نفحات7 ـ الإرشادات الربّانيّة ـ الصفحة الرابعة
الرّئيسيـة > مكتبـة على الخـطّ > الإرشادات الربّانيّة ـ الفهـرس > الصفحة الرابعة


زَاخِـرَاتِ  البِـحَـارِ تَـعْـجَـزُ عَــنْ إِدْ
رَاكِـهَــا  الْعُـلَـمَــاءُ وَالْحُـكَـمَــاءُ
رُتَـبٌ تَـسْـقُـطُ الأَمَـانِـيُّ  حَـسْــرَى
دُونَـهَــــا مَــا وَرَاءَهُــــنَّ وَرَاءُ

قال : وتلك السيادة القعساء لا يقدر أحد أن يتقدّم إليها ، أيّ إلى تلك المرتبة لعلوّها وشرفها ، فقال : رُتَبٌ تسقط الأمانيّ حسرى ... البيت ، معناه أخبر أنّ تلك الرتب وهي مجامع رتبته صلّى الله عليه وسلّم بالأصالة تسقط الأمانيّ دونها حسرى ، والأمانيّ جمْع أمنية ، وهي ما يتمنّاه القاصد والطالب وهو الذي يتعلق به باطنه ، فما تحرّك الإنسان إلاّ على قصد باطنا ، قال : أخبر أنّ تلك الرتب تسقط الأمانيّ دونها ، لا يقدر أحد من الطالبين أن يروم تلك الرتب لعلوّها وصعوبة مسلكها ، لا مطمع فيها لملَك مقرّب ولا نبيّ مرسل ، فغيرهم من باب أوْلى وأحرى ، فلذلك قال : " حسرى " جمْع حسير ، والحسير هو الذي يروم أمرا فيجد موانع دونه كالأسوار والأبواب المغلقة فلا يجد مسلكا . قال : آمال جميع الطالبين والقاصدين تسقط دون تلك الرتبة وتسقط حسرى ، وتلك الرتبة هي تجلّي الذات المقدّسة حيث ما هي هي ، وقد فاز بها صلّى الله عليه وسلّم وحده بلا مشاركة ، فإنّ الذات العليّة العظيمة الجليلة المقدّسة هي غاية الغايات لجميع الطالبين والقاصدين ، وقد حرمها سبحانه وتعالى على جميع خلقه أن يرومها أحد غير نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم ، جعلَه صاحبها والفائز بها ، فلهذا قال : ما وراءهن وراء ، لأنّها جعل دونها حجبا لا يمكن خرقها . فلو تمزّقت تلك الحجب حتّى أبصرها مَن أبصرها من الوجود لصار محض العدم في أسرع من طرفة العين ، كما قال في الحديث : « حجابه النور لو كشف لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه » ، وكما في الآية حيث قال سيّدنا موسى عليه السلام : رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي [ الأعراف : 143 ] ، ثمّ استدركه : وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا [ الأعراف : 143 ] الآية . وفي بعض الأخبار : أنّ الجبل تقطع سبعين قطعة من هيبة الله تعالى ، ثمّ خلق الله كلّ قطعة شخصا يقول : رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وموسى ينظر فقال : " أتظنّ أنّك مشتاق إليّ وحدك ؟ " ، فإن الشوق إلى الحضرة جاذب إلى الذات لجميع الوجود ، يعني جذبا ذاتيّا لا يمكن انفكاكه ولكن الله منعهم . فقد رُوِي عن أبي يزيد البسطامي رضي الله عنه أنّه كان يطلب الخلوة عند الكعبة وحده في وقت لا يكون فيه غيره كي يقع له ذلك التجلّي ، يعني تجلّي الذات ، قال : رصدته مدّة فلم أجد إليه سبيلا ، قال : بقيت حتّى كانت ليلة مفرطة البرد غزيرة الأمطار متواصلة ، قال : فقلت : لا أظفر بالخلوة في الكعبة إلاّ في هذه الساعة ، فأتيتها مسرعا ، قال : فلما وصلت الكعبة والأمر على حاله قال : وحين وصولي إليها قابلني فيها سبعون من العارفين من جميع البلدان ، فقلت لهم : " ما شأنكم ؟ " ، فقال كلّ واحد : " طمعنا فيما طمعتَ فيه " ، فكان عندهم في ذلك الحال ، يعني قد وجد الخلوة فيها حتّى كان وحده ، فكلّ ما أصابه يجده وكان بمنزلة التجلّي الذاتيّ عندهم .
ثمّ قال رضي الله عنه :
ثُـمَّ وَافَــى يُـحَــدِّثُ الّنَّـاسَ شُـكْـراً
إِِذْ أَتَـتْــهُ مِـنْ رَبّــهِ  النَّـعْـمَـــاءُ

ثمّ بعد آياته صلّى الله عليه وسلّم حين أصبح من ليلته أصبح يحدّث الناس شكرا ممّا أعطاه ربّه وما منّ به عليه ، والنعماء هي النعمة وهي العطيّة المصونة التي أتت بما لا غاية له من وجوه التحف والعطايا ، فهي هذه النعمة أصبح يحدّث الناس شكرا بما أعطاه ربّه في تلك الليلة .
ثمّ قال رضي الله عنه :
وَتـَحَــدَّى  فَـارْتَــابَ كُـلُّ مُـرِيــبٍ
أَوَ يَـبْـقَــى مَـعَ السُّـيُـولِ الْغُـثَــاءُ

قال : وتحدّى ، معناه أظهره في الناس جهارا ، والتحدّي بالشيء هو التظاهر به ، تحدّى صلّى الله عليه وسلّم في هذه الليلة ، فلمّا تحدّى بذلك وارتاب كلّ مُريب حتّى ارتدّ كثير من المسلمين ، إذ كلّ مَن كان في قلبه قليل من الإيمان ارتاب وارتدّ ، أعاذنا الله من بلائه .
قال : أوَيبقى مع السيول الغثاء ؟ أخبر أنّ الرؤية التي رآها في تلك الليلة بمنزلة السيل القويّ ، ومعلوم أنّ السيل القويّ لا يثبت معه الغثاء ، شبّه الأيمان الحاصل لأهل الإيمان الضعيف شبهّه بالغثاء ، والغثاء هو ما لا قرار له ، مهما أقنى عليه السيل ذهب ، وشبّه الرؤية الحاصلة في تلك الليلة بالسيل القويّ ورَدَ على إيمانهم الضعيف فذهب به يعني بإيمانهم وكفروا ، يقول فيها سبحانه وتعالى : وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [ الإسراء : 60 ] . تثبت على الإيمان من كان قويّ الإيمان ، وزوال الإيمان وكفر من كان ضعيف الإيمان . فقد رُوي أنّهم لمّا سمعوا الحديث بها صباحا وقع بمكّة اضطراب شديد وتسابق بعض المشركين إلى دار أبي بكر وأخبروه بما قال مكذّبين له ، وطلبوا منه أن يستردّوا أبا بكر حتّى استردوا كثيرا من المؤمنين وأكثروا عليه من اللغط بقولهم له : " هذا الذي تزعم أنّه كذا وكذا " ، فقال لهم رضي الله عنه : " إنْ قال ذلك فقد صدَق " ، وقطع ظنّهم ، أو يبقى مع السيول الغثاء .
ثمّ قال رضي الله عنه :
وَهْـوَ  يَـدْعُــو إلـى الإِلَــهِ وَإنْ شَــ
ـقَّ عَـلَـيْــهِ كُـفْــرٌ بِـــهِ وَازْدِرَاءُ

يعني : حين أخبرهم ووقع منهم هذا الأمر ما كفّ عن دعوتهم إلى الله تعالى ولا ردّه عنهم كفرهم وازدراؤهم به صلّى الله عليه وسلّم ، والكفر والازدراء شاقّ في النفس على صاحبه ولكن يدعو إلى الله تعالى لا إلى نفسه ، فما أوقعوه من الكفر والازدراء به صلّى الله عليه وسلّم لم يردّه عن دعوتهم إلى الله تعالى ، بل قاسى الشدائد والمحن في دعوة الخلق إلى الله تعالى .
ثمّ قال رضي الله عنه :
وَيَــدُلُّ  الْـوَرَى عَلَـى اللــهِ بِـالتّــوْ
ـحِـيـدِ وَهْـوَ الْمَـحَـجَّـةُ الْبَـيْـضَـاءُ

قوله : ويدلّ الورى على الله ، يدلّهم عليه ألاّ يعبدوا إلاّ هو ، ولا يتّكلوا إلاّ عليه ، ولا يعوّلوا إلاّ عليه ، فهذه الدلالة على الله ، ينبذ كلّ ما سواه .
قوله بالتوحيد يعني : أشهد أن لا إله إلاّ الله ، والإله هاهنا هو المعبود بالحقّ ، فهذا هو التوحيد ، يعني كلمة الشهادة ، وأنْ يعبدوه على الوجه بأنّه لا إله إلاّ هو وحده ، كما قال سبحانه وتعالى : وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ [ البينة : 5 ] ، فدلّ الخلق على الله بطريق التوحيد أن يعبدوه وحده ويتبرّؤوا من كلّ ما عُبد من دونه ، فهذا هو التوحيد ، وهو المحجّة البيضاء التي هي طريق أهل السعادة ، فإنّ مَن لم يتعلّق بهذا التوحيد الذي جاء به صلّى الله عليه وسلّم وجاء به جميع الرسل لا حَظّ له في السعادة . وقد ورد في الخبر أنّ الله تعالى يقيم الكافر بين يديه ، بعد أن يعلم أنّه ممّن يخلّد في النار ، يقعد بين يديه قبل أن يدخل النار فيقول له سبحانه وتعالى : " أرأيت لو كان لك ملئ الأرض ذهبا أكنت تفتدي به من النار ؟ " ، فيقول الكافر : " نعم " ، فيقول الله له سبحانه وتعالى : " قد طلبت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم ، أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلاّ أن تشرك بي شيئا " ، ثمّ يأمر به إلى النار . وقد قال صلّى الله عليه وسلّم : « كُلُّكُم يدخل الجنّة إلاّ مَن أبى قالوا ومن يأبى يا رسول الله قال من أبى أن يقول لا إله إلاّ الله » .
ثمّ قال رضي الله عنه :
فَـبِـمَــا رَحْـمَــةٍ مِـنَ اللـه لاَنَــتِْ
صَـخْــرَةٌ مِـنْ إِبَـائِـهِــمْ صَـمَّــاءُ

قال : تَصَامُّهُم أوّلا كان على الكفر والطغيان حين دعاهم إلى الله أوّلا فلم يستجيبوا ، ثمّ أنزل الله سبحانه بهم رحمته في قلوبهم فاستجابوا لأمر الله وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم ولانت قلوبهم بتلك الرحمة بعد قساوة قلوبهم نزل ذلك بمنزلة الصخور الصُمّ ، ثمّ أنزل سبحانه وتعالى رحمته في قلوبهم بعد قساوتها فاستجابوا لله وللرسول .
ثمّ قال رضي الله عنه :
وَاسْـتَـجَـابَـتْ لَـهُ بِـنَـصْـرٍ وَفَـتْـحٍ
بَـعْــدَ  ذَاكَ الْخَـضْــرَاءُ وَالْغَـبْــرَاءُ

قال : بعد أن كانوا بمنزلة الصخور الصُمّ بالإباية عن أمر الله تعالى والإدبار عنه ، وفي الإقامة على الكفر ، ثمّ بعد ذلك استجابوا لله والرسول بنصر وفتح ، والنصر والفتح هاهنا سببان بذلك النصر والفتح فاستجابوا لأمره . والفتح فتح مكّة ، وظهور النصر ما أوقعه بعدها بهوازن وكانوا من أعظم قبائل العرب قوّة وبأسا ، فلمّا قاتلهم ونصره الله عليهم وسبى نساءهم وأموالهم وأولادهم فاستلب جميعهم فعملت الوقعة في قلوب العرب رعبا عظيما إذ كانوا قبل ذلك يتربّصون ما يكون بينه وبين قريش ، إنْ غلبوه قاموا على كفرهم به ، وإن غلبهم وأذلّهم تابعوه على أمره خوفا منه صلّى الله عليه وسلّم . فلمّا دخل مكّة قهرا وفتحها عنوة واستذلّ قريشا واستعبدها حتّى صاروا تحت حكمه يقتل من شاء ويترك من شاء ، ثمّ زاد وقعة هوازن بعدها واستذلّهم واستعبدهم وباع نسائهم وأولادهم جهارا ، هابتْه العرب ووقع الرعب في قلوبهم فجعلت تأتيه أرسالا لتسلم وتتبعه على أمره ، فذلك قوله سبحانه وتعالى : إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا [ النصر : 1 ، 2 ] .
قوله : الخضراء والغبراء ، والخضراء هي الأرض المخصبة ، والغبراء التي ليس فيها إلاّ التراب ، والمراد بهما كافّة العرب ، واستجابت لطاعته أخيارهم وأشرارهم ، من كان فيه رأي صالح وحياء وأدب وميل إلى مكارم الأخلاق فَهُمْ بمنزلة الأرض المخصبة ، واستجابت لطاعته أشرارهم ممّن كان لا يقدر على فعل شرّ إلاّ فعَله لا يلوي على الخير أبدا فاستجاب لطاعته قهرا وخوفا ، وفي هذا الأخيار والأشرار أنزل سبحانه وتعالى الآية بقوله : وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ [ التوبة : 99 ] الآية . قال : فاستجابت له بنصر وفتح الخضراء والغبراء .
ثمّ قال رضي الله عنه :
وَأَطَــاعَــتْ لأَمْــرِهِ الْعَــرَبُ الْعَــرْ
ـبَــاءُ والْجَـاهِـلِـيَّـــةُ الجَـهْــلاَءُ

قال : بسبب ذلك الفتح والنصر أطاعت لأمره العرب العرباء ، يعني التي لا عجمة فيهم ، والجاهليّة الجهلاء ، أطاعوه لأمره خوفا وقهرا .
ثمّ قال رضي الله عنه :
وَتَـوَالَـتْ لِلْمُـصْـطَـفَـى الآيَـةُ الْكُـبْـ
ـرَى عَـلَـيْـهِـمْ وَالْغَـارَةُ الشَّـعْــوَاءُ

ثمّ قال : بعد النصر والفتح توالت له صلّى الله عليه وسلّم الآية الكبرى وهو النصر الذي وعده الله به ، قال سبحانه وتعالى : إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا إلى قوله : وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا [ الفتح : 1 ـ 3 ] يعني لا يلحقه ذلّ صلّى الله عليه وسلّم ، فذلك النصر هو الآية الكبرى التي توالت على المشركين متتابعا ، قال سبحانه وتعالى : وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [ الصافات : 171 ـ 173 ] وقال سبحانه وتعالى : كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [ المجادلة : 21 ] . فهذه الآية الكبرى التي توالت على المشركين وهو النصر المتتابع فأطاعوا أمره خوفا وقهرا صلّى الله عليه وسلّم .
قوله : والغارة الشعواء ، والشعواء هي كثرة الصياح والنياح ، تُسَمَّى غارة شعواء .
ثمّ قال رضي الله عنه :
وَإِذَا  مَــا تَــلاَ كِـتَـابــاً مِـنَ اللــ
ـهِ تَـلَـتْــهُ كَـتِـيـبَـةٌ  خَـضْــرَاءُ

أخبر عن حاله صلّى الله عليه وسلّم بنزول القرآن ، قال : إذا ما تلا ، أيّ قرأه عليهم ، وذلك عند نزول الوحي يتلوه تأخذه عليه كتيبة خضراء ، والكتيبة هي الجماعة الكثيرة ، والخضراء : مخضرّة الجنان ، بمتابعتهم لأمر الله تعالى واستجابتهم إليه صار جنانهم مخضرّا بمنزلة البسيطة الخضراء التي فيها نبات كثير وثمار كثير يقع الزهو للرائي بنفس رؤيته . والمراد بالكتيبة الخضراء هُمُ الصحابة رضوان الله عليهم الذين وفّوا بحقّ الله تعالى وانقطعوا إليه ، يعني ذلك الكتاب الذي تلاه عليهم عند نزوله تتلوه كتيبة خضراء بالتلقّي منه صلّى الله عليه وسلّم .
ثمّ قال رضي الله عنه :
وَكَفَـاهُ  الْمُـسْـتَـهْـزِئِـيـنَ وَكَـمْ سَـا
ءَ نَـبِـيّـاً مِـنْ قَـوْمِـهِ  اسْـتِـهْــزَاءُ

وكفاه المستهزئين : الذين كانوا يستهزئون به صلّى الله عليه وسلّم وهم خمسة ، وَهُمْ : الوليد بن المغيرة المخزوميّ ، والأسود بن يغوث الزهريّ ، والأسود بن المطلب من بني أسد بن عبد العُزّى ، والعاصي بن وائل السهميّ لعنه الله ، والحارث بن الطلاطلة الخزاعيّ .
قال : كفى الله أمرهم بقوله سبحانه وتعالى : إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [ الحجر : 95 ] ، ثمّ عطف عليه وقال : وكم ساء نبيّا من قومه استهزاء ، يعني كلّ الرسل سلّط الله عليهم من يستهزئ بهم .
ثمّ قال رضي الله عنه :
وَرَمَـاهُــمْ بِـدَعْــوَةٍ مِـنْ  فِـنَـــاءِ
الْبَـيْـتِ  فِـيـهَـا لِلظَّـالِمِـيـنَ فَـنَـاءُ

إنّ هؤلاء المستهزئين رماهم صلّى الله عليه وسلّم بدعوة من فِناء البيت ، وفِناء البيت هو ما جاوره من أرض ، قال : فرماهم بدعوة من فناء البيت في تلك الدعوة فيها للظالمين فناء .
ثمّ قال رضي الله عنه :
خَـمْـسَـةٌ  كُـلُّهُـمْ أُصِـيـبُـوا بِــدَاءٍ
والـــرَّدَى مِــنْ جُـنُــــودِهِ الأَدْوَاءُ

والردى هو الهلاك الأبديّ ، ومِن جنود الردى الأدواء ، جمْع داءٍ ، والمراد بالداء هنا هو الداء المعضل الذي لا دواء له .
ثمّ قال رضي الله عنه :
فَـدَهَـى الأَسْــوَدَ بــنَ مُـطَّـلِــبٍ أَيُّ
عَـمــىً مَـيِّــتٌ بِـهِ  الأَحْـيَــــاءُ

دعا عليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يعمى بصره وأن يثكله ولده .
ثمّ قال رضي الله عنه :
وَدَهَــى الأَسْــوَدَ بْـنَ عَـبْـدِ يَـغُـوثٍ
أَنْ سَـقَـاهُ كَـأْسَ الـرَّدَى اسْـتِـسْـقَـاءُ

ورد أنّه كان عند البيت صلّى الله عليه وسلّم وجبريل معه ، فمرّ به الأسود بن عبد يغوث ، فقال له : " هذا من المستهزئين " ، فأشار جبريل عليه السلام إلى بطنه فأصابه الاستسقاء ، فعالجه وقاسى به الشدائد أعاذنا الله من بلائه .
ثمّ قال رضي الله عنه :
وَأصَــابَ الْـوَلِـيـدَ خَـدْشَـةُ سَـهْــمٍ
قَـصَّـرَتْ عَنْـهَـا الْحَـيَّـةُ الـرَّقْـطَـاءُ

وأمّا الوليد بن المغيرة خدشه سهم ، يعني رشقه سهم في رجله فقامت له الأكلة ودامت دواما لا يقوم السموم مقامها ، لعنه الله وغضب عليه .
ثمّ قال رضي الله عنه :
وَقَـضَـتْ شَـوْكَـةٌ عَلَـى مُهْـجَـةِ الْعَـا
ـصِـي فَـلِـلَّـهِ النَّـقْـعَـةُ  الشَّـوْكَـاءُ

لله درّ هذه الشوكة التي جاهدت فيه جهادا كثيرا في سبيل الله .
ثمّ قال رضي الله عنه :
وعَلَـى الحــارِثِ الْقُـيُـوحُ وَقَـدْ سَــا
ـلَ بِـهَــا رَأْسُـهُ وَسَــاءَ الْـوِعَــاءُ
خَـمْـسَـةٌ  طُـهِـرَتْ بِقَـطْـعِـهِـمُ الأَرْ
ـضُ فَـكَــفُّ الأَذَى بِـهِـمْ شَــــلاَّءُ

فكفّ ، يعني يد الأذى بإذايتها لهذه الخمسة كانت يد الأذى بهم شلاّء ، والشلاّء هي الساقطة .
ثمّ قال رضي الله عنه :
فُـدِيَـتْ خَمْـسَـةُ الَّصّحِيـفَـةِ بِـالْخَـمْـ
ـةِ إِنْ كَــانَ لِـلْـكِـــرَامِ  فِــــدَاءُ

خمسة الصحيفة هُمْ سعوْا في فعْلِهم ، وكان من حديث الصحيفة أنّ قريشا لمّا عجزت عن قتله صلّى الله عليه وسلّم لمّا حماه الله بعمّه أبي طالب ولم ينالوا منه شيئا ، تداعوا يوما وقالوا : أما إذا منعت بنو هاشم من أخاهم تعالوا نكتب كتابا نتحالف فيه عند الكعبة لا نبتاع منهم شيئا ولا نبيع منهم شيئا ، ولا يسافرون معنا ولا نسافر معهم ، ولا ينكحون منّا ولا ننكح منهم . ثمّ تحالفوا على هذا عند الكعبة وكتبوا على هذا كتابا سمّوه الصحيفة وجعلوه في جوف الكعبة . فلمّا كتبوا هذا خرجت عنهم بنو المطّلب وانضافوا إلى بني هاشم ، وخرج من بني هاشم إلى قريش في هذه العداوة أبو لهب . فمكثوا على هذا الحال سنتين وجهد الحال بني هاشم . وكان الذي تحرّك في نقض الصحيفة هشام من بني عامر بن لؤيّ ، وكان محبّا في بني هاشم ، وهو ابن أخي فضلة بن هاشم لأبيه ، فجاء إلى زيد بن أبي أميّة بن المغيرة ، قولهم أخواله ، يعني هاشم ، فقال له هشام : " ويحك يا زيد أرضيت لهلاك أخوالك وساعفت قريشا على هذا ؟ فأحلف بالله أنْ لو كانوا أخوال الحكم بن هشام ثمّ دعوته إلى مثل ما دعاك ما أجابك في ذلك ولا ساعدك عليه وأنت ساعدته في أخوالك " ، قال له : " يا هشام وما أصنع أنا وحدي في قريش ، تظاهرت قريش لها هذا فما أصنع وحدي ؟ " ، قال له : " أرأيت إن وجدت رجلا من أشراف قريش قمت في نقضها ؟ "، فجاء هشام إلى المطعم بن عديّ وكان من رؤوس بني عبد مناف فكلّمه في هذا ، وقال له : " أرضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف وأنت شاهد على هذا وساعفت وليس ساعدت قريشا على هذا بعد هذا لنجدتهم إليها منكم سراعا ؟ " ، قال له : " ويحك أنا وحدي " ، قال له : " أرأيت إن وجدت معك رجلا من أشراف قريش أتقدم في نقض الصحيفة ؟ " ، قال له : " إن وجدت معي رجلا من أشراف قريش قمت في نقضها " ، قال له : " قد وجدته " ، قال : " من هو ؟ " ، قال : " زهير بن أميّة " ، قال مطعم : " نعم أبْغِنَا ثالثا " ، ، قال له : " سأجده " . فذهب إلى أبي البحتريّ بن هاشم ، وكان من أعظم أشراف قريش لكنّه كان محبّا في بني هشام ، فذهب إليه هشام وكلّمه في ذلك ، قال له : " لو معي معينا ما تركتهم يفعلون ذلك " ، فقال له : " أرأيت لو وجدت معك رجلا يقوم نقضها أتقوم في نقضها ؟ " ، قال له : " نعم " ، قال : " قد وجدته " ، قال له : " من هو ؟ " ، قال له : " اثنان ، المطعم بن عديّ وزهير بن أميّة " ، قال له أبو البحتري : " أبْغِنَا رابعا " ، قال له : " سوف أجده "، فذهب إلى زمعة بن الأسود ، وكان من أعظم أشراف قريش ، فكلّمه في هذا ، فقال له : " لا أطيق الأمر وحدي " ، قال : " إن وجدت مُعِينا معك أتقدم له " ، قال : " نعم " ، قال له : " وجدت لك أربعة ، أبو البحتري بن هشام وزهير بن هشام وزهير بن أبي أميّة والمطعم بن عديّ " ، قال له : " نعم هذا " ، ثمّ قال : " أقدم إليهم واجعل الوعد بيننا وبينهم في الحجون ليلا " . فواعد بينهم وتوافوا بالحجون وتواثقوا على هذا ، وقال : أصبحوا في أول الصبيحة عند الكعبة ، فقال لهم زهير : " أنا أبدؤكم بالكلام وتابعوني أنتم " . فلمّا كان الصباح ، وكمل جمع قريش عند الكعبة فقام زهير فقال : " يا معشر قريش ، إنّا نأكل الطعام وننكح النساء وبنو هاشم هلكى لا يبايعون ولا يبتاع منهم ، والله لا قمنا من هذا المجلس حتّى نشقّ هذه الصحيفة الضالّة . فقام إليه أبو الحكم بن هشام - ابن عمّه - فقال له : " كذبت " ، فقام إليه المطعم بن عديّ ، فقال : " أنت والله أكذب ، رضينا كتابتها حين كتبت ، والله لأقمنا من مقامنا هذا حتّى نشقّ هذه الصحيفة الضالّة " . فقام أبو البحتريّ بن هشام فقال : " صدقت والله وكذب من زعم غير ذلك ، والله لا قمنا حتّى نشقّ هذه الصحيفة الضالّة " . فقام زمعة بن الأسود وقال : " صدقتم والله كذب من زعم غير هذا ، والله لا قمنا حتّى نشقّ هذه الصحيفة الضالّة " . وقام هشام فقال مثل ذلك ، فلم تجد قريش بدّا من مساعفتهم ، فقال أبو الحكم بن هشام : " أمر أبرم بليل ، تشاورتم به بغير هذا المكان " ، ثم دعوا عثمان بن طلحة ، وكان في يديه مفتاح للكعبة ، فأمروه أن يأتي بالمفتاح ويفتح الكعبة ، ففتح الكعبة وأخرجها لهم ومزّقوها وقريش ينظرون ، فانحطّ عن بني هاشم ما كان عليهم من الضيق . فهؤلاء الخمسة فداهم الله بالخمسة المستهزئين . والمستهزئون الخمسة كانوا فداء من الشرّ كأصحاب الصحيفة الخمسة إن كان للكرام فداء ، فأصحاب الصحيفة كرماء فداهم الله بالخمسة المستهزئين من الشرّ .
ثمّ قال رضي الله عنه :
فِـتْـيَـةٌ بَيَّـتُـوا عَـلَـى فِعْـلِ  خَـيْـرٍ
حَـمــدَ الصُّـبْـحُ أَمْـرَهُـمْ والْمَـسَـاءُ

ذكر في هذا البيت ما وقع في القضيّة بالحجون حين اتّعدوا بالحجون فوصلوا إليه واتّفقوا على هذا الأمر ، ، قال : بيّتوا على فعْل خير حين تواثقوا عليه أن يفعلوه ، فهذا الخير هو الذي فعلوه ، فحمد الصبح أمرهم والمساء ، يعني خرج الأمر محمودا في الصباح والمساء .
ثمّ قال رضي الله عنه :
يَـالَ أَمْــرٍ أَتَــاهُ بََـعْــدَ هِـشَـــامٍ
زَمْـعَـــةٌ إنَّـهُ الْفَـتَــى  الأَتَّــــاءُ

الأتّاء هو الفعّال .
ثمّ قال رضي الله عنه :
وَزُهَـيــرٌ  والْمُـطْـعِــمُ بْـنُ عَــديٍّ
وَأَبُـو  الْبُـحْـتُـرِيِّ مِنْ حَـيْـثُ شَـاءُوا
نـقَـضُـوا مُبْـرَمَ الصَّـحِـيـفَـةِ إِذْ شَـ
ـدَّتْ عَـلَـيْـهِــمْ مِـنَ الْعِـدَا الأَنْــدَاءُ

والأنداء جمع ناد ، وهو الجمع ، يعني أنّ جميع قريش انعقدوا على أن لا يبتاعوا منهم ولا يباع لهم ، توافقوا على هذا .
ثمّ قال رضي الله عنه :
أَذْكَـرَتْـنَـا  بِـأَكْـلِـهَـا  أَكْلَ مِـنْـسَـا
ةِ سُـلَـيْـمَــانَ الأَرْضَـةُ  الْخَـرْسَــاءُ

قال : أذكرتنا بأكلها ، رُوي في الخبر أنّه صلّى الله عليه وسلّم قال لعمّه أبي طالب : إنّ الله أخبرني أنّه سلّط الأرضة على صحيفة قريش فلم تَدَعْ فيها شيئا من البهتان إلاّ أكلته ولم تترك فيها إلاّ " بِاسْمِكَ الْكَرِيمِ " ، كان أخبره بهذه ، فخرج أبو طالب إلى قريش فقال : " إنّ ابن أخي قال لي : كيت وكيت ، فالتمسوا صحيفتكم فإنْ وجدتموها أُكِلَتْ كما قال لي فانتهوا عن قطيعتنا ، وإن كذب أسلمته إليكم . فعند هذه القضيّة قام الخمسة في نقض الصحيفة . فلمّا أخرجوها وجدوها أكلتها الأرضة إلاّ قوله " باسمك الكريم " ، فوجدوها كذلك ، فمزّقت الصحيفة ونقضوا ما فيها .
ثمّ قال : أذكرتنا بأكلها أكل منساة سليمان ، وكان من قضيّتها أنّه سمع الناس يقولون إنّ الجن تعلم الغيب وأبى ذلك عليه الصلاة والسلام ، فدعا الله تعالى يوما أن يرى الإنس آية يعلمون بها أنّ الجنّ لا يعلمون شيئا من الغيب . فكان عليه الصلاة والسلام يعمل مرّات كما يعمل أصحاب الخلوات ، فكان عليه الصلاة والسلام ينصب عصاه في الأرض ويضعها على جبهته متّكئا عليها برأسه مشتغلا في ذلك بالله عن غيره فيمكث في ذلك أيّاما ، تلك عادته ، فقبضه الله في تلك الحالة وتوفّي ولم يعلموا بموته ، والجنّ يخدمونه على كلّ حال خوفا وقهرا ، فما تفطّنوا لموته حتّى أكلت الأرضة عصاه ، فلمّا أكلتها سقطت العصا فسقط عليه الصلاة والسلام ، فتبيّنت الجنّ حينئذ أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ، فعند ذلك أبانت الآية للإنس أنّ الجنّ لا تعلم الغيب .
ثمّ قال رضي الله عنه :
وَبِـهَـا  أَخْـبَــرَ النَّـبِــيُّ وَكَـمْ أَخْـ
رَجَ  خَـبْـئــاً لَـهُ الغُـيُـوبُ خِـبَــاءُ

أخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بصحيفة قريش أنّ الأرضة أكلتها ، وهي إحدى معجزاته صلّى الله عليه وسلّم وإخباره بالغيب ، وكم أخرج صلّى الله عليه وسلّم من المخبَّئات في الغيب كانت تلك المخبّئات لها الغيب كالخباء الساتر لنا فأخرجها صلّى الله عليه وسلّم كشفا بالغيب ، وتلك من معجزاته صلّى الله عليه وسلّم .
ثمّ قال رضي الله عنه :
لاَ تَـخَـلْ جَـانِـبَ النَّـبِـيِّ مُـضَـامــاً
حِـيـنَ  مَـسَّـتْـهُ مِـنْـهُـمُ الأَسْــوَاءُ

يعني : ما تراه من جريان المصائب عليه من المشركين وتظاهر عليه بالغلبة والقهر وما وصلوا إليه من الأذى في جانبه ممّا لا يحصى ولا يكيّف ، إذا سمعت ذلك فلا تَخَلْ جانب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مضاما عند ربّه لكونه تركه أو أهانه أو أذلّه ، لا تخل ذلك في جانبه ، بل تلك سنّة الله الجارية في أكابر أصفيائه من خلقه أن يبتليهم ويشدّد عليهم المصائب ، ومن جملة المصائب اشتداد الإذاية عليهم من الخلق وذلك لأجل أنّ مرتبة القلوب عند الله تعالى صعبة المدرك شديدة المنال ، مَن قدّر له سبحانه وتعالى بلحوقها أذاقه الوبال الشديد ، ومن هذه الحيثيّة كان حاله صلّى الله عليه وسلّم مع المشركين ، شدّد عليه حتّى ناله ما ناله منهم ، ومع هذا لا تَخَلْ جانب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مضاما عند ربّه ، فهو في غاية العزّ والرفعة عند ربّه ، وقد ورد في الحديث ، قال صلّى الله عليه وسلّم : « نحن معاشر الأنبياء أشدّ الناس بلاء » الحديث .
ثمّ قال رضي الله عنه :
كُـلُّ أَمْـرٍ نَـابَ النَّـبِـيـئِـيـنَ فَـالشِّـ
ـدَّةُ فِـيــهِ مَـحْـمُــودَةٌ وَالـرَّخَــاءُ

قال : كلّ أمر ناب النبيّين سمّاه ناب لكون الأمور ترد على الشخص نوبة بعد نوبة ، فإنّ تجمّع الأمور خيرا وشرا لا طاقة لأحد بها ، ولو جُمِع الخير نابة لا طاقة لأحد بها إلاّ أنْ يصل إليه الأمر نوبة بعد نوبة . فإنّ الجنّة مكان هي مجمع الخيرات والسرور ، فلو أنّ شخصا قدّرناه يتنّعم بجميع نعيمها في آن واحد ، يعني نعيمها بالحور ومختلفات الشهوات وشمّ الروائح العطريّة والتنزّه في المنازه العينيّة وسمْع النغمات الطيّبة ، لو قدّرناه أن يجتمع له في آن واحد لم يقدر لأنّه لا طاقة له إلاّ أن تأتيه الأمور شيئا بعد الشيء ، فإنّ الأمور لا تأتي إلاّ نوبة بعد نوبة ، والشيء الذي ناله في نوبته بالضرورة وأنّ غيره غائب هناك حتّى يَرِدَ في نوبته بغيبة غيره عنه . فإذا عرفنا المناب في الأمور أنّ كلّ أمر له نوبة يَرِدُ على الشخص وحده .
قال : كل أمر ناب النبيّين ، بمعنى أنّ كلّ أمر ورد عليهم في نوبته فذلك الأمر لا يخلو إمّا أن يكون شدّة أو رخاء . قال : كلّ موارد النبيّين خِلْهُ محمودا وذلك أنّهم في كلّ لحظة من الزمان هُم في حضرة الله سبحانه وتعالى لا يخرجون عنها حتّى لحظة واحدة ، وبذلك كانت أوقاتهم كلّها محمودة ، فَهُمْ في ذلك الحال ينظرون ما يرِد من جهة الحقّ سبحانه وتعالى ولا يغيبون عن هذا حتّى لحظة واحدة ، فإنْ وردَ عليهم ما يلائم الأغراض من كلّ محبوب شكروا عليه ، فذلك حقّه ، وإن ورد عليهم ما ينغّص أو يؤلم تلقّوه بالصبر والرضا والتسليم ولا ينافروه ولا يجزعوا منه ، فإنّهم على كلّ حال في تحصيل رضا الله تعالى ومحبّته لهم . إنّما ينفر من العذاب والمصائب وتسليط الخلق من كان في غيبته عن حضرة القدس ، فإنّه مَرْمِيٌّ خلف حجاب الكون ، فصاحب هذا لا يقدر أن يذوق من البلاء حتّى مقدار لمحة لضعفه ، فإنّ الإنسان خُلق ضعيفا . وأمّا من كان في حضرة القدس راسخ القدم صاحي العقل لم تخلِلْه الجذابات الإلهيّة ، يعني لم تختل نظام عقله ، بل هو غريق الجذابات الإلهيّة وهو غاية الصحو والكمال ، فإنّ هذا يمدّه الله بالقوّة الإلهيّة فيحمل من البلاء ما لا تحمله السماوات والأرض على غاية عظمها . يقول العارفون : " من كشف له عن ذرّة من التوحيد حمل السماوات والأرض على شعرة من أجفان عينيه بالقدرة التي أعطيها " . فإذا عرفتَ هذا عرفتَ أنّ الأنبياء في وقت ورود البلايا عليهم ليست حالتهم كحالة أصحاب الحجاب ، وانظر إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين كان مرميّا في المنجنيق مُلقى به إلى النار اعترضه جبريل في الهواء ، وكان الله سبحانه ناداه : " يا جبريل إنْ سبقك الخليل إلى النار لأمحونّ اسمك من ديوان الملائكة " ، فأتاه في أسرع من طرفة عين واعترضه في الهواء ، قال له : " ألك حاجة يا إبراهيم ؟ " ، قال له : " أمّا إليك فلا " ، قال له : " سَلْهُ "، قال له إبراهيم : " حسبي من سؤالي علمه بحالي " ، رأى عليه الصلاة والسلام ، وهو في حالة الشدّة والضيق ، رأى أنّ اشتغاله بالسؤال اشتغال عن الله تعالى فلم يعبأ بذلك ولا الْتفتَ إليه فثبت على الحالة التي أقامه الله فيها في ذلك الوقت فكان في عاقبته ما ذكر الله عنه في قوله تعالى : قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [ الأنبياء : 69 ] ، وكذلك حال الأنبياء في البلاء .
قيل للشيخ أحمد الرفاعي رضي الله عنه : " ما علامة المتمكن ؟ " ، يعني متمّكنا من حضرة القدس التي لا تزعجه مواردها ، قال : " هو الذي لو نصب على أعلى شاهق ثمّ هبّت عليه الرياح الثمانية بأشدّ ما يكون فلا تتحرك منه شعرة لتمنّي زوالها " . أراد بالرياح الثمانية البلايا التي انصبّت على جميع الوجود في جميع الأعصار ووردت عليه بجميع مرارتها وعذابها لم تتحرّك منه شعرة لتمنّي زوالها .
والأمر الذي نابهم عليهم الصلاة والسلام فإنْ كان من أمور الشدّة فمحمود ، يعني محمودة عاقبته ، وإنْ كان من أمور الرخاء فمحمودة عاقبته . وكون عاقبته محمودة لكونهم قاموا بأمر الحقّ في جميع ذلك ، فما ورد عليهم من الشدائد والمحن قابلوها بالصبر والرضا والتسليم وتلقّوا حُكم الله بالقبول فذلك حقّ الله فيهم ، وما ورد من جهة الرخاء والنعم عليهم قابلوها بالشكر التامّ وقابلوه بما ينوبه من القيام بأمر الله تعالى . فلتوفيتهم بالحقوق الإلهيّة في الأمرين كانت جميع أمورهم محمودة ، وهذا بخلاف أصحاب الحجاب ، فإنّ أصحاب الحجاب أبدا الباب مغلوق بينهم وبين الله تعالى ، إنْ وردتْ عليهم البلواء والضرّاء واشتغلوا بالتخبّط في رمضائها وتجرّع مرارتها لا يلتفتون إلى الله تعالى ولا يعلمونه لِمَا هُم فيه من شدّة الأمر ففاتهم الصبر في ذلك وفاتهم القيام بأمر الله وضاع وقتهم هباء منثورا ، وإن كانوا في حالة النعماء والفرح والسرور واشتغلوا عن الله تعالى في التقلّب في لذّات نفوسهم وتكامل شهواتها شغلوا عن الله ولا يعلمونه وفاتهم الشكر حينئذ وضاعت منهم حقوق الحقّ في النعماء اشتغالا بشهوات نفوسهم فضاعت أوقاتهم وصارت هباء منثورا . فهذا حال الأنبياء ، فكلّ أمورهم محمودة في الشدّة والرخاء .
ثمّ قال رضي الله عنه :
لَـوْ يَـمَـسُّ النُّـظَـارَ هَـوْنٌ مِـنَ  النَّـا
رِ لَـمَـا اخْـتِـيـرَ للِـنُّـظَـارِ  الصِّـلاَءُ
ذكر هذا المثل في هذا البيت مفرعا على قوله : " كلّ أمر ناب النبيّين الخ... " ، قال : لو يمسّ النضار هون من النار ... البيت ، معناه لا تنظر إلى ما يجري على الأنبياء من البلايا والمحن وتظنّ أنّ هول ذلك يزعجهم عن الثبوت لأمر الله تعالى بحقّه ، بل هُم في ذلك الأمر الذي تراه في غاية المرارة والشدّة ثابتون لأمر الله كالجبال الرواسي تمرّ بهم تلك البلايا فما تحرّك منهم شعرة ألم الجزع من أمر الله . فضرب لهم مثلا فقال : النضار ، جمع نضير ، والنضير هو المتغذّي بغاية النعم وتوفّر الشهوة من كلّ شيء مع عدم المزعج من جميع المنغّصات ، فإنّ الإنسان إذا كان على هذه الحالة ظهر الجمال والرونق على وجهه ، يقول سبحانه وتعالى في وصف أهل الجنّة : تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [ المطففين : 24 ] . قال : فهؤلاء النضّار إذا عرفتهم وعرفت ما لهم إذا وقفوا بإزاء النار وحرّها يمسّهم لم يغيّر شيئا من نواصيهم التي تكامل فيها النعيم ، يريد أنّ النار ، وإنْ قاربهم حرّها ، لم تؤثّر فيهم شيئا من بواطنهم ، فهذا معنى البيت .
ثمّ قال رضي الله عنه
كَـم يَـدٍ عَـنْ نَـبِـيِّـهِ كَـفَّـهَـا اللــه
وَفِــي الْخَـلْـــقِ كَـثْــرَةٌ واجْـتِرَاءُ

أخبر في هذا البيت أنّ الله سبحانه وتعالى تولّى عصمة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم بنفسه بعدما سلّط عليه الخلق وشدّة شرّهم عليه ، تولّى عصمته بنفسه كما في ليلة قعد له كفّار قريش على الباب ليقتلوه فعصمه الله منهم ، وفي قصّتها أنزل سبحانه وتعالى : وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ [ الأنفال : 30 ] الآية ، فعصمه الله منهم بعدما تواتروا على قتله . وفي قضيّة بني النضير حين ترتّبت عليه ديّة العامريين صلّى الله عليه وسلّم ، خرج إلى بني النضير يستعين بهم على ذلك ومعه جمع من أصحابه إلى بني النضير وسألهم أن يعينوه صلّى الله عليه وسلّم بشيء من المال ، فأنعموا عليه بذلك ثمّ قالوا له : " إجلس حتّى نجمع لك ما نقدر عليه " ، وأجلسوه هو وأصحابه في مكان تحت جدار عالٍ ، فجلس ينظرهم ، ثمّ مكروا بينهم به وأمروا بعضا منهم أن يحملوا رحى عظيمة على رأس الجدار ويطرحونها عليه . فلمّا فعلوا ذلك وذهب الذين يأخذون الرحى ويصعدون بها إلى رأس الجدار نزل جبريل عليه الصلاة والسلام في خفية وأخبره صلّى الله عليه وسلّم بما فعلوا وأمره بالقيام من ذلك المكان ، فقام صلّى الله عليه وسلّم وترك أصحابه جلوسا هناك وذهب ، يظنّون إنّما قام لقضاء حاجة ، فذهب إلى المدينة على وجه ولم يرجع . فلمّا وصل المدينة بعث إلى أصحابه فجاؤوا ، وكانوا إذ ذاك معه في العهد والهدنة ، وكان حين دخل المدينة صلّى الله عليه وسلّم عاهد جميع يهودها من أهل القرى التي حول المدينة عاهدهم أن لا يؤذوه ولا يؤذيهم ، فلمّا فعلوا هذه تحرّك للغزو عليهم صلّى الله عليه وسلّم ، فكان في قصّتهم ما ذكره الله تعالى في سورة الحشر ، فكان أمرهم حين نزل عليهم أن ذلّوا وهانوا واستكانوا ، فخيّرهم صلّى الله عليه وسلّم بين اثنين : إمّا أن يترك لهم أموالهم وأملاكهم ويأخذ نساءهم وأولادهم ملكا يبيعهم ، وإمّا أن يعطيهم نساءهم وأولادهم ويأخذ أموالهم وأملاكهم ، فاختاروا نساءهم وأولادهم ويخرجون ، فأخرجهم صلّى الله عليه وسلّم إلى الشام ، فأنزل الله في عصمة الله له قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [ المائدة : 11 ] الآية .
وروي من طريق أخرى أنّ هذه الآية نزلت في قضيّة العامريّ عدوّ الله عامر بن الطفيل لعنه الله ، وكان من كثرة قبائله في عزّ وسعد ، فقال لبعض خاصّته : " إنّي ذاهب إليه لأقتله " ، ثمّ قال له : " إذا وصلنا إليه ، أنا أجلس بين يديه أكلّمه وأنت اجلس من ورائه ، فأنا أشغله عنك بالحديث ، فإذا رأيتنا بالحديث قم إليه من حيث أمكن لك فاضرب عنقه " . فجاءا لهذا المطلب حتّى قدما عليه صلّى الله عليه وسلّم فكان يحدّثه وحده والرجل خلف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ، فانتظره أن يفعل ما قال له فلم يفعل ، فلمّا قام من عنده قال له : " مالك فيما أوصيتك عليه ؟ " ، قال له : " كلّما قمت لضرب عنقه غاب عنّي فلم أره ولم أر إلاّ أنت ، فلو ضربت لضربت عنقك " ، ثمّ قال له : " لا حيلة لي إليه ولا قدرة لنا على الوصول إليه " ، فجاء اللعين متغيّظا ، حين أرادا الخروج من المدينة جاء إليه صلّى الله عليه وسلّم وقال له : " والله لأملأنّها عليك خيلا جردا ورجالا مردا " ، فقال له صلّى الله عليه وسلّم : " اللهمّ اكفناه بما شئت " ، فخرج الملعون إلى أهله فضربه الطاعون في الطريق فعجّل منيّته فمرض عند بني سلول ، فلمّا رأى ما نزل به وأحسّ بالموت ، وكان عنده من كان من بني عامر ، قال لهم متشكّيا : " يا بني عامر أغدة كغدة الإبل وموت في بيت امرأة سلولية " ، فتوفّي هناك وانقطع ذِكْرُهُ ، فأنزل الله تعالى في شأنه هذه الآية : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ [ المائدة : 11 ] الآية .
وكما في قضيّة سراقة بن مالك المدلجي ، وكان خرج إليه ليردّه إلى قريش يقتلونه ، فكان من قضيّته ما سبق في قضيّة الهجرة . وكان في قضيّة الهجرة أيضا وهو في الغار صلّى الله عليه وسلّم سهل التناول عليهم ، إذ كانوا بباب الغار ، فردّهم الله عنه بما رأوه من نسج العنكبوت وبيض الحمامة حتّى قال له أبو بكر : " لو نظر أحدهم عند رجله لرآنا " ، فقال له صلّى الله عليه وسلّم : " ما ظنّك باثنين الله ثالثهما " ، ثمّ قال له : " لا تحزن إنّ الله معنا " . فقد ذكر الله سبحانه وتعالى في الآية أنّ الله أيّده بجنود لم يروها ، فكانت الملائكة تحرسه ، فلو أراد واحد منهم أن يمدّ يده إليه لأخذته الملائكة .
قوله : وفي الخلق كثرة واجتراء ، كثرة أعدائه واجتراؤهم عليه ، والاجتراء هو شدّة الإقدام على الشيء وعدم التوقّف فيه ، فوقاه الله تعالى وعصمه من شرّ الأعداء وأيّده على كثرتهم ونصر بعضهم بعضا عليه ، وعلى شدّة جرأتهم عليه ومع ذلك عصمه الله منهم . وفي الحديث يقول صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك : « لقد أُخفت في الله وما يخاف أحد ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد » ومعنى لقد أخفت في الله ، معناه خوّفني الله بخلقه في وقت لم يَخَفْ فيه أحد من الخلق والناس كلّهم آمنون بعضهم بعضا إلاّ أنا وحدي خائف ، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ، معناه آذاني الناس لأجل نسبتي إلى الله وما يؤذى أحد لأنّه أخبر صلّى الله عليه وسلّم عن شدّة بلائه ومقاساته الشدائد والمحن .
ثمّ قال رضي الله عنه :
إِذْ  دَعَــا وَحْـدَهُ الْعِـبَــادَ وَأَمْـسَــتْ
مِـنْــهُ فِــي كُـلِّ مُـقْـلَــةٍ أَقْــذَاءُ

قال : كم كفّ الله سبحانه وتعالى عن نبيّه صلّى الله عليه وسلّم من أيدي الأعداء مع شدّة قوّتهم عليه ، ثمّ قال : إذ دعا العباد إلى الله تعالى إلى الإيمان به وتوحيده وإفراده بالعبادة فلاقته الأعداء بالإذاية والسوء فكفّ الله أيديهم عنه .
قال : وأمست منه في كلّ مقلة أقذاء ، يعني أمست منه ، أو من دعوته إلى الله تعالى ، أمست في كلّ مقلة من مقل الكفّار أقذاء ، والقذى هو الضرر الذي يعتري العين فيمنعها من البصر ، كالسحاب الذي يضرب دون الشمس فيمنعها من وصول النور إلى الأرض ، والمقلة هي جوهرة العين الباصرة .
ثمّ قال رضي الله عنه :
هَـمَّ قَـوْمٌ بِـقَـتْـلِـهِ فَـأَبَــى السَّـيْـ
ـفُ وَفَــاءً وَفَــاءَتِ  الصَّـفْــــوَاءُ

قال : هَمَّ قوم بقتله في قضيّة بني النضير وقضيّة عامر بن الطفيل وقضيّة قريش حين اجتمعوا على قتله . قال : هَمَّ قوم بقتله وراموا أن يقتلوه فأبى السيف وفاء ، يعني وفّى السيف بأمر الله تعالى من حيث علم السيف أنّ الله يغضب لذلك غضبا شديدا ، ووفّي السيف بأمر الله تعالى أن يصل إليه ، وفاءت الصفراء ، يعني فاءت رجعت ، والصفراء هي قطعة من الحديد الصافي ، وهي السيف ، رجعت عمّا أراده فاعلها من الأذى والقتل .
ثمّ قال رضي الله عنه :
وَأَبـو جَـهْـلٍ إذْ رَأَى عُـنُـقَ  الْفَـحْــ
ـلِ إِلَـيْـــهِ كَـأَنَّــهُ  الْعَـنْـقَـــاءُ
وَاقْـتـَضَــاهُ النَّـبِـيُّ دَيْــنَ الأَرَاشِــ
ـيِّ وَقَـدْ سَــاءَ بَـيْـعُــهُ وَالشِّــرَاءُ

وقضيّة أبي جهل هذا ، لعنه الله ، هو أنّه كان اشترى إبلا من رجل أراشي وماطله في حقّه ولم يعطه شيئا ، فكان يستنصر عليه أنداء قريش فلم يجد من ينصره فيه . فلمّا كان ذات يوم ، وهو في ذلك الحال يستغيث بهم ، فقال له بعض كفّار قريش يستهزئ به ويسخر : " لا ينصفك منه إلاّ ذلك الرجل " ، وأشار إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وكان جالسا وحده . فجاء الرجل إليه صلّى الله عليه وسلّم وشكا له ما فعل أبو جهل وأخبره أنّه لم يجد ناصرا ولا مغيثا ، وقال له : " إنّهم أشاروا إلى أنّك أنت الذي تنصفني منه ، فأنصفْني منه وأغثْني " . فلمّا قال ذلك رحمه صلّى الله عليه وسلّم وقام مسرعا ، وقال له : " تعالى " وذهب معه إلى دار أبي جهل ، فدقّ الباب عليه صلّى الله عليه وسلّم ، فقال أبو جهل : " من ؟ " ، قال له : " محمّد " ، فخرج إليه منتقعا لونه وقال : " ماذا ؟ " ، فقال له صلّى الله عليه وسلّم : " أعط هذا الرجل حقّه " ، قال : " نعم ، لا ينصرف حتّى أعطيه حقّه " ، وكان نادي قريش ينظرون إليه حين طلع وكان المستهزئ هو الذي أخبرهم بذلك ، فلمّا رأوه قام معهم تعجّبوا منه وقالوا لرجل منهم : " إذهبْ معهما فانظر ماذا يقع بينهما " ، فكان حاضرا . فدخل أبو جهل وخرج سريعا وأعطى الرجل جميع ماله ثمّ انصرف ، وانصرف صلّى الله عليه وسلّم . فلمّا جاءهم الرجل وسألوه ، قال لهم : " رأيته حين دقّ عليه الباب خرج منتقعا لونه " ، ثمّ قال له : " أعط هذا الرجل حقّه " ، قال لهم : " رأيته دخل وخرج بسرعة وأعطاه جميع ماله " ، فتعجّبوا منه . فلمّا جاء أبو جهل ، لعنه الله ، إلى نادي قريش سألوه وقالوا : " ويلك ماذا فعلت اليوم ؟ أزعجت من محمد ؟ " ، قال : " إنّه لمّا دقّ على الباب ظهر فحل من الإبل في الدار " ، وأخبرهم عن شدّة عظيمة نالت الفحل ، قال لهم : " لو لم أخرج لأكلني ، ولو امتنعت من أداء المال لأكلني " . فأذن الله بذلك ، فلمّا أخبر بها صلّى الله عليه وسلّم قال : " ذلك جبريل عليه الصلاة والسلام كأنّه العنقاء " ، والعنقاء دابّة بأرض الصين والهند تطير لها عنق طويل كعنق الجمل تأكل الآدميّ وغيره من الدوابّ ، إمتدّ إليه عنق الفحل يريد أكْله كما يمتدّ عنق العنقاء إلى الرجل الذي أرادت أكله فخرج إليه مضيوعا منه عقله من شدّة الخوف فاقتضاه النبيّ ديْن الأراشي البيت .
ثمّ قال رضي الله عنه :
وَرَأَى الْمُـصْـطَـفَــى أَتَـاهُ بِـمَـا  لَـمْ
يُـنْـجِ  مِـنْهُ دُونَ الْـوَفَــاءِ النَّـجَــاءُ

يعني : فعل اللعين ذلك الذي فعل من تضييعه عقله وذهاب عناده لكونه رأى المصطفى أتاه بالأمر العظيم ، وهو الفحل ، حيث لا ينجيه منه إلاّ الوفاء لذلك الدين الذي لذلك الأراشي .
قوله : النجاء ، النجاء جمع ناج ، والناجي إذا رأى ذلك لا يسمّى ناجيا إلاّ إذا وفّى بالمال ، والنجاء بالفتح مبالغة في النجاء ، يعني هو كثير النجاء بأعماله ، كلّما رأى تهلكة توجّهت إليه أخرج إليها عملا ينجو به منها ، صاحب هذا الفعل إذا رأى مثلما رأى أبو جهل على أنّه لا ينجيه من هذه الورطة إلاّ أداء المال فأنجا نفسه بذلك .
ثمّ قال رضي الله عنه :
هُـوَ مَـا قَــدْ رَآهُ مِـنْ قَـبْـلُ لَـكِــنْ
مَـا عَـلَـى مِـثْـلِـهِ يُـعَـدُّ الْخَـطَــاءُ

كأنّه قدّر هذا البيت اعتراض معارض . يقول المعارض في هذا : أبو جهل كان كافرا بالله مكذّبا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكيف يشاهد هذا المعجز ؟ كيف يظهر له جبريل في هذا الطور مع ما هو فيه من الكفر ، والإنسان الكافر لا يرى مثل هذا ؟
أجاب عن هذا الاعتراض المقرّر فسأل : هو ما قد رآه ولا وقع أصلا لأحمد حين أخبر عن ذلك لا يعدّ الخطأ على مثله لأنّه في غاية العناد للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمكابرة له مع شدّة حسده وعداوته ، فحقّ مَن كان في هذا الوصف أنْ لا يخبر بهذه لأنّ في هذه المعجزة الكبرى للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وفيها صدق دعواه صلّى الله عليه وسلّم مع الله تعالى ، وفيها شرف رتبة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وإذلال رتبته هو وانحطاطها ، لا شكّ أنّ الحاسد لا يريد هذا ولا يرضى به لعدوّه . وإنْ وقع كتمه فأخبر به على هذه الأمور ، وإخباره به دلَّ على أنّه واقع حقّا إذ لا يتّأتى له الكذب في مثل هذا .
ثمّ قال رضي الله عنه :
وَأَعَـدَّتْ حَـمَّـالَــةُ الْحَـطَـبِ الْفِـهْــ
ـرَ وَجَــاءَتْ كَـأَنَّـهَــا  الْعَـنْـقَــاءُ

أخبر في هذا البيت عن الملعونة أمّ جميل بنت حرب ، وكانت زوجة عمّه أبي لهب . فلمّا سمعت ما نزل فيها وفي زوجها سورة تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [ المسد : 1 ـ 4 ] الآية ، جمعت فهرا من حجر وجاءت قاصدة تضرب به فم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم . فقصدته في المحلّ الذي يجلس فيه مع أبي بكر ، فقصدتهما فأخذ الله ببصرها عنه صلّى الله عليه وسلّم فلم تر إلاّ أبا بكر ، فقالت : " يا أبا بكر أين صاحبك ؟ " ، فلم يجبْها أبو بكر ، فقالت : " والله لو وجدته لضربت فاه بهذا الفهر " ، عليها لعنة الله ، وانصرفتْ ثمّ جاءت كأنّها ورقاء ، يعني كما أنّها طائر مطرود من شدّة الحقد .
ثمّ قال رضي الله عنه :
يَـوْمَ جَاءَتْ غَضْـبَـى تَقـولُ أَفِـي مِـثْـ
لِـيَ  مِـنْ أَحْـمَــدٍ يُـقَـالُ الهِـجَــاءُ
وَتَـوَلَّــتْ وَمَــا رَأَتْـــهُ وَمِـنْ أَيْــ
ـنَ تَـرَى الشَّـمْـسَ مُقْـلَـةٌ عَـمْـيَـاءُ

لمّا سمعت ما نزل فيها وفي زوجها جاءت غضبى تقول : " في مثلي يقال الهجاء ؟ " ، وتولّت ما رأته ، فهذا ظاهر .
ثمّ قال رضي الله عنه :
ثـمَّ سَـمَّــتْ لَـهُ الْيَـهُـودِيَـةَ الشَّــا
ةَ وَكَـمْ سَــامَ الشِّـقْـوَةَ الأَشْـقِـيَــاءُ

أخبر هنا في هذا البيت بما فعلته اليهوديّة ، وكانت قد أهدت له شاة مصليّة وسألت أيّ الأعضاء أحبّ إليه في الأكل من الشاة ، فقيل لها : " الذراع " ، فسَمَّتِ له الذراع صلّى الله عليه وسلّم ، فنهش نهشة فلاكها بفمه ثمّ كلّمه الذراع وأخبره أنّه مسموم ، فوضعه ثمّ بعث إلى اليهوديّة ، فجيء بها إليه ، فقال لها : " ما حملكِ على ما صنعتِ ؟ " ، وأخبرها بما فعلتْ من السمّ ، فقالت له : قلت : " إنْ كان نبيّا فسيُخبَر بذلك ، وإنْ كان ملِكا فاسترحنا منه " ، فعفا عنها صلّى الله عليه وسلّم وتركها وسرّحها . فهذه إحدى معجزاته ، تَكَلُّمُ الذراعِ .
قال : وكم سام الشقوة الأشقياء ، والشقوة هاهنا هي التي غلبت على اليهوديّة حتّى فعلت به صلّى الله عليه وسلّم ، يعني كم قصد الشقوة الأشقياء بفعلهم بالأخيار ، فاليهوديّة حلّت بها الشقوة حيث سلّطها الله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم حتّى فعلت من السمّ ما فعلت قاصدة قتله صلّى الله عليه وسلّم ، فهذه الشقوة التي حلّت بها .
ثمّ قال رضي الله عنه :
فَــأَذَاعَ الــذِّرَاعُ مَـا فِـيـهِ مِـنْ سُــ
ـمٍّ بِـنُـطْـــقٍ إِخْـفَــاؤُهُ  إِبْـــدَاءُ
قلنا : حين سمّته صلّى الله عليه وسلّم وكتمت ذلك وتركته عندها سرّا لا تبديه فأذاع الذراع ما فيه من الشرّ ، وهو تخفية السمّ ، فأذاع الذراع أيضا فنطق وقال له جهارا : " يا رسول الله إنّي مسموم " ، إخفاء ذلك النطق عمّن معه صلّى الله عليه وسلّم ، وهو إخفاء عنهم ، وهو إبداء له صلّى الله عليه وسلّم ، أيّ إظهار .
ثمّ قال رضي الله عنه :
وَبـخُـلْــقٍ  مِـنَ النَّـبِــيِّ كَـرِيــمٍ
لَـمْ  تُقَـاصَـصْ بِجَـرْحِهَـا الْعَـجْـمَـاءُ

أراد بها تلك اليهوديّة التي سمّت الذراع ، صفح عنها وعفا عنها بخُلُقه الكريم ، إذ كان متخلّقا بأخلاق الله سبحانه وتعالى من سعة الرحمة الإلهيّة بكلّ مخلوق ، ومن سعة العفو والكرم عن كلّ مذنب ومسيء ، ومن سعة الحلم عن كلّ شيء فيه خُلق سيّء . فهذه الأخلاق التي تخلّق بها صلّى الله عليه وسلّم ، وهي أخلاق الحقّ سبحانه وتعالى كونه مشتملا على ما في الحضرة الإلهيّة من الأخلاق الكريمة ، فبتلك الأخلاق عفا عن العجماء التي سمّته وأبى أن يعاقبها صلّى الله عليه وسلّم .
ثمّ قال رضي الله عنه :
مَـنَّ  فَـضْـلاً عَـلَـى هَــوَازِنَ إِذْ كَــا
نَ لَــهُ قَـبْــلَ ذَاكَ فِـيـهِـمْ رَبَـــاءُ

أخبر في هذا البيت أنّ من جملة خلُقه الكريم أنّه بعدما سبى هوازن واستاق جميع أموالهم منّ فضلا عليهم حين تضرّعوا له ، قال لهم : " إختاروا ، إمّا أن نردّ لكم أولادكم ونساءكم ولا أعطيكم شيئا من المال ، أو نردّ إليكم أموالكم وأبيع نساءكم وأولادكم " ، قالوا له : " ردّ علينا نساءنا وأولادنا " ، فعفا عنهم وردّ لهم النساء والأولاد إذ رأى الحقّ لازما عليه فيهم لأنّهم ربّوه وكبر فيهم ، فلهم أرحام تلزم مراعاتها ، فلذلك رحمهم وعفا عنهم صلّى الله عليه وسلّم .
ثمّ قال رضي الله عنه :
وَأَتَـى السَّـبْـيُ فِـيـهِ أُخْـتُ  رَضَــاعٍ
وَضَــعَ الْكُـفْــرُ قَـدْرَهَـا  والسِّـبَـاءُ

أخبر في هذا البيت عن أخته التي وجدها الصحابة في السبي ، وكانوا يسوقون السبي سوقا عنيفا ، فلمّا رأت الشدة عليها ، قالت لهم : " أنا أخت نبيّكم من الرضاعة " ، فأتوا بها إليه صلّى الله عليه وسلّم وأخبروه بما قالت وهي واقفة ، فقالت له : " أنا أختك من الرضاعة " ، فسألها : " ما آية ذلك ؟ " ، فقالت له : " في اليوم الفلاني كنت حاملة إيّاك على ظهري فعضضتني بين أكتافي " ، فصدّقها صلّى الله عليه وسلّم وتركها عنه .
قال : جاءت له أخته يمنى في ذلّ وإهانة ، وضع الكفر قدرها والسباء .
ثمّ قال رضي الله عنه :
فَـحَـبَـاهَـا  بِــرّاً تَـوَهَّـمَـتِ النَّــا
سُ بِــهِ أَنَّـمَــا السِّـبَــاءُ هِـــدَاءُ

أخبر في هذا البيت بما فعل بأخته من الرضاعة ، حباها برّا ، يعني أعطاها عطاء كريما حتّى توهّم الناس أنّه أعطاها ذلك لأجل سبيها لأنّها مملوكة له ، وهو إنّما أعطاها ذلك صلة للرحم إذ كان لها حقّ عليه من الرحم التي بينهما من الرضاعة ، إذ المرضعة يتوجّب حقّها على الولد الذي أرضعته كأنّها ولدته ، فإذا كان هكذا ، فالأخت حينئذ من الرضاع من ذوي رحمه ، لأجل ذلك أعطاها ما أعطاها صلّى الله عليه وسلّم للرحم .
ثمّ قال رضي الله عنه :
بَـسَـطَ المُـصْـطَـفَـى لَـهَـا مِـنْ رِدَاءٍ
أَيُّ فَـضْـــلٍ حَــوَاهُ ذَاكَ الــــرّدَاءُ

يعني : أنّه حين أتوا بها إليه وصدّقها بما أخبرت بسط لها رداءه عملا بوصيّة الله في صلة الرحم بما ورد عنه سبحانه وتعالى في الخبر بقوله في الحديث القدسي : « هي الرحم وأنا الرحمن شققت لها اسما من اسمي من وصلها وصلته ومن قطعها قطعته » ، وكما ورد في الخبر أنّها تعلّقت بالحضرة الإلهيّة بقولها : « يا ربّ هذا مقام العائذ بك من القطيعة ، فقال لها سبحانه وتعالى : أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت : بلى يا ربّ قال : فهو لك » ، فهذه الوصيّة هي التي حفظها صلّى الله عليه وسلّم ، فهو أحقّ الناس بصلة الرحم إذ كانت شيمته الوفاء بأمر الله . ولقد حثّ صلّى الله عليه وسلّم في رحم أهل مصر على غاية بعدها ، قال لهم : « إذا فتحتم مصرا فاستوصوا بأهلها خيرا فإنّ لهم رحما في العرب » فحفظوا الوصيّة ، فلمّا فتحوا مصر كانوا القبط والروم ، كانوا يشدّدون على الروم ويسامحون القبط ويرفقون بهم فسألوهم : " لماذا ؟ " ، فقالوا لهم : " إنّ نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم أوصانا بكم " ، فسألوهم : " هل عرفتم لماذا ؟ " ، فقالوا : " لا " ، فأخبروهم القبط أنّ هاجر أمّ إسماعيل منهم ، ثمّ قالوا لهم القبط إنّها قرابة بعيدة لا يصل مثلها إلى نبيّ .
قلنا : كان صلّى الله عليه وسلّم يراعي صلة الرحم من كونها استعاذت بالله من القطيعة ، فلهذا بسط لها رداءه صلّى الله عليه وسلّم تعظيما للرحم وحفظا لوصيّة الله وأمره في ذلك ، فقال : بسط لها رداءه وأجلسها عليه ، وأيّ فضل حواه ذلك الرداء ! فإنّ الوجود كلّه لا يزنه قدرا .
ثمّ قال رضي الله عنه :
فَـغَـدَتْ فِـيـهِ وَهْـيَ سَـيِّـدَةُ النِّـسْــ
ــوَةِ وَالسَّـيِّـــدَاتُ فِـيـهِ إِمَــــاءُ

قال : فغدت فيه ، أيّ في الرداء ، وهي سيّدة النسوة فحقّ لها أن تسود . قال : والسيّدات من النساء ، يعني ذوات القدر والشرف ، إذا أضيف قدرهنّ لقدر ذلك الرداء ما يعدن فيه إلاّ إماء لا قدر لهنّ بالنسبة إليه ، أيّ ردائه صلّى الله عليه وسلّم .
ثمّ قال رضي الله عنه :
فَـتَـنَــزَّهْ  فِـي ذَاتِــهِ وَمَـعَـانِــيـ
ـهِ اجْـتِـلاَءً إِنْ عَـزَّ مِنْـهَـا  اجْـتِـلاءُ

قال : فتنزّه في ذاته الشريفة وما هي محتوية عليه من المعاني العظيمة إذ كانت متّصفة بأخلاق الربوبيّة كما قال الشيخ الأكبر في صلاته في حقّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم : " وخلعت عليه خلعة الصفات والأسماء وتوّجتَه بتاج الخلافة العظمى " . وحاصل الأمر فيه أن نشأته الشريفة كانت على صور الحضرة الإلهيّة بما اشتملت عليه من جميع الصفات والأسماء حتّى كان العين بالعين ، ومن هذه الحيثيّة فإنّ جميع غيره ، فلا مطمع لغيره في لحوق رتبته .
قال : تنزّه في ذاته ومعانيه استماعا حيث عزّ عليك ظهورها للعيان ، والمعاني عزّ ظهورها للمشاهدة والعيان كما كان في عصر الصحابة ، قال : إذا عزّ علينا ذلك الاجتلاء ، وهو الظهور الذي كان في عصر الصحابة ، فتنزّه في ذاته ومعانيه استماعا ممّا يُقَصُّ عليك من أخباره صلّى الله عليه وسلّم ، ، إذ قال يوما وهو جالس مع أصحابه صلّى الله عليه وسلّم ، قال : « وودت أنّي لو رأيت إخواننا قالوا : ألسنا إخوانك يا رسول الله ؟ قال : لا أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد الآن » .
ثمّ قال رضي الله عنه :
وَامْـلإِ  السَّمْـعَ مِنْ مَحَـاسِـنَ يُـمْـلِـيـ
ـهَـا عَـلَـيْـكَ الإِنْـشَـادُ وَالإِنـشَــاءُ
قال : فتنزّه في ذاته ومعانيه بالسمع كأنّك تشاهدها ، قال : واملإ السمع من أخباره بما كان عليه صلّى الله عليه وسلّم في ذاته الشريفة من الأخلاق الإلهيّة والأحوال العليّة ، وما اشتمل من أشتات صفات الكرم ، وما فاض على الوجود من قلبه صلّى الله عليه وسلّم من وابل الفيوض التي لا تدرك لها غاية .
قوله : محاسن ، هي محاسن ذاته الشريفة صلّى الله عليه وسلّم ومحاسن فيوضه على الوجود .
قال : يمليها عليك الإنشاد ، وهو الشعر ، والإنشاد يعني إنشاء تقريرات الشعر بيتا بعد بيت ، والإنشاء والإظهار .
ثمّ قال رضي الله عنه :
كُـلُّ وَصْـفٍ لَـهُ ابْـتَـدَأْتُ بِـهِ  اسْـتَـوْ
ـعَبَ أَخْـبَـارَ الْفَـضْـلِ مِـنْـهُ ابْـتِـدَاءُ
كلّ وصف أخذت ابتداء تصفه به صلّى الله عليه وسلّم فذلك الوصف استوعب أخبار الفضل كلّها التي فضل بها غيره ، وشرف بها قدره ، وعَلَت بها رتبته صلّى الله عليه وسلّم .
ثمّ قال رضي الله عنه :
سَـيِّـدٌ ضِـحْـكُـهُ التَّـبَـسُّـمُ والْمَـشْـ
ـيُ الْهُـوَيْـنَــا وَنَـوْمُـهُ  الإِغْـفَــاءُ
سيّد : السيّد في اللغة هو شرف المكانة رفيع القدر ، فهذا هو السيّد في لغات العرب ، لكن في جميع لغات العرب بالإضافة والتقييد في الطائفة التي يسود عليها ولا يتعدّى حكم سيادته إلى غيرها ممّن يعدّ من القبائل . وهذا السيّد صلّى الله عليه وسلّم سيّد على الإطلاق على كلّ ما اشتملت عليه حضرة الألوهيّة وأعطته على حقّه من الخلق بلا شذوذ . والسيّد على الأصل هو الذي يفيض خيره على الطائفة التي يسود عليها على حسب وسعه ، ويقيهم ممّا قدر عليه من الشرور ، فبهذا يكون سيّدا عليهم . فإذا عرفت هذه النسبة في السيّد فرتبته صلّى الله عليه وسلّم في إفاضة الخير على جميع الوجود من الأزل إلى الأبد عموما وإطلاقا فردا فردا ، إذ كان صلّى الله عليه وسلّم عين الرحمة الربّانيّة ومن سواه من الوجود كلّه مرحوم به ، ومنه فاضت الرحمة على جميع الوجود . والرحمة هاهنا مشتملة على كلّ ما يفتقر إليه الوجود من المنافع التي بها قوام ذاته ودوام وجودها ، وما يحتاج إليه من دفع المضارّ حتّى تفسد نظام وجوده ، فهذه الرحمة التي وسعت كلّ شيء ، وهو صلّى الله عليه وسلّم المفيض لجميعها على جميع الوجود بلا مطمع لهم في نيل شيء من الله في تحصيل نفع أو دفع ضرّ حتّى قيام وجودهم إلاّ بواسطته صلّى الله عليه وسلّم والمدد منه ، فبهذه النسبة كان سيّدا صلّى الله عليه وسلّم على جميع الوجود ، يشهد له قوله صلّى الله عليه وسلّم : « أنا سيّد ولد آدم ولا فخر » . ظاهر الحديث أن سيادته كانت خاصّة ببني آدم فقط ، لكن تعرف السيادة على غيرهم من حديث آخر وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم : « إن الله خلق الخلق حتّى إذا فرغ من خلقه اختار منهم بني آدم » ، فدلّ الحديث على أنّ بني آدم هم سادة الوجود كلّه بشاهد الحديث ، ودلّ الحديث الآخر على أنّه سيّد بني آدم ، فهو سيّد جميع الوجود ، فهذا هو السيّد .
ضحكه التبسّم : يعني إذا ضحك صلّى الله عليه وسلّم لا يضحك إلاّ تبسّما ، وكذا النبيّين والمرسلين لا يضحكون إلا تبسّما ، وذلك لأجل أنّهم غرقى في حضرة القدس أبدا ، جالسون بين يدي الحقّ سبحانه وتعالى ، عاكفون على شهوده ، غلبت على قلوبهم هيبته وجلاله سبحانه وتعالى ، صدم قلوبهم ما تجلّى لهم من عظمته وكبريائه ، فلا يقدرون معها على أن يقهقهوا بالضحك لأجل ما تبدّى لهم من الجلال ، فَهُمْ في الحياء منه دائما . قال إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه : " غفلت يوما ومددت رجلي فسمعت مناديا ينادي عليّ : تأدّب يا إبراهيم ، أهكذا تجالَس الملوك ؟ " .
قلنا : فمثل هذا هو الذي غلبهم على القهقهة في الضحك فلا يضحكون إلاّ تبسّما .
والمشي الهوينى : وحاله في المشي يمشي الهوينى ، والمراد بها : يمشي مشي المتصاغر لجلال الله تعالى ، وضدّها مشية المتكبّر المختال ، وهو الذي يتخيّل تعظيم نفسه ، فهو يمشي متثاقلا ، والمتصاغر هو الذي يمشي بسرعة لأنّه ملّك قلبه للتصاغر لجلال الله تعالى ، كما قال في الحديث ، لمّا جلس الرجل بين يديه وارتعد من هيبته ، فقال له صلّى الله عليه وسلّم : « هوّن عليك الشأن لست بملك إنّما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القدّيد » وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا جلس يجلس محتبيا ، ويقول صلّى الله عليه وسلّم : « إنما أنا عبد أجلس كما يجلس العبد وآكل كما يأكل العبد » . ومعنى الهوينى هو المتهاون بنفسه ، رأى نفسه هيّنة لا كبر لها ، والمراد بها المشي مسرعا ، وبه نعْته ووصفه صلّى الله عليه وسلّم ، يقول : " كان ذريع المشية إذا مشى كأنّما ينحطّ من صبب " ، فهذا هو المشي الهوينى .
ونومه الإغفاء : معناه أنّ نومه صلّى الله عليه وسلّم الإغفاء ، وهو عدم الاستغراق في النوم ، وهو معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم : « تنام عيني ولا ينام قلبي » لأنّه غريق الحضرة الإلهيّة ، فسرّه أبدا يطالع ما يبرز من الحضرة الإلهيّة من التجلّيات بتجلّياته سبحانه وتعالى ، فصفاته وأسماؤه لا تنقضي على ممرّ الأبد ، وتجلّيه بصفاته وأسمائه في كلّ مقدار طرفة عين من الزمان بما لا غاية له من صفاته وأسمائه ، تجلّيه لا ينقطع ولا يتراخى أبدا ، ولا يتكرر تجلّيه بصفة أو باسم في زمانين ، في كلّ مقدار طرفة عين من الزمان يتجلّى بما لا غاية له من صفاته وأسمائه من حيث أنّه لم يتجلّ بذلك قطّ فيما تقدّم من الزمان ، وهكذا أبد الأبد . وهو صلّى الله عليه وسلّم قائم في الحضرة في هذا المنوال يعطي لكلّ تجلّ حقّه من العبوديّة وما يلزمه من الأدب في حقوق الربوبيّة ، ولا يفتر من هذا أبد الأبد ولا التفات له إلى غير هذا ، فاستوى في هذا الميدان نومه ويقظته . فبشريّته صلّى الله عليه وسلّم يطرأ عليها النوم كسائر البشر ، وسرّه صلّى الله عليه وسلّم ، الذي هو محلّ القيام بأمر الله ، لا يلحقه نوم ولا يطرأ عليه فتور ولا كسل أبدا ، لا يفتر عن النظر لأمر الله في كلّ تجلّ ، والتجلّيات لا فراغ تعادلها .
ثمّ قال رضي الله عنه :
مَا سِـوَى خُـلْـقِـهِ النَّـسِـيـمُ وَلاَغَـيْـ
ـرِ مُـحَـيَّــاهُ الـرَّوْضَــةِ الْغَـنّــاءُ
قوله : ما سوى خلقه صلّى الله عليه وسلّم النسيم ، والنسيم هاهنا هو وصف لخلقه صلّى الله عليه وسلّم ، والمراد بالنسيم هاهنا نسيم النفس الرحمانيّ ، هو فيض الرحمة الإلهيّة من حضرة الألوهيّة ، فسمّاه نسيما لأنّه يتنسّم من النفس الرحمانيّ ، هو الذي يَرِدُ من الحضرة الإلهيّة وهي حضرة الألوهيّة ، فإنّها مصونة تلك الحضرة ، فأسوار الصفات والأسماء لا قدرة للوجود أن يطيق فيض جميع ما في الحضرة من الرحمة ، فإنّها مصونة ، فتلك الأسوار وإنّما يتنسّم من خلال أبوابها نسمات تسمّى النفس الرحمانيّ يصل النفع به إلى جميع الوجود ، فذلك التنسيم وذلك التنسّم ، الذي هو النفس الرحمانيّ ، يسري بنفع جميع الوجود هو خلقه صلّى الله عليه وسلّم الذي يمدّ به جميع الوجود ، فإنّه أشدّ بهم رحمة وعليهم تعطّفا وعفوا عنهم ، فهذا خلقه صلّى الله عليه وسلّم ، ما يسري في الوجود كلّه من الرحمة الإلهيّة هو خلقه صلّى الله عليه وسلّم ، فهذا معنى قوله : ما سوى خلقه النسيم .
قوله : ولا غير محيّاه الروضة الغنّاء ، المحيّا هو وجهه صلّى الله عليه وسلّم ، ما الوجود كلّه إلاّ محيّاه صلّى الله عليه وسلّم ، والمراد به أنّ جميع الموجودات على اختلاف بساطتها وتراكيبها فجملة ذاك من حقيقته المحمّديّة إذ كان للوجود كلّه صلّى الله عليه وسلّم بمنزلة الأب الجامع ، فالوجود كلّه تنسل من حقيقته المحمّديّة ، وامتدّ بعضه من بعض كما ترى في مثل آدم ، فما ترى في آدميّ خروج عن ذات آدم ، يعني كونه وجد من غيرها ، كذلك الوجود كلّه ما يرى فيه من شيء خلق من غير حقيقته المحمّديّة ، فهو أب لجميع الوجود ، فبهذا الاعتبار تعلم أنّه ما ثَمَّ إلاّ محيّاه ، وهو وجهه صلّى الله عليه وسلّم .
قوله : الروضة الغنّاء ، شبّه وجهه صلّى الله عليه وسلّم بالروضة الغنّاء ، هي المشتملة على نبات كثير من أنوار عطريّة ، وثمار حلويّة ، وملاذّ ونزهات ومياه جارية ، فلا شكّ أنّ هذه الحالة توقع في نفس من نالها طربا عظيما ونزها جسيما ، فتولّد الآلات التي صحبتها الأصوات الحسنة الغناء فإنّها في غاية الطرب والنزاهة ، فكذلك الروضة ذكرنا المشتملة على الثمار والأزهار فإنّها لمن نالها توضع في نفسه أمرا عظيما من الطرب والنزهة كالطرب الذي يكون عند سماع النغمات الطيّبة . ووجهه صلّى الله عليه وسلّم لرائيه في الطرب والنزاهة بمنزلة من دخل الروضة الممتلئة من الثمار والأزهار ، فذلك وجهه صلّى الله عليه وسلّم .
ثمّ قال رضي الله عنه :
رَحْـمَــةٌ  كُـلُّــهُ وَحَــزْمٌ وَعَـــزْمٌ
وَوَقَـــارٌ وَعِـصْـمَـــةٌ وَحَـيَـــاءُ
قوله : رحمة كلّه ، يريد أنّه رحمة لجميع العوالم ، كما قال سبحانه وتعالى : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [ الأنبياء : 107 ] ، فهو عين الرحمة الربّانيّة ، والوجود كلّه مرحوم به ، فرحمته سبحانه وتعالى وسعت كلّ شيء ، فما خرج عنها مكوّن ، فالوجود كلّه مرحوم برحمة الله الإلهيّة ، وما الرحمة الفائضة على الوجود إلاّ منه صلّى الله عليه وسلّم ، فهو الواسطة العظمى في جميعها وليس في مشيئة الله سبحانه وتعالى أن يفيض رحمة على بعض الوجود خارجة عن واسطة حبيبه صلّى الله عليه وسلّم ، فهو رحمة كلّه لأنّ الله رحم به العوالم حتّى قالوا إنّ الكفرة من أمّته صلّى الله عليه وسلّم الذين أرسل إليهم من اليهود والنصارى ومَن سواهم ممّن أدركته رسالته صلّى الله عليه وسلّم وكفروا به أنّ عذابهم في النار ليس كعذاب غيرهم من كفّار الأمم ، بل هُم أخفّ منهم بكثير لكونه مَسَّتْهُمْ رحمته صلّى الله عليه وسلّم برسالته إليهم ، فالرحمة التي نالتهم منه صلّى الله عليه وسلّم ، أنْ خفّف الله عنهم العذاب في الآخرة ، ليسوا كغيرهم من الأمم .
قوله : وحزم ، حقيقة الحزم هو شدّة إصابة العقل في نظره لوجود الصواب والرشاد نظرا في عواقب الأمور ، فهذا هو الحزم ، وكلّه حزم صلّى الله عليه وسلّم لشدّة معرفته لعواقب الأمور وشدّة معرفته طرق الصواب والرشاد وعدم مفارقته صلّى الله عليه وسلّم ، فإنّ مفارقته طريق الرشد بعد معرفتها من السفه في المرء ، فهذا هو السعيد ، وهو صلّى الله عليه وسلّم في غاية الصواب والرشد .
قوله : عزم ، حقيقة العزم هو شدّة المبادرة إلى الوفاء بحقوق الله تعالى بقدر العلم بها ، فإنْ تراخى عنها ولو لحظة فما هو بعازم ، وهو صلّى الله عليه وسلّم عزمٌ كلّه ووقار . حقيقة الوقار هو التعظيم ، والوقار له من جهتين : من جهة توقيره لأمر الله تعالى وعدم انتهاكه الحرمة صلّى الله عليه وسلّم ، والجهة الأخرى في وقاره فيما بينه وبين الناس ، فمن رآه بديهة عظّمه ووقّره صلّى الله عليه وسلّم وإن كان كافرا به ، فهو وقار كلّه صلّى الله عليه وسلّم .
قوله : وعصمة ، حقيقة العصمة هو التنائي عن مخالفة أمر الله تعالى ، لا يطرأ منه ذلك ولا يتأتّى منه وهو يعلم ذلك ، وكذا جميع النبيّين والمرسلين عليهم الصلاة والسلام في هذا الميدان لا يتأتّى منهم ذلك . أمّا في قضيّة آدم عليه السلام فإنّما أريد بها الكرامة لآدم لمّا رأى حرص اللعين على أن يوقعه في الخطيئة كما أوقع ليطرد كما طرد ويلعن كما لعن ، فقال له لسان الحال من حضرة الغيب : " الذي تريده منه ليس بواقع ولو وقع منه ما وقع . إنّا اصطفيناه لذاته وأحببناه لذاته وصرّفناه لذاته ، فلا يؤثّر ما وقع منه في رتبته عندي من الخطيئة " ، كما قيل في المثل السائر في لسان العامّة : " المحبوب ليس له عيوب " .
قوله : وحياء ، حقيقة الحياء على مرتبتين : المرتبة الأولى هو حياؤه من الله تعالى أن يعمل ما يوجب له عند الله شيئا أو لوما أو عتابا ، يستحي من هذا صلّى الله عليه وسلّم ، فهذه المرتبة الأولى في الحياء من الله تعالى ، والرتبة العليا التي فوقها هو إطراق الروح من هيبة الجلال فلا ترفع رأسها حياء من الله وتعظيما لجلاله ، فهذه حياؤه من الله تعالى أيضا . وأمّا الحياء من جهة الخلق فله رتبتان أيضا : الرتبة الأولى أن يستحي من الخلق فلا يفعل ما يوجب عليهم ثقلا أو ضررا إلاّ ما كان في أمر الله تعالى فقط ، والباقي يستحقّ منهم فلا يثقل عليهم شيء إلاّ ما كان من أمر الله تعالى ، والمرتبة الثانية فيما بينه وبين الخلق من أن يستحي منه كلّ من لقيه فلا يسيء عليه الأدب لشدّة تعظيمه في القلوب صلّى الله عليه وسلّم ، فهو حياء كلّه .
ثمّ قال رضي الله عنه :

<< الصفحة الثالثة    الصفحة الخامسة >>