رد فعل المسلمين على الإساءة للرسول
بقلم : محمود سلطاني
حادثة نشر الرسوم المسيئة لشخص سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تدخل ضمن أنواع الإساءات التي يتعمدها الإنسان إلى أخيه الإنسان بدافع مشاعر عدائية ظالمة ، منبعها شر متأصل في النفوس والسلائق.وعلى عكس السلوك العدائي المبرر بصفته رد فعل على فعل سبقه كالقصاص ، أو الأخذ بالثأر ، فإن هذا يفتقد الأسباب الموضوعية الخارجية المسؤولة عن حدوثه
لقد اقتضت إرادة الله تعالى وحكمته أن يكون من بين الخلق نسبة تفعل الشر لذاته ، وتسعى للحصول على المتع بتعذيب غيرها . وهي حينما عجزت عن حيازة طمأنينة الخيّرين ، رفضت أن تعيش بعذابها واختلال توازنها الباطني بمفردها ، وتوسلت بكل الوسائل لتجريع غيرها من كأسها المرّ ، وإشاعة شحنات تنغيص حياة الأبرياء بدون مقابل
كان غضب الأمة الإسلامية طوفانا ، وحُـقَّ له أن يكون كذلك ، وهو دليل على الحب اللاّمتناهي لسيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلامة على متانة الولاء ، وقوة الإعتقاد فيه ، وتذكير للناسيين أو المتناسين بسلامة الجذوة المدفونة تحت الرماد واحتفاضها بقدرتها الكاملة على الإنبعاث . هي إذن غضبة ضمانٍ لأهم مقوّم للأمة ، يُدخِل السرور في قلوب المؤمنين ، ويصدم الأعداء فيدفعهم لإعادة حساباتهم
لكن العاصفة ـ وقد هدأت الآن ـ تكشّفت عن حقائق في جلها أعراضا لعِلَلٍ ونقائص فينا تنذرنا بفصاحة بالخطر المحدق بنا ، وتدعونا بإلحاح إلى تغيير ضروري لواقعنا الذي بنينا على أسسه قبل عشريات مصالحنا اعتقادا منّا أنه الأنسب
إن المناداة بالمقاطعة فكرة صحيحة ، وذات تأثير قوي ورادع ، لكن كي تتم على أحسن وجه ، لا بد من مراعاة شروط بعينها ، وإلاّ فإنها ستنقلب على مستعملها نفسه ، ويكون الأول المتضرّر منها
وفي نظري ، إن أمتنا اليوم تفتقر لجميع شروط المقاطعة ، لأني أرى أن الذي يقاطِع عليه أن يكون مستعدا لكي يقاطَع ، وذلك إما باكتفاء ذاتي نسبي يمكنه من الوقوف لمدة كافية لإيجاد الحلول قبل السقوط ، وإما باتخاذ تدابير منذ البداية لضمان الممول البديل لما يحتاجه . وأرى كذلك أن معنى المقاطعة الحقيقية يسري باتجاهين ، فالمقاطعة جلبا وابتياعا لن يكون لها معنى إذا لم تكن مشفوعة بمقاطعة بيعٍ وتصديرٍ ، لأن المقاطعة الإستهلاكية وحدها تصيب صاحبها بقدر ما تصيب صاحب السلعة ، والضرر لاحق بكليهما ، وفرص الإستسلام موزعة بينهما بالتساوي . هذا في أحسن الأحوال ، وقلّما تجري الأمور على هذه الصفة ، لأن المُصَدِّر منتج ، وكل منتوج مطلوب ، وتأخر ضرر تركه وارد بقوة لإمكانية تسويقه عند الغير ، وهو مكسب سيستغله المعني بالعقوبة إلى أقصى حدٍّ وكما يريد
الحقيقة مرّة ، لكن المقاطعة اليوم هي مرادف لانتحار الأمة ، لأنها لا تنتج شيئا بوسائل صنعتها أيدي أبنائها داخل الوطن . فغذاؤنا ودواؤنا ، وسلاحنا ، وكمالياتنا ورفاهيتنا ، من صنع غيرنا ، ونحن لا شك نشارك بقية أمم الأرض في التَّعلُّم ، وتطبيق المناهج العصرية في امتلاك المعارف ، ونتلقف كالجميع ما تطرحه التكنولوجيا من منتوجات ، إلاّ أنها مشاركة المستكين المنتظِر الذي لا دور له في شيء سوى التفرج والإستهلاك
حالة مزرية إلى أبعد الحدود ، لكن لا نرى لها أثراً البتة على أشكال ردّات الأفعال ، بل إن ما رأيناه هو العكس تماما . لقد أعطى السواد الأعظم من الأمة في تصلبه واستماتته في التمسك بتنفيذ المقاطعة دليلا على جهله بالموقع الذي يحتله بين الأمم اليوم ، وكأني بالمسلم يمارس حياته بقناعات لا تتناسب والواقع ، لا وجود لها إلاّ في مخيلته ، ويتعامل مع محيطه بمقتضاها بصفتها أمر حتمي ملزم للكل ، مثل الواجبات أو الأقدار الجارية . أبناء أمتنا متقطعون بين زمنين ، عصرهم الذي لا اختيار لهم في عيشه ، وعصر مضى من الأمجاد ، تجذر وجدانهم في تربته ، فأبوا أن يغادروه ، فبدت شخصياتهم وعقولهم بمكونات مختلفة النمو ، يفكرون للحاضر بأدوات كانت أصلح ما تكون في ما مضى لكنها لم تعد تفيد ليس لأنها فقدت صلاحيتها أو نجاعتها ، ولكن لأنها لم تعد في المتناول ، ولا بدّ من ترميم على كل المستويات ، وتعديل عميق للمعطيات كي نتفاءل بإمكانية استردادها واستعمالها
إن اللوم ـ كل اللوم ـ يقع على من تصدر الأمة ، وقادها بغير خطط توازنت فيها نِسَبُ وظائف مركبات الكيان البشري ، وتسبب في طغيان أدوار على أخرى ، فشاع الإختلال وآل الأمر إلى ما آل . وكان الأصوب أن تصرف الأنظار والأفئدة عن صورة الأمجاد في الماضي إلى إسقاطاتها على آفاق المستقبل ، لتزول القطيعة بين العصور ، ويتم الإنتقال إلى كل مرحلة برفق من غير تضحيات
أمّا التعلل بكون المقاطعة ذات طابع شعبي سيعفي الحكومات من الإحراج ومن تحمّل النتائج المنجرة عنها ، أو القول بأنها مقاطعة محدودة محصورة في دولة بعينها ، وبالتالي فلا مبرر لمخاوفنا وتحذيراتنا ، هو قول خالٍ من النظرة الفاحصة العميقة إلى الأمور ، لأن الدولة المعنية عضو في اتحاد ، مرتبطة به بمواثيق وعهود تضمن حماية كل منخرط فيه من كل خطر يتهدده ، وقد سمعنا كلنا تصريحات من مسؤولين أوروبيين يذكّرون بما ذكَرْناه .ثم أن سياسة الغرب في إدارة بلاده سياسة مؤسساتية صفتها الرئيسية الدقة العلمية ، والإحترافية الصارمة ، ولذلك فإن إضفاء نعت " الشعبية "على عملية المقاطعة يعكس سذاجة مركزة في التعامل مع قضايا مصيرية ، وهي تمويهات مكشوفة لا تنطلي إلا على أصحابها ، أما بالنسبة لهم فلا فرق بين من يحكم الأوطان اليوم ، وبين من سيحكم غدا ، ومن قد يحكم في المستقبل ، بل إنهم سيولون لهذه الظاهرة اهتماما أشد لأنها ـ كما قلنا في البداية ـ إنباء صارخ عن إمكانية الإنبعاث المغيِّر لمجرى التاريخ
وقد راهن البعض على صراع التكتلات الإقتصادية الكبرى ، ورأوا أن أوروبا ستتعامل مع نداء مقاطعة منتوجاتها بجدية ، لأنها سوف تخشى فقدان موقعها في أسواق المسلمين ليحتله غيرها من المتربصين الكثر . لا شك أن الصراعات موجودة وعلى أشدها لكنها صراعات لا تجلب الضرر ، ترتكزعلى مراعاة المصالح ، يكون المقرر الأول فيها هو صوت العقل ، ولذلك فهي تتلافى على الدوام فكرة إلغاء الآخر ، بل تسعى جاهدة لانتهاج السبل السلمية المؤدية إلى نتيجة إيجابية ، والتنسيق المطلق ، ولو اضطرها ذلك إاى التضحية بما يعتبره أصحاب النظرة السطحية " كرامة " لأن كل كتلة تعرف حقيقة قوة الأخرى ، وحجم الدمار الذي يمكن أن تلحقه بها إذا ما اصطدمت بها . هؤلاء يفضلون التعايش مع بعضهم البعض على مواجهة ليست في صالح أحد
فلا غرو إذن إذا اكتشفنا أن السلع التي نبذناها من الباب قد عادت إلينا من نوافذ عدة ، وبأيدي من كنا نعتمد عليهم في إنجاح خططنا . ولنا في السلع الإسرائيلية حينما كانت ممنوعة عندنا خير مثال لإثبات صحة ما قلناه. فلقد كنا نحرّم استيرادها ، وونزج بها في قوائم سوداء ، ولكنها كانت تصل إلى أيدينا متنكّرة بأزياء ألِـفْـناها لجهات تـمـتـّنـت بيننا وبينهم الصِّـلات . ولنا كذلك في تاريخ هؤلاء الإستعماري دليل آخر مبين ، عندما كانوا يتقاسمون أوطاننا وأقاليمنا في مؤتمرات ضخمة سافرة ، لا تنفَضُّ حتى لا يبقى فيهم غاضب أو في نفسه شيء من شركائه
قال لي أحد المخلصين : " لا بد من التضحية من أجله صلى الله عليه وسلم ، وأن الله سينصرنا بإخلاصنا له ولرسوله، وأن الأزمة تولد الهمة ، فلِمَ لا تكون هذه هي البداية لإثبات نجاعة هذا السبيل الذي طالما اكتنفه الريب " قلت هذه انشغالات تتطلب أكثر من رد ، فأما أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحق التضحية فهو ما لا يختلف فيه اثنان من المسلمين لأنه محسوم بالنص الشرعي ، وتعاليم أهل المروءة من بني الإنسان تجاه أولياء نِعَمِهم ، لكن الإختلاف واقع في مفهوم التضحية وجنسها ، فأنا شخصيا أرى أن نوع التضحية تحدده أولويات الأمة ووضعها، فما يحتاج الشهادة بمعنى الموت في زمن ، قد يتضرر بها في زمن أخر ، ويكون الإنزواء والتقوقع أولى منه لمدة ضرورية تضمن لروح الموروث تخطي مراحل خطرة وصعبة إلى ظروف أكثر ملاءمة للنّشور والعطاء . وأعلم أن أصحاب النظرة الأحادية الجانب لن يفهموا من كلامي إلاّ أنه خور وتثبيط وجبن ، وطبيعي أن يصدر منهم مثل هذا الحكم لأنهم لا يملكون سوى قالب أوحد متصلب يقيسون عليه ، ويحكمون به . لكن هذه هي الحقيقة يعلمها أولوا النهى ، ولها من النماذج عبر التاريخ والمجتمعات ما يجيز لها نعت الإطّراد الكامن في القواعد والبديهيات
وأما أن نصر الله محقق للمخلصين فهو كذلك مقطوع به متفق عليه ، لكن لا بد وأن يتوفر مع الإخلاص التوسل بسنن الله المناسبة لخوض غمار تحقيق الأهداف ، وإلاّ فإنّ كل مجهود سيبذل من غير طائل . والظاهر أن الإخلاص موجود ، لكن الغائب الأكبر هو التقييم الموضوعي لحجم مأساة الأمة ، والجرد المنطقي لمقدرتها ومقدراتها
وأما أن الأزمة تولد الهمة ، ففيه نظر لأنه لو كان الأمر كذلك لكُنّا من مصدري الهمم لكثرة ما لاقينا من الأزمات وعلى أي حال فإن الهمم والحيَل المرتجاة من الأزمات تتطلب وقتا طويلا لتثمر ، وهي لا تصلح إلاّ لمن توفر لديه قسطا معقولا من الضروريات يمكنه من تطبيق الفكرة تطبيقا ناجحا
صورة أخرى من صور تداخل المفاهيم عند أكثرنا أجلتها لنا تلك الحادثة ، وهي عدم التفريق بين ما يجب أن يكون وبين ما هو كائن . ظهر هذا عند انتقاد مفهوم حرية التعبير عند الأوروبيين ، والمنحى العدائي الجارح الذي يأخذه بمباركة القوانين . ولا نشك لحظة بأن تلك السلوكات ظالمة ، وقوانينها الحامية لها أشد منها إجحافاً ، بل وإني أرى من زاويتي أن في أساليب كثير من الإنتقادات لقادتهم ورموز بلدانهم تهكما تعدّى حدود الأخلاق واللياقة ، وقد كان في مقدورهم قول ما هو أبلغ وأنفع وبأكثر من وجهٍ غير ممجوج . ولا نشك طرفة عين بأن توجيهات الإسلام هي توجيهاتٌ للإنسان حيثما كان ، ملزمة لكل من نشد ممارسة إنسانيته غير منقوصة ، ولو أنكرها وجحدها الجميع .هذا هو الحق . لكنه حق غير معترف به ، فهل سنحمل الناس عليه بالقوة ؟ وأين القوة الكافية اللاّزمة لتأديب من لا تنفع معه إلاّ القوة ؟ ليس للغربي إله سوى القانون الساري المفعول ، يخشاه ويتقه ولا يبالي بغير ذلك . وما نعتبره نحن ظلما واعتداء ، يراه هو حرية ثمينة يمارسها داخل حدود بلده لا ضرر فيها ، وما الإعتراض عليها إلاّ من قبيل عدم الفهم أو تباين المفاهيم ، واختلاف زوايا رصد السلوك ، ومقاييس المقدسات من مكان إلى آخر
وأرجو من القارئ الكريم أن لا يشتاط غضبا ، لأني عندما أقول ما قلت فهذا لا يعني أبدا اقتناعي بمثل هذه المبادئ ، لكنها طريقة عرض مستفيض وجريء للواقع أود أن يتبناها إخوتنا في كل مكان ليتسنى لهم فهم غيرهم ، واتخاذ القرارات الملائمة إزاء أي حادثة أو مشكلة
ولا يوجد مسلم يجهل أن الأمر مدبر محبوك الخطة ، تتدلى جذوره إلى أعمق مما يتصوره الكثير ، وقد ضلعت فيه جهات رسمية وذات نفوذ ، وهو سبب آخر وجيه في وجوب معالجة الأمر بأقصى درجات الروية والصبر
ما العمل ؟ ما هو الحل ؟
الحل في إعادة توزيع الأدوار
وأول دور يجب إعادة الإعتبار له هو دور الحكمة والعقل في صنع حياتنا ، ولن يتأتى هذا إلاّ بتنحي من أثبتت الأيام والتجربة فشلهم الذريع في قيادة الأمة ، أو إزاحتهم حرصا على ما تبقى من أمل في العودة من جديد ، وإفساح المجال لنخب من أصحاب الفكر الفذ الذين يديرون ويدبرون مراعين الأولويات ، والشمولية ، والنفاذية . أمتنا تعرف الصبر ولكنها أخطأت مجال تطبيقه لأنها جهلت مواطن المحن أو مراكز تغذيتها في عصرها ، فهي تقتحم جبهات لا يفيد فتحها نقيرٍ ، وتنفق من صبرها إلى حد الإسراف استجابة لمفاهيم لا دور لها ـ حقيقة أو ظلما ـ في التصميم النهائي لشكل الحضارة السائدة على أرض الواقع ، وهو نزيف طال أمده ، وسوف يستمر إلى حدود لا يعلمها إلاّ اللطيف الخبير ـ جلّ وعلا ـ إذا لم ننتبه في الوقت المناسب