نفحات7 ـ البترول : روح الحضارة العصرية ـ الإستكشاف
الرّئيسيـة > عصـرنـا > البتـرول : روح الحضـارة العصـريـة > الإستكشـاف



اكتشاف البترول

عرف الإنسان البترول منذ آلاف السنين حينما واتته ظروف هجرته وتسرب إلى سطح الأرض ، أو إلى أعماق غير بعيدة ، كما ذكرنا من قبل . وكان الناس يجدونه إمّا على شكل بِرَك مالت إلى التصلّب لتبخّر المواد الخفيفة منه ، أو يتتبّعون آثاره بواسطة حُفَرٍ . وقد استعملوه لأغراض عديدة كطلاء السفن والبنايات ، وإحكام أجزائها لمنع تسرب الماء إلى داخلها ، ودواء لبعض العلل الجلدية للإنسان والحيوان . وقد ورد ذكر البترول في تواريخ الحضارات الغابرة بوادي النيل ، وأرض الرافدين ، وسوريا لما كان له من أهمية في توفير وتيسير خدمات جليلة كالتدفئة ، والإضاءة ، وبعض تقنيات الحرب . وفي بلاد فارس عَبَدَ الناس النار المقدسة شديدة الإشعاع ، التي لا تنطفئ ، والخالية من الدخان . وهي في الحقيقة نار غازٍ تسرب من الصدوع إلى الخارج ، وتسببت الصواعق المرافقة للعواصف الرعدية في إشعاله . بقيت علاقة الإنسان بالبترول على تلك الحال المذكورة حتى القرن التاسع عشر حين تطلع الناس إلى أنواع أجود وأرقى من الوقود يتلائم مع جديد منتوجات النهضة الصناعية ، كبعض وسائل الإنارة . وفي منتصف القرن (1852 ـ 1855 م) طور العلماء في بريطانيا ، والولايات المتحدة ، وكندا ، تقنيات لاستخلاص زيت إضاءة من البترول الخام بدون مخلفات بعد الإحتراق ، ووضعوا جدولا رسميا يُحْصي بعض مشتقاته . ثم تطور الأمر إلى التفكير في حفر آبار ، وكانت أول تجربة بألمانيا بين سنة 1857 - 1859 م .
لكن التجربة التي أخذت صداها الكامل في العالم هي تجربة " إدوين درايك " Edwin R. Drake ، في بنسلفانيا Pennsylvanie ، بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 1859 م ، حينما حفر آبارا بِنِيّةِ الوصول إلى المنبع الأم لنفط بنسلفانيا ، واعتُبرت بداية لعهد الصناعة البترولية الحديثة . وأصبح البترول منذ ذلك التاريخ هو الشغل الشاغل للعلماء والمختصّين ، وانكبّوا على دراسته ، ووضع الفرضيات والتفاسير لتكوينه ، وحركته ، وتجمّعه بباطن الأرض .
وعند اختراع السيارات ، ودخول أمم العالم في حروب شاملة ( خاصة الحرب العالمية الأولى ) ، أصبحت الطاقة البترولية مسألة حياة أو موت ، واستحق النفط بِحقٍّ لقب " روح الحضارة العصرية " .
مراحل استكشاف البترول Exploration

السؤال الذي يطرح نفسه على الكثير هو : كيف يتمّ العلم بوجود مكامن البترول ؟ ومتى يُقرَّر البدء بالتنقيب عنه ؟
هي عمليات معقدة ، تتطلب النفس الطويل ، وترصد لها أموال طائلة ، وتجهّز لها جيوش من الخبراء والتقنيين والعمال ، وتُقتنَى أحدث المعدّات وأدقّها لإنجازها على أحسن الوجوه الضامنة لأعلى معدّلات النجاح . إنه استثمار مكلف ، وعلى آماد قد تطول ، تتحمّله الدول والشركات العالمية العملاقة لما فيه من فوائد عظيمة ، تخدم المصالح الضيقة والواسعة للأفراد والشعوب في عاجلها وآجلها .
المسح الجيولوجي الطبقي

ويبدأ بالدراسة الجيولوجية لأرض البلد كلها أو لرقعة عريضة منها . هو قياسٌ للمغناطيسية الأرضية بواسطة مسح جوّي يمَكِّن من تغطية واسعة تشمل كل المنطقة المعنية بما فيها الأجزاء الوعرة التي يصعب الوصول إليها على الأرض (مناطق جبلية ، سباخ ، مستنقعات) لتحديد الأحواض الرسوبية التي يمكن أن تحتوي على بترول ، ولتحديد أنواع التراكيب الجيولوجية للصخور ، وبُنْيَة الطبقات ، كمناطق الطيات المحدّبة Anticlinaux ، والمقعّرة Synclinaux ، وسُمْكها ، ثم إنشاء خرائط لها . لكن هذا لا يكفي لأنه لا يعطي سوى معلومات عن تنوّع التراكيب ، ولا بد من عمليات أخرى مكمّلة أضيق وأدقّ .
المسح الجيوفيزيائي

هي عملية ميدانية ضيقة بالمقارنة مع ما تفعله الأقمار الصناعية أو الطائرات . ويتم بطرق متعددة ، لا نذكر منها إلاّ تلك المسماة : " المسح الزلزالي " sismique réflexion ، لأنها هي الأكثر أهمية وانتشارا . إنها تقنية تمّ تطويرها سنة 1930 م ، تعتمد على إرسال موجات إلى باطن الأرض ناتجة عن هزّات زلزالية يحدثها تفجير شحنات من المتفجرات ، أو إسقاط كتلة ثقيلة خاصة على السطح . تنتشر الموجات في كل الإتجاهات ، وتسري في مادة الصخور ، وينعكس جزء منها عند الأوجه الفاصلة بين الطبقات ذات الخصائص الطبيعية المختلفة ويعود إلى السطح ، ويواصل الجزء المتبقّي اختراق طبقات أخرى وينعكس بدوره ، وهكذا عند كل طبقة حتى يضمحل ويتلاشى . تلتقط الموجة المرتدّة من الأعماق بواسطة أجهزة حساسة جدا géophones ، ثم يُقاس زمن تنقلها ذهابا وإيابا بين مصدر بثها ومصدر تلقيها . تعاد العمليات مرات عديدة بتغيير أماكن الأجهزة ، ثم تستنتج سرعة اختراق كل طبقة ، ومنها تصميم خريطة تبرز جميع المستويات الجيولوجية للأعماق المدروسة ، وأماكن الطيات والقباب .
ومع مرور الزمن عرفت تقنيات الجيوفيززياء تطورا كبيرا ، وأصبحت تعتمد في معالجة المعطيات المعقدة على برامج جبارة تديرها حواسيب قوية تشبه تلك المستعملة لدراسة توقعات الأحوال الجوية . فبعد المسح ذي البُعديْن ( 2D ) والذي يعطي رسوما ومقاطع مسطحة لباطن الأرض ، ظهر المسح ثلاثي الأبعاد ( 3D ) الذي يمكّن من الحصول على صور مجسّمة للباطن ، واكتشاف مكمن الهيدروكربون نفسه في كثير من الأحيان . ثم أضيف عنصر الزمن إلى المسح ذي الثلاثة أبعاد ، وأصبحت الحقول البترولية أو الغازية تخضع لعمليات مسح جيوفيزيائي بعد كل فترة من الإنتاج لمتابعة تغير ظروف المخزن والمخزون ، ويطلق على هذا البرنامج اسم المسح رباعي الأبعاد ( 4D ) .

الحفر الإستكشافي

بعد العمليات الجيوفيزيائية ، وبرغم الحجم الهائل من المعلومات الجيولوجية ، لا تجد من يضمن لك وجود بترول مائة بالمائة ، وحتى ولو ضمن وجوده فإنه لا قدرة له على القطع بكمياته المخزونة ، أو العلم بنسب استخراجه ، ولذلك فإن الحل هو اللجوء إلى حفر آبار استطلاعية .
لكن قبل ذلك ، لا بد من استنفاذ كل السبل التي من شأنها إثراء معرفتنا بالمنطقة المختارة ، لأن الحفر الإستطلاعي باهض الثمن ( 5 ـ 60 مليون دولار ) ، والفشل فيه يعني خسارة كبرى قد لا تُعوّض. من ذلك الإطّلاع على نتائج عمليات الحفر المنجزة من قبل في أقرب مكان ، لمعرفة ما إذا كان هناك من دلائل على وجود نفط ، ومعرفة حدود الطبقات وما مدى إمكانية إخضاع منطقتنا إلى نفس الأحكام . ومن ذلك أيضا الإطلاع على ما اجتمع من معلومات عن حركة القشرة الأرضية في عين المكان لتكوين فكرة عن نوع المصائد وظروف تكوّنها . وفي آخر المطاف لا بد من قرار : حفر الآبار الإستطلاعية أو التخلي نهائيا عن المشروع . القرار يأتي على ضوء النتيجة الشاملة المنبثقة عن الدراسات التي ذكرناها آنفا ، والتي تعتمد على رجحان حسابات الخبراء صوب الإحتمال " الفرصة " أو الإحتمال " الورطة " .
يقرر حفر أول بئر في مكان يتوقع فيه أعلى احتمالات النجاح . أثناء الحفر تسجل النتائج مرحلة بمرحلة ، وتحلل مادة الصخور أوّل بأوّل ، وتدخل التعديلات على المعلومات السابقة المتعلقة بأنواع الطبقات ، وسمكها ، وكثافتها ، وكذلك قياس مسامية صخور الخزان ونفاذيتها . ثم يتبع هذا البئر بحفر آبار أخرى في مناطق متعددة لتحديد مساحة الحقل ، ورصد كل التغييرات في التركيبة الجيولوجية .
هذه هي آخر مرحلة من طور الإستكشاف ، وبانتهائها تزول أعظم الشكوك ، ولكن ذلك لا يعني الإنتقال إلى مرحلة التنمية بدون أي هاجس . فإذا ثبت أن هناك بترول ، واجتمع من المعلومات ما يجعل الحقل منطقة معروفة المعالم والخصائص الباطنية ، فإن للخبراء تساؤلات وانشغالات أخرى لا بد من إجلاءها ، وأهمها مردودية عملية الإنتاج ، والربح المتوقع من الإستثمار . وهي في حدّ ذاتها مرتبطة بحجم المخزون القابل للإستخراج ، وهيئة توزّع الخامات بأعماق الحقل ، ووتيرة الإنتاج في المستقبل ، وتكاليف المعدّات والتجهيزات ، والإعتبارات الإقتصادية ، وغيرها . ولهذه الأسباب نجد ، فيما مضى من السنين ، أن محاولة استكشافية واحدة فقط من بين سبعة كانت تتوّج بقرار استغلال تنموي ، ثم ارتفعت النسبة بعد تقدم العلوم وأصبحت واحد على ثلاثة أو أربعة في أيامنا هذه.

<< تكوين البترول    التنقيب >>