيان " ، وأتوا يشتكون من رخاء الأمطار عليهم بحيث أن لا تنقبض ، قال : ذلك الرخاء في المطر هو شدّة الغلاء على الناس لأنّه يمنع الناس من السعي في معاشهم ، فلذا سمّاه غلاء .
ثمّ قال رضي الله عنه :
فَـدَعَـا  فَـانْجَلَـى الْغَـمَـامُ فَـقُـلْ فِـي
وَصْـفِ غَـيْـثٍ إِقْـلاَعُـهُ  اسْتِـسْـقَـاءُ

أخبر أنّه صلّى الله عليه وسلّم لمّا اشتكى إليه الأعرابي من شدّة الأذى من المطر دعا صلّى الله عليه وسلّم برفعها فانجابت ، أيّ انقشعت ، فإنّه أُنزِل المطر بدعوته صلّى الله عليه وسلّم ، ورُفِع بدعوته صلّى الله عليه وسلّم ، فقلْ في وصف غيث إقلاعه استسقاء ، معناه أنّ المطر في نزوله استسقاءٌ منه صلّى الله عليه وسلّم ، ومعنى رفْعِه أنّه صلّى الله عليه وسلّم دعا فيه بزوال الضرر ، حين أضرّ دوام نزول المطر بالناس دعا برفعه ، فهو استسقاء .
ثمّ قال رضي الله عنه :
ثْـمّ أَثْــرَى الثَّـرَى فَـقَـرَّتْ عُـيُــونٌ
بِـقُـراهُــا وَأُحْـيِـيَــتْ  أَحْـيَـــاءُ

هاهنا مازال يتكلّم في دعوته صلّى الله عليه وسلّم حين دعا بالغيث ، قال : ثمّ أثرى الثرى ، ومعنى أثرى ابْتلَّ وصار طينا ، وثرى الثرى هو السبب في إيقاع الخصب في الأرض ، فإنّها ما دامت يابسة لم ينبت منها شيء .
قوله : فقرّت عيون ، يعني أنّها لمّا أثرى الثرى وصار طينا أنبت النبات بما فيه من البذور ، وعظم أمر النبات حتّى صار أعظم الخصب بسبب ثرى الثرى الذي وقع بالأرض ، فلمّا صار خصبا عظيما قرّت به عيون الناظرين لأنّ بسبب الخصب في الأرض تكثر الخيرات بها .
قوله : بقراها ، الضمير هاهنا في قراها إمّا أن يعود على الأرض حين كثر الخصب بها أو على المطر ، كلّه صحيح ، وسمّاه قرى لأنّه في حقيقته إعطاء ، وتسميته قرى مأخوذ من إقراء الضيف ، وهو الطعام الذي يدفعونه له أهل البيت ، يعني أنّ المطر حين نزلت أعطت قراها للخلق من قوّة الخصب ، وينشأ عنه من أحوال المعيشة . أو الأرض حين كثر الثرى بها أعطت قراها للخلق ، وهو كثرة الخصب بها ، فهو القرى .
ويصحّ القرى أن يُقرأ بضمّ القاف . قال : حين كثر المطر وأثرى الثرى حين صار طينا واندفع عنه كثرة الخصب قرّت عيون بقرى الأرض ، والقرى جمع قرية وهو المكان الذي يجتمع به كثير من الخلق أو قليل ، والمراد بهم الذين يستقرّون على قرار الأرض من الآدميّ وغيره من الدوابّ ، كلّها قرّت عيونهم بالخصب لمّا وقع .
قوله : وأحييت أحياء ، الأحياء هاهنا يعمّ الحيوان والجماد ، فأمّا الحيوانات من الآدميين وغيره فإنّها كانت كأنّها في صور الأموات من شدّة ما تلاقي من مقحط والجوع ، وشدّة البلاء أمره معروف حين يقع الجدب ، فلمّا كانت الخلق في هذه الحالة وهي كالموت أحيوا بسبب نزول المطر وكثرة الخصب حتّى تمكّنت صور الحياة من الفرح والسرور وكثرة الزهو ممّا تلاقيه النفس من ملائمة أغراضها . وأمّا الجماد فأجيب بظهورها بعدم العدم ، وهي أجناس الخصب التي تنبت ، فإنّ الأرض كانت منها ميّتة لا شيء بها ، فلمّا كثر نزول المطر أحيي النبات وظهر وجوده بعدم العدم وأحييت الأرض بسبب ذلك . وحياة الأرض هاهنا بسبب فرح المارّ بها لِما يرى من كثرة الخصب ، فهي حياتها . وحياتها أيضا بكثرة ذكر الله عليها ، فإنّ كلّ غصن على الأرض ، وكلّ ورقة ، تسبّح الله تعالى بألْسِنةٍ فصاح ، فهي الحياة الحقيقيّة ، يقول صلّى الله عليه وسلّم : « مثل الذي يذكر ربّه والذي لا يذكر ربّه كمثل الحيّ والميّت » . ، قلنا : فهذه حياة الأرض من كثرة ذكر الله عليها ، فهي حياتها .
ثمّ قال رضي الله عنه :
فَـتَــرَى الأَرْضَ غِـبَّــهُ كَـسَـمَــاءٍ
أَشْـرَقَـتْ مِنْ نُـجُـومِـهَـا الظَّـلْـمَـاءُ
تُخْـجِـلُ  الـدُّرُّ وَالْيَـوَاقِـيـتَ مِـنْ نَـوْ
رِ رُبَـاهَـا الْبَـيْـضَــاءُ  وَالْحَـمْــرَاءُ

قال : صارت الأرض حينئذ ، بسبب ما ذكر من المطر في الأرض وانتعاش خصبها إلى الغاية وظهور الأنوار عليها ، صارت تخجل الدرّ واليواقيت ، يعني صار الدرّ واليواقيت إذا رأوا ما بالأرض من الأنوار خجلوا من ظهورهم لكون تلك الأنوار أرفع من شأنه ، فهذا هو الخجل . وهو الحياء والإزراء ، معناه أنّه يزري بمرتبة اليواقيت والدرّ إذا رأى تلك الأنوار بأرض .
قوله : رُبى ، الربى هو جمع ربوة ، والربوة هو المكان المرتفع من الأرض ، وخصّ الربى بالنور لكونها هي الغالبة في كثرة الأنوار على ظهورها ، وقد تكثر الأنوار في المكان المنسفل من الأرض .
قوله : البيضاء والحمراء ، يعني بهما الأنوار ، فإذا الخصب إذا تفتّحت أنواره وهو في غاية ما يكون من القوّة تفتّحت أنواره بيضاء وحمراء ، بل وصفراء ، تظهر حينئذ في عين الناظر كأنّها بساط من الياقوت .
ثمّ قال رضي الله عنه :
لَـيْـتَـهُ خَـصَّـنِــي بِـرُؤْيَـةِ وَجْــهٍ
زَالَ  عَــنْ كُــلِّ مَــنْ رَآهُ الشَّـقَــاءُ

ثمّ انتقل رضي الله عنه يتكلّم على رؤية وجهه صلّى الله عليه وسلّم وأتى فيه بـ"ليت" التي هي عين التمنّي ، وأخبر عن شدّة حبّه صلّى الله عليه وسلّم وشدّة شوقه إليه ، قال : ليته خصّني برؤية وجهه ، يعني ليته أراني وجهه الكريم صلّى الله عليه وسلّم فإنّه بسبب رؤيته يزول الشقاء عن كلّ مَن رآه ، يريد رؤية النوم أو اليقظة فإنّه لا يراه إلاّ سعيد ، يعني أنّ تلك الرؤية لو منحنيها في وجهه الكريم لزال عنّي الشقاء كما يزول عن كلّ من رآه الشقاء .
ورؤيته صلّى الله عليه وسلّم في اليقظة واقعة قطعا لا شكّ في ذلك ، ثمّ هي نفسها مستحيلة عند أهل الظاهر لأنّها عندهم من معاني الآخرة ، وأمور الآخرة لا مطمع لأحد في دركها إلاّ لأرباب النبوءة عندهم ، ومَن ادّعاها من غيرهم كذب ، فهذا مذهب أهل الظاهر .
قلنا : الجواب عن هذا الإنكار أنّها وإن كانت من عوالم الآخرة فهي واقعة . فهي واقعة لمَن اختصّه بفضله ، فهي من جملة الخوارق التي تقع للأولياء ، هي مشهودة للعامّة لا سبيل لإنكارها . فإذا صحّ لهم خرق العوائد فهي من جملة خرق العوائد . وأمّا المشاهدة فتواتر الأمر بها كثير من وجوه لا يمكن دفعها ولا يدخل الريب فيها . ولا بدّ للرائي لهذا أن يقع له شيء شبه السِّنة وإحساسه كامل لا نوم معه ، ويكلّمه صلّى الله عليه وسلّم ويأخذ عنه الأحكام والفوائد والأسرار .
وقولنا : الأحكام ، هي الأحكام الشرعية في الواقع ، المتجدّدة الجارية على منهجه صلّى الله عليه وسلّم . وأمّا رؤيته صلّى الله عليه وسلّم في النوم فإنّها صحيحة والحديث شاهد بها ، قال صلّى الله عليه وسلّم : « من رآني في المنام فقد رآني فإنّ الشيطان لا يتمثّل بي » أو كما قال صلّى الله عليه وسلّم .
ثمّ قال رضي الله عنه :
مُـسْـفِـرٌٍ يَلْـتَـقِـي الْكَتِـيـبَـةَ بَـسَّـا
مــاً إِذَا أَسْـهَــمَ الْـوُجُـوهَ اللِّـقَــاءُ

ثمّ وصف الوجه الكريم منه صلّى الله عليه وسلّم ، قال : مهما لقيَه الإنسان يلقاه مسفرا ، يعني مضيئا ، معنى هذا أنّ الهموم التي تحلّ قلبه صلّى الله عليه وسلّم من جهة البلايا والمحن لا توقع التغيير في وجهه الكريم ، بل لا يزال وجهه مسفرا مضيئا كأنّه لا همّ عنده وهو في غاية الهمّ وذلك لقوّة قلبه صلّى الله عليه وسلّم وإمساكه للهموم فلا يتركها تظهر على وجهه صلّى الله عليه وسلّم وذلك مشعر بقوّة ثباته لأمر الله تعالى فلا تزعجه فواجع الأمور . والكتيبة هي الجماعة التي اجتمعت لقتاله صلّى الله عليه وسلّم ، يلقاها بسّاما ، يعني ضاحكا لا يهمّه أمرها لقوّة ما فيه من الثبات لأمر الله تعالى وشدّة الشجاعة . أمّا الشجاعة فهي من كمالات البشريّة ، وأمّا الثبات لأمر الله تعالى فمِن قوّة سلطان النبوّة وسطوته على الأمور والمصائب فلا تدهشه معضلات الفتن .
قال : يلتقي الكتيبة للقتال صلّى الله عليه وسلّم وهو بسّام ليس به بأس كأنّه نائم على فراشه صلّى الله عليه وسلّم لقوّة سلطان نبوّته صلّى الله عليه وسلّم ، فلا ينزعج لشيء من أمر الله تعالى ، وحيث كان الأمر هكذا فهو يلتقي الكتيبة بسّاما ، أيّ ضاحكا .
قوله : إذا أسهم الوجوه اللقاء ، يعني إذا غيّر الوجوهَ لقاءُ العدوِّ مِن شدّة الخوف من القتل ، فإنّ هذه حالة البشريّة ، فهو صلّى الله عليه وسلّم يلتقي الكتيبة بسّاما ليس به همّ ولا غمّ في ملاقاتها إذا غيّر الوجوهَ اللقاءُ .
ثمّ قال رضي الله عنه :
جُـعِـلَـتْ  مَسْـجِـداً لَهُ الأَرْضُ فَـاهْـتَـ
ــزَّ بِـهِ لِلصَّــلاَةِ فِـيـهَـا  حِـــرَاءُ

قال : في معجزاته صلّى الله عليه وسلّم ومِنَن الله التي ليست لغيره صلّى الله عليه وسلّم أنّ الله جعل له الأرض كلّها مسجدا ولأمّته بعده يصلّي حيث شاء ، إذ كانت الأمم قبله لا تصلّي إلاّ في المساجد ، وهو صلّى الله عليه وسلّم جُعلت له الأرض كلّها مسجدا يصلّي فيها حيث شاء .
قوله : فاهتزّ به للصلاة فيها حراء ، أردف عليه معجزة أخرى وهي كونه صلّى الله عليه وسلّم اهتزّ به حراء . وحراء جبل من جبال مكّة ، وقضيّته أنّه صلّى الله عليه وسلّم كان يوما جالسا عليه مع الصحابة فاهتزّ به الجبل ، فقال صلّى الله عليه وسلّم : « أُسكن يا حراء فإنّما عليك نبيّ وصدّيق وشهيدان » ، أمّا النبيّ فهو صلّى الله عليه وسلّم ، وأمّا الصدّيق فهو أبو بكر الصديق ، وأمّا الشهيدان فعُمَرُ وعثمان رضي الله عنهم .
ثمّ قال رضي الله عنه :
مُـظْـهِـرٌٍ  شَـجَّـةَ الْجَبِـيـنِ عَلَى الْبُـرْ
ءِ كَـمَــا أَظْـهَــرَ الْهِــلاَلَ الْبَــرَاءُ

أخبر هاهنا عن شجّة كانت في وجهه صلّى الله عليه وسلّم كانت كالهلال في وجهه صلّى الله عليه وسلّم لم توقع فيه شيئا ولا عيبا بل لم يزل جماله كاملا مع ظهور تلك الشجّة في وجهه صلّى الله عليه وسلّم . والشجّة هاهنا هي الشجّة التي شجّ بها وجهه صلّى الله عليه وسلّم يوم أخذ ضربة عتبة بن أبي وقاص لعنه الله ، وكان قد ضربه وقت التحامهم واجتماعهم عليه صلّى الله عليه وسلّم ، فإنّ ذلك الوقت ما ناله منهم شيء ولا وصلت سلاحهم إلى محمّد صلّى الله عليه وسلّم ، كان خبط سيوفهم وقع في لحم طلحة بن عبد الله رضي الله عنه ، وكان لمّا رأى اقتحام المشركين عليه صلّى الله عليه وسلّم وإرادة قتله وانهزم الصحابة عنه ، لم يبق معه إلاّ نفر قليل ، واشتغلوا بمقاتلتهم عنه ، فتركهم المشركون وكبّوا عليه صلّى الله عليه وسلّم كالعرمرم ، وعلم أنّه إنْ قاتلهم عنه لم يفد شيئا فانكبّ على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو جالس وأحاط به ، فراموا أن ينزعوه عنه بكلّ حيلة فلم يقدروا ، فجعلت السيوف تتلاحم على لحمه رضي الله عنه وهو في ذلك صابر لا يصيح ولا ينزع عنه صلّى الله عليه وسلّم ، فمازالوا كذلك حتّى أجلاهم المسلمون عنه ، فلمّا نزع عنه وقع طريحا رضي الله عنه من شدّة الجراح .
قوله : كما أظهر الهلال البراء ، هو شدّة ارتفاع الأصوات يعني من ظهورها ، وأصل البراء في اللغة هو الظهور ، ويقال : برئ من الشيء يعني زال اختلاطه معه حتّى صار وحده ، وبرئ الجرح يعني ظهر شفاؤه وبرأ .
ثمّ قال رضي الله عنه :
سـُتِـرَ الْحُسْـنُ مِنْهُ بِالْحُسْـنِ  فَـاعْجَـب
لِـجَـمَــالٍ لَـهُ الْجَـمَــالُ وِقَــــاءُ

قال : ستر الحسن منه بالحسن ، أراد في هذه القضيّة ما وقع به السؤال قديما عن فتنة زليخا بجمال يوسف عليه الصلاة والسلام وهو إنّما أُعطِيَ شطر الحسن فقط لا الحسن كاملا ثمّ وقعت الفتنة به لكلّ من رآه ، وهو صلّى الله عليه وسلّم أعطي الجمال كاملا ما نقص منه شيء ثمّ لم يفتتن أحد بجماله ولا نُقِل هذا عن أحد . قال : وجماله ستره الجمال ، وتحقيق الجواب في هذه المسألة أنّ قالبه الكريم عليه ملابس من هيبة الله تعالى في حضرة سلطانه ، فكلّ مَن رآه على البديهة دهش من هيبته صلّى الله عليه وسلّم فما يقدم لشدّة الفتنة من جماله لقوّة سلطان الهيبة فيه صلّى الله عليه وسلّم ، وهو الرعب الذي يقع على القلوب عند ملاقاته صلّى الله عليه وسلّم ، يأخذ القلوب رعب يشغله عن التمتّع بجماله صلّى الله عليه وسلّم ، فإنّه نُقِل عن الصحابة كلّهم أنّهم ما كانوا يملأون أعينهم من رؤية وجهه صلّى الله عليه وسلّم من الهيبة التي أُلبِسَهَا . والهيبة هي من أكبر أوصاف الجمال ، فهي التي سترت جماله صلّى الله عليه وسلّم حتّى لم يفتن به أحد . فإنّ المرأة مثلا شديدة التعلّق بالرجال للجماع لا تقدر عند رؤيته أن تطلب منه لقوّة الدهش من هيبته صلّى الله عليه وسلّم ، وبهذا وقعت العصمة له من مراودة النساء على شدّة جماله صلّى الله عليه وسلّم .
ثمّ قال رضي الله عنه :
فَهْـوَ كَـالزَّهْـرِ لاَحَ مِنْ سَــجَـفِ الأَكْـ
ـمَــامِ  وَالْعُـودِ شُـقَّ عَـنْـهُ اللِّحَــاءُ

تكلّم هنا على جمال وجهه صلّى الله عليه وسلّم فقال : فهو كالزهر ، والزهر هي الأنوار المتفتّحة عن الأكمام ، ومعنى لاح ، ظهر من سجف الأكمام ، والأكمام جمع كمّ ، وهو المكان الذي تجتمع فيه النوّارة قبل انفتاحها ، فهذا هو الكمّ ، فهو صلّى الله عليه وسلّم في جمال وجهه صلّى الله عليه وسلّم ونضارته مثل الزهر الذي ظهر من سجف الأكمام ، والسجف واحدها سجاف والجمع سجف ، والسجاف هو الغطاء الساتر للشيء ، والأكمام هو الأغطية التي سترت الأنوار قبل ظهورها ، وشبّهه بالزهر الذي لاح من سجف الأكمام والعود شقّ عنه اللحاء ، واللحاء هنا هي قشرة العود إذا شقّت عن العود ظهر فيه بياض ، فشبّه أيضا بالعود الذي شقّ عنه اللحاء صلّى الله عليه وسلّم . والتشبيه الأوّل للوجه الكريم من سجف الأكمام ، والتشبيه الثاني لجسده الشريف فإنّه مستور بالثياب ، فإذا رفعت عنه الثياب ظهر نور لحمه صلّى الله عليه وسلّم ، وفيه يقول واصفه : أنور متجرّد فهو كالعود الذي شقّ عنه اللحاء ، وهي القشرة .
ثمّ قال رضي الله عنه :
كَـادَ أَنْ يُغْـشَـيَ الْعُيُـونَ سَـنـىً مِـنْـ
ـهُ لِـسِــرٍّ حَـكَـتْـهُ فِـيـهِ ذُكَــاءُ

فهذه أيضا في وصفه صلّى الله عليه وسلّم ، فإنّه كاد أن يغشى العيون نور وجهه صلّى الله عليه وسلّم حتّى تصير لا تبصر شيئا . فقد روي أن عائشة رضي الله عنها رأت الإبرة في شدّة الظلام بنور وجهه صلّى الله عليه وسلّم . والحكاية أنّها كانت جالسة في بيتها في شدّة الظلام فسقطت منها الإبرة ، فدخل عليها صلّى الله عليه وسلّم فأضاء البيت نوره صلّى الله عليه وسلّم حتّى رأت إبرتها . فأنشدت :
وأجمل منك لم تر قَطّ عيني      وأكمل منك لم تلد  النسـاء
خلقـت مبرّأ من كلّ عيـب      كأنّك قـد خلقت كما تشـاء
والسنى هو النور .
وقوله : لسرّ فيه ، والسرّ هاهنا هو ما ألبسه الحقّ سبحانه وتعالى في حضرة جماله التي لا طاقة للعقول على مقابلتها فضلا أن تحيط بشأنها ، فإنّه صلّى الله عليه وسلّم نور جميع الأنوار ، وكلّ نور في الكون إنّما هو فلقة من نوره صلّى الله عليه وسلّم ، مثل نور العرش . فقد روي أنّه يكسى كلّ يوم ألف حُلَّة من النور منذ خلق ، ولو ظهر نوره للعيون لصارت الشمس كالقنديل معها . ثمّ ضرب الله الحجاب على نور العرش فبسطه في الجنّة فقط ، ونور الحجب من ورائه يعدّ معه نور العرش كَلاَ شيء . فقد روي أنّه سأل الله تعالى : " لماذا خلقتني يا ربّ ؟ " ، فقال الله تعالى : " خلقتك لتقي عبادي من نور الحجاب " ، وكان أمر ذلك أنّ السماوات والأرضين لولا احتجابهما بالعرش من نور الحجب لاحترقت بنور الحجب ، وأنّ الجنّة أنوارها لو أخرجت حوراء سبابتها من السماء لأطفأت نور العرش . فهذه الأنوار كلّها فلقات من نوره صلّى الله عليه وسلّم ، ونوره سرّ محتجب بينه وبين الله تعالى لا يطلع عليه إلاّ من اختصّه من عباده .
قوله : حكته فيه ذكاء ، وهي الشمس ، لأنّ ذلك السرّ الكامن فيه هو أصل جميع الأنوار وعينها ومنابعها ، وكلّ نور في الأكوان إنّما هو فلقة من نوره صلّى الله عليه وسلّم . قال : هذا هو السرّ فيه صلّى الله عليه وسلّم حكته فيه الشمس ، يعني ماثلته ، ومماثلته هنا من ضرب المجاز لا الحقيقة ، كقوله تعالى : اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [ النور : 35 ] الآية ، والمثال هاهنا مجازيّ لا حقيقيّ ، فإنّ نور الله تعالى لا تماثله الزجاجة على الإطلاق لأنّ الأنوار المنبثة في الكون عظيمها وقليلها لو تبدّى لها نور العظمة والجلال الذاتييْن لصارت محض العدم ، ، ونوره صلّى الله عليه وسلّم ، الذي هو حقيقته ، قائم بين يديّ الحقّ سبحانه وتعالى ، والوجود كلّه تحت ظلّه ، ولو تظلّل الوجود به لصار محض العدم أسرع من طرفة عين ، يعني من نور الحقّ إذا تجلّى له . يقول في الحديث : « حجابه النور لو كشف لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه » ، فلم يكن للحقّ حجاب عن خلقه إلاّ ذلك النور المحمّديّ صلّى الله عليه وسلّم هو الذي أطاق مؤنة أثقال الحضرة الإلهيّة وصعوبة أعبائها لقوّة ما فيها من الأسرار ، وليس للأنوار من غيره ، من نور العرش ، والحجب ، والجنّة ، والشمس ، وغيرها ، أن تثبت لوجود نور العظمة والجلال ، فلم يثبت لذلك إلاّ نوره صلّى الله عليه وسلّم .
ثمّ قال رضي الله عنه :
صَـانَـهُ الْحُسْـنُ وَالسَّكِـيـنَـةُ أَنْ تُـظْـ
ـهِــرَ فِيــهِ آثَـارَهَــا الْبَـأْسَـــاءُ

قوله : صانه الحسن الخ... ، أخبر أنّ البأساء ، وهي اقتحام الشرّ والهلاك في ذات الله تعالى من موقف القتال وغيرها ، أنّها لا تُظهر في وجهه الكريم أثرا من الحزن والكآبة والتذلّل والبكاء والتصاغر لها لقوّة ما فيه من السكينة ، وهي شدّة الثبات لأمر الله تعالى ، فلا ينزعج من ورود ما لا تطيقه النفوس ، ولا تدهشه معضلات البلاء والمحن ، لقوّة ثباته لأمر الله تعالى ، فإنّه في ملاقاة التجلّيات الإلهيّة كلّما صادمه تجلّ من تجلّيات الله تعالى وجده مستعدّا للقائه لكمال توفية حقوقه وآدابه ، فهو على أيّ حالة تقلّبت به الأطوار التي ورودها من عيون التجلّيات الإلهيّة وَجَدَتْهُ في حين ورودها عليه كامل الاستعداد لملاقاتها وتوفية حقوقها وتكميل آدابها ، لا يقع فيه ملل ولا خلل ، فهذا هو المراد بالسكينة التي وصفه بها صلّى الله عليه وسلّم . والسكينة التي فيه صانته صلّى الله عليه وسلّم عن أن يظهر في وجهه آثار البأساء ، كما معلوم في قضيّة إبراهيم عليه السلام حيث قال له الروح الأمين : " ألك حاجة يا إبراهيم ؟ " ، قال : " أمّا إليك فلا " ، يعني وجد الاستعداد لتحمّل أثقال تجلّيه ولم ينزل لحظوظ نفسه من طلب التفريج وكشف الكربة لأنّ ذلك حظّ نفسه وحقّ تجلّيه شاغل له عن نفسه لأنّه يعلم أنّ الروح الأمين بعثه الله تعالى لتخليصه من المحنة . قال له : " أما إليك فلا " ، لأنّه مشغول بحقوق تجلّيه حتّى يوفّي أمرها . ولا طاقة لأحد بها إلاّ النبيّون والمرسلون ومَن قوّاه الله لذلك من العالمين ، فهذه هي السكينة التي أشار إليها .
قال : صانه الحسن والسكينة الخ... ، فإنّه في وقت ورود البأساء لو كان متغافلا عن التجلّيات ولم يُرد إلاّ عيون البأساء لأثقلت ظهوره وفرّ منها كما يفرّ البشر ، لكن نظره إلى المتجلّي سبحانه وتعالى لأنّه أنساه مرارة ذلك البأساء ، كما روي أن بعض الرجال أمر بعض الملوك بتجريده وضربه مائة سوط ، فجرّد وضرب مائة سوط فما تغيّر له ظاهر ولا باطن ولا صاح ، وكان يُرى كأنّه نائم على فراشه . فقام وسرّحه الأمير . فبعد هنيهة قال الأمير : " ردّوه واضربوه سوطا واحدا " ، فردّوه وطرح بين يديه ، فلمّا ضرب بالسوط زعق وصاح صياحا شديدا ، فقال : " سرّحوه " ، فلمّا سرّحوه تبعه بعض الرجال حين فارق مجلس الأمير ، ثمّ قال له : " رأيت منك عجبا " ، قال له : " ما هو ؟ " ، قال له : " رأيتك ضربت مائة سوط مباشرة للحم فما تغيّر لك ظاهر ولا باطن ولا صرخت ولا وقع منك أنين لا صياح ، فلمّا ردّوك وضربوك سوطا واحدا صحت وظهر منك عدم الصبر " ، فقال له : " إنّ البلاء تتحمّله الهمم لا الأجسام . إنّ مائة سوط العين التي كنت أعذّب من أجلها كانت ناظرة إليّ فشغلتني لذّة النظر إليها عن التألّم لِما أنا فيه ، فما كنت أبالي بما يقع ، وفي السوط الواحد احتجبت عنّي وبقيت فريدا مع بشريّتي فوقع منّي ما يقع من البشر . فإذا عرفت هذا عرفت أحوال النبيّين عليهم الصلاة والسلام فيما يتحمّلون من البلايا والمحن . قال الجنيد رضي الله عنه قال : " يبلغ العبد من النظر إلى الله أن يبقى بجميعه في التنّور يحرق ولا يحسّ بشيء " . فهذه السكينة التي يشير إليها .
ثمّ قال رضي الله عنه :

<< الصفحة الرابعة    الصفحة السادسة >>