مَـوْلِـدٌ كَـانَ مِنْـهُ فِـي طَـالِـعِ الْكُـفْـ
ــرِ وَبَــالٌ عَـلَـيْـهِــمُ وَوَبَـــاءُ
معناه مولده صلّى الله عليه وسلّم إمّا خبر المبتدأ المحذوف تقديره هو مولد ، أو مولد مبتدأ صريح وخبره ما ذكر بعده . قال : مولدٌ ، يريد به مولده صلّى الله عليه وسلّم ، وقد جمع مولده صلّى الله عليه وسلم أربعة أمور : كمال السعادة والشرف ، وكمال الوبال والوباء ، فكان منه في طالع الإسلام سعادة وشرف ، وكان في طالع الكفر وبالا عليهم ووباء ، والوبال هو الهلاك والعذاب ، قال سبحانه وتعالى :
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا

[ الطلاق : 8 ـ 10 ] . والوبال : هو مأخوذ ممّا عرف في حال الكواكب السيارة في السماء ، فإن لها سعادة في بعض البروج ووبالا في بعض البروج مثل ذلك زحل ، فإن شرفه في الدلو والجدي وبيته الحمل وهو غاية سعادته ، إذا نزل برج الحمل كان في غاية السعادة ونظير الميزان يكون بين شقائه وهلاكه من برج الميزان وبيت شرفه الدلو والجدي ، ووباله هو السرطان والأسد فإذا حلّ بها كان في غاية الهلاك وهكذا في جميع الدراري إذا تتبعتها كلّها هكذا ، وهذا المراد على صاحبه أفضل الصلاة والسلام كان منه في طالع الإسلام سعادة وشرف ، وفي طالع الكفر وبال عليهم ووباء ، الطالع الذي يسمونه طالعا هو البرج الذي وقع على آخر الأفق من جهة الشروق هو الطالع وحكمه هو : الظاهر على الأرض بجميع أحكامه ولوازمه ومقتضياته والمعتبر ما حلّ فيه من الدراري بأمر يعرفه المنجّمون ، فهذا هو الطالع وهو البرج والذي هو فيه السعادة والشرف والوبال والوباء هو الذي يقع في الطالع من السبع السيارة .
ثم قال رضي الله عنه :
فَـهَـنِـيـئــاً بِـهِ لآمِـنَـةَ الْفَـضْــ
ــلُ الــذِي شُـرِّفَــتْ بِـهِ حَـــوَّاءُ
معناه : هنيئا بذلك المولود لآمنة رضي الله عنها الذي سعدت بحيث أن لا نظير لها في العالم
كلّه ، حتّى الحور ليس لهم هذا الشرف الذي حازته آمنة ولا غيرها من النساء في سائر الوجود كلّه ، فلهذا قال : هنيئا لها بذلك المولود صلّى الله عليه وسلّم ، وذلك المولود هو الذي شرفت به حواء من حيث أنّها أُمٌّ لجميع النبيّين والمرسلين ، فلها شرف عظيم لأنّها أمّ له ولجميع النبيّين والمرسلين لأنّها الأصل الذي إليه المرجع ومنه التفريع . قال : هنيئا بذلك المولود لآمنة ولها الفضل الذي شرفت به حواء عليها السلام بأنّ حواء أمّ جميع النبيّين والمرسلين ، ولها الفضل الأعظم والشرف الأفخم . ثمّ إنّ آمنة حصلت ذلك الشرف بتمامه من حيث أنّها كانت صدفة لجوهرته صلّى الله عليه وسلّم حيث انعقدت جوهرته في جوفها ، فإن قالت حواء مثلا وافتخرت بجميع النبيّين والمرسلين فآمنة مثلا تقول : أنا باشرته ولم تباشريه ، وولدته وهو أصل الأصول لأنّه أصل جميع النبيّين والمرسلين لأنّ الطينة التي تكوّن منها جسده الكريم ما خلق الله منها مخلوقا في العالم كلّه إلاّ الملائكة والنبيّين والمرسلين والأقطاب خاصّة لا غير ، تكوّنوا من طينته صلّى الله عليه وسلّم فكان بذلك أصل الأصول صلّى الله عليه وسلّم وجميع بني آدم لا غير . فإذا أراد الله تكوين الصبيّ في الرحم بعث الله الملائكة للمحلّ الذي قضى أن يقبر فيه ذلك الصبيّ فأمَرَهُم أن يأخذوا من تراب ذلك القبر الذي يقبر فيه ويعجن بنطفة ذلك الصبيّ ويتخلّق منها ، فالبشر من نطفة آدم ، النطفة ما وقعت فيه إلاّ بعد نفخ الروح فيه فصارت النطفة وخرجت منها الذريّة ، وأمّا الطينة لا نطفة فيها ، وأمّا الأنبياء والمرسلون والأقطاب والملائكة خاصّة إنّما هم من طينته صلّى الله عليه وسلّم ولكن ليست الطينة التي هي موضع قبره صلّى الله عليه وسلّم ، ولكن طينته صلّى الله عليه وسلّم كَوَّنَهَا ربُّنا قبل خلْق العالم ونظر إليها بعين العناية والمحبّة ثمّ خمّرها دهورا متطاولة لا يأتي عليها الحساب وجعلها مخزونة في خزائن علمه ، فما زالت كذلك إلى أن كوّن منها جسده الشريف وأضاف إليها موضع قبره صلّى الله عليه وسلّم ، وكوّن من طينته جميع الملائكة والنبيّين والمرسلين والأقطاب ، فإذا أراد الله تكوين واحد من أصحاب هذه المراتب الأربعة أخذ له من الطينة المخمّرة عنده في الغيب وأضاف إليها ترابا من موضع قبره وعجنها بتلك النطفة فكوّن منها ذلك الصبيّ ، وأمّا الملائكة إذا أراد الله تكوينهم يأخذ من تلك الطينة جزءا فيكوّن منه الملك ويزيل كثافته ويصير كلّه نورا لا كثافة فيه . وقد ورد أنّ جبريل عليه السلام يدخل في كلّ يوم نهر الحياة فينغمس فيه انغماسا ثمّ يخرج منه فينفض بقطر منه سبعون ألف قطرة ، فيخلق الله من كلّ قطرة ملكا فيدخلون البيت المعمور ، ومن دخل منهم لا تعود النوبة إليه إلى الأبد ، والقطرات التي يتكوّن منها الملك هي بمنزلة النطفة التي يتكوّن منها الصبيّ ، لذا يقول أهل الحقائق : ليس عند الآدميّ عصمة من الذنوب بعد النبيّين والمرسلين إلاّ القطب وحده فإنّه معصوم كعصمة النبيّين والمرسلين ، فإنّ تكوينه من أصل تكوينهم والطينة التي تكوّنت منها الملائكة والنبّيون والمرسلون تكوّن منها قطب الأقطاب . والآمر الذي يعصم عنه القلب هو سرّ القرآن ، فإنْ حلّ في ذاته سرّ القرآن لا يقدر صاحبه أن يلمّ بالمعصية طرفة عين ، وأجمعوا على أنّه معصوم من الموت على الكفر دون الصدّيقين .
ثم قال رضي الله عنه :
مَـنْ لِـحَــوَّاءَ أَنَّـهَــا حَمَلَــتْ أَحْـ
ـمَـــدَ أَوْ أَنَّـهَــا بِـهِ نُـفَـسَـــاءُ
معنى البيت : ليس هذا الفضل الذي حازته آمنة وهو أن تكون حاملا به مباشرة وأنّها به نفساء ، من لها بذلك ، يريد أن ليس لها هذا المنصب الذي حازته آمنة ، ولا يقال أنّه يلزم فيها ما يلزم في آدم عليه الصلاة والسلام من حيث أنّه في جميع بنيه أنّه أشرف من كلّ أب مباشر لأنّ السرّ الذي هو في آدم ليس هو في حواء ، فإنّ الولد سرّ أبيه ، بالمباشرة يسري فيه سرّ أبيه وإن كانت فيه أخلاق أجداده أو أخواله ، فإنّما سرى فيه ذلك بالأبوّة إمّا من جهة أبيه وإمّا من جهة أمّه ، فما كان من أخلاق أخواله أو أجداده أو أمّه فإنّما سرى فيه ذلك من جهة أمّه من نطفتها سرى فيه ذلك ، وما كان من أخلاق أجداده لا يعدّ أو أعمامه ، فإنّما سرى فيه ذلك من نطفة أبيه فلذا له أن يلتحق بأخلاق الماضيين عاريا عن أبيه وأمّه ، وإذا عُرف هذا بين الولد وأبيه فإنّ آدم عليه الصلاة والسلام هو الأصل الجامع والنِّسب كلّها مجموعة فيه ، فما من نسبة في ولد من أولاده منه إلى قيام الساعة إلا وهي مستمدّة منه كأنّه باشر ذلك الولد بنفسه كالأب الذي باشر ولده . قلنا : آدم عليه الصلاة والسلام مشتمل على نسب جميع بنيه كما اشتمل على نسب جميع العالم بأسره من حيث أنّه خلق مصوّرا على صورة الحضرة الإلهيّة من كلّ وجه وبكلّ اعتبار ، فهو محيط بجميع الأكوان من منشأ العالم إلى النفخ في الصور وقد استوفى جميع نسبها من جميع الموجودات فردا فردا ، وبهذا السر كان خليفة لله على جميع المملكة الإلهيّة وتصرّفه فيه عموما وإطلاقا لأجل النسب التي فيه ، فإنّ فيه نسب جميع المرتبة الإلهيّة ، مرتبة الألوهية ، فهذا السرّ يصحّ له أن يقول في كلّ ولد من ولده ، وإنْ بعدت الآباء بينه وبينه ، يقول : أنت ولدي مباشرة ، وليس هذا السرّ في حواء عليها السلام ، فلهذا لم يكن لها الشرف الذي لآمنة رضي الله عنها . وأمّا آدم عليه الصلاة والسلام فله الشرف بولادته عليه الصلاة والسلام أكبر ممّا ناله عبد الله أبوه وإن كان عبد الله باشره لأنّ هذا الشرف ناله من جهة الخلافة العظمى عن الله ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم والأبوّة .
ثم قال رضي الله عنه :
يَـوْمَ نَـالَـتْ بِـوَضْـعِـهِ ابْـنَـةُ وَهْـبٍ
مِـنْ فَـخَـارٍ مَا لَـمْ تَـنَـلْـهُ النِّـسَـاءُ
معناه : أنّه عطف هنا في المولد نفسه ، فإنّ ذلك المولد الشريف يوم وقع ذلك المولد نالت موضعه ابنة وهب وهي أمّه آمنة ، نالت من وضعه من فخار والفخار هو العلوّ والشرف والتعظيم والإجلال ، ما لم تنله النساء ، يريد أنّ لها من الشرف والعلوّ والتعظيم والإجلال عند الله وعند خلقه ما لا مطمع فيه للنساء بسبب مباشرتها لوضعها وولادته .
قال رضي الله عنه :
وَأَتَــتْ قَـوْمَـهَــا بِـأَفْـضَــل مِـمَّا
َـمَـلَـتْ قَـبْـلُ مَـرْيَــمُ الْعَـــذْرَاءُ
معناه : أنّه يوم وضعته آمنة بسبب وضعه أتت قومها وهم قريش بأفضل ممّا حملت قبل مريم العذراء ، معلوم عند كافّة الخلق بولادتها لعيسى عليه الصلاة والسلام ، فإنّه أفضل من كلّ شيء .
ثم قال رضي الله عنه :
شَـمّـَتَـتْـهُ الأَمْــلاَكُ إِذْ وَضَـعَـتْــهُ
وَشَـفـَتْـنَــا بِـقَـولِـهَـا الشَّـفَّــاءُ
معنى : شمّتته الأملاك ، النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذ وضعته آمنة ، والتشميت في اللغة هو التفريح ، وبه سميّ تشميت العاطس تشميتا ، يقول له القائل : رحمك الله ، وفيه يقول المعصوم سيّدنا هارون عليه السلام :
فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ

[ الأعراف : 150 ] يعني : لا تفرحهم ، في شمتته الأملاك يحتمل أنّه عطس حين وُلِدَ صلّى الله عليه وسلّم فقال : الحمد لله ، فقالت له الملائكة : يرحمك الله ، ويحتمل تشميت الملائكة في صلاتهم عليه يوم ولد بقولهم له " صلّى الله عليه وسلّم "، فإنّ الملائكة كانت مستشرفة لهذه الولادة العظيمة وحضرها حين وضع ، فإنّه صلّى الله عليه وسلّم في الليلة التي ألقيت نطفته في رحم آمنة وقع به تنبيه عظيم في السماوات بأنّه ألقي في رحم أمّه هذه الليلة حتّى في الجنّة وعند أهلها ، وصار بها الخبر في جميع نواحي السماوات فرحا واعتناء به صلّى الله عليه وسلّم . وحين رأى اللعين ذلك رنّ رنّة عظيمة من الغيظ والحزن والكرب الذي حلّ به أكثر ممّا حلّ به من الكرب في الوقت الذي أُمِر بالسجود لآدم ومعلوم قضيّته . وإذا كان اعتناء الملائكة وفرحهم به في ليلة وضع نطفته في رحم أمّه فأحرى وأوْلى أن يبعثوا بحضوره صلّى الله عليه وسلّم حين خرج للوجود وكان في قلوبهم في غاية العظمة والجلال من أجل ما علموا من تعظيم الله وإجلاله له صلّى الله عليه وسلّم .
قوله : وشفتنا بقولها الشفاء ، الشفاء اسم امرأة من نساء قريش كانت حضرت ولادة آمنة رضي الله عنها ، قال : شفتنا بقولها الشفاء يعني : أوضحت لنا كثيرا من العجائب التي شاهدتها عند ولادته صلّى الله عليه وسلّم ، أخبرت أنّها رأت النجوم تدلّت إليه عند ولادته وخرج معه نور عظيم رأوا به قصور بصرى من أرض الشام وَهُمْ بأرض مكّة ، وأخبرتهم أنّه وُلِدَ ساجدا صلّى الله عليه وسلّم رامقا طرفه السماء إلى غير ذلك ممّا أخبرت به الشفاء من العجائب التي رأت عند ولادته صلّى الله عليه وسلّم .
ثم قال رضي الله عنه :
رَافـِعــاً رَأْسَــهُ وَفِـي ذَلِـكَ الــرَّفْـ
ـعِ إِلَـى كُــلِّ سُـــؤْدَدٍ إِيــمَـــاءُ
قال : معناه أنّ رفْع رأسِه بعد السجود في ذلك الرفع إلى كلّ سؤدد إيماء ، والسؤدد هو العلوّ والرفعة الذي كان عند الخلق رفيع المنزلة عالي الرتبة ، فهذا السؤدد ، يعني سيّدنا صلّى الله عليه وسلّم . وكان في رفع رأسه إيماء يعني إشارة إلى رفعته وجلاله عند الله تعالى وسؤدده على جميع العالم صلّى الله عليه وسلّم مطلقا ليس فيه من يناظره .
ثم قال رضي الله عنه :
رَامِـقـاً طَـرْفُـهُ السَّـمَـاءَ وَمَـرْمَــى
عَـيْـنِ مَـنْ شَـأْنُـهُ الْعُـلُـوُّ الْعَــلاَءُ
معناه : أنّه وُلد صلّى الله عليه وسلّم رامقا طرفه للسماء ، ونظره إلى السماء هو نظره إلى الله تعالى لأنها قبلة الدعاء ، وفيه يشير إلى صحّة انقطاعه إلى الله تعالى من كلّ وجه حيث لم يبق طرف ولا أقلّ قليل من الالتفات إلى الوجود ، فهذا وجه رمقه السماء ، ثمّ قال : ومرمى عين مَن شأنه العلوّ العلاء معناه : أنّه صلّى الله عليه وسلّم في حال ولادته أنّه كان رامقا السماء مرمى العين إلى أسفل وذلك منه من رمى عينيه إلى أسفل استحياء وهيبة لعظمة الله وجلاله وعزّه وكبريائه فإنّ هذا رمق الكامل مِن الصدّيقين ، فإن الحياء عند الصدّيقين من الله إطراق الروح من هيبة الجلال ، والإطراق هو هبوط البصر إلى أسفل من هيبة الجلال والعظمة والعزّ والكبرياء ، فإذا كان مع كونه يرمق السماء وهو مرمى العين إلى أسفل تعظيما لهيبة الجلال لِما انكشفت له من عظمة الله وجلاله فهذا معنى مرمى العين ، وهذه الصفة له صفةُ مَن شأنه العلوّ والعلاء يريد أنّ منها صفة الخاصّة العليا من خلق الله بما غلب عليهم من تعظيم الله وإجلاله واستيلاء الله تعالى على جميع عوالمهم يأخذ لهم سبحانه وتعالى منهم إليه ، فهذه صفة العبد الأعلى . قال : هذه صفة من شأنه العلوّ عند الله تعالى هاهنا هو العلاء ومعناه : أنّه بلغ الرتبة العليا في العلوّ حتّى لا يعلو فوق مرتبته صلّى الله عليه وسلّم كما يأتي في قوله في ذِكْرِ مرتبته :
رتب تسقط الأماني حسرى دونها ما وراءهن وراء
هذه المرتبة التي هي في غاية العلوّ والشرف ، فهذا معنى قوله : ومرمى عين من شأنه العلوّ العلاء يعني العلوّ الأعلى .
ثم قال رضي الله عنه :
وَتَـدَلَّــتْ زُهْــرُ النُّـجُــومِ إَلَـيْــهِ
فَـأَضَــاءَتْ بِـضَـوْئِـهَـا الأَرْجَـــاءُ
فكل هذا من خبر الشفاء ، قالت : تدلّت زهر النجوم إليه فرحا واستبشارا بخروجه صلّى الله عليه وسلّم ، يعني وقع الاعتناء من النجوم كما وقع الاعتناء من الملائكة ، فتعظيمهم وإجلالهم في هذا المحلّ له صلّى الله عليه وسلم تبع لتعظيم الله له وإجلاله له صلّى الله عليه وسلّم .
ثم قال رضي الله عنه : وأضاءت بنورها الأرجاء ، الضوء هو شدّة اتّضاح النور في المنوّرات ، يقول سبحانه وتعالى :
جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا

[ يونس : 5 ] ، فلا شكّ أنّ الضياء أوضح من النور ، وأضاءت بضوئها أمْ بضوء النجوم والأرجاء ، والأرجاء هي النواحي ، يحتمل نواحي مكّة فقط أضاءت بضوء النجوم ، ويحتمل أن النواحي هي نواحي جميع الأرض أضاءت بضوء النجوم حين تدلّت إليه ، والكلّ صحيح .
ثم قال رضي الله عنه :
وَتَـرَاءتْ قُصِــورُ قَـيْـصَـرَ بـالــرُّو
ــمِ يَـرَاهَــا مَـنْ دَارُهُ الْبَـطْـحَــاءُ
أخبر أن وقع النور عند ولادته صلّى الله عليه وسلّم ، أخبر به من باشر ذلك ، أنّهم رأوا بذلك النور قصور الشام في غاية ما يكون من البيان وهُمْ بمكة وبينهم مسير شهر ، وهي إحدى المعجزات له صلّى الله عليه وسلّم ، يراها من داره البطحاء وهي أرض مكة ، يعني يرى قصور الشام من كان مستقرّا بمكة وهي البطحاء .
ثم قال رضي الله عنه :
وَبَـدَتْ فِـي رَضَـاعِــهِ مُـعْـجِــزِاتٌ
لَـيْـسَ فِيـهَـاعَـنِ الْعُـيُـونِ خَـفَـاءُ
هو صلّى الله عليه وسلّم رضع ثدي حليمة رضي الله عنها وبه رُبِّيَ ، ويقع فيه إشكال في كون حليمة في وقت الشرك وليس ثَمّ في الوقت من يعرف حقيقة الإيمان ، ولا يعرفه ، يعني في وطنهم الذي هم فيه ، ولم يكن في الوقت إلاّ علماء أهل الكتاب فإنّهم يعلمون حقيقة الإيمان إلاّ أنّهم في غاية البعد عن العرب ، ومَن كان في وسط العرب كعلماء المدينة وما حولها من علماء اليهود فإنّهم كعادتهم في ذلك لا يذكرون هذا للعرب ولا يعَرّفونهم به لعلمهم أنّهم لا يقبلون ذلك ولا يريدونه ، فليس ثَمَّ مَن يعرف حقيقة الإيمان . وحليمة في وسط أرض الشرك لأنّها منشؤها ومستقرّها ، وكونه صلّى الله عليه وسلّم وفقته الأقدار إليها للرضاع ليتغذى جسده الكريم من لبنها ، فوقوع ذلك مع ما هي فيه من الشرك ، إنْ قلنا إنّها مشركة ، بعيد في غاية البعد لأنّ الله سبحانه وتعالى قال :
إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ

[ التوبة : 28 ]
وأنّهم بهذا عين ذات النجاسة فلا يطهّرهم شيء وإن اغتسلوا ، وكونه سبحانه وتعالى يغذّي رسوله بهذا الغذاء النجس بعيد من العصمة الإلهيّة التي كانت له صلّى الله عليه وسلّم فلا يتأتّى ذلك ولا يتصوّر ، والجواب : أنّ الله سبحانه وتعالى وهبها الإيمان بأمر اختصاصيّ اقتضته العناية الإلهيّة ، كما أنّه سبحانه وتعالى طهّر آباءه وأمّهاته من لدن آدم عليه الصلاة والسلام إلى أبويه ، لم يقع قطّ في صلب كافر أو رحم مشركة إلى أن خرج من بين أبويه صلّى الله عليه وسلّم ، يشهد له قوله صلّى الله عليه وسلّم :
«
لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكيّة
»
، وأراد بالطاهرة الطاهرة من الكفر في آبائه صلّى الله عليه وسلّم ، وأراد بالزكاة في الأ رحام هو الزكاة بالإيمان ، فإنّ الزكاة في الكفر محال ، فإذا كانت هذه عناية الحقّ به سبحانه وتعالى أن طهّر معادنه صلّى الله عليه وسلّم من أوّل الأمر إلى أن أخرجه إلى الوجود صلّى الله عليه وسلّم طهّر جميع معادنه أبا وأما اعتناء به وتعظيما لشأنه وتعظيما وإجلالا له ، فأحرى أن لا يغذّى جسده الكريم بلبن متنجّس فإنّ هذا آكد من سريان النجاسة في النطفة ، فإنّ اللبن يتكوّن منه اللحم والدم واللحم هو عين الجسد الكريم صلّى الله عليه وسلّم فلا شكّ أنّ الله يصطفي محلاّ يرضعه طاهرا مطهّرا حتّى لا يتكوّن جسده الكريم إلاّ عن الطهارة كما كان أصل نطفته . وقد نقل فيما ثبت من الأخبار أنّ أمّه سمعت نداء من الغيب يقول لها : طوبى لثدي يرضعه ، وطوبى هذه لمن كانت عاقبته الجنّة ، وكونها في أرض الشرك وفي وقته ولا معرف بحقيقة الإيمان ، فلوقوع الإيمان في قلبها طرق ممكنة ، إمّا بإلهام إلهيّ والفيض الربّاني يعرّفها أنّ ما عُبِد من دون الله ليس بشيء وأنّ الله لا إله إلا هو ، وهذا الفيض هو الذي وقع لآبائه وأمّهاته وعصموا بذلك من أمر الجاهليّة بالفيض الإلهيّ في قلوبهم ، فإمّا أن يكون وقع لها هذا بفيض إلهيّ عصمها الله به من الكفر ، وإمّا أن يكون بعث إليها بعض عباده من الأحياء اعتناء بها ، إمّا من علماء أهل الكتاب وإمّا من أولياء عصرها ، وراح عندها مثلا صورة ضيف ، ثمّ كان من قدر الله وقضائه أن وقعت المحادثة بينهما لأنّ ذِكْر ذلك على البديهة للقرب لا يقبلونه لكونهم في غاية البعد من الإيمان فيعرّفها أنّ ما يُعبد من دون الله ليس بشيء وأنّ العبادة المحقّقة هي لله تعالى وحده ، وأنّه لا إله إلاّ هو ، والإله عندهم هو المعبود فيعرّفها بهذا الأمر مثلا فيأخذ الله بقلبها فتنقاد له لأنّ الله هو الهادي إلى الإيمان ويجعل نور الإيمان في قلبها بسبب هذا القول فتبرأ حينئذ من عبادة غير الله تعالى وتُقِرّ له بالألوهية وحده تصفية للتوحيد الحقّيّ ، فهذا هو عين الإيمان ، وأمّا ما بعده من الأعمال الصالحة فلا نقول به لأنّ ذلك ليس وقته إنّما نقول إيمانها ليكون جسدها طاهرا ولبنها طاهرا حتّى لا يتغذّى جسده الكريم إلاّ بلبن طاهر ، وإمّا أن يبعث لها سبحانه وتعالى
قائلا في النوم على صورة جميلة تجتذب عوالم الشخص إذا رآها فتحمله على قبول ما يقول فيعرّفها بحقيقة الإيمان مثلا وأنّه لا إله إلاّ الله وأنّ ما يُعبَد من دونه ليس بشيء فتقبلها وتصبح مؤمنة ، ولكلّ ممكن من هذه الوجوه لا بعد فيه والسلام .
وهذا الذي قلناه يصحّ أن يقال إنّه وقع فيها أوّل الأمر قبل إلقائه إليها صلّى الله عليه وسلّم أو يكون وقع بها عندما حملته من عند أهله ، فبسبب مباشرتها له وقع من بركة مباشرته صلّى الله عليه وسلّم أن حلّ الإيمان قلبها بفيض إلهيّ ، فإنّه صلّى الله عليه وسلّم هو البركة العظيمة في كلّ شيء ما رأت البركة في حالهما من حينه مع شدّة فقرها ، وأنّهم كانوا في سنة شديدة القحط وأغنام الناس كلّها تروح عجافا في غاية الجهد وأغنامها تروح كلّها مملوءة اللبن في غاية ما يكون من السمن حتّى كان أهل حيّها يخاصمون رعاتهم ويعاتبونهم يقولون لهم : ألا تسرحون حيث تسرح غنم بنت أبي ذؤيب ، فيقولون لهم : نسرح حيث سرحوا ولم نر شيئا . وفاض عليها من الخيرات واتّساع الأرزاق بحسب حمله من عند أهله ما عرف صراحة بأنّه خارق للعادة ، إذ كانت فقيرة لا شيء لها حقّا . قال لها زوجها حين رأى ذلك : أتيتنا بنسمة مباركة ، فإذا كان هذا في اتّساع أرزاقها بسبب مباشرته صلّى الله عليه وسلّم فأحرى أن يقع في قلبها نور الإيمان ببركاته صلّى الله عليه وسلّم في أوّل مباشرته ، والكلّ جائز ممكن لا بُعد فيه ، والسلام .
ومعنى البيت معناه : منها ما كان في حليمة رضي الله عنها أنّها حين أتت مع من أتت من حيّها من المرضعات جاءت على أتان شديد الجهد والهزال فكانت أبدا وهي آتية تمشي وراءهن لِما في أتانها من الأناءة من الهزال ، فلمّا حملته صلّى الله عليه وسلّم ورجعت به إلى أهلها ركبت عليها وهو عندها صلّى الله عليه وسلّم فكانت تسير سيرا لا تقاومه الخيل ، فأجهد النساء اللاّتي جئن معها في أن يلحقوا أثرها في السير أو يساووها فلم يجدوا لذلك سبيلا فكنَّ يقلن لها : يا حليمة ، ما هذه أتانك التي جئت بها معنا ، قالوا ذلك لِما رأوا من العجب فيها فهي إحدى معجزاته صلّى الله عليه وسلّم ، وقد انبسط الرزق عليها وفاض من وجه لا يعرف له قدر مع شدّة فقرها حتّى رأوا الناس من ذلك عجبا ، وما ظهر في غنمها مع شدّة ما كانت غنم الناس فيه من شدّة الجهد والهزال لشدّة القحط ، فكانت غنمها تروح سمانا وتوفر اللبن فيها توفّرا عظيما والناس في جهد شديد حتّى عجب منها الحيّ ، ويقلن لرعاتهنّ : ألا تسرحون حيث تسرح غنم بنت أبي ذؤيب وأمثال هذا كثيرة .
ثم قال رضي الله عنه :
إِذْ أَبـَتْــهُ لِـيُـتْـمِــهِ مُـرْضِـعَــاتٌ
فَـأَتَـتْــهُ مِـنْ آلِ سَـعْــدٍ فَـتَـــاةٌ
أَرْضَـًعَـتْـهُ لِـبَـانَـهَـا فَـسَـقَـتْـهَـا
قُـلْـنَ مَا فِـي الْيَـتِـيـمِ عَنَّـا غَـنَـاءُ
قَـدْ أَبَـتْـهَـا لِفَـقْـرِهَـا الـرُّضَـعَـاءُ
وَبَـنِـيـهَــا أَلْبَـانـهُــنَّ الشَّـــاءُ
معنى الأبيات أنّها أرضعته لبانها جمع بحسب توقع الأوقات ، ومن المعجزات أنّها كانت في غاية ما يكون من الهزال لشدّة الجهد والجوع ، فلمّا أخذته فاض ثديها لبنا حتّى كان لا يرضع منها إلاّ محلاّ واحدا من الثدي والآخر لأخيه الذي ترضعه ، قالت : كنت إذا أعطيته ثدي أخيه يأبى عنه ولا يقربه ، فإذا أعطيته ثديه رضع صلّى الله عليه وسلّم وهي إحدى معجزاته صلّى الله عليه وسلّم ، وذلك لكمال العدل فيه ولِما فيه من حسن الخُلُق لأنّه لا يؤذي جاره ، لأنّ الولد الذي يرضع معه جار له .
ثمّ قال : وبنيها ألبانهنّ الشاء ، ألبانها بني حليمة حتّى عاشوا بذلك في خصب عظيم .
ثم قال رضي الله عنه :
أَصْـبَـحَـتْ شُـوَلاً عِـجَـافاً وَأِمْـسَـتْ
مَـا بِـهَـا شَـائِــلٌ وَلاَ عَـجْـفَـــاءُ
معناه : أنّه أخبر عن الشاء وهي غنم حليمة رضي الله عنها قال : أصبحت شولا عجافا ، والشائل هو ثقيل المشية من شدّة الهزال ، والعجفاء هي التي لا شحم فيها ولا مخّ .
أخبر أنّه قبل مجيئه صلّى الله عليه وسلّم لخيمتها أصبحت غنمها شولا عجافا وأمست حين وصل صلّى الله عليه وسلّم لخيمتها أمست وقد نزل بغنمها من القوّة الإلهيّة والنفحة الربّانيّة ما أمست به غنمها ما بها شائل ولا عجفاء ، كلّها سمان موفرة السمن غليظة اللبن ، هذه غاية المعجزة ، فإنّ حيّها في غاية ما يكون من الجهد والجوع ، وهي في وسطهم في غاية ما يكون من الخصب والنعمة كما هي العادة في سنة الخصب مع اتّحاد المكان والوقت حتّى عجبوا غاية العجب ، فهذه أكبر المعجزات .
ثم قال رضي الله عنه :
أَخْصَـبَ الْعَيْـشُ عِنْـدَهَـا بَعْـدَ مَـحْـلٍ
إِذْ غَــدَا لِلـنَّـبِــيِّ مِـنْـهَـا غِــذَاءُ
معناه : أنّه أخصب العيش عندها على غاية فقرها وشدّة قحط السنة حتّى منه أرباب الأموال في جوع عظيم ، وهي وحدها في وسطهم في غاية ما يكون من الخصب والنعمة ، وذلك بسبب تغذيته بها صلّى الله عليه وسلّم .
ثم قال رضي الله عنه :
يـَا لَـهَـا مِـنَّـةٌ لَـقَـدْ ضُـوعِـفَ الأَجْ
ـرُعَلَيْـهَـا مِـنْ جِـنْـسَـهَـا وَالْجَـزَاءُ
قوله : يا لها مِنّة معناه ما أعظمها وما أكبرها ، والمنّة هاهنا هي التي منّ الله بها على حليمة رضي الله عنها إذ اصطفاها الله تعالى لإرضاع رسوله صلّى الله عليه وسلّم دون جميع أهل عصرها ، فما أعظمها منّة من الله على حليمة ، قال : لقد ضوعف الأجر عليها والجزاء على تلك المنّة ، يريد أنّ تلك المنّة التي سبقت إليها هي فيها أكبر من الصحابة ، إذ الصحابة إنّما شاركوه في عسره ويسره ، وفرحه وحزنه ، ولم يكن منهم غذاء لنشأة وجوده صلّى الله عليه وسلّم ، وهي لها منّة الغذاء لنشأة وجوده صلّى الله عليه وسلّم ، فنسبة ما بينها وبينهم في المرتبة كنسبة الأمّ الوالدة للولد في تربيتها به وإغذائها له حتّى صار رجلا مع مَن أحسن طول حياته لذلك الولد ، فلا نسبة بينه وبين الأمّ ، فالأمّ مرتبتها أكبر وأعظم . وقد أخبر سبحانه وتعالى أنّه
لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ

[ التوبة : 120 ]
، وإحسانها إليه صلّى الله عليه وسلّم أكبر من إحسان كلّ مَن أحسن إليه صلّى الله عليه وسلّم ، ومعنى ضوعف لها الأجر عند الله والجزاء لأنّ الله أعطاها من فضله على المنّة ما لا يعرف له حدّ وهو الجزاء . والمنّة التي منّ الله بها على خلقه هي الأعمال الصالحة التي أعطاهم إيّاها بحسب القسمة الإلهيّة ، والجزاء عليها من أعظم المنن ، فالمنّة منه سبحانه وتعالى في العمل الصالح الذي استوجب الجزاء ، والجزاء الذي هو الثواب من منن الله تعالى فالكلّ منه منّة سبحانه وتعالى ، لكن في عالم الحكمة يُسمّى العبد عاملا والجزاء عليها ثوابا على طريق المعاوضة وذلك في بساط الحكمة لا في بساط المشيئة ، والمشيئة أنّ الكلّ منه ، العمل والجزاء عليها منّة من الله تعالى على عبيده ، قال في منّة العمل ، قال :
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ

[الحجرات : 17] وقال :
مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ

[الأنعام : 39]
وقال صلّى الله عليه وسلّم في حقّ الجنّة :
«
لن يُدْخل أحدكم عمله الجنّة قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمّدني الله بفضل رحمته
»
فدل هذا الحديث أنّ الجنّة منّة من منن الله على عباده لا يوصل إليها بالعمل بل بفضله سبحانه وتعالى ، وهذا خطاب عالم المشيئة ، يشهد له قوله صلّى الله عليه وسلّم :
«
هل تدرون ما في يدي هذه قالوا الله ورسوله أعلم قال هذا كتاب من ربّ العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثمّ ختم على آخرهم لا يزاد فيهم شيء ولا ينقص فيهم شيء قالوا ففيم العمل قال اعملوا فكلّ ميسّر لِما خُلق له
»
، وكذا قوله صلّى الله عليه وسلّم :
«
ما من نفس منفوسة إلاّ وقد عُيّن مكانها في الجنّة أو في النار
»
، وهذا كله خطاب عالم المشيئة . وأمّا في عالم الحكمة فهو قوله سبحانه وتعالى :
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

[الزخرف : 72] وقوله سبحانه وتعالى :
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ

[الحاقة : 24] يعني من الأعمال الصالحات ، فالخطاب كلّه صحيح إذن ، والمشيئة والحكمة صفتان ثابتتان لله تعالى يجب الإيمان به فيهما سبحانه وتعالى لا سبيل لنفي واحد منهما .
ثم قال رضي الله عنه :
وَإِذَا سَـخَّــــرَ الإِلَـــهُ أُنَـاســـاً
لَـسَـعِـيــدٍ فَـإِنَّـهُــمْ سُـعَـــدَاءُ
أراد بهذا السعيد عند الله تعالى مَن سعد بعناية ربّه بأنْ قيّض الله له أناسا ودعاهم إلى الحقّ أو أحسن إليه فإنّهم سعداء ، يشير بهذا إلى أنّه صلّى الله عليه وسلّم سخّر الله له حليمة وزوجها حتّى ربّوه تربية حسنة فسعدوا بسعادته صلّى الله عليه وسلّم فكانوا بذلك سعداء ، وفي نسخة أخرى :
وإذا قـيّـض الإلـه سـعـيـدا لأنـاس فـإنـهـم سـعـداء
والسعيد هاهنا هو : الرجل الصالح الذي قام بأمر الله ونهيه إذا قيّضه الله لأناس فعاملوه بما يحبّ إمّا بامتثال أمره إذا دعاهم لطاعة الله تعالى ، وإمّا بكثرة إحسانهم إليه فإنّهم سعداء بهذه الحيثيّة ، فإنّ الله سبحانه وتعالى يقول :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ

[ الأنفال : 29 ] ، وقوله :
وَيَغْفِرْ لَكُمْ

ليس للشخص نفسه ، فإنّ نفس الشخص ذوي القرابة وذوي الإحسان إليه ومَن قاربه بمجاورة ، ومعنى قوله :
يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا

، والفرقان : هو نور إلهيّ يوضع في القلب لمن صدق الله في المعاملة وكملت براءته من متابعة هواه ، فلا يسنح له شيء لا يعلم حكمه إلاّ برز له من نور قلبه أنّ هذا الأمر حقّ أو باطل حتّى قال بعض الكبار في من حصلت له هذه الحيثيّة : " أن تنظر في ما سنح لك من الأمور وهل تفعله أو لا فانظر إلى ذلك الأمر ، إنْ نظرتَ إليه في الباطن صحبه نور عظيم في القلب دلّ على أنّ ذلك الأمر واجب شرعا لا يسعك تركه ، وإنْ رأيت صحبه نور قليل دلّ على أنّ ذلك الأمر من قِبَلِ المندوب ، وإنْ رأيت أنّه صحبه ظلام عظيم متراكم فهو محرّم شرعا ، وإنْ رأيت أنّه صحبه ظلام خفيف أو غبش دلّ على أنّ ذلك الأمر مكروه شرعا ، وإنْ لم تر فيه شيئا لا من النور ولا من الظلمة ورأيته عريا عن جميعها دلّ ذلك على أنّه من قِبَلِ المباح ، وهذه الصفة لا يعرفها إلاّ الأكابر من أهل الله تعالى ، وهذا من الفرقان الذي جعله الله تعالى في القلب للعبد . وقد يسمع خطابا في قلبه بالفعل أوالترك أو بالزجر عنه أو بالحثّ عليه ، وكلّ هذا من قبيل الفرقان ، فهذا معنى قوله :
إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا

.
ثم قال رضي الله عنه :
حَـبَّـةٌ أَنْـبَـتَـتْ سَـنَـابِـلَ وَالْعَـصْـ
ـفُ لَدَيْـهِ يَـسْـتَـشْـرِفُ الضُّـعَـفَـاءُ
معناه : أخبر هاهنا من شدّة عظيم الأجر على هذه المِنّة التي مَنَّ الله بها على حليمة ، حيث كانت أُمّاً لأكبر رسله صلّى الله عليه وسلّم . قال : هي في المثل كحبّة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبّة ، فهذا تمثيلها في تضعيف الأجر عليها . قوله : والعصف الذي في ذلك الحبّ إليه يستشرف الضعفاء لكثرته وتضاعفه ، كقوله صلّى الله عليه وسلّم :
«
لا حسد إلاّ في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلّطه على هلكته في الحقّ ورجل آتاه الله علما فهو يعلّمه للناس ويقضي بالحقّ
» ،
والحسد هاهنا هو الاغتباط بالشيء ، والاستشراف بالشيء هو طلب تحصيل مثله ، وهذه هي الغبطة .
ثم قال رضي الله عنه :
وَأَتــَتْ جَــدَّهُ وَقَــدْ فَـصَـلَـتْـــهُ
وَبـِهَــا مِـنْ فِـصَـالِــهِ الْبُـرَحَــاءُ
معناه : أنّ حليمة رضي الله عنها أتت بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى جدّه عبد المطلب حين فصلته عن الرضاع وبها مِن فصاله البرحاء ، يعني أنّها جاءت في خوف عظيم ، والبرحاء هي شدّة الثقال مع حرارة شديدة . فجاءت إلى جدّه عبد المطلب وقد فصلته وبها من فصاله البرحاء يعني : بها كرب عظيم لشدّة خوفها من إمساكهم له عنها لأنّها قد أدركت مِن بركاته أمرا عظيما وخطرا جسيما صلّى الله عليه وسلّم .
ثم قال رضي الله عنه :
إِذْ أَحَــاطَــتْ بِـهِ مَـلاَئِـكَــةُ اللــ
ــهِ فَـظَـنَّــتْ بِـأَنَّـهُـمْ قُـرَنَـــاءُ
أخبر هاهنا عن زمن شقّ صدره صلّى الله عليه وسلّم ، وذلك حين نزل إليه جبريل وميكائيل عليهما الصلاة والسلام فأخذاه وأضجعاه وشقّا صدره وقلبه وأخوه من الرضاعة ينظر ، فلمّا رأى ذلك هاله وظنّ أنّه هلاك عظيم حلّ به ، فجاء شديد الفرار شديد السعي لأبويه ، فقالت له أمّه أو أبوه : " ما شأنك ؟ " ، قال لها : " ذلك أخي القرشي أتياه رجلان فأضجعاه وشقّا صدره وقلبه " ، فأدركهما أيضا أمر عظيم حياء من أهله صلّى الله عليه وسلّم ، فجاءا إليه بسرعة فوجداه قد قام ممتقعا لونه . فلمّا نظرا إليه لم يأبه بأسا ، فأتوا به إلى بيتهما ، فقال زوج حليمة : " إنّي أخاف أن يكون مسّ هذا الصبيّ شيء من بعض السحرة وأخاف أن يظهر ذلك عندنا فأسرعي برجعته إلى أهله ليكون إذا ظهر فيه شيء ظهر ذلك عندهم " ، فأسرعت به الرجوع بعدما كانت حريصة على إمساكه .
ثم قال رضي الله عنه :
وَرَأَى وَجْـدَهَــا بِـهِ وَمِـنَ الْــوَجْــ
ـدِ لَـهِـيـبٌ تَـصْـلَـى بِـهِ الأُحْـشَـاءُ
الوجد هاهنا هو شدّة الحُبّ الذي وقع به الوجد ، ومِن الوجد لهيب تُصلى به الأحشاء ، يعني من شدّة الحُبّ لهيب نار ، فإنّ الحُبّ بمنزلة اللهيب من النار تصلى به الأحشاء ، يعني تشوى به الأحشاء .
ثم قال رضي الله عنه :
فَـارَقَـتْــهُ كَـرْهـاً وَكَـانَ لَـدَيْـهَــا
ثـَاوِيــاً لاَ يُـمَــلُّ مَـنْـهُ الثَّـــوَاءُ
معناه : فارقته كرها لأجل ما وقع به من شقّ صدره صلّى الله عليه وسلّم ، خافت من ذلك لِما تقدّم ، فلذلك فارقته كرها لا اختيار لها في فراقه وكان لديها ثاويا ، والحال أنّه كان عندها في غاية الثواء ، يعني : في أحسن الإقامة وفي أكبر العزّ والتعظيم عندما فارقته كرها .
ثم قال رضي الله عنه :
شُـقَّ عَـنْ قَـلْـبِــهِ وَأُخْـرَجَ مِـنْــهُ
مُـضْـغَـةٌ عِـنْـدَ غَـسْـلِـهِ سَــوْدَاءُ
معناه : أنّه صلّى الله عليه وسلّم نزل إليه جبريل وميكائيل عليهما السلام فشقّا صدره فأخرجا منه علقة سوداء وقالا له : " هذا حظّ الشيطان منك " ، وطهّرا قلبه ، يريد ممّا كان فيه من رسوم البشريّة التي هي الناقصة لمرضاة الله تعالى ، لم يبقيا فيه إلاّ ما كان جاريا على مرضاة الله تعالى من الأخلاق الكريمة صلّى الله عليه وسلّم . وقد روي أنّه قال له أحدهما ، حين رآه ارتعب : " إنّك لو تدري ما يراد بك لدريت أمرا عظيما " ، أو " لعلمت أمرا عظيما " ، لأنّه كان في ذلك الوقت لا يعلم شيئا .
ثم قال رضي الله عنه :
خَـتَـمَـتْـهُ يُـمْـنَـى الأَمِـيـنِ وَقَـدْ أُو
دِعَ مَــا لُــمْ تُــذَعْ لَــهُ أَنْـبَـــاءُ
معناه أنّه صلّى الله عليه وسلّم حين ضُمّ صدره وقلبه ختم جبريل عليه السلام بخاتم يمناه وقد أودع القلب الكريم ما لم تذع له أنباء من أسرار الله المخزونة المكنونة المكتومة لا يمكن أن تودع في غيره صلّى الله عليه وسلّم .
ثم قال رضي الله عنه :
صَـانَ أَسْــرَارَهُ الْخِـتَــامُ فَـلاَ الْفَــ
ــضُّ مُـلِــمٌّ بِــهِ وَلاَ الإِفْـضَـــاءُ
معنى هذا البيت : أنّه صلّى الله عليه وسلّم نسب ختم جبريل لقلبه صلّى الله عليه وسلّم صان أسراره ما أودع في قلبه صلّى الله عليه وسلّم بسبب ذلك الختم ، وذلك الصون الذي صينت به الأسرار في قلبه صلّى الله عليه وسلّم لا الفضّ يُبديه ، والفضّ هو شدّة الغضب مع غلظة الخلق ، لا يحمله شدّة الغضب على إفشاء سرّه الذي أودع في قلبه . ولا الإفضاء ، ولا إفضاء الأعداء إليه بالمقابلة ، فلا يحمله على إذاعة أسراره التي أودعت في قلبه صلّى الله عليه وسلّم .
ثم قال رضي الله عنه :
أَلِــفَ النُّـسْــكَ وَالْعِـبَـادَةَ وَالْخَـلْــ
ـوَةَ طِـفْــلاً وَهَـكَـذَا النُّـجَـبَـــاءُ
معناه : أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَلِفَ النسك والعبادة عطف تفسير ، والخلوة ألفها طفلا صلّى الله عليه وسلّم وهو صبيّ صغير ، فإنّه سبحانه وتعالى طهّره من جميع توابع البشريّة التي لا ترضى لمقامه العليّ . فإنّ بحيرى عالما من علماء النصارى حين رأى وجهه بصفته قال له : " يا فتى ، إنّي أسألك فاصدقني " ، فقال له : " أسألك باللات والعزى " ، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم : " لا تسألني باللات والعزى ، والله ما أبغضت شيئا بغضهما " ، أبغضَهما لكونهما يُعبدان من دون الله تعالى وقلبه صلّى الله عليه وسلّم في ذلك الوقت راسخ في مقام الإيمان بالله وراسخ في مقام التوحيد ، فلذا قال له هذا لأنّه موفّق في صغره فكيف وهو صفوة الله من جميع خلقه ، فهو أحقّ بهذه المرتبة صلّى الله عليه وسلّم . ، وقد روي أنّ أعمامه وكانوا يريدون الذهاب به إلى أصنامهم في أعيادهم التي يجعلونها عند الأصنام فيأبى عند الذهاب إليها ويشتدّ امتناعه حتّى خاصمته يوما عمّاته وقلن له : " إنّك لا تكثر لأعمامك جمعا فاذهب معهم إلى الأصنام " ، فأبى وامتنع ولم يوافقهم على شيء وهو صبيّ صلّى الله عليه وسلّم ، فهذه حالة النجباء ، هُم المتبرزون في معرفة الله وعبادته من حيث أن لا يكون لهم الْتِفَاتٌ إلى شيء من دون الله تعالى .
ثم قال رضي الله عنه :
وَإِذَا حَـلَّـــتِ الْهِـدَايَــةُ قَـلْـبـــاً
نَـشِـطَــتْ لِـلْـعِـبَـادَةِ الأَعْـضَــاءُ
الهداية التي تحلّ القلوب هنا هي العناية الإلهيّة التي تجذب قلب العبد إلى الله تعالى وتسلبه عن كلّ ما سوى الله تعالى ، ملأ فيض الأنوار الإلهيّة تصحب تلك العناية فيصير صاحبها لا يريد إلاّ الله تعالى ولا يلتفت إلاّ إليه ولا يعوّل إلاّ على الله تعالى تعظيما وإجلالا وعبادة والتفاتا ومساكنة وملاحظة وأنسا ومحبّة وتجريدا من غيره وتفريدا له في قلبه ، فهذه هي الهداية التي تحلّ في القلب ، فلا شكّ أنّ القلب إذا امتلأ بهذه الأنوار نشطت للعبادة الأعضاء ، يعني تبعته الجوارح كلّها ونهضت بذلك إلى عبادة الله تعالى واحترقت منه آثار الغفلة والسهو منه فصار عبدا إلهيّا فكانت أعضاؤه كلّها إلهيّة لا تسير إلاّ فيما يرضي الله سبحانه وتعالى وهذه هي العبادة . والنشاط إليها هو زوال الغفلة والسهو ، فإنّ العبد مقيّد عن عبادة الله تعالى بدوام سهوه وتوالي غفلته ، فإذا احتوى السهو والغفلة زالت القيود من رجله التي كانت تمسكه عن العبادة . والنشاط في اللغة هو التسرّع بعد التبطّئ وهو الانطلاق من القيد ، والعبد ما دام في غفلته فهو مقيّد عن عبادة الله تعالى بغفلته وسهوه .
ثم قال رضي الله عنه :
بَـعَـثَ اللـهُ عِنْـدَ مَـبْـعَـثِـهِ الشُّـهْـ
ـبَ حِرَاسـاً وَضَـاقَ عَنْـهَـا الْفَـضَـاءُ
ثمّ انتقل هنا يتكلّم على حراسة السماء وذلك من إرهاص نبوّته ، ومن ظهور معجزاته بعث الله الشهب على الشياطين التي تسترق السمع من السماء يأتون بأخبار الملائكة ممّا يسمعون من الغيوب فيبعث الله الشهب في السماء حراسة من أن تصل الشياطين إليها وطهرها هذا في قرب مبعثه صلّى الله عليه وسلّم ، وحكاية خطر بن مالك في ذلك مشهورة . أورد الرواة أنّه صلّى الله عليه وسلّم ذكروا بين يديه رجم السماء بالنجوم فأخبر بهذا ، فقام إليه رجل من أهل اليمن فقال له : " بأبي وأمّي يا رسول الله نحن أوّل من عرف حراسة السماء وذلك أنّا اجتمعنا إلى كاهن لنا يقال له خطر بن مالك ، وكان شيخا كبيرا قد أتت عليه مائتا سنة ، فقلنا له : يا خاطر ما ترى ما حدث في السماء من رمي النجوم فما ترى في ذلك فإنّا خفنا عاقبتها ، فقال لنا : ائتوني بسَحَرٍ أخبركم بالخبر الخير أو الشرّ لنفع أو ضرّ ، قال : فأتيناه في وقت السَّحَرِ فوجدناه جالسا على سطح داره ، فلمّا أحسّ بنا أشار لنا بيده أن اجلسوا ، فجلسنا ساعة ثمّ انقضّ عظيم من السماء ، فصرخ الكاهن بأعلى صوته : أصابه أصابه أحرقه شهابه خمرها عذابه حلّ بنا عقابه بلباله ، يا ويلتنا ما داله ، إنقطعت حباله ، تمزّقت أوصاله ، ثمّ قال لنا : يا معشر بني قحطان أخبركم بالحقّ والبيان ، أقسمت بالكعبة والأركان والبيت المتين السرّ أن لقد منع السماء عتاق الجانّ بثاقب بكفّ ذي سلطان من أجل مبعوث عظيم الشأن بعث بالتنزيل والقرآن والهدى فأصل الفرقان به عبادة الأوثان وتظهر به عبادة الرحمن ، قال : فقلنا له : إنّك لتذكر أمرا عظيما فما ترى لقومك ؟ قال :
أرى لقومـي مـا أرى لنفسـي
أن يتبعـوا خيـر نبـيّ الإنـس
برهـانـه مثل شعـاع الشمـس
يريد به ظهور معجزاته صلّى الله عليه وسلّم يبعث بمكّة دار الحمس ، بمحكم التنزيل غير اللبس صلّى الله عليه وسلّم ، قلنا له : يا خطر من أيّ القبائل هو ؟ ، قال : والحياة والعيش إنّه لمن قريش ، قال : والبيت ذي الدعائم إنّه لمن نسل هاشم من معشر أكارم يبعث بالملاحم وقتْل كل ظالم ، ثمّ قال لهم : الله أكبر جاء الحقّ وظهر ، وبعث أحمد خير البشر ، وانقطع عن الجنّ الخبر ، ثمّ قال : الحقّ والبيان أخبرني به رئيس الجانّ ، فقال صلّى الله عليه وسلّم للراوي : سبحان الله لقد نطق عن مثل نبوّة وإنّه ليبعث يوم القيامة وحده وكثير من الكهّان أخبروا بهذا " .
ثم قال رضي الله عنه :
تَـطـْرُدُ الْجِـنَّ عَـنْ مَقَـاعِـد َللـسَّـمْـ
ـعِ كَـمَـا تَـطْـرُدُ الـذِّئَـابَ الـرِّعَــاءُ
معناه أنّ تلك الشهب التي أرسلها الله في السماء كانت تطرد الشياطين والجنّ عن المقاعد التي اعتادوها من قبل كما تطرد الذئاب الرعاء .
ثم قال رضي الله عنه :
فَـمَـحَــتْ آيَــةَ الْكَـهَـانَــةِ آيَــا
تٌ مِـنَ الْـوَحْـيِ مَا لَـهُـنَّ انْـمِـحَـاءُ
أخبر في هذا البيت أنّ آيات الوحي ، وهو القرآن العظيم ، محتْ آية الكهانة وبطلت بسببه حتّى لا توجد بعد الوحي بشيء ، وآية القرآن لا انمحاء لها ، أيّ لا ماحي لها .
ثم قال رضي الله عنه :
وَرَأَتْـهُ خَـدِيـجَــةٌ وَالتُّـقَــى وَالــ
ـزُّهْــدُ فِـيـهِ سَـجِـيَّـةٌ وَالْحَـيَــاءُ
معناه : أنّ خديجة لما رأته رغبت في تزوّجه ، وكان الذي رغّبها فيه ابن عمّها ورقة بن نوفل ، وكان مؤمنا بالله متبرّئا من دين الجاهليّة قد علم كثيرا من علوم أهل الكتاب فأخبرها به صلّى الله عليه وسلّم ، قال : رأته وفيه الزهد والتقى ، والحياء فيه سجيّة مطبوعة فيه لا تنفكّ عنه ، والذي سجيّة فيه ، يعني لا تزاوله أصلا ، والذي يستعمل هذه الأوصاف دون سجيّة توجد فيه تارة وتنعدم فيه أخرى .
ثم قال رضي الله عنه :
وَأَتَـاهَـــا أَنَّ الْغَـمَـامَــةَ وَالسَّــرْ
ــحَ أَظَـلَّـتْــهُ مِـنْـهُـمَـا أَفْـيَــاءُ
الأفياء ، جمْع فَيْءٍ وهو الظلّ ، أمّا هي ، أيّ أخبرها غلامها ميسرة ، وكانت أعطته مالا يتّجر به إلى الشام قراضا على ما كانت العرب تعتاده من القراض ، وبعثت معه غلامها ميسرة خادما له في طريقه ، فأخبرها ميسرة بما رآه في اليوم العظيم الحرّ تسير سحابة فوقه وتظلّه وهي المراد بالغمامة ، وأخبر من أنّ المسرح كان يظلّه وهي الشجرة ، أخبرها أنّ كلّ ما جلس تحت الشجرة يستظلّ مالت عليه بغصونها لأجل الظلّ .
ثم قال رضي الله عنه :
وَأَحَــادِيــثُ أَنَّ وَعْـــدَ رَسُــــولِ
اللـهِ بِـالْبَـعْـثِ حَـانَ مِـنْـهُ الْـوَفَـاءُ
يعني : وأتاها أيضا الخبر وأحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أخبرها الخبر ، وكان ورقة هو الذي أخبرها وألقى إليها الأخبار أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو محمّد بن عبد الله ، وأنّه قد حان وقت قيامه بالنبوّة والرسالة ، فلذلك رغبت في تزوّجه ،وذلك قبل البعثة بخمسة عشر سنة .
ثمّ قال رضي الله عنه :
<< الصفحة الأولى
الصفحة الثالثة >>