نفحات77 - نوافذ على الحقّ ـ دوائر العلم
بقلم : بوبكر سلطاني 30/07/2023
نِسْبة الواحدِ إلى الثلاثة كنسبةِ الثلاثة إلى التسعةِ، فالواحدُ ثُلُثُ الثلاثة، والثلاثةُ ثُلُثُ التسعة. فكذلك الأمرُ عندنا في مراتب المعرفة: مرتبة العامي وهي الواحد، مرتبة العالمِ المجتهد بالتحصيل بالأسباب المعروفة وهي الثلاثة، ثم مرتبة العارف بالله الواصل وهي التسعة. وأمّا عند مَن لا يؤمن بالعارفين، فإنّ المعرفة مرتبتان لا غير: مرتبة العامي وهي الواحد، ثم مرتبة المجتهد وهي الثلاثة.
فعندنا، إذا جاءَ عاميٌّ إلى شيخٍ وقال له: يا سيدي، أنا أيقنتُ أنك "تسعةٌ" وأنا "واحدٌ"، فلذلكَ سأتبعُ كل ما تأمرني به مما تمليه عليَّ من حكمة علمك، وإذا جاء عامي إلى مجتهد فقال له: يا سيدي، أنا أيقنتُ أنك "ثلاثة" وأنا "واحد"، فلذلك سأتبع كل ما تأمرني به من حكمة علمك، وإذا جاء مجتهد إلى شيخ فقال له: يا سيدي، أنا أيقنت أنك "تسعة" وأنا "ثلاثة"، فلذلك سأتبع ما تأمرني به من حكمة علمك، فكل هؤلاء منسجمون مع هرمية الحقائق. فحتّى مع حقيقة: "من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد"، ولنقل أنّ المتبوع العالِمَ الأعلى درجة مما سبق أخطأ في مسائل معينة أفتى بها للأدنى التابع لحكمة علمه، فليس في هذا أيُّ إشكال بإذن الله يوم القيامة على التابع. وذلك لأن التابع بالنسبة للمتبوع هنا حُكمهُ الجهل، والجاهل لا يضمن أن يميّزَ الصواب من الخطأ بنفسه وتحليلاته، حتّى لو بدا له أنه فَهِمَ، فتسليمه أولى للمتبوع. وذلك لأنّ الفهم ظنٌّ تقريبي وهو درجاتٌ في شدة الدقة. وكلُّ درجةٍ في الدقة تكون أقل من أخرى، فلا يسعُ هذه الدرجةَ الدنيا إلا التسليم للدرجة التي هي أضبطُ منها في الدقة، حتّى ولو ظلَّ احتمال الإصابة مائة في المائة منتفيا عن كُلِّ الدرجاتِ. فالعامي يسمع فتوى المجتهد ـ ولو بدت له غريبة ـ ثم يعمل بها بلا اعتراض، فالاعتراض هو ليس من أهله ولا من حقه ويدخله فيه وهْمٌ وغلطٌ كبيران. والمجتهد يسمع فتوى العارف بالله (الذي أيقن بعرفانه أو انضوى تحت لوائه) وتوجيهَهُ ـ ولو بدا له غريبا ـ ثم يعمل به بلا اعتراض، فهو ليس من أهله هنا ولا من حقه، ولو أنّ له قدرة على النظر في أدلة الكتاب والسنة، لأنّ قدرة العارف بالله على النظر أوسع بكثير وأدواته أعظم بكثير من أدوات المجتهد، فالمجتهد بالنسبة للعارف جاهل كنسبة العامي للمجتهد.
إذا فهمتَ كُلَّ ما سبق، فهمتَ لماذا من شروط المشايخ على مُريديهم عدمُ الاعتراض بالكلية، بل الامتثال التام للأوامر بلا سؤالِ "لِمَ؟ كيفَ؟ علامَ؟ ... الخ". فإنّ المريد إذا جاء لشيخ ليلتزم عنده بالتربية، فإنّ البند الواضح في هذا العقد هو: بما أنك جئتني لأربّيك فأنت تعترف أنّي في مرتبةٍ من العلمِ هي بالنسبة لك كنسبة المجتهد للعامي، وانسَ أمرَ علمك الظاهر لو كنت حصّلته فإنّ ما عندي هو فوق هذا ولا يغيّرُ نسبة أمّيتكَ بشيء. وحيث أنّك كذلك، فلا يصحُّ للعاميّ الجاهل الاعتراض على المجتهد البصير العالِمِ، أليس كذلك؟ فإذا أجاب المُريد: نعم يا سيدي أُقِرُّ بذلك، ولهذا جئتك فاقبلني، فقبله الشيخ، فهذا يعني إبرام العقد على هذا البند، وتصرّفَ المريد وفق هذا البند. وإذا رفضَ المُريدُ هذا البند كقوله: لا، أنا لا أؤمن أنك في مرتبة علمية خاصة تفوق كل ما عندي، بل أؤمن أنك مثلنا تستنبط بالأدوات الظاهرة وأنا أستطيع أن أحكم عليك فيها لأني مثلك ومتساوٍ معك. فهنا يكون رد الشيخ ببساطة: إذًا فأنا لستُ مُربيًّا لك وموصِلًا لك إلى حضرةِ الله تعالى إذ لا اختصاص لي بشيء زائدٍ عندك، وكيف يصحُّ أن تعتقد أنّي أنقلك من حالِ رعونة النفس إلى حال الصفاء التام، وأنت لا تعتقد أنّي أنا نفسي خارجَ هذه الأمور كلِّها ولا تؤثّرُ بي؟ فأنت لا تظنّ إلّا أني محض شيخٍ من جملة أشياخ العلم، ولا تظنّ بي العرفان المتميز. وهكذا هذا الإنسان أصلا لا يؤمن بوجود العارفين عكس المُريد الأوّل الذي صدّقَ بهم.
إنّ ما مضى يُجيب على الاعتراض الشهير الذي يردّده المنكرون: "هؤلاء يعتبرون شيوخهم معصومين لدرجة أن لا يعترضوا عليهم ولا يكلموهم إذا خالفوا الشرع"، فنقول له: اعتراضك مردود وظالم لأنّه ينطلق من مسلمة رفض كون العارف بالله في درجة علمية متفردة عن المجتهد العادي. فإذا كنتَ أنت لا تعتقد وجودها، فليس لك الحق في نقد المُريدِ الذي يعتقد هو وجودها وتصرّفه منسجم تمام الانسجام، ولا علاقة للعصمة بل فعلهمْ من وجه التسليم للأضبطِ والتسليم للقواعد التي جهلوها. النقاش هنا ومحلُّ النزاع عندك ليس سكوت المريدين، بل هو قضية: "هل يوجد عارفون بالله أضبطُ فعلا؟". هذا ما يجب أن تركّز عليه، أمّا تصرّف المريدين فينبغي أن يكون واضحا لديك ـ إن كنت ذا عقل استدلالي سليم ـ أنّه منسجمٌ مع مسلّماتهم ولا تناقض فيه.
وهنا تُعقَلُ قضيّةٌ: لو اجتمع عدد من العامة يرونَ شيئا من عندهم أو فهمهم للنصوص وقال مجتهد بخلافهم، فهل العبرة بقولهم أم قوله؟ فنفس الشيء ينطبق على درجة العارف بالله عندنا: لو اجتمع عدد من المجتهدين على فكرة، وكان العارف بالله قال بخلافها لمريدهِ، فالعبرة عند المريد بقول شيخه العارف لا قول العدد منهم، لأن النسبة هنا هي نفس النسبة السابقة في مثال العوام العدةِ مع المجتهد. كيف يترك المريدُ قول المنضبط الذي يرى بوضوح إلى قول عدة يقولون بظنونهم؟ مع حفظ حرمة حملة شريعة الله سبحانه، وإنّما الكلام على عدم ارتقاءِ الظنونِ هنا نسبيٌ وليس بصفة مطلقة. فمن لم يجدْ شيخا عارفا بالله على تلك الدرجة السابقة (التسعة)، فعند فقد الماء يجوز التيمم، وينزل المرء إلى العمل في مقام الاجتهاد بالأسباب المعروفة (الثلاثة). ولعل أغلب الناس تعمل في مقام الثلاثة، ولكن منّة الله واسعة لا حدّ لها إذ جعل في الأمّة طائفة من أهل التسعة، ومنْ عثر عليهم فقد ارتقى مقامًا إضافيا لا عِدْلَ له في الدّين الحنيف السمح.
ربما يحتج بعضهم أن طائفة من العلماء ـ خلافَ الجمهور ـ أوجبت على المقلِّدِ السؤالَ عن الدليلِ لأي حكمٍ يمليه عليه المجتهد المسؤول. فالجواب أنّ مَنْ أراد التزام مذهب هذه الطائفة بغير تزحزحٍ عنه ليس له حقُّ فرض هذا النّظرِ الذي اتفق أكثرية المجتهدين على خلافه، وليكن حدُّهُ نفسَهُ وما اختارهُ لها. وربّما احتجّ بعضهم بقول سيدنا الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: لا تقلّدوني ولا تقلدوا مالِكًا ولا الأوزاعيَّ ولا النخعيّ ولا غيرهم وخذوا الأحكام من حيث أخذوا، فالجواب كما في "العهود المحمّديّةِ" للإمام الشعراني رضي الله عنه: قلتُ: وهذا محمولٌ على من كان فيه قوة النّظرِ، وإلّا فقد صرّحَ العلماء بأنّ التقليد أوْلى لضعيفِ النّظرِ. انتهى (كتاب الرماح باب تبرِّي الأئمة من ادّعاء وجوب اتباعهم)، وهو توجيهٌ واضحٌ وإلّا حلّت الكوارث والمفاسدُ العجيبة إن أتيح النظر لكل من أراد. والمجتهد في مقابلة العارف الذي دخَلَ تحت تربيته يُعتبر في مقام عدم الأهلية وضعف النّظرِ كما وقّعَ هو بنفسه ومحض إرادته على بند هذا العقد المنبرم بينهما. فلا جَرَمَ أنّ اعتراضه فيما بعدُ بأي شكل يخْرِقُ هذا العقد من أساسه! فلا يبْرِمْه منذ البداية إن كان عنده شكٌّ في تفرُّدِ درجةِ هذا الشيخ الذي أمامه. قال الإمام الشريشي في رائيته المشهورة مشيرا لهذا المعنى:
ولا تُقْدِمنْ قبل اعتقادكَ أنّهُ --- مُرَبٍّ، ولا أوْلَى بها منه في العصْرِ
وممّا يناسب هذا المقامَ ذكرُهُ، القول الشهير الذي يُنسبُ إلى سيدنا علي كرّم الله وجهه: "إنّ دين الله لا يُعرفُ بالرجال بل بآيةِ الحقِّ. فاعرف الحق تعرفْ أهله"، أو برواية أخرى: "إنّ الحقَّ لا يُعرفُ بالرجال، فاعرفِ الحقّ تعرفْ أهله". وهاتان الروايتان تخريجاتها شيعية، وفي الثانية منهما أنّها إجابة سيدنا علي على رجل قال له: "أتظنّ أنّا نظنّ أنّ طلحة والزبير كانا على ضلال؟"، فهذا يوقع الشكّ فيها من الأساس. ولكن لا بأس، على فرضِ صحّةِ نسبتها إلى سيّدنا عليٍّ بشكْلٍ ما، فالعبارة يستحيلُ أنْ تكون على عمومها ولا ظاهرها. فلو كنتَ أنتَ عامِيًّا، وكنت في مكان وظروف ليس معك فيها إلّا العوامّ أمثالك الذين هم في مثل مرتبتك بالنسبة لأهلية النظر في الدلائل الشرعية، واضطررتم للفصل في قضيّةٍ، ثمّ قام أحدهم وقال: "استنتجتُ أنّ الحُكمَ في القضية هو كذا"، ففي هذه الحالة لا يصحُّ لك أن تقول: "أنا سأتبع ما قاله هذا الإنسانُ دون نظرٍ فيما قاله لأنّي أعرفه وأعرف صدقه". هنا لا يُسمَحُ لك بالاكتفاءِ بذلك لأنّ عندكَ الأدواتِ نفسها التي عنده والتي تسمحُ لك بتعقُّلِ نفسِ الدرجة التي تعقّلها هوَ. هنا يُقالُ لك: "لا يُعرفُ الحقُّ بالرجال" أي الرجالُ أندادُكَ، لأنّك تعلم وجود احتمالية خطئه وعندك الإمكانية على تفحص وقوعها من عدمه في هذا المستوى. فالمطلوب حقيقةً دائما هو "السعي للوقوع على الصواب في كل حالةٍ فردًا فردًا"، وهو أوْلى من "السعي لتصويب الحالة المجهولة قياسا على وقوع الصواب من أحدهم في أغلبِ الأحيان"، وأنت هنا في مقامِ الحالة الأولى، ولكل مقامٍ مقالٌ.
نفس الشيء لو كنتَ مجتهدًا وليس معك إلّا المجتهدون أو العوامّ، أو كنتَ عارفا في مرتبةٍ وليس معك إلّا أصحاب تلك المرتبة أو أقل منها، لا يُباحُ لك الاكتفاءُ بسماع القولِ بل تشغيل الأدواتِ للفهم واجبٌ، وبِهِ تحكمُ حكمك الخاص على من أصاب ومن أخطأ. لكن، ماذا لو فهمتَ أنتَ فهمًا ثُمَّ جاءك جميعُ من في درجتك وخطّؤوكَ وتيرةً واحدةً؟ هُنا يصير تكتّلهم هذا وِحْدَةً تقفزُ من الدرجة التي أنتَ فيها إلى درجةٍ أعلى، وهذا يقودنا إلى الحالة الثانية حيثُ لا تنطبقُ "لا يُعرفُ الحقُّ بالرجال". فلو كنتَ أنت صاحب درجة، وكان معك مَنْ هو أعلى منك (كعامي مع مجتهد، أو مجتهد مع عارف، أو مجتهد تواتر عليه كل المجتهدين)، وأطْلَقَ هذا الأعلى حُكْمًا، فإنّ قربهُ هو للحقِّ أكثر من قربك كيفًا لا مجرّد كَمٍّ. فمهما شغّلتَ أنتَ أدواتِ مقامك، فلن تعدوَ دقّةُ الحقِّ فيها سقفا معلوما محدودًا سَلَفًا. وأمّا هذا العالي فإنّ دقّته تبدأ من حيثُ تنتهي دقّتك أو حتّى فوق ذلك. هنا، يصيرُ اجتهادكُ ونظركَ ثم حكمكَ عبئًا وتقهقرًا، أو بعبارةٍ أخرى: لم يُعدْ حقًّا أصلا! فما كان يُسمّى قبلُ "حقًّا" إلّا لعدم وجود ما هو أفضلُ. ما سُمِحَ له بتقلُّدِ تلك التسمية إلّا لأنّه لا يوجدُ أجْوَدُ منه غيرهُ، فكان جميع الأنداد متنافسين في اكتشافهِ كُلٌّ قائمٌ بنفسه. والآن، هُمْ أمامَ جدارٍ لا يمكنهم اختراقه، والحقُّ مِنْ ورائهِ في يد ذلك الرجل العالي، فأنّى لهم أن يعرفوا "الحقَّ" أصلًا حتّى يعرفوا أهله؟ المقدِّمةُ منتفيةٌ فكيفَ ستأتي نتيجتها؟ الشرط غير محقّقٍ فكيف يتحقق المشروط؟ لهذا يصير الأمر في هذا المقام إلى ما ذكرناه سلفًا ونعيدُ ذكره: "السعي لتصويب الحالة المجهولة قياسا على وقوع الصواب من أحدهم في أغلبِ الأحيان". وعندما نقول: أهل الحقِّ هنا، فإنّ المقصود: الذين أصابوا في هذه الحالة، وليس استعماله بمعنى: الذين التزموا أنْ يبحثوا عن الحقِّ في كلِّ حالةٍ، فليس من المعقول تسمية المجتهدين المتّقين الكبار إن أخطأوا أنّهم ليسوا من أهل الحقِّ بالإطلاق الثاني!
وليس يقيننا بسيّدنا عليٍّ كرّم الله وجهه ورضي عنه إلّا هذا لو سلّمنا صحة نسبة العبارة إليه. وكيف لا، والبيّنات على ذلك لا تنحصرُ، ومنها تصديقُ سيّد الوجود صلى الله عليه وسلم في أخبار وجود الملائكة والعوالم المختلفة وهي حقٌّ، ولا سبيل إلى إعمال العقل في هذه الحالة لاستنتاج حقّيّتها، فليست إلّا "تصويب حالة مجهولة قياسا على بقية الحالات الظاهرة الصدق منه صلى الله عليه وسلم"، وغيرها كثير بدهيٌّ.
وممّا يُناسِبُ هذا المقام أيضا قضيّةُ الجهادِ. فالكثير ممّن لا علم له بطريق السادة الصوفية إذا سمع عبارتهم: "الاستسلام للأقدار وترك التدبير والاختيار" يعترض عليها بقوله: الله أمرنا أن نأخذ بالأسباب في السعي لتحقيق الأمور ودفع المشكلات والمعضلات، وهؤلاء يحضّون على الكسل والتّراخي والخمود وعدم استعمال العقل والتّخطيط. فنقول مجيبين عليه: لقد فهمت العبارة من أصلها خطأ. المقصود ب"الأقدار" عند السادة الصوفيّة ليس فقط التقلّبات الحاصلة والتّغيّرات الطارئة والنازلة في العالم المرئي المحسوس، بل كلمة "الأقدار" عندهم تشمل كذلك "إرادة" الحقّ سبحانه وتعالى الحالية من المكلّفين. فهؤلاء الكرام لقوّة أنوارهم الناشئة من شدّةِ طهارتهم، قد ينظرون في خطب من الخطوب المُلِمّةِ الهائلةِ التي هي قدرٌ إلهيٌّ، ثمّ ينظرون في الشّريعة بأنوارهم تلك فيفهمون عن الله تعالى أنّه يُريدُ في هذا الزّمن الحالي لحكمةٍ بالغةٍ ما أنْ يسكنوا ويصبروا ولا يفعلوا شيئا، وهو أيضا قدرٌ إلهيٌ. فهم عندها يسكنون أمام القدر الأول لأنّ القدر الثاني هو الذي أملى عليهم ذلك. أمّا العامّة المحجوبون الذين ليس لهم تلك الأنوار، وليس لهم إلّا رؤية المحسوسات والاستنباط من الشريعة بالعقل المتاح، فقد لا يصلونَ إلى الوقوع على عين حقيقة الإرادة الإلهية التي مقتضاها السّكون في الوقت الرّاهنِ. ونتيجة لذلك، فليس لهم إلّا العمل بالظنِّ المعتادِ من المحاولة للتّصدّي بأخذ الأسباب، وهم في ذلك مأجورون إذ لا يكلّف الله نفسا إلا ما آتاها. ف"الاستسلام" عند الصوفية ليس مرادهم منه "عدم الفعل"، بل المراد منه "عدم مخالفة" أي تفصيلة برزت من عند الله، سواء كانت تأمر بالسكون أو تأمر بالفعل. ولهذا السبب نفسه، لو برزت للعارف في زمن الخطب بعد ذلك أنّ إرادة الله الآن هي حشد الجيوش والجهاد، فإنّه مستسلم فورا لهذا القدر الثاني فيقوم تابعًا لمقتضاه ولو كان شديدًا شاقًّا، وهكذا لا يتخلّف العارف طرفة عين عن خدمة أمر مولاه والامتثال المطلق. وفي سنّةِ نبيّنا الكريم صلى الله عليه وسلّم خير دليل على ذلك، إذ كان في مكّة المكرّمة أوّل البعثة ساكنًا صابرًا تحت وطأةِ الأذى والظلم لأنّ هذا القَدَرَ الواقع كان مأمورًا بقدَرٍ آخَرَ ألّا يتصدّى له لحِكَمٍ، قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين سألوه ذلك آنذاك: "إنّي لم أؤمر بالجهاد بعد". ثمّ لمّا أُذِنَ له في القتال بل وأوجِبَ وكُتِبَ وهو كُرْهٌ في مواضع أخرى، قام له صلى الله عليه وسلم موفّيًا به مستسلمًا لأمرِ ربّهِ المقدورِ الثاني في مواجهة المقدور الأول، وهكذا أبدًا صلى الله عليه وسلم. وكذلك حين سمع سيّدنا عمر بن الخطّاب رضي الله عنه وهم مسافرون لمكان ما أنّ فيه طاعونا، قام فغيّرَ اتّجاه الرحلة، فقال له سيدنا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: "أفِرارًا من قدر الله يا أمير المؤمنين؟" فردّ سيدنا عمر بقوله: "نعم، نفرّ من قدر الله إلى قدر الله". فالصوفية يقولون كذلك: "قَدرُ الله أمرنا بالسكون أمام قدر الله"، أو "قدر الله أمرنا بمواجهة قدر الله".
بقيت نقطة قد يعترض بها المعترض: وما أدراني أن "سكون" ذلك الصوفي ناجمٌ عن إدراكه لأمر الله الشرعي؟ ماذا لو كان مجرّد متكاسلٍ مُتراخٍ؟ فنجيبه: هذا أوّلًا سوء ظنٍّ منهيٌّ عنه إن كان بغير تمحيص ولا استكشاف لمعرفة أحوال ذلك الرجل، فالأولى بالمؤمن إن سمع بتصرّفٍ من أخيه وهو لا يعرف عنه شيئا أن يلتمس له تفسيرًا، فيقول مثلا: "لعلّ أخانا رأى أنّ هناك فسادًا كبيرا من الحركة ففضّل السّكون حماية لمصالح المؤمنين دفعا للأسوأ". وبعد تحسينه لظنه هذا ابتداءً، عليه أن يذهب بعد ذلك ويطّلع جيّدًا على أخباره وصفاته وليكن بحثه متأنيًّا دقيقا. فإن تحصّل لديه من مجموع بحثه أنّ هذا الرّجل ذو مكان عظيمٍ من الدّين، فقد حسّن ظنّه به من البداية فليلزم ذلك. وحتّى لو كان هو يرى مثلا أن الحركة أفضل الآن فليدرج ذلك تحت اختلاف المسلمين الحريص كل منهم على الأمة وإنّما اختلفت زوايا نظرهم. وأمّا إن اتّضح فعلا أنّه ليس برجل أهْلٍ لِما يفعله، فاللائق بالمسلم إن كان يؤمن بالله واليوم الآخر أن يدعو له بالهداية، وأنْ يَعْرِضَ ما وجدهُ وفهمه على مَنْ هو أعلمُ منه فقد يكون فاتته أشياء ودقائق من الأمور. والأفضل له ألّا يكثر من الخوض في المسألة بل يدع الشّأنَ لأهله، كأنْ يدع محاسبة هذا الرجل مثلا لمسؤولية البلاد وسلطتها إن كان في تصرّفاته ما يمسّ ذلك. المهم أنْ يجتنب التّعوّد على الطّعن فليس المؤمن بطعّانٍ ولا لعّانٍ ولا فاحشٍ ولا بذيءٍ كما قال صلى الله عليه وسلم. والذي نؤكّده أنّه ما من شخص سيبحث في أمور السّادة الصوفيّة الكبار الذين ذاع صيتهم وذكرهم إلّا وسيخرج بنتيجة أنّهم من فئة "أولي الدّين والحنكة"، وبالتالي فكلّ تصرفاتهم وتدبيراتهم لها وجه محترمٌ حتّى عند من يخالفهم.