فَـدَعَـتْــهُ إِلَـى الــزَوَاجِ وَمَـا أَحْــ
ـسَـنَ مَـا يَـبْـلُـغُ الْمُـنَـى الأَذْكِـيَـاءُ
قال : لمّا أتتها الأخبار بنبوّته ورسالته صلّى الله عليه وسلّم دعتْه إلى الزواج ، ثمّ استدرك أنّ ذلك عيب وعار عند الناس أنّ المرأة تطلب الرجل ، فرفع هذا العار عنها بقوله : وما أحسن ما يبلغ المُنَى الأذكياء ، والذكيّ هو : عظيم العقل إذا أحسن ببلوغ رتبة عالية صعبة المرام يطلب للأسباب والحيل للوصول إليها بأيّ شيء أمكن ، وإن كان فيه عازما أحسن بلوغهم المنى بما يفعلون من الحيل والأسباب لا يستقبح .
ثم قال رضي الله عنه :
وَأَتـاهُ فِـي بَـيْـتِـهَـا جَـبْـرَئِـيــلُ
وَلِـذِي الـلُّـبِّ فِـي الأُمُـورِ ارْتِـيَــاءُ
معنى هذا البيت : أنّه صلّى الله عليه وسلّم حين جاء إلى غار حراء ، حين نزل عليه الوحي في أوّل الأمر ، فجاء إلى خديجة رضي الله عنها يرجف فؤاده من الرعب ، فقال :
«
زمّلوني زمّلوني
»
، فزمّلوه حتّى ذهب عنه الروع ، ثمّ قال لخديجة وأخبرها الخبر :
«
لقد خشيت على نفسي
»
. كان صلّى الله عليه وسلّم في هذا يتخوّف على نفسه من الكهانة ، فقالت خديجة :
«
كلاّ والله لا يخزيك الله أبدا إنّك لتحمل الكَلَّ ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحقّ
»
. فما سكّن خوفه هذا القول ، فقالت له :
«
صاحبك الذي رأيته بحراء أتراه ؟ قال : نعم ، فكشفت حينئذ رأسها لتخبر الأمر فقالت له : أتراه الآن ؟ فقال : لا ، ثم أعادت الغطاء على رأسها فقالت : أتراه الآن ؟ قال : نعم ، فعلمت أنه ملك وليس بشيطان
»
. فهذا ارتياؤها من كمال عقلها ألهمها الله هذا .
ثم قال رضي الله عنه :
فَـأَمَـاطَـتْ عَنْـهَـا الْخِـمـارَ لِـتَـدْرِي
أَهُــوَ الْـوَحْــيُ أَمْ هُـوَ الإِغْـمَـــاءُ
الوحي ، هو الملَك الذي قام بالوحي ، أم هو الإغماء ، وهو الشيطان الذي قام بالكهانة .
ثم قال رضي الله عنه :
فَاخْتَـفَـى عِنْدَ كَشْفِهَـا الـرَّأْسَ جِبْـرِيـ
ـلُ فَـمَـا عَــادَ أَوْ أُعِـيـدَ الغِـطَــاءُ
فلما ظهر لها هذا علمتْ أنّها النبوّة .
ثم قال رضي الله عنه :
فَاسْـتَـبَـانَـتْ خَـدِيـجَـةٌ أَنَّـهُ الْكَـنْـ
ـز الـذِي حَـاوَلَـتْـهُ وَالكِـيـمْـيَــاءُ
ثُـمَّ قَـامَ النَّـبِـيُّ يَـدْعُـو إِلَـى اللَّــه
وَفِـي الْكُـفْـــرِ نَـجْــدةٌ وَإِبَــــاءُ
أخبر أنّه بعد مدّة قليلة من نزول الوحي عليه صلّى الله عليه وسلّم وعند نزول الوحي لم يؤمر بشيء ، وبعده بأيّام قليلة أُمِرَ بالدعوة إلى الله تعالى ، يدعوهم إلى الله تعالى ، وأنزل عليه في الدعوة أوّلا قوله تعالى :
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ

[ الشعراء : 214 ]
فدعا إلى الله تعالى أقاربه ، فمنهم من آمن كعليّ وزيد بن حارثة ومنهم من كفر كأبي لهب وأشباهه . ثمّ أنزل عليه بعد ذلك :
يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ

[ المدثر : 1 ، 2 ]
والإنذار حقيقته هو إخبار المنذَر بحلول البلاء والعذاب به فهذا هو الإنذار ، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم في بعض أحاديث :
«
أنا النذير العريان
»
.
ثمّ قال : وفي الكفر نجدة وإباء ، النجدة هي النصرة ، والكفّار على توفّرهم وكثرتهم ينصر بعضهم بعضا على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ، وفيهم إباء على متابعة أمره صلّى الله عليه وسلّم ، فما استجابوا للإسلام إلاّ بمقاساة الشدائد منه ومن أصحابه صلّى الله عليه وسلّم وبضرب السيف في دمائهم وأعناقهم .
ثم قال رضي الله عنه :
أمـمـا أُشْـرِبَــتْ قُـلُـوبُـهُـمُ الْكُـفْـ
ـرِ فَــدَاءُ الضّــلاَلِ فِـيـهِْ عَـيَـــاءُ
فقام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يدعو أمما إلى الإيمان ، وهم العرب ، ثمّ وصفهم بكونهم أشربوا الكفر في قلوبهم لأنّ الكفر تأصّل فيهم أيّ تأصيل حتّى لا تستطاع دعواهم إلى الله تعالى ، ولولا وقوع السيف فيهم ما أسلموا إلاّ قهرا .
قوله : فداء الضلال الخ ، داء الضلال فيهم عياء ، يعني إعياء ، كما قال نوح عليه الصلاة والسلام :
رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا

[ نوح : 5 ، 6 ] .
ثم قال رضي الله عنه :
وَرَأَيْـنَــا آيَـاتِــه فَـاهْـتَـديْـنَــا
وَإِذَا الْحَـــقُّ جَـــاءَ زَالَ الْمِـــرَاءُ
أخبر الشيخ عن نفسه مع أهل عصره من أهل الإيمان قال : أولئك الأمم الذين كانوا في عهده صلّى الله عليه وسلّم كفروا بدعوته مع ما أوضح لهم من المعجزات الباهرة التي لا يشكّ معها ذو عقل في أنّ دينه دين الحقّ صلّى الله عليه وسلّم فكفروا وتباعدوا ، ونحن ـ يريد معشر أهل الإيمان ـ رأينا آياته فاهتدينا ، يريد فآمنا بالله ورسوله ، والآية التي رأيناها هي القرآن ، فإنّها أكبر معجزاته صلّى الله عليه وسلّم ، وإذا جاء الحقّ زال المراء وهو الشكّ . وللحقّ سبحانه وتعالى تجليّان ، تجلٍّ قبل ظهور الفتح وهو فتح مكّة ، وتجلٍّ بظهور الكفر في عبادتهم فلم ينفع شيء . وتجلّي بعد الفتح ، يعني فتح مكة ، بظهور الإيمان والهدى في خلقه فآمنوا كلّهم واهتدوا إليه إلى أن توفي صلّى الله عليه وسلّم فارتدّت العرب إلى دينها وذلك أنّ للنفوس إلفاً عظيما بما ألِفَتْ ، وقد ألفت الكفر قبل ظهوره صلّى الله عليه وسلّم ، فلمّا أخرج السيف من غمده صلّى الله عليه وسلّم وأراهم ما وقع بأمثالهم من السبي والقتل ارتاعوا روعا عظيما واستجابوا للإسلام على خوف ووجل مع كون إلْفِهِمْ للكفر باقيا في نفوسهم وما أوقعهم موقع الإسلام إلاّ الخوف والرعب ، فمازالوا كذلك حتّى توفي صلّى الله عليه وسلّم ، فظنّت نفوسهم أنّ الأمر الذي جاء به انقطع بموته فرجعوا إلى كفرهم وما ألِفُوهُ من الضلال . فلمّا وُلِّيَ أبو بكر رضي الله عنه وأخرج لهم جيوش الإسلام يفعل فيهم ما فعله صلّى الله عليه وسلّم من قبل من القتل والسبي فاستجابوا للإسلام على ذلّ وإهانة ، ثمّ داموا على ذلك خوفا حتّى تأصّل فيهم الإسلام وبقي في أولادهم وثبت .
ثم قال رضي الله عنه :
رَبِّ إِنَّ الْـهُــــدَى هُـــدَاكَ وَآيَـــا
ـتك نُـورٌ تَـهْـدِي بِـهَـا مَـنْ تَـشَـاءُ
قوله : ربِّ إنّ الهدى ، يعني هو دعاء منه لله تعالى معناه " يا ربّ " لأنّ حرف النداء محذوف ، ثمّ خاطب الله تعالى متضرّعا سائلا منه الهدى بلسان حاله . قال : إنّ الهدى هُداكَ ، والهدى توفية ما أمر الله به واجتناب ما نهى الله عنه ، فهذا هو الهدى الشرعي ، والهدى الحقيقي هو أخذ الله بناصية العبد يوفّقه الله في التحرّي بالقيام بأمر الله تعالى وبالاستمساك فيه بحيث أن لا يسلم بقلبه غيره ، أيّ : غير الله تعالى ، فهذا هو الهدى الحقيقيّ .
قال : ربّ إنّ الهدى هداك ، يعني لا يسأل إلى أحد إلى الهدى ، ولا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، إلاّ أنت وحدك ، يعني لا هادي غيرك من سائر خلقك ، يقول صلّى الله عليه وسلّم :
«
بعثت هاديا وليس لي من الهداية شيء ، وبعث إبليس غاويا وليس له من الغواية شيء
»
فحينئذ إنّ الهداية من الله قليلها وكثيرها لا لشيء غيره فيها نسبة ، ولذا قال سبحانه وتعالى :
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ

[ الرعد : 33 ]
وقال :
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ

[ الزمر : 37 ]
قوله : وآياتك ، والمراد بالآيات القرآنية أو المعجزات ، وآياتك كلّها نور أنوارك هادية إليك لمن أحببتَه من خلقك وتضلّ بها من طردتَه بها من خلقك كما قال في القرآن :
يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ

[ البقرة : 26 ، 27 ] ،
فأخبرنا أنّ القرآن في نفسه هدى لكن من قرأه وخالطه بالتقوى والاستقامة وحفظ الأدب انصبّت على قلبه أنواره فاهتدى بذلك إلى الله تعالى بجاذب إلهيّ ، ومَن خالط القرآن وقرأه مع إقامته على سوء الأدب ومقارفة المعاصي أضلّه الله بالقرآن فلا يكون عليه فيه إلاّ الضرر بقراءته ، فإنّه يقول في الخبر صلّى الله عليه وسلّم :
«
القرآن يأتي يوم القيامة فهو شافع مشفّع أو ماحل صدق ،
»
ومعنى الماحل هو الذي يضرب بالشر والهلاك ، فإنّ الذي في الخبر أنّ الله يوقفه بين يديه ، أيّ القرآن ، بعد أن يستحضر جميع حملته ثمّ يسأله سبحانه وتعالى عنهم ، فبعضهم يقول فيه : " ربّ كان مصاحبا لي ويقف على الحدود ويوفي بالعهود ويسير في مرضاتك ، فيشفّعه الله فيه ، يريد : ويغفر له جميع ما ارتكب من الذنوب ، ويريد : أن يشفّعه الله فيمن أحبّ من خلقه ، وطائفة يقول فيهم القرآن : " ربّ كان يصحبني باللهو واللعب ولم يقف عند حدّي ولم يراع عهدي ولا يبالي بأمري ونهيي ، فيقول : اذهبوا به إلى النار ، فهذا هو الماحل المصدق ، يعني إذا شهد عليه بالسوء بين يدي الله تعالى فيصدّقه فيدخله النار إذا لم يغفر له .
قوله : تهدي بها من تشاء ، معناه يهدي الله لنوره من يشاء ويصرف من يشاء عنه . قال الوليد بن المغيرة يوما ، وقد تذاكروا القرآن بين يديه ـ يعني كفار قريش ـ وتعجّبوا ممّا ظهر فيه من العجائب ، وكان بعضهم طعن فيه ، فقال الوليد : " إن له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة وإنّ أسفله لمغدق وإنّ أعلاه لمثمر وما يقدر أن يأتي به بشر " ، فهذا قوله ، وصرفه الله تعالى عنه وكفر ولم يهده الله بنوره .
وقال لأبي جهل ، وهو يوما في مجلسه وتذاكروا القرآن بين يديه ، فقال لجلسائه : " لقد غلبت فصاحتي الفصحاء وبلاغتي البلغاء وإنّ الذي يأتي به محمّد ما يقدر أن يأتي به بشر " ، ولكن الصارف الإلهيّ صرفه عنه .
وقال بعض كفّار قريش ، حين استظهره صلّى الله عليه وسلّم في مراتب كثيرة على أن يأتوا بمثل هذا القرآن أو سورة منه ، قال هذا الكافر : " أيعجزنا محمّد أن نأتي بمثل ما أتى به الله ؟ لأعارضه اليوم " ، فلمّا خرج من داره عازما على هذا الأمر سمع قارئا يقرأ :
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ

[ هود : 44 ]
فيهد قلبه من سماع هذا الخطاب ومن علوّ فصاحته وبلاغته ، فأقرّ وقال : " أشهد أن هذا لا يعارض بعد " ، هذا صرفه الصارف الإلهيّ يعني
يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا
والقرآن في نفسه هو حقّ وهدى ولكن من خالطه بحقّ وقاه الله تعالى في مراتب التحقيق ، ومن خالطه بتخليطه ولا يثوب عنه لم يزده إلاّ ضلالا وبعدا . وكذلك آيات المعجزات ، هي نور يهدي بها من يشاء من خلقه ، فإنّ أبا سفيان بن حرب ، وكان من رؤساء قريش ، قال : " سافرت مع أميّة بن الصلت الثقفي إلى الشام ، وصحبته في الطرق ، فبينما نحن في بعض المنازل إذ قال لي : " يا أبا سفيان إن شئت أن تقدم معي إلى راهب من رهبان النصارى فإنّ عنده علما عظيما ، قال قلت له : لا أفعل ، إن حدّثني بما فيه شرّ غاظني ، وإن حدّثني بما فيه خير لم أثق به ، قال : فقام وحده وذهب إليه عشيّة النهار فما جاء إلاّ آخر الليل ، ثمّ ذهبنا إلى دمشق وإياها كنّا نريد ، فلمّا رجعنا منها ووطنّا ذلك المحلّ ذهب إليه كعادته . فلما جاء آخر الليل جاء في كآبة عظيمة ، وكانت عادته إذا جاء من عنده جاء منبسطا وحدّثني ببعض ما سمع منه . فلمّا جاء في تلك الليلة جاء في كآبة عظيمة وألقى نفسه على الأرض بعنف ولا كلّمنا ولا كلّمناه ، ثمّ أقمنا حتّى أصبح الصباح ورحلنا ، وسار مدّة ثمّ ناداني : " يا أبا سفيان هل أنت محدث ؟ " ، قلت : " نعم " ، قال : " إنّه عتبة بن ربيعة " ، قال : " قلت : ما شأنه ؟ " ، قال :" كم سنة ؟ " ، قلت : " هو ابن سبعين قد قاربها أو زاد عليها قليلا " ، ثمّ قال : " هل تعلم في قريش أشرف منه ؟ " ،قلت : " لا " ، قال : " ومحوج ؟ " ، قلت : " لا " ، قال : " السن والشرف أزريا به " ، قلت : " وما لهما أزريا به ؟ بل زاد خيرا " ، ثمّ قال : " هل رأيت منّي ما فعلت البارحة حين جئت من عند الراهب ؟ " ، قلت : " ما شأنك ؟ " ، قال لي : " كنت سمعت من جميع الرهبان أنّه بقي في الخلق رسول واحد هو خاتم النبّيين والمرسلين وأخبروني أنّه من العرب ، فكان في نفسي أنّي هو ، فلم يزل ذلك في نفسي حتّى أتيت الراهب في هذه المرّة فاستكشفته من أمره وتحقيقه قلت له : " أخبرني مَن هذا الرسول الذي يُنتظَر ، من أيّ بيت هو في العرب ؟ " ، فقال لي الراهب : " من أهل بيت تحبّه العرب " ، وكانت ثقيف بَنَتْ بيتاً في الطائف فكانوا يحجّون إليه ثقيفا ومَن والى ثقيفا من العرب ، قلت : " هذا بيت تحجّه العرب " ، قال : فنظر إليّ مفكرا ثمّ قال لي : " لا ، إنّهم إخوتكم وجيرانكم من قريش . أنت من ثقيف وهو من قريش . قال : " فسقطت من يدي الدنيا والآخرة " . قال : ثمّ قلت : " أمّا إذا كان ما كان فأخبِرْني بصفته ووقته " ، قال : قال لي : " أما وقته فهذا الذي يظهر فيه " ، قال : قلت له : " هل لذلك من علامة ؟ " ، قال : قال لي : " إنّه رجف بالشام منذ توفّي عيسى ثمانون رجفة " ، ثمّ قال : " بقيتْ رجفة واحدة هو خارج عن آثارها " ، قال : قلت له : " أخبرني بصفته " ، قال : قال لي : " هو شابّ قد دخل في الكهولة ومحوج السنّ والشرف أزريا به لا ينازع شرفا ، أكثر جنده من الملائكة . قال أبو سفيان : " رجعنا على حالتنا ، فبينما نحن في الطريق قبل وصولنا إلى مكّة ورد علينا الخبر عن كذا ورأينا أنّه رجف بالشام رجفة عظيمة " ، قال : فقدمت مكّة ليلا وجاء لنا الناس يسلّمون عليّ وجاء في جملتهم محمّد بن عبد الله ، وكان له معي مال للتجارة ، ولم يبق ممّن جاء من قريش له معي مال إلاّ سألني عنه وعن بيعه وما حصل فيه ، ولم يسألني هو عن شيء ، قال : وكانت عندي هند بنت عتبة تلاعب صبية لها . فلمّا قام الناس وخرجوا قلت : " رأيت عجبا " ، قالت لي : " ما هو ؟ " ، قلت لها : " إنّ أرباب الأموال لم يبق واحد منهم إلاّ سألني عن ماله وما وقع فيه إلاّ محمد بن عبد الله ما سألني عن شيء من ماله ولا تكلّم فيه " ، فقالت : " أوَ مَا بلغك ما هو فيه ؟ " ، قلت لها : " لا " ، قالت : " الذي هو فيه يزعم أنّه رسول الله إلينا " ، قال : فلمّا قالت لي ذلك أصابتني حيرة كالبهتة قال : قالت لي هند : " ما شأنك ؟ " ، قال : قلت : " إنّه أعقل من أن يقول هذا " ، قال : فقالت لي : " إنّه ليؤتي عليه وقد أظهر ذلك على رأس العام والخاصّ " ، وأصابني من ذلك شيء كالتحقيق . ثمّ خرجت ثانيا إلى الشام قال : مررت بأميّة بن الصلت قال : فقلت له : " الخبر الذي أخبرتني به قد وقع بمكّة " ، قال : فقال لي متعجّبا : " أوقع ذلك ؟ " ، قلت له : " نعم " ، قال لي : " من هو ؟ " ، قلت : " هو محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب " ( صلّى الله عليه وسلّم ) ، قال لي أميّة بن أبي الصلت : " والله إنّ صفته لهي " ، قال : قلت له : " أين أنت من ذلك ؟ " قال : " لئن قام لأنصرنّه نصرا مؤزّرا " ، قال : فلمّا كثر الخبر وانتشر وظهر وطرقْتُه مرّة أخرى ، قلت له : " ما أنت فيه من خبر محمّد بن عبد الله ؟ " ، قال : " ما كنت لأؤمن برسول ليس من ثقيف " . قال أبو سفيان : ثم دخل الناس من الكفر حتّى أسلم عام الفتح قهرا والسيف على رقبته .
وكذا انشقاق القمر اقترحه عليه المشركون ، كانوا قالوا له : " إذا انشقّ القمر ورأيناه آمنّا بك ، فكانت الليلة التي تليه رأوه انشقّ نصفين ، نصفا دون الجبل ونصفا وراءه ، ورأوه بأجمعهم ، ثمّ قالوا : " لا نصدّق حتّى نسأل من يأتي من الناس هل رأوا مثل ما رأينا أم لا " . فلمّا كان الصباح وقدِمَتْ الناس من طرق كثيرة سألوهم عنه فقال كلّ من سألوه ، قالوا : " رأيناه انشقّ نصفين " ، فقالوا : " هذا سحر مستمرّ " ، فلم يبق حينئذ إلاّ الهداية بيد الله .
وكانوا اقترحوا في مرّة أخرى وأقسموا لئن جاءتهم آية ليؤمننّ بها ، قال سبحانه وتعالى :
إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ

[ الأنعام : 109 ]
، وكان في المحلّ سأل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الله أن يأتيهم بآية ليؤمنوا ، قال سبحانه وتعالى :
وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ

[ الأنعام : 109 ] ، ثمّ أخبر سبحانه وتعالى عن استبداده بالهدى وأنّه لا حول ولا قوّة في الهدى لغيره ، قال جلّ مِن قائل :
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ

[ الأنعام : 110 ] ، يعني أنّهم إذا رأوا الآية لا يؤمنون بها قال :
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ

[ الأنعام : 110 ] ، ثمّ أخبر سبحانه وتعالى بقوله :
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قِبَلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ

[ الأنعام : 111 ] ، أخبر سبحانه وتعالى أنّ قلوبهم ليست في أيديهم حتّى يؤمنوا أو يشركوا ، بل القلوب في يده سبحانه وتعالى يقلّبها كيف شاء ، فإنّ عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان كاتب الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، كتب له الوحي مدّة كثيرة ، فحين أنزل الله سبحانه وتعالى :
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ

[ المؤمنون : 12 ، 13 ] إلى أن قال :
أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ

[ المؤمنون : 14 ] انبهر عقله وأصابته بهتة ممّا رأى من عجائب تركيب الإنسان ممّا لم يسمعه قطّ قال : " فتبارك الله أحسن الخالقين " ، فقال صلّى الله عليه وسلّم :
«
أكتب كذلك أنزلت
»
، فكفر وكذّب وارتدّ وهرب إلى قريش ، فكان كافرا ، ثمّ أسلم عام الفتح وثبت على إسلامه رضي الله عنه .
وكذلك سائر المعجزات كلّها هدى ، ونور الهداية فيها بيد الله يهدي بها من يشاء لا اختيار لأحد فيها .
قال رضي الله عنه :
كَـمْ رَأَيْـنَـا مَـا لَيْـسَ يَعْـقِـلُ قَـدْ أُلْْـ
ـهِـمَ مَـا لَـيْـسَ يُـلْـهَـمُ الْعُـقَــلاَءُ
تكلّم أوّلا على أنّ آية الله نور وهي الآية القرآنيّة ، والمعجزات البرهانيّة هي في نفسها نور يهدي بها من يشاء ويضلّ بها من يشاء ، ثمّ عطف عليها كالمعبّر لها أو مفرعا عليها ، قال : قد رأينا ما ليس يعقل قد أُلهِم ما ليس يلهم العقلاء ، ثمّ عطف عليها بقضيّة الفيل لمّا قال : آية الله نور يهدي به من يشاء من خلقه حتّى في الحيوانات التي ترى لا عقل لها ، قال : قد رأينا ما ليس يعقل قد ألهم ما ليس يلهم العقلاء ، وشرْح هذا البيت هو قصّة الفيل ، وهو فيل أتى عليه أبرهة الأشرم ملك الحبشة باليمن حين جاء لهدم الكعبة ، فلمّا كان في الطريق مرّ على ديار خثعم وبجيلة ورئيسهم إذ ذاك نفيل بن حبيب الخثعمي ، وكان إذ ذاك سمع بقصّته وما يريده ، فجمع من نسله ما أعطاه الله وقاتله مدافعا عن حرمة بيت الله تعالى فهزمهم أبرهة بحيوانه وقتل من قتل منهم وأخذ نفيلا أسيرا في يده وتركه في أسره حتّى قدم به مكّة ، فلمّا قدم مكّة ونزل بموضعه المعلوم بيانه ، فلمّا أصبح عازما على دخول مكّة وكان قريش إذ ذاك هربوا إلى الجبال خوفا على نسائهم من مغرة الجيش وتركوها فارغة ، فلمّا أصبح وأراد أن يدخل مكّة لهدم البيت أمر حرسه أن يجهّزوا له الفيل ليركب عليه ويدخل به مكّة ، وبينما هم يجهّزونه إذ جاءه نفيل بن حبيب الخثعمي ، وسار الفيل بعد أن همس في أذنه من غير أن يسمعه أحد ، وكان الفيل إذ ذاك اسمه محمود ، فقال له نفيل في أذنه : " أبرك محمود وارجع راشدا من حيث جئت فإنك في بلد الله وحرمه " ، وراموا أن يقيموه إلى مكّة فأبى أن يقوم من مبركه ، فصرفوه نحو العراق فقام مهرولا ، ثمّ صرفوه نحو الشام فقام مهرولا ، ثمّ صرفوه نحو اليمن فقام مهرولا ، فصرفوه نحو مكّة فبرك ، وعالجوه على دخول مكّة بكلّ علاج فأبى وامتنع لمّا أعلمه الله في قلبه وأنّه في حرم الله وأنّ البيت بيته . فينما هم كذلك يعالجونه إذ وردت عليهم الطير من جهة البحر ، أبابيل ، يعني جماعات بعد جماعات ، فكانت جماعة الطير إذا توسّطت فوق رؤوسهم أرسلت من مخالبها الحجر ، وهي حجر من سجّيل أعاذنا الله منها حيثما وقعت على الآدمي حتّى خرجت ، فكلّ من وقعت على رأسه خرقته حتّى تخرج من أسفله فيموت من حينه ، وفيه تصيبه الحجر محنية فلا يموت من حينه ، ومات كثير منهم بالعسكر ، ثمّ خرجوا هاربين ممّا رأوا من الهلاك فكانوا يتساقطون في الطريق موتى ، فما بلغ منهم إلى اليمن إلاّ القليل ، وأصيب اللعين أبرهة بحجر أصابته معارضة على صدره وطارت فوقعت الأكلة في صدره ممّا مسه الحجر فطار صدره عن قلبه وصار قلبه عريا ، فما بلغ صنعاء إلاّ مثل فرخ الطائر ، وتوفي بصنعاء حين بلغها عليه لعنة الله .
قلنا : الشاهد هنا في هذا ما في قضيّة الفيل أنّه في الظاهر لا يعقل ولا يعلم شيئا ، وهم العقلاء في الظاهر ، فما نفعهم عقلهم ، واجترأوا على الله تعالى في حرمه وحلّ بهم ما حلّ بهم من الهلاك ، وامتنع الفيل خوفا من الله تعالى مع كونه في الظاهر لا يعقل ومع ذلك ألهمه الله تعالى من الخوف منه حتّى امتنع على الجرأة على الله تعالى وحرمه ، فهذا معنى البيت .
ثم قال رضي الله عنه :
إِذْ أَبَـى الْفِيـلُ مَا أَتَـى صَـاحِـبُ الْفِـيـ
ـلِ وَلَـمْ يَـنْـفَــعِ الْحِـجَـا والذَّكَــاءُ
ألهمه الله تعالى الخوف منه فلم يجترئ على آله ولا على حرمه .
ثم قال رضي الله عنه :
والْجَـمَـادَاتُ أَفْـصَـحَـتْ بِـالـذِي أُخْـ
ـرِسَ عَـنْـهُ لأَحْـمَــدَ الْفُـصَـحَــاءُ
معنى البيت أنّه صلّى الله عليه وسلّم أُنطِقتْ له الجمادات كثيرا ، من ذلك تسبيح الحصا في كفّه صلّى الله عليه وسلّم حتّى سمعها الحاضرون وهي جمادات . ومن ذلك حنين الجذع إليه صلّى الله عليه وسلّم جهارا حتّى سمع جميع الحاضرين وقضيّته معلومة . ومن ذلك الحجر الذي كان بمكّة وهو معروف ، قال عليه السلام :
«
كلّما مررت به يقول لي السلام عليك يا رسول الله
»
. ومن ذلك نطق الذراع له صلّى الله عليه وسلّم وهو جماد ، وكانت اليهوديّة وضعت له السمّ فيه وسمّته له ، فأخذه صلّى الله عليه وسلّم ، فلمّا أخذه عضّه عضّة ولَاكَهَا بين أسنانه ناداه حينئذ الذراع وقال : " إنّي مسموم " ، فرماه صلّى الله عليه وسلّم ودعا اليهوديّة وقال لها :
«
ما حملك على ما صنعت »
قالت له : " قلت إن كان نبيّا ستخبر بذلك ويمتنع منه وإن كان ملِكا استرحنا منه " ، فعفا عنها صلّى الله عليه وسلّم وتركها . وتكلّمت له الجمادات كهذه القضايا التي ذكرناها وغيرها .
ثم قال رضي الله عنه :
وَيـحَ قَـوْمٍ جَـفَـوْا نَـبِـيّـاً بِــأَرْضٍ
أَلـِفَـتْــهُ ضِـبَـابُـهَــا وَالظِّـبَــاءُ
ويح قوم ، معناه ، يعني " ويل لهم " ، جفوا نبيّا بأرض ، يعني أرض مكّة بعدما عرفوه وعرفوا صدقه وأمانته فكفروا به بغيا وحسدا صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ويحهم كفروا به وهو الجفاء الذي أراده ، بأرض ، وهي أرض مكّة وما حولها ، كفروا به وقد ألِفَتْهُ ضبابها والظباء ، والضباب جمع ضبّ وهو معروف بأرض العرب كانت تألفه وتقرّ له بالرسالة صلّى الله عليه وسلّم . فقد روي أنّه كان يوما جالسا في حلقة من أصحابه فجاء أعرابيّ ومعه ضبّ ، فلمّا رآهم مجتمعين على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال : " ما هذا ؟ " ، قالوا له : " رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو الناس إلى الله تعالى ويأمرهم بعبادته " ، فقال الأعرابيّ : " ولا آمنت به أو يؤمن به هذا الضبّ " ، فناداه صلّى الله عليه وسلّم وهو في يد الأعرابيّ فقال :
«
يا ضبّ ، فقال له الضبّ : لبّيك وسعديك يا زين من وافى القيامة ، قال صلّى الله عليه وسلّم : من تعبد ، قال الضبّ : الذي في السماء عرشه وفي الأرض سلطانه وفي الهواء روحه وفي الجنّة سبيله ، قال له : من أنا ، قال له : أنت رسول الله قد أفلح من صدّقك وخاب من كذّبك
»
فأسلم الأعرابيّ ، قال : ألِفَهُ ضبابها ، والظباء جمع ظبي وهي الغزلان ، فإنّ تلك الأرض التي كان بها ، وهي مكّة وما حولها ، ألِفَتْهُ ضبابها والظباء ، فويح للذين جفوه وكفروا بعدما عرفته حيواناتها وألفته .
ثمّ قال رضي الله عنه :
وَسَـلَــوْهُ وَحَــنَّ جِــذْعٌ إِلَـيْــــهِ
وَقــَلَــــوْهُ وَوَدَّهُ الْغُـــرَبــــاءُ
قوله : سلوْه ، السلو هاهنا هو الغنى عن الشيء إذا تركه ونسيه ، يقال : سلا عنه ، قال : أهل مكّة سلوْه ، يعني استغنوا عنه وتركوه وحنّ جذع إليه لشدّة حبّه له وتعظيمه له . وقضيّة الجذع مشهورة ، وهو الجذع من النخل كان يخطب عليه صلّى الله عليه وسلّم في الجمعة ، فلمّا اتّخذ له المنبر وعزل الجذع هناك ناحية ، فلمّا قام على المنبر صلّى الله عليه وسلّم سمعوا من الجذع حنينا عظيما وبكاء صريحا ، فلمّا سمعه صلّى الله عليه وسلّم أمر أن يأتوا به ، فخيّره صلّى الله عليه وسلّم بين أن يكون نخلة قائمة يؤكل منها وبين أن يجعله نخلة في الجنّة يأكل منها المؤمنون ، فاختار الجنّة ، فأمر بدفنه هناك حتّى ينتقل إلى الجنّة .
وسلوْه وحنّ جذع إليه من شدّة حبّه له وتعظيمه له وافتقاره إليه ، وفي ضمن البيت كأنّه يقول : في أهل مكّة حمقا عظيما بعدما شاهدوا معجزاته وتحقّقوا صدقه وأمانته ، وتحقّقوا بالقرآن أنّه من عند الله لا يقدر البشر أن يأتي به ، وعند تحقّق نبوّته أنّهم في غاية الحاجة إليه لأمور الدنيا والآخرة . للدنيا ما نصب لهم من المملكة في الأرض ، وقد كان يخبرهم قبلُ أنّه تقع لهم المملكة في الأرض على يديه ، ويستلبوا ملك كسرى وقيصر صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وفي الآخرة ما وعدهم به من الجنّة ونعيمها والبراءة من النار والخلود فيها إنْ آمنوا به ، مع كمال النجاة من عذاب النار يوم القيامة . فهُمْ في هذه الأمور الدنيويّة والأخرويّة في غاية الفقر والحاجة ، ثمّ مع ذلك كلّه كفروا به واستغنوا عنه وأظهروا عدم حاجتهم إليه ، بهذا غاية الحمق منهم ، والجذع مع كونه غير مفتقر إلى كثير من هذه الأمور ، وإذ لا تمتّع له لا بالدنيا ولا بالآخرة ، ثمّ لمّا عاشره صلّى الله عليه وسلّم فرح فرحا شديدا وعرف أنّ له عند الله شأنا إذ اصطفاه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، فلمّا فارقه حنّ إليه أشدّ الحنين مع كونه أقلّ منهم إليه حاجة وأقلّ منهم فقرا إليه ، فهذا غاية الحمق منهم وهذا غاية العجب ، وهو كونه جمادا لا تمتّع له بالدنيا ولا بالآخرة حنّ لمفارقته صلّى الله عليه وسلّم ووجد في نفسه أنّه حلّ به الهلاك حين فارقه وهُمْ قد سلوا عنه مع شدّة احتياجهم إليه في الدنيا والآخرة .
وقوله : وقلوْه وودّه الغرباء ، وقلوْه : أهل مكّة ، وآواه الغرباء ، هنا يحتمل أنّهم المهاجرون الذين هاجروا من قبائلهم من العرب وهم الذين قال فيهم سبحانه :
للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله
[ الحشر : 8 ] الآية ، فهؤلاء هم الغرباء الذين هاجروا إليه من قبائلهم فكانوا بذلك غرباء ، ويحتمل أنّ الغرباء هنا هم أهل المدينة الأوس والخزرج ، فإنّهم غرباء عن وطنهم ووطنهم اليمن ، ونزلوا أرض الحجاز وليسوا من أهلها لأنّ أرض الحجاز كانت للعرب المتعرّبة وهُمْ ولد إسماعيل عليه الصلاة والسلام ، وأهل المدينة من العرب العاربة وهم أهل اليمن ، ولذا سُمُّوا غرباء لأنّهم ليسوا من الحجاز لأنّهم من العرب العاربة وليسوا من العرب المتعرّبة ، فإنّ المتعرّبة أصلهم عجم وتعرّبوا لأنّ إسماعيل وأبوه عجميّ وهو عجميّ أيضا ، ولكنّه لمّا نشأ بأرض العرب حين رماه أبوه إلى مكّة وأهلها إذ ذاك جُرْهُم وقطورا من عرب اليمن نشأ بينهم صبيّا صغيرا وتكلّم بلسانهم وأرسل إليهم وتزوّج منهم فسمّوا أولاده العرب المتعرّبة يعني أصلهم عجم فتعرّبوا وأخذوا بلسان العرب ، والعرب العاربة هم أهل اليمن وهم من ولد قحطان ، القحطانيون ، ويحتمل أنّ الغرباء هنا هم أهل المدينة لأنّ المدينة في وسط الحجاز وأهلها ليس وطنهم إنّما وطنهم اليمن فمن هنا سمّوا غرباء . قال : وقلوه ، يعني أهل مكّة ، وآواه الغرباء ، وإمّا أهل المدينة وهم الأنصار والمهاجرون وهم الذين هاجروا إليه قبائلهم ، فهذا معنى البيت .
ثمّ قال رضي الله عنه :
أخْـرَجُــوهُ مِـنْـهَــا وَآوَاهُ غَـــارٌ
وَحَـمَـتْــهُ حَـمَـامَـــةٌ وَرْقَــــاءُ
ذكر في هذا البيت هجرته صلّى الله عليه وسلّم . مازال صلّى الله عليه وسلّم صابرا على إذاية قومه وشدّة تكذيبهم والْتِوَائهم عليه صلّى الله عليه وسلّم بأمر لا يطيقه غيره وهو في ذلك كلّه لم يهاجر ولم يقاتل ، وهو ينتظر أن يأذن له ربّه في الهجرة عنهم ، إلى أن أجمعوا على قتله بأمر لم يخالف أحد منهم إلاّ ما كان من بني هاشم وبني المطلب ولم يقدروا على منعه ، ففي الليلة التي عزموا فيها على قتله أتوا على باب داره وباتوا عليها يحرسونها . وكانت عادته أن يخرج في وسط الليل إلى الكعبة يصلّي عندها ، وفي تلك الليلة كانوا ينتظرونه إذا خرج على عادته قتلوه ، وكان صلّى الله عليه وسلّم في تلك الليلة قال لعليّ :
«
نم على فراشي ولا يخلص إليك شيء تكرهه
» ،
ثمّ خرج في أوّل الليل قبل مجيء وقته ، فخرج عليهم وهم جلوس على الباب ، وكان حين خروجه أبو جهل لعنه الله في الجالسين ، قال لهم : " إنّ محمّدا يزعم أنّكم إن بايعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم ثمّ بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الأردن ، موضع بالشام فيه جنّات كثيرة ، وإن خالفتموه كان له فيكم ذبح وقتل ثمّ بعثتم من بعد موتكم إلى نار حاميّة . ثمّ خرج عليهم صلّى الله عليه وسلّم في هذا الحال بعدما كان تلا أولى سورة يس إلى قوله :
فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ

[ يس : 9 ] . فخرج وأبو جهل يقول لأصحابه هذا القول ، قال صلّى الله عليه وسلّم :
«
نعم أنا القائل ذلك
» ،
وأخذ الله بأبصارهم فما ترك واحدا منهم إلاّ وأخذ كفّا من تراب ووضعه على رأسه وهم لا يشعرون وذهب حيث شاء . فبعد هدأة من الليل خرج بعض كفّار قريش ممّن كان يراهم جلوسا ، وكان رآه صلّى الله عليه وسلّم خرج من داره ووضع على رأسهم التراب وهو على سطح داره يراه ، فجاءهم ذلك القرشيّ وقال لهم : " ما يقعدكم هنا ؟ " ، قالوا : " ننتظر محمّدا حتّى يخرج " ، فقال لهم : " أو ما خرج عليكم ؟ " ، قالوا : " لا " ، قال لهم : " بل خرج عليكم وما ترك منكم واحدا إلاّ وضع كفّا من تراب على رأسه " ، ثمّ قال لهم : " قبّحكم الله " ، فوضعوا أيديهم على رؤوسهم فوجدوا التراب على رؤوسهم فلم يصدّقوه في ذلك ، فبقوا في مكانهم حتّى طلع النهار إذ فتح عليّ رضي الله عنه الباب وخرج عليهم فلم يلتفتوا إليه لأنّه ليس حاجتهم ، فعلموا أنّه صلّى الله عليه وسلّم ليس هو بالدار . فعند هذه الواقعة أذن له ربّه بالهجرة عنهم ، فلمّا أذن له ربّه جاء في القيلولة ودخل على أبي بكر داره ، وكان كثير من أصحابه هاجروا قبله إلى المدينة ، فكان أبوبكر يريد أن يهاجر وقد وقع له هذا مرّات فيقول صلّى الله عليه وسلّم :
«
لا تعجل لعل الله يجعل صاحبا
» ،
فكان أبوبكر يرجو أن يكون صاحبه صلّى الله عليه وسلّم ، فأعدّ رواحله في داره يعلفها وصنع الزاد لذلك وأعدّه ، فلمّا جاء إليه وقت الهاجرة وأخبره أنّ الله أذن له في الهجرة عن مكّة فخرج هو وأبوبكر مستخفيين إذ كانوا من خروجه في أمر عظيم وخوف شديد علموا أنّه يهلكهم فتخوّفوا لذلك إذ كان أبو طالب هو الذي أخبرهم عن قوّته على متابعته وقال لهم : " إن اتّبعتموه كان خيرا لكم " ، ثمّ قال لهم أبو طالب : " كأنّي بصعاليك العرب قد أجابوا دعوته واتّبعوه على أمره فخاض بهم غمرات الموت فوطئكم بهم فأذلّكم واستعبدكم ، فعند ذلك صارت رؤساء قريش أذنابا " ، فكان تخويفهم من هذا الخبر تخويفا شديدا وعرفوا إنشاء أمره في العرب ، لكن قبل ذلك هوّن عليهم أنّه لم يكن له مقرّ في الأرض يجتمع فيه بمن يطيعه ، فلمّا بايعوه أهل المدينة واجتمعوا على أمره ورأوا الصحابة يهاجرون إليهم جهارا اشتدّ خوفهم وقلقهم ، فكان من شدّة خوفهم وقلقهم يتفقّدونه مدّة بعد مدّة حتّى يقول لهم قائل : " رأيته بمكان كذا وكذا " ، فيسكنون فكانوا لا يغفلون عن خروجه . فلما خرج وقت القيلولة والناس رقود بالهاجرة ، وهو صلّى الله عليه وسلّم عالم بأمرهم وما هم عليه ، فخرجا إلى غار ثور واختفيا فيه ، ففتّشوا عنه في تلك الساعة وضربوا مكّة أعلاها وأسفلها فلم يقفوا له على خبر ، ثمّ فتّشوا عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه فلم يجدوا له خبرا ، قالت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها ، وكانت في دار أبيها ، قالت : " جاء جمع قريش الأعظم وجاؤوا إلى دارنا فقال لي أبو جهل لعنه الله : " أين أبوك ؟ " ، قالت له : " لا أدري ؟ " ، قالت : " فصفعني بصفعة غيظا حتّى طاح منها قرطي " ، وذهبوا ينظرونه فلم يجدوا له خبرا ، فأيقنوا أنّه قد خرج ، وقام الضجيج والفزع في مكّة وافترقوا على الطرق والمآخذ يطلبونه صلّى الله عليه وسلّم . لكن في تلك العشيّة ما وصلوا إلى الغار ، وفي تلك الليلة نسجت العنكبوت على باب الغار ، وجاءت الحمامة وباضت على فم الغار دون نسج العنكبوت ، فلمّا طلع الفجر لم يبق أحد بمكّة إلاّ وتفرّقوا في الطرق والمآخذ يطلبونه ، ثمّ بعثوا بعوثا إلى سائر العرب : " من ردّه علينا أعطيناه مائة من الإبل " ، وصارت بعوثهم في العرب وهو إذ ذاك بالغار . ففي صبيحة ذلك اليوم أتوا إلى الغار ينظرونه وكان سبقهم أميّة بن خلف لعنه الله ، وجاؤوا إليه وهو واقف عنده فقالوا له : " أَدَخَل الغار ؟ " ، فقال لهم أمية بن خلف : " إنّ عليه لعنكبوتا هي أقدم من ميلاد محمّد لو دخله لقطع نسجها " ، فلمّا نظروا طارت الحمامة عن بيضها ، فلمّا نظروا قالوا : " لو كان به أحد ما باضت الحمامة هاهنا " ، فتركوا الغار وذهبوا . فمِن يومئذ نهى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن قتل العنكبوت . فبقوا في الغار ثلاثة أيّام . فلمّا بعُدَ طلب أهل مكة وما حولها ولم يبق إلى الطلب سبيل كان أبوبكر رضي الله عنه عهد إلى ابنته أسماء أن تأتيه في اليوم الرابع بما أعدّ من الزاد ، وأمّا الرواحل فهي تسرح في إبله . ففي اليوم الرابع جاءت ابنته بالزاد وجاء راعيه بالرواحل وبعث إلى رجل من بني الليث يقال له عبد الله بن أريقط جعله دليلهما إلى المدينة ، وأقام أبوبكر غلامه عامر بن فهيرة بخدمتهما في الطريق . فخرجا في اليوم الرابع من الغار وطلاّب العرب يطالبونه في كلّ ما كان ، وكان من جملة الطلاّب سراقة بن مالك المدلجيّ من بني بكر ، ذهب في خيل تطلبه ، وكان من أشراف العرب متبوعا ، فلحق بهما بعد يومين أو ثلاثة ، فلمّا رآه أبوبكر قال : " يا رسول هذا الطالب قد لحقنا " ، فلمّا قرب إليهم سراقة بن مالك ساخت أرجل فرسه في الأرض فنادى : " يا محمّد إنّي قد علمت أنّ هذا من صنيعك فخلّصني ممّا أنا فيه وأنا أردّ عنك الطالب " ، فنظر إليه صلّى الله عليه وسلّم فارتفعت فرسه من الأرض وانبعث من مكان أرجلها دخان من الأرض ، وعاهد أن لا يخبر به أحدا ، فرجع وردّ كثيرا من الطلب يقول لهم : " إنّي كفيتكم هذا الوجه . ثمّ ذهبا حتى وصلا إلى المدينة ، ثم قال رضي الله عنه وأرضاه :
وَكَـفَـتْـهُ بِنَـسْـجِـهَـا عَـنْـكَـبُـوتٌ
مَـا كَـفَـتْـهُ الْحَـمَـامَـةُ الْحَـصْــدَاءُ
وَاخـْتَـفَـى مِـنْـهُـمُ عَلَـى قُـرْبِ مَـرآ
ـهُ وَمِنْ شِــدَّةِ الظُّـهُــورِ الْخَـفَــاءُ
وَنَـحَـا الْمُـصْـطَـفَـى الْمَدِينَـةَ وَاشْتَـا
ـقَـتْ إِلَـيْـهِ مِـنْ مَـكَّــةَ الأَنْـحَــاءُ
وَتَـغَـنَّــتْ بِـمَـدْحِـهِ الْجِـنُّ حَـتَّـى
أَطْــرَبَ الإِنْــسَ مِـنْـهُ ذَاكَ الْغِـنَــاءُ
وقضيّة الجنّ أنّهم سمعوا منشدا بمكّة يسمعون صوته ولا يرون شخصه ، فقال لهم وهم يتبعونه :
جزى اللهُ ربُّ الناس خيرَ جزائه رفيقيْـن حلاّ خيمتـي أم معبـد
هما نزلاها بالهدى فاهتدت بهـم فقد فـاز من أمسى رفيـق محمّد
ليَهْـنَ أبـابكـر سعـادة جـدّه ولكنّه مـن يسعـد اللـه يسعـد
فعلموا أنّه قدِم المدينة وتمنّع منهم وآيسوا .
ثم قال رضي الله عنه :
واقْـتَـفَـى إِثْـرَهُ سُـرَاقَـةُ فَـاسْـتَـهْـ
ـوَتْـهُ فِــي الأَرْضِ صَـافِـنٌ جَــرْدَاءُ
ثُـمَّ نَـادَاهُ بَعْـدَمَـا سِـيـمَـتِ الْخَـسْـ
ـفَ وَقَـدْ يُـنْـجِـدُ الْغَـرِيـقَ النِّــدَاءُ
فَـطَــوَى الأَرْضَ سَـائِـراً والسَّـمَــوَا
تُ العُــلاَ فَـوْقَـهَــا لَـهُ إِسْــــرَاءُ
فَـصِـفِ اللَّـيْـلَـةَ التِـي كَـانَ لِلْمُـخْـ
ـتَـارِ فِيـهَـا عَلَـى البُـرَاقِ اسْـتِـوَاءُ
إنتقل يتكلّم على إسراء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فوق السماوات . يقول صلّى الله عليه وسلّم :
بينما أنا عند البيت بين النائم واليقظان جاءني جبريل عليه السلام بالبراق ، وهي دابّة دون البغل وفوق الحمار ، ثمّ أتى بطست من ذهب مليء حكمة وإيمانا فأخرج قلبه وأفرغ فيه ذلك الطست ، ثمّ ركب البراق حتّى أتى بيت المقدس وجبريل معه ، ثمّ دخل المسجد الأقصى وربط الدابّة في بابه ، ثمّ دخل المسجد فوجد فيه جميع النبيّين والمرسلين قد اجتمعوا له في المسجد فصلّى بهم صلّى الله عليه وسلّم إماما لجميعهم كلّهم يتبعونه ، ثمّ ركب البراق وصعد إلى السماء ، فأتيا بابها وعليه بوّاب يقال له إسماعيل من الملائكة ، واستفتح جبريل فقيل : " من ؟ " قال : " جبريل " ، قال : " ومن معك ؟ " ، قال : " محمّد صلّى الله عليه وسلّم " ، فقيل : " أو قد بعث إليه ؟ " ، قال جبريل : " نعم " ، فقيل : " مرحبا به ولنعم المجيء ". جاء صلّى الله عليه وسلّم ثمّ دخل السماء الأولى فوجد فيها آدم عليه السلام ، قال : وحوله نسم بنيه ، أهل النار على يساره وأهل الجنّة على يمينه ، إذا نظر عن يمينه ضحك وإذا نظر عن شماله بكى ، فجازها إلى السماء الثانية واستفتح كأوّل مرّة فدخل السماء الثانية ، قال : فوجد فيها ابني الخالتين يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، ثمّ صعدا إلى السماء الثلاثة فإذا فيها يوسف عليه الصلاة والسلام فرأى وجهه كالقمر ليلة كماله ، ثمّ صعد إلى السماء الرابعة واستفتح كأوّل منها ففتح له فدخل فوجد فيها إدريس عليه السلام ، وصعد إلى السماء الخامسة واستفتح كأوّل منها ففتح له فدخل فوجد فيها هارون عليه السلام ، ثم صعد إلى السماء السادسة واستفتح كأوّل منها ففتح له فدخل فوجد فيها موسى عليه السلام ، ثمّ إلى السماء السابعة واستفتح كأوّل منها ففتح له فوجد فيها إبراهيم عليه السلام ، فوجده مستندا على ظهره إلى البيت المعمور ، ثمّ وصل إلى سدرة المنتهى فرأيا فيها منبرا فارغا فقصده جبريل عليه الصلاة والسلام وجلس فيه ، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : " ما لك ؟ " ، قال : " هذا مقامي لا أتخطّاه فتقدّم أنت " ، قال صلّى الله عليه وسلّم : وجدتُ وحشة لمّا فارقني جبريل ، وتدلّى له الرفرف للطلوع ، فلمّا استوحش صلّى الله عليه وسلّم قيّض له نشئ على صورة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، فقال صلّى الله عليه وسلّم : " أو سبقني أبو بكر إلى هذا المقام ؟ " ، فقيل له : " لا ، ولكن على صورته يؤنسك بذلك " ، وأخبر صلّى الله عليه وسلّم عن سدرة المنتهى أنّه لا يقدر أحد أن يصفها ممّا غشيها من أمر الله تعالى . ثمّ صعد في الرفرف صلّى الله عليه وسلّم إلى أن وصل إلى حضرة ربّه حيث لا غير ولا غيرية ، أضرب ذلك كلّه عمّا لقي في الرفرف علمنا منه أن هناك أسرارا يجب كتمانها ، وقد كتم صلّى الله عليه وسلّم حتّى الرؤية لمّا سألته عائشة عنها : " هل رأيت ربّك ؟ " ، قال : " لا " ، قالت : " أو ليس يقول الله عزّ وجلّ :
ولقد رآه نزلة اخرى عند سدرة المنتهى
[ النجم : 13 ، 14 ] ، قال : " إنّ ذلك جبريل " ، فكانت تكذّب كلّ من يخبر أنّه صلّى الله عليه وسلّم رأى ربّه فكانت تقول : " من زعم أنّ محمّدا صلّى الله عليه وسلّم رأى ربّه فقد كذب " ، والصحابة كلّهم مطبقون على عدم الرؤية إلاّ مَن سارّه بذلك صلّى الله عليه وسلّم سرّا مثل ابن عبّاس ، فإنّه مرّة قال لعائشة : " ما رآه " ، ومرّة ، حين أكثروا عليه ، قال : " رآه رآه رآه " ، ومن أخبره بها صلّى الله عليه وسلّم سرّا ، قال لهم : " لم أر عند رؤية ربي أحدا من خلقه فظننت أنّ من في السماوات والأرض كلّهم قد ماتوا " ، ثمّ ألقى إليه سبحانه وتعالى ما ألقى من الأسرار المكتومة التي لا يطّلع عليها غيره ، ثمّ افترض عليه خمسين صلاة ، فمازال يراجع ربّه يسأل منه التخفيف حتى صارت خمسا ، وموسى هو الذي أمره بالرجوع إلى ربّه لمّا مرّ عليه بعد رجوعه إليه وسأله : " ما الخبر ؟ " ، فقال له : " إفترض عليّ خمسين صلاة " ، فقال له موسى عليه السلام : " عالجت بني إسرائيل أشدّ المعالجة يريد عليّ خمسين صلاة فلا يطيقوا ذلك ، وأمّتك أضعف فارجع إلى ربّك فاسأله التخفيف عن أمّتك ، فرجع وسأل التخفيف فحطّ عنه عشرا ، ثمّ رجع إلى موسى فسأله ، قال : " حطّ عنّي عشرا " ، فقال له : " أمّتك لا تطيق ذلك فارجع فاسأله التخفيف عن أمّتك " ، فرجع فسأل التخفيف ، فحطّ عنه عشرا أخرى فصارت ثلاثين ، فجاء هابطا فلمّا وصل إلى موسى سأله ، فقال له : " حطّ عنّي عشرا أخرى وبقيت ثلاثين " ، فقال له : " أمّتك لا تطيق ذلك فارجع فاسأله التخفيف عن أمّتك " ، فلم يزل يرجع بين ربّه وموسى حتّى صيّرها خمسا ، فلمّا افترض عليه خمسا ومرّ على موسى وسأله فأخبر بالخمس فقال له : " أمّتك لا تطيق ذلك فارجع فاسأله التخفيف عن أمّتك " ، فقال صلّى الله عليه وسلّم : " استحييت من ربّي " فسمعوا النداء عليه من الله تعالى : " أمضيت فريضتي وخفّفت على عبادي هي خمس وهي خمسون ، الحسنة بعشر أمثالها " . وسكت صلّى الله عليه وسلّم ، وأضرب على ما في الأمور التي يجب كتمها صلّى الله عليه وسلّم وشرّف وكرّم ، يقول سبحانه وتعالى :
لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى

[ النجم : 18 ] .
ثم قال رضي الله عنه :
وَتَـرَقَّــى بِـهِ إِلَـى قَـابِ قَـوْسَـيْــ
ـنِ وَتِـلْــكَ السِّـيَّــادَةُ الْقَـعْـسَــاءُ
معناه : أنّ السيادة هي المرتبة العاليّة عن الخلق ، وسيادته صلّى الله عليه وسلّم في هذا المحلّ هي السيادة القعساء التي تتقاعس ، أيّ التي يتأخّر عنها كلّ سيّد ، أيّ كلّ مكان من له سيادة في الوجود يتأخّر عن هذه المرتبة ، لا مطمع لأحد في نيلها ، لا ملَك مقرّب ولا نبيّ مرسل ، فهي القعساء ، وهي قاب قوسين ، يعني دنا من جبريل حتّى كان من قاب قوسين أو أدنى ، يعني دانها القوس كان أقرب ما بينهما ، والمراد بذلك هو جبريل فقط وليس هو الله تعالى كما يزعم العلماء لأنّ الله تستحيل عليه المسافة ، لا مسافة بينه وبين عباده ، فهو أقرب إلى كلّ شيء من كلّ شيء ، يقول سبحانه وتعالى :
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ

[ الواقعة : 85 ] ، أيّ شيء اتّخذته قياسا في القرب ، فالقرب أقرب إليه منه حتّى إذا وضعت يديك على عينك فالربّ أقرب إليهما من يديك ، فلا اتّصال ولا انفصال ، فكيف يُعبَّر عنه بمسافة قاب قوسين أو أدنى ، وإنّما ذلك جبريل .
ثم قال رضي الله عنه :
وَتَـلَـقَّــى مِـنْ رَبِّــهِ كَـلِـمَـــاتٍ
كُـلَّ شَـمْـسٍ مِـنْ دُونِـهِـنَّ هَـبَــاءُ
<< الصفحة الثانية
الصفحة الرابعة >>