فِـعْـلُـهُ كُـلُّـهُ جَـمِـيـلٌ وَهَـلْ يَـنْـ
ـضَــحُ إِلاَّ بِـمَـا حَــوَاهُ الإِنَــــاءُ
أخبر هنا عن طويته صلى الله عليه وسلم اشتملت على ما في الحضرة الإلهية وما أدته إليه الحضرة الكريمة من مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب والأحوال العلية والأوصاف الزكية والنعوت القدسية التي لا يقدر أن يتصف بها غيره صلى الله عليه وسلم وقد اتصف بها كمالا وعلوا مع تمام طهارة سجيته صلى الله عليه وسلم وكرم طباعه فكان من أجل ذلك كل أفعاله جميلة صلى الله عليه وسلم لما اتصف به من التخلق بأخلاق الله تعالى والاتصاف بالصفات العلية بحيث إذ كان العين العين وحيث تصف بهذا فلا يصدر منه ظاهر ولا باطن فيما دق أو جل إلا ما كان مرضيا لله تعالى محبوبا عنده محمودا عنده لا يغضب الله منه شيء ولا يصدر منه شيء من سوء الأدب صلى الله عليه وسلم قال : لو جل قوله وهل ينضح إلا بما حواه الإناء قلنا لما اتصف صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا من التخلق بأخلاق الله تعالى والاتصاف بصفاته حتى كان العين العين صارت حقيقته لا يبرز منها إلا ما كان محمودا مثل الإناء المملوء ينضح بما فيه إن كان محمودا فمحمودا وإن غيره فغيره وهل ينضح إلا بما حواه الإناء ؟ ، ثم قال رضي الله عنه :
أَطْْــرَبَ السَّـامِـعِـيــنَ ذِكْـرُ عُــلاَهُ
يَـا لَــرَاحٍ مَـالَــتْ بِـهِ النُّـدَمَـــاءُ
معناه أن ذكر علاه صلى الله عليه وسلم أطرب السامعين يعني ملأ أسماعهم زهوا وطربا وربما بلغ الطرب فيها حتى تهزها الأحوال فتتحرك شطحا وتصفيقا وطربا هو حال ينشأ عن الفرح والسرور لملائمته للقلب وضده السخط والغضب يطرأ على القلب لمناظرته لمطلوبه قال : فالسامعون إذا سمعوا ذكر علاه امتلأوا زهوا وطربا وتلك حال عزيزة لا تغشى كل سامع بذكره صلى الله عليه وسلم ولا تغشى إلا أهل الإيمان به والمحبة له دون من عاداهم ممن كفر به أو عاداه ، والعلا جمع علية والمراد بها صفته وزهوا فهذا معنى العلا ، ثم ذكر النداء مع صفة التعجب . قوله : يا لراح أصلا وضعه في اللغة يا وهي ياء النداء والمنادي محذوف تقديره يا قوم أو يا سامعين تنبهوا الراح وهي الخمر وتنبهوا لعظم شأن هذا الخمر وشدة فعله في القلوب حتى يملأها طربا وزهوا مثلما تفعله الخمر في قلوب الندماء ، والندماء جمع ندمان والندماء جمع نديم والمراد به هنا هو المساعد لرفيقه على الشرب من الخمر يشرب كشربه فهذا هو النديم ويسقيه أي جليسه بعد شربه . قال : ما أعظمها من الخمر وما أعظم شأنها يعني وصف شأنها بأنها مالت بها الندماء ومالت إلى السكر والزهو والطرب ، واللام في قوله : لراح لا ترد إلا منصوبة وأصلها وضعت للحث والندبة أو الاستغاثة والنجدة فالمنادى بها حيث المنادين ويحضهم على الإنتباه لما ندبهم إليه ، ثم قال رضي الله عنه :
النَّـبِــيُّ الأُمِّــيُّ أَعْـلَــمُ مُـنْ أَسْــ
ـنَـدَ عَـنْــهُ الـرُّوَّاةُ وَالْحُـكَـمَـــاءُ
قوله : النبي معنى النبوة هي أشهر من أن تعرف معناه : النبي المتصف بالنبوة ، والأمي يعني : ليس بكاتب ولا قارئ فهذا معنى الأمي عند العرب فكانت هذه حالته صلى الله عليه وسلم قبل النبوة وبذا وصفه الحق سبحانه وتعالى في الكتاب العزيز بقوله سبحانه وتعالى : {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون} [العنكبوت : 48] وقال سبحانه وتعالى : {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} [الشورى : 52] ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان فيه صفة الأمية قبل النبوة فصار بعد النبوة أعلم جميع خلق الله وأعرفهم بالله وبأمر الله ، فهو في هذا الميدان لا يدرك شأوه ولا يشق غباره ، وكل علوم العالمين وإن تناهت إلى غير غاية على كثرتها وتباينها واختلاف مراتبها وحدها في العلوم والأحوال كل ما وصل إليها جملة وتفصيلا من جميع المخلوقات في جميع العوالم فردا فردا على اختلاف أزمانها ودهورها ما وصل إليها إلا نقطة من طامي بحر علومه ومعارفه صلى الله عليه وسلم الذي لا ساحل له ولا غاية ولا قعر ولا أمل يحويه فهو أعلم الخلق بالله تعالى جملة وتفصيلا وجميع علومه من الفيض اللدني ليست بدراية ولا تعلم كما قال في الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم : وهذا الحديث صعب المرام عظيم الإشكال إلا أن حقيقته من تجلياته سبحانه وتعالى في مظاهر الأكوان ومرائي الكيان ، والكيان مصدر كان ومعناه صور الأكوان ولا يعقل معنى هذا الحديث إلا من عقل كيف يتجلى الله في الأكوان ولا يعلمه على حقيقته إلا العارف بالله المعرفة الذوقية العيانية فمن وصل إليها عقل هذا الحديث وعرف ما يشير إليه ومن لا فلا ، فإن الله سبحانه وتعالى جل وتقدس وتعالت ذاته العلية عن أن يتصف بصفات الأجسام والأشخاص وينحصر في هياكلها تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، ومن عقل عن الله ووصفه بظاهر هذا الحديث على حقيقته كفر بالله صريحا وإنما الحديث يشير إلى سر غامض صعب المرام بعيد المدارك لا يعرفه إلا العارفون بالله ومن سواهم لا مطمع لهم في لحوقه فليس لهم أن يخوضوا في معاني هذا الحديث ولأن يصفوا ربهم فيما هو ظاهر هذا الخبر وذلك محال على الله تعالى ، قوله : أعلم من أسند عند الرواة والحكماء والإسناد حقيقته هو النقل عن المسند إليه كما تقول : حدثني فلان أو أخبرني فلان فالعلماء جمع عالم وهو العالم الذي تنقل عنه الأخبار التي يستفيد الناس منها مصالح دينهم وآخرتهم ، والرواة جمع راو هو الذي ينقل الخبر عن العالم والحكيم نقلا محيطا بجميع وجوهه حفظا وفهما وحروفا وضبطا وحقيقة ، وتلك العلوم اللدنية وهي علوم الحكمة وبها سمي حكيما لأن كلامه حينئذ كلام نافع لسامعه إلا من أراد الله خذلانه فهذه حقيقة الحكيم ، ثم قال رضي الله عنه :
وَعَـدَتْـنِـي ازْدِيَــارَهُ الْعَـامَ وَجْـنَــا
ءُ وَمَـنَّـتْ بِـوَعْـدِهَــا الْوَجْـنَـــاءُ
قال : وعدتني ازدياره يعني زيارته ، والازديار مصدر زار زيارة وازديار ، قال : وعدتني ازدياره في هذا العام والفاعل بوعدتني هو قوله : وجناء وهي الناقة الشديدة الصلبة المتينة القوة هي الوجناء ، وعدتني الوجناء بزيارته صلى الله عليه وسلم في هذا العام ، وسمي الوعد من الناقة وليست متكلمة لكن وعدها يؤخذ من وجودها وتيسرها حتى صارت في يده مع تيسير الوقت وتهيئة الرفقاء وتهيئ الزاد وفقد العوائق من كل وجه ، فلما كان هذا الحال صار كأن الناقة قالت له : في هذا العام أبلغك زيارته صلى الله عليه وسلم فهذا الوعد الذي ذكره ، قال : بعدما وعدتني منت بوعدها ودخلت بالفعل معي وجدت في السير إليه صلى الله عليه وسلم فهذه هي المنة بالوعد ، ثم قال رضي الله عنه :
أَفَـلاَ أَنْـطَـوِي لَهَـا فِي اقْـتِـضَـائِـي
ـهِ لِـتُـطْـوَى مَا بَـيْـنَـنَـا الأَفْــلاَءُ
قال : حين وعدتني الوجناء بزيارته صلى الله عليه وسلم في هذا العام ومنت بوعدها أفلا أنطوي لها والانطواء هو ضم النفس يعني ضم ثيابه وجميع أموره مساعفا لها في السير إليه صلى الله عليه وسلم معناه : بل انطوى لها يعني أساعفها في السير عليها في اقتضائيه والياء في اقتضائيه ياء المتكلم ما قبل الياء مصدر اقتضى والهاء التي بعد الياء هي عائدة على الوعد التي وعدته الناقة وهو زيارته صلى الله عليه وسلم يعني : أفلا أساعفها في السير في اقتضاء ذلك الوعد ، قوله : لنطوي ما بيننا الأفلاء ، الطي في اللغة هو ضد النشر وهو تصيير المسافة البعيدة قليلة وهو ضد النشر ، لتطوى ما بيننا يعني ما بيني وبينه صلى الله عليه وسلم وهي المسافة التي من مصر إلى المدينة ، والأفلاء جمع فلاة والمراد بالفلاة هي أرض الفيفاء التي عمارة فيها ، ثم قال رضي الله عنه :
أَنْكَـرَتْ مِـصْـرَ فَهْـيَ تَـنْـفِــرُ مَـا لاَ
حَ بِـنَــاءٌ لِـعَـيْـنِـهَـا أَوْ خَـــلاَءُ
قال : لما وعدتني هذه الناقة بزيارته صلى الله عليه وسلم وحثتني على السير إليه صلى الله عليه وسلم أنكرت مصر حينئذ وكرهت المقام بها حتى ساعة واحدة ، فلما أنكرت مصر أنكرت على ما يبدو من مصر وأحوازها ونفرت من جميع ذلك فهي نافرة لكل ما بدا لعينها بناء أو أبنية مصر أو خلاء من أحواز مصر التي لا عمار بها ، ثم قال رضي الله عنه :
بِأَلُـوفِ الْبَطْـحَـاءِ يُـجْـفِـلُهَـا النِّـيـ
ـلُ وَقَـدْ شَـفَّ جَـوْفَـهَـا الإِظْـمَــاءُ
الألوف جمع آلف ، قوله : بألوف البطحاء يجفلها النيل ، ألوف البطحاء هم سكانها الذين اتخذوها موطنا وسكنا والبطحاء هي مكة زادها الله علوا وشرفا ومكانة وتعظيما ، قال : هذه الناقة يجفلها النيل كل ما رأته لشدة شوقها لآلاف البطحاء وشدة نفورها من المقام بمصر فهي لذلك كلما رأت النيل جفلت ، والجفل هو شدة السعي بقوة وسرعة . قوله : وقد شف جوفها الأظماء ، قال : هذه الناقة شف جوفها وحقيقة الشف هو حال يغشى الباطن من رؤية ما يحل بالمرء من البكاء المكروه فيغشى باطنه حال يسمى الشف والمراد به شدة تحركه في زوال ما حل بالمرء إن كانت له قدرة واضطراب الباطن بالبكاء مع انهمار العين بالدمع إن عجز عن زوال ذلك عن المرء فهذا هو الشف ، والشف الذي هنا في الناقة معناه : شف جوفها والأظماء لرؤية تلك المنازل والمعاهد وهي منازله صلى الله عليه وسلم فلذلك الشوق الذي حل بها إلى رؤية تلك المعاهد والمنازل شف جوفها من شدة الشوق فصارت كثيرة الدموع شديدة الحنين إلى إظمائها لرؤية تلك المعاهد والمنازل ، والأظماء هو شدة العطش لأن شدة الشوق إلى شيء مع عدم الاتصال به بمنزلة الظمآن إلى الماء البعيد ، ثم قال رضي الله عنه :
فَـأَفَـضَّـتْ عَـلَـى مُـبَـارِكِـهَـا بِــرْ
كَـتُـهَــا فَـالْبُـوَيْـبُ فَـالْخَـضْــرَاءُ
قال : أفضت على مباركها يعني أنه يصف الناقة لأنها أفضت على مباركها ، ومعنى أفضت ألوت أو عافت يعني : قصدته والمراد بهذه الناقة أنها أفضت على مباركها ، المبارك جمع مبرك وهو الموضوع الذي يحتضن فيه الماء من سيل المطر يسمى الغدير والمبرك ، أخبر أن هذه الناقة في مدة سيرها تقصد مبارك الماء التي فيها ماء من سيل المطر وغيره ثم أخذ يعدد المنازل من مصر إلى مكة فقال : بركتها يعني الدار الأولى من مصر ثم البويبة يسمونها اليوم الدار الحمراء ثم قال : فالخضراء وهي معلومة ، ثم قال رضي الله عنه :
فَـالْقِـبَـابُ التِـي تَـلِـيـهَـا فَـبِـئْـرِ
النَّـخْــلِ وَالرَّكْــبُ قَـائِـلُــونَ رِوَاءُ
وَغَـــدَتْ أَيْـلَــةٌ وَحِـقْــلٌ وَقَـــرٌّ
خَـلْفـَهَــا فَالْمَـغَــارَةُ الْفَـيْـحَــاءُ
فَعُـيُـونُ الأَقْصَـابِ يَتْـبَـعُـهَـا النَّـبْـ
ـكُ وَتَـتْـلُــو كَـفَـافَـةَ الْعَـوْجَــاءُ
حَـاوَرَتْهَـا الْحَـوْرَاءُ شَـوْقـاً فَيُـنْـبُـو
عٌ فَــرَقَّ الْيُـنْـبُــوعُ وَالْحَــــوْرَاءُ
لاَحَ بِـالـدَّهْـنَـوَيْـنِ بَـدْرٌ لَـهَـا بَـعْـ
ـدَ حُـنَـيْــنٍ وَحَـنَّـتِ الصَّـفْـــرَاءُ
وَنَـضَــتْ بَــزْوَةٌ فَـرَابـغُ فَـالْجُـحْـ
ـفَـةُ عَـنْـهَـا مَـا حَـاكَـهُ الإِنْـضَـاءُ
وَأَرَتْـهَــا الْخَـلاَصَ بِـئْــرُ عَـلُــيٍّ
فَـعْـقَـابُ السُّـوَيْـقِ فَـالْخُـلَـصَــاءُ
فَهْـيَ مِنْ مَـاءِ بِئْـرِ عُـسْـفَـانَ أَوْ مِـنْ
بَـطْـنِ مَــرٍّ ظَـمْـآنـةٌ خَـمْـصَــاءُ
قَـرَّبَ الـزَّاهِــرُ الْمَـسَـاجِـدَ مِـنْـهـا
بِـخُـطَـاهَـا فَـالْبُـطْءُ مِـنْـهَـا وَحَـاءُ
هَـــذِهِ عِــدَّةُ الْمَـنَـــازِلِ لاَ مَـــا
عُــدَّ فِـيـهِ السِّـمَــاكُ وَالْعَــــوَّاء
فَـكَـأَنِّــي بِـهَـا أُرَحِّـــلُ مِــنْ مَـ
ـكَّـةَ شَـمْـسـاً سَـمَـاؤُهَـا الْبَـيْـدَاءُ
مَوْضِـعُ الْبَيْـتِ مَهْـبِـطُ الْوَحْـيِ مَـأْوَى
الرُّسْـلِ حَـيْـثُ الأَنْـوَارُ حَيْـثُ الْبَـهَـاءُ
قوله : فكأني بها البيت يعني : لما عده منزل الحجاز التي بين مصر ومكة شبه نفسه كأنه يسير شمسا من مكة إلى مصر وينزل بها منزلا بعد منزل وتلك الشمس متى ضرب المثل بها كأنه يرحل من مكة إلى مصر وسماؤها البيداء ، والبيداء الفيافي المقفرة . قوله : موضع البيت مهبط الوحي الخ ، ثم انتقل يتكلم على مكة ويتغزل بها شوقا وعشقا لما فرغ من ذكر منازل الحجاز قال في تغزله بمكة وعشقه لها : موضع يريد به البيت المحرم وهي الكعبة وموضعها مكة قال : موضع البيت مهبط الوحي بها هبط الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها نبي بها أرسل . قوله : مأوى الرسل حيث الأنوار حيث البهاء وإليها كان يأوون جميع الرسل بالحج والتلبية ، وقد نقل أنه صلى الله عليه وسلم رأى موسى على ناقته الحمراء بالوادي يلي ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عيسى والدجال يطوفون بالبيت ، ثم قال رضي الله عنه :
حَيْـثُ فَـرْضُ الطَّـوَافِ وَالسَّعْـيِ والْحَلـ
ـقِ وَرَمْــيِ الْجِـمَـــارِ وَالإِهْـــدَاءُ
يعني : مكة تشرفت بحيث فرض الطواف فيها وحيث فرض فيها السعي بين الصفا والمروة بها أيضا ورمي الجمار وبها إهداء الهدى وهذا كله شرف لمكة ، ثم قال رضي الله عنه :
حَـبَّـذَا حَـبَّـذَا مَـعَـاهِــدُ مِـنْـهَــا
لَــم يُغَـيِّــرْ آيَـاتِـهِــنَّ الْبَـــلاَءُ
قوله : حبذا كررها للتأكيد ، ومعنى حبذا ما أحب هذا إلى معاهد مكة وهي البيت والمطاف والمسعى بين الصفا والمروة وموقف عرفة ومحط الرحال بالمزدلفة ومراق الدماء بمنى ورمي الجمار بها فهذه هي معاهد مكة ، ثم قال رضي الله عنه :
حَـــرَمٌ آمِــنٌ وَبَـيْــتٌ حَــــرَامٌ
وَمَـقَــامٌ فِـيـهِ الْمُـقَــامُ تَــــلاَءُ
قوله : حرم آمن يعني مكة وبها بيت حرام ، ومعنى البيت الحرام هي التي حرم الله أن تسفك فيها الدماء وأن تسل فيها السلاح وأن تهتك فيها الأعراض وأن تهب فيها الأموال فهذا معنى الحرام . قوله : ومقام فيه المقام يعني : ومكة هي مقام إبراهيم ، ومعنى مقام إبراهيم لما فرغ من بناء البيت صعد على حجر بأمر الله تعالى ونادى بأعلى صوت في الجهات الأربع : أيها الناس كتب عليكم الحج إلى بيت الله الحرام فأجابته بعض الأرواح ولبت وامتنعت بعض الأرواح . تلا يعني جوار بمحل منزلة الرحمة الإلهية وإقالة العثرات ، ثم قال رضي الله عنه:
فَـقَـضَـيْـنَـا بِهَـا مَـنَـاسِـكَ لاَ يُحْـ
ـمَــدُ إِلاَّ فِـي فِـعْـلِـهِـنَّ الْقَـضَــاءُ
قوله : فقضينا أي أدينا بها بمكة وما ينسب لها كعرفة ومزدلفة وأمثالها من مناسك الحج كلها معلومة ، ثم قال رضي الله عنه :
وَرَمَـيْـنَـا بِـهَـا الْفِـجَـاجَ إِلَـى طَـيْـ
ـبَـةَ وَالسَّـيْـرُ بِـالْمَـطَـايَـا رِمَــاءُ
يعني : بعدما فرغنا من مناسك الحج من مكة . قوله : ورمينا بها ، الضمير في بها هي جماعة الإبل المركزية فحين فرغنا من الحج وخرجنا من مكة رمينا بالإبل ، الفجاج جمع فج وهي الأرض المستوية البطيحة المديدة . قوله : إلى طيبة وهي المدينة على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام ، وكان سيرنا بتلك المطايا في فجاج الأرض ، رماه يعني رميا وهو سرعة السير مأخوذة من رميه السهم عن كبد القوس فإنه لا يذهب إلا بسرعة ، ثم قال رضي الله عنه :
فَـأَصَبْـنَـا عَنْ قَـوْسِهَـا غَـرَضَ الْقُـرْ
بِ وَنِـعْـمَ الْخَـبِـيـئَــةُ الْكَـوْمَـــاءُ
لما ذكر سيره إلى المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ذكر شدة سيره وسرعته وتعجل الوصول إليها بسرعة السير شبه ذلك بالسهم المرمى من كبدوس إذا أصاب الغرض وظفر به راميه ، قال : أصبنا بها غرض القرب ، والقرب هاهنا هو قربه صلى الله عليه وسلم فإن قربه هو عين قرب الحق سبحانه وتعالى بكل وجه وبكل اعتبار فلا تصريح في قيام النيابة عن الله تعالى أصرح من حضرته صلى الله عليه وسلم فإن قربه عين الحق سبحانه وتعالى وأن حضرته هي عين حضرة الله تعالى وإن كانت بطريق النيابة فإنها أكبر التصاريح العينية إذ ليس فوق حضرته صلى الله عليه وسلم حضرة لله خاصة به إلا حضرة الطمس والعمى التي تقطعت فيها الفهوم والأوهام ومحقت فيها الإشارات والعبارات وتدكدكت إدراكات العقول وتمزقت وتشتت فلا علم ولا رسم ولا توهم ولا فهم ولا كيف ولا أين ولا حس إلا الذات بالذات في الذات عن الذات فانمحت فيه جميع آثار الغير والغيرية ولم يبق إلا الله وحده ، وهذه الحضرة انقطعت الطرق إليها عن جميع الخلق فلا سبيل لأحد إليها وليس لأحد الوصول إلى حضرة الله تعالى إلا في حضرة النيابة وأكبر حضرة النيابة حضرته صلى الله عليه وسلم لأنه نائب عن الله بكل وجه وبكل اعتبار بتصريح قوله سبحانه وتعالى : {من يطع الرسول فقد أطاع الله} [النساء : 80] ومعنى ذلك محبة وانقطاعا وتوسلا واعتمادا وانجياشا وأضدادها كفرا وبغضا وعداوة وإرادة شر فكل شيء من ذلك صدر من فاعله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقد صدر منه إلى الله تعالى من كل وجه وبكل اعتبار فليس لأحد من جميع الخلق اتصال بالله تعالى إلا في حضرات النيابة وأكبرها حضرته صلى الله عليه وسلم فإنها كادت أن تكون عين العين ، وأما حضرته جل جلاله التي لا وجود فيها للغير وللغيرية فلا مطمع لأحد في الوصول إليها من الأزل إلى الأبد ، قال الشبلي رضي الله عنه وقد سمع منشدا ينشد :
أسائل عن سلمى فهل من مخبر يكون له علم بها أين تنزل
فقال الشبلي : لا والله ما عنه من مخبر لا في الدنيا ولا في الآخرة ، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى : {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم} [الفتح : 10] الآية .
قوله : الخبيئة الكوماء ، الخبيئة الذخيرة وهو الأمر المحبوب لعزته ، الكوماء هي الناقة السمينة العظيمة جدا عند العرب ، والكوم في اللغة هو ما عظم وارتفع وعلامته ما في الخبر لما أراد الله خلق السماوات والأرض أمر الماء فاضطربت أمواجه ألف حقب إلى آخر الأمر
فاجتمع في هذه المدة فوق الماء كوم من الزبد يعني ذلك الزبد علا وعظم وارتفع لكثرته وكان في موضع الكعبة اليوم إلى آخره ، الشاهد منه هو أن الكوم ما عظم وعلا وارتفع به ، وسميت الناقة السمينة جدا كوماء ، ثم قال رضي الله عنه :
فَـرَأَيْـنَـا أَرْضَ الْحَـبِـيـبَ يَـغُــضُّ
الطَّـرْفَ مِـنْـهَـا الضِّـيَــاءُ والـلّألاَءُ
قال : حين وصل إلى المدينة على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام يغض الطرف منها يعني يغمضه منها أي من أرض الحبيب وهي المدينة لكثرة ما علاها من الضياء والأنوار فخشي على بصره من كثرة ضيائها ولألأتها ، واللألاء البروق ، ثم قال رضي الله عنه :
فَـكَـأَنَّ الْبَـيْـدَاءَ مِـنْ حَـيْـثُ مَـا قَـا
بَـلَــتِ الْعَـيْــنُ رَوْضَــةٌ غَـنَّــاءُ
وفي سيره إلى المدينة أو في مدة وقوفه في المدينة من كثرة ما غشي قلبه من الفرح والسرور والابتهاج بحضرته صلى الله عليه وسلم حيث ما نظر لم ير إلا فرحا وسرورا قال في ذلك : وكان البيداء من حيث ما قابلت العين روضة غناء ، والروضة الغناء هي الكثيرة الأزهار مختلفة الألوان الوافرة الخصب ، ثم قال رضي الله عنه :
وَكَــأَنَّ الْبِـقَــاعَ ذُرَّتْ عَـلَـيْـهَـــا
طَـرَفَـيْـهَــا مُـــلاَءةٌ حَـمْـــرَاءُ
يعني : كأن بقاع الأرض من كثرة أزهارها وأنوارها ووفور خصبها واختلاف ألوان أزهارها كأنها زرت عليها طرفيها ملاءة حمراء ، والملاءة معلومة ، ثم قال رضي الله عنه:
وَكَـأَنَّ الأَرْجَـاءَ يَـنْـشُـرُ نَـشْـرَ الْــ
ـمِـسْـكِ فِيهَـا الْجَنُـوبُ وَالْجِـرْبِـيَـاءُ
قال : كأن الأرجاء ، والأرجاء هي نواحي المدينة المشرفة على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام . قوله : تنشر نشر المسك يعني : كأن أرجاء المدينة تنشر الرياح فيها نشر المسك ، ونشر المسك هي عطرية وهي الرائحة الزكية وعبر عن الرياح بالجنوب والجربياء ، الجنوب هي التي تأتي من ناحية القبلة والجنوب من أحد الرياح الأربعة وتعتبر بالكعبة ، فما قابل الباب منها سميت ريح الصبا لأنها تهب في باب الكعبة ، وما كان من دبر الكعبة سميت الدبور ، ما كان عن يمين الكعبة فالرياح التي تهب منه تسمى جنوبا وهي التي تهب فيما بين الركنين ، الركن الأسود والركن اليماني ، والرياح التي تهب في الحجر تسمى الشمال التي تهب بين الأقطار ، فما كان بين الصبا والشمال تسمى الهيفاء ، وقوله : والجربياء قيل إنها هي الشمال وقيل هي الهيفاء ، ثم قال رضي الله عنه :
فَــإِذَا شِـمْـتَ أَوْ شَـمَـمْـتَ رُبَـاهَــا
لاَحَ مِـنـْهَـا بَــرْقٌ وَفَـاحَ كِـبَـــاءُ
يعني : إذا شمت ربا المدينة ، والربا جمع ربوة وهي ما ارتفع من الأرض ، وغلظ قوله : أو شممت رباها لاح أي ظهر منها إلى تلك البقاع برق والمراد بها فيوض الأنوار العيانية ، قوله : وفاح كباء ، الكباء جمع كبوة وهو كل ما له عطرية ذكية هو الكباء ، ثم قال رضي الله عنه :
أَيُّ نُــــورٍ وَأَيَّ نَـــوْرٍ شَـهِـدْنَــا
يَــوْمَ أَبْـدَتْ لَـنَـا الْقِـبَـابَ قُـبَــاءُ
ثم أخذ يتهيج عن طريق التعجب ويبدي فرحا وسرورا وابتهاجا وحبورا ، قال : أي نور شهدناه والنور هو النور اللائح مثل نور البرق ، والنوْر جمع نوراة وهي واحدة الأزهار التي في رأس القضيب من الخصب واحدتها نوراة والجمع نور ، والنور هاهنا في اللغة هو مصدر نورا إذا انفتحت أزهار الأكمام على كثرتها وظهرت في بيئتها مثل البرق سميت نورا ، قال : أي نور شهدناه يعني : ما أعظم ذلك الأمر وما أفخمه وما أجله وما أكمله وما ألذه للناظرين وهي الأنوار الفائضة ، وقوله : وأي نور يعني النورات التي ظهرت على جميع بقاع الأرض ، قال : أي نور شهدناه منها وهي الابتهاج والفرح والسرور والتعجب منها مثلما مضى في الأنوار قبله يوم أبدت لنا القباب قباء يعني : يوم أبدت لنا القباب قباء شهدنا منها تلك الأنوار وتلك النورات ، والقباب جمع قبة وهي القباب التي بالبقيع ابتهج بها وفرح بها لأنها مجاورة لمنازله صلى الله عليه وسلم ، وقباء مكان خارج عن المدينة قريبا منها إذا وصله السائر إلى المدينة تبدت له قباب البقيع ، وقباء هي الموضع التي ذكر الله فيها المسجد الذي أسس على التقوى بقوله سبحانه وتعالى : {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم} [التوبة : 108] الآية ، ثم قال رضي الله عنه :
قَـرَّ مِنْهَـا دَمْـعِـي وَفَـرَّ اصْـطِـبَـارِي
فَـدُمُـوعِي سَـيْـلٌ وَصَـبْـرِي جُـفَـاءُ
يعني : قرأ كثير وانهمل قوله منها أي من أجل ما شهدته حسرة على ما مضى له من فراقه أو فرحا بالوصول إليه أو خوفا من التقصير لعدم رعاية الأدب في تلك الحضرة الجليلة ، قوله : وفر اصطباري ذهب وانقطع ، قال الجوهري رضي الله عنه حين رأى منازل المدينة وقد كان سائرا إليها قال :
لما رأينا رسم من لم يدع لنا فؤادا لعرفان الرسوم ولا ليا
نزلنا عن الأكوان نمشي كرامة لمن قد رأينا أن نلم به ركبا
يعني : تعظيما وإجلالا له عن أن نلم به ركبا ، وقال بعض الأكابر حين رأى منازل المدينة :
رفع الحجاب لنا فلاح لناظري قمر تقطع دونه الأوهام
وإذا لمطى بنا بلغن محمدا فظهورهن على الرجال حرام
بلغتنا من خير من وطئ الثرى فلها علينا حرمة وزمام
قوله : فدموعي سيل وصبري جفاء يعني : دموعه دائمة الانهمار لا تنقطع ، وصبر جفاء يعني : يجف {وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} [الرعد : 17] وهو الماء ، ثم قال رضي الله عنه :
فَتَـرَى الرَّكْـبَ طَـائِـرِيـنَ مِـنَ الشَّـوْ
قِ إِلَـى طَـيْـبَــةٍ لَـهُـمْ ضَـوْضَــاءُ
يعني : ترى الركب ، والركب إما اسم جنس أو اسم جمع واحده راكب والجمع ركب ، قال : حين تبدت لهم المدينة ترى الركب في شدة سرعة سيرهم كأنهم طائرون في حالة سرعة سيرهم إلى المدينة لهم ضوضاء كثرة علو الأصوات يعني : لهم أصوات عالية من شدة الشوق والفرح والسرور ، والفرق بين الفرح والسرور ، أما السرور هو ما يغشى الإنسان بالبديهة من أمر عظيم يلائم غرضه فما كان بالبديهة هو السرور وما انتشر منه في أجزاء ذاته وظاهرا وباطنا واستقر هو الفرح ، ثم قال رضي الله عنه :
<< الصفحة الثامنة
الصفحة العاشرة >>