إن الأرزاق المعنوية مثل الأرزاق الحسية السلطانية في الشاهد ، فإن الشأن في هذه أنّ أرزاق الأجناد تخرج من حضرة السلطان وتدفع للقهرمان الأعظم ، فيفرقها على عدد الأمراء التي للأجناد ، يأخذ كل بحسب ما في ديوانه ، هذا في زمامه فلان وفلان وفلان إلى آخر ما هو من جماعته ، وهذا كذلك وهذا كذلك . فإذا ذهب أحد من أصحاب الأمير زيد إلى الأمير خالد مثلا ، فقال له ادفع لي رزقي المرتب لي من حضرة السلطان ، فإنه ينظر في ديوانه فلا يجده فيه ، فيقول له ليس لك رزق عندي ، فإذا رجع إلى أميره زيد فإنه يغضب عليه ، ولا يقبله في الغالب إلا أن تدركه عناية ، أو عطفة رحمة . قالوا : ومثل ذلك الحضرة العليّة المقدسة ، فإن الأمدادات الإلهية كلها تبرز منها على يد سيد الوجود صلى الله عليه وسلم ، ثم يفرقها على عدد حضرات المشائخ ، وكل شيخ يأخذ بحسب ما في ديوانه من الأتباع ، وهذا هو الحكمة في أن كل طائفة لا ترى أحسن من طريقها ، ولا أكمل من شيخها ، لئلاّ تبطل تلك الحكمة ، وتختل القسمة .
وقولهم : ثم يفرقها على حضرات المشائخ الخ ... ، مجرد تقريب وتمثيل ، وإلا فإن استمداد جميع العوالم العينية والغيبية من بحره صلى الله عليه وسلم ، له تفاصيل عجيبة تدهش العقول ، فإن القطب له ستة عشرة عالما إحاطيا ، الدنيا والآخرة عالم واحد منها ، والقطب يمدها جميعها ، ويمد ما فيها من الذوات ، يعطي كل ذرة حقها ، والنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يمده بهذا المدد التام ، ويقوّيه على حمل أعباء هذا المقام ، ومَنْ أراد الإطّلاع على ذلك فلينظر كتاب الحجب للشيخ الأكبر محي الدين بن عربي رضي الله عنه ، وقد تقدم هذا إجمالا على وجه آخر ، وأيضا لذلك موجب آخر يرجع إلى الأول ، وهو ما أشار إليه الشيخ زروق رضي الله عنه ، بعدما ذكر أن اتباع الأحسن أبدا محبوب طبعا ، مطلوب شرعا ، وإنّ التصوف مبني على اتّباع الأحسن ، واستدلّ بقوله تعالى الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، قال :" والإستحسان يختلف باختلاف نظر المستحسن " . ثم قال : " وتعدد وجوه الحسن يقتضي بتعدد الإستحسان ، فمِنْ ثَمّ كان لكل فريق طريق الخ كلامه " . وقال في محل آخر : " وفي اختلاف المسالك راحة للسالك ، وإعانة له على ما أراد من بلوغ الإرب ، فلذلك اختلفت طرق القوم ، ووجوه سلوكهم ، فمِنْ ناسكٍ يؤثرُ الفضائلَ على كل حال ، ومِنْ عابد يتمسك بصحيح الأعمال ، ومِنْ زاهد يفِرّ مِن الخلائق ، ومِنْ ورِعٍ يحقق المقام بالإحتياط ، ومِنْ متمسك يتعلق بالقوم في كل مناط ، ومِنْ مريد يقوم بمعاملة البساط ، والكل في دائرة الحق بإقامة حق الشريعة ، والفرار من كل ذميمة وشنيعة " انتهى كلام الشيخ زروق .
وانظر إلى ما نقله الشيخ سيدي عبد الوهاب الشعراني رضي الله عنه في كتاب اليواقيت والجواهر ، في المبحث الخامس ، في كرمات الأولياء ، ونصه :فإن قلتَ : فهل القتل بالهمة ، والعزل والولاية ، الذي يقع من بعض الأولياء ، كمال فيهم أو نقص ؟ فالجواب : هو نقص بالنسبة لما فوقه من المقامات ، وقد أُعطِيَ الشيخ أبو السعود بن الشبلي التصرف في الوجود فتركه وقال : " نحن قوم تركنا الحق يتصرف لنا " ، فكان أكمل من الشيخ عبد القادر الجيلاني مع أنه تلميذه ، هكذا ذكره الشيخ في الباب 192 من الفتوحات . وأيضا فإن العارف الكامل لا يجد في الكون شيئا حقيرا يرسل تصريفه عليه ، وينفذ همته فيه . ومِنْ شرط نفوذ الهمة أن يكون على حقير فيرى صاحب الحال نفسه كبيرا ، وغيره حقيرا فيجمع حقارته في قلبه ثم يتوجه إليه فيؤثر فيه . قال : وسمعت شيخنا سيدي عليّا الخواص رضي الله عنه يقول : " الكامل من الأولياء هو من مات على التصريف والتدبير اكتفاء بفعل الله تعالى له ".
ومثل هذا ما ذكره الشيخ العلامة العارف بالله تعالى ، المنلا إبراهيم بن حسن الكردي الكوراني الشهرزوري ، ساكن المدينة الشريفة صلى الله وسلم على مشرفها في رسالته المسماة بالمسلك الجلي في شطح الولي ، فإنه نقل عن الشيخ الأكبر الحاتمي رضي الله عنه من الفتوحات في الباب 198 ، لمّا تكلّم على قوله صلى الله عليه وسلم : « أنا سيد ولد آدم ولا فخر » ، وأتى في ذلك بكلام عجيب ، وكذا على قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام إني عبد الله آتاني الكتاب الآيات ، ، قال في آخر ذلك :فهذه كلها لو لم تكن عن أمر الهي بالوحي لكانت مِنْ قائلِها شطحا . فإنها كلمات تدلّ على الرّتبة عند الله تعالى على طريق الفخر بذلك على الأمثال والأشكال ، وحاشا أهل الله تعالى أن يتميزوا عن الأمثال أو يفتخروا ، ولهذا كان الشطح رعونة نفس ، فإنه لا يصدر عن محقق أصلا ، فإن المحقق ما له مشهود سوى ربه ، وعلى ربه ما يفتخر وما يَدّعي ، بل هو ملازم عبوديته ، مهيأ لما يرِدُ عليه مِنْ أوامره ، فيسارع إليها ، وينظر جميع من في الكون بهذه المثابة . فإذا شطح فقد انحجب عمّا خلق له ، وجهل نفسه وربه ولو انفعل عنه جميع ما يدعيه من القوة ، فيحي ويميت ، ويوَّلي ويعزل ، وما هو عند الله بمكان ، بل حكمه حكم الدواء المسهل أو القابض ، يفعل بخاصية الحال لا بالمكانة عند الله تعالى ، كما يفعل الساحر بخاصية الصنعة . ثم قال الشيخ محي الدين : هذا إذا كان بحق مذموم ، فكيف لو صدر من كاذب ؟ . فإن قلت : وكيف صورة الكذب مع وجود الفعل والأثر منه ؟ قلنا : نِعْمَ ما سألتَ عنه ، أما صورة الكذب فإن أهل الله تعالى لا يؤثّرون إلا بالحال الصادق ، وذلك المسمى شطحا عندهم ، حيث لم يقترن بأمر إلهي كما تحقق عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . فمن الناس من يكون عالما بخواص الأسماء ، فيظهر بها الآثار العجيبة ، والإنفعالات الصحيحة ، ولا يقول أنّ ذلك عن أسماء عنده ، وإنما يظهر ذلك عند الحاضرين أنه من قوة الحال ، والمكانة عند الله تعالى ، والولاية الصادقة ، وهو كاذب في هذا كله ، وهذا لا يسمى شطحا ، ولا صاحبه شاطحا ، بل هو كذب محض ، صاحبه ممقوت . فالشطح كلمة صادقة ، صادرة عن رعونة نفس عليها بقية طبع ، تشهد لصحابها ببعده عن الله تعالى في تلك الحال " . اهـ كلام ابن عربي بنقل الملا إبراهيم المذكور .
فإن قيل : إنّ الدّل على أفضلية الشيخ مولانا عبد القادر على جميع الأولياء هو قوله قدمي على رقبة كل ولي لله تعالى ، فالجواب : إن هذه المقالة ، وإن تلقّاها جميع الناس بالإذعان والقبول ، فقد حملها الناس على أنّ المراد أولياء زمانه لا غير ، ويأتي فيها ما تقدم من كونها مزية بدليل قضية أبي السعود المتقدمة ، أوعامة في أهل زمانه . وأبو السعود نادر لا حكم له ، والحكم للغالب ، ولم نر أحدا حملها على ما يعُمّ زمانه وغيره ، وعلى فرض وجوده ، فقد تقدمت القواعد المقررة المفروغ منها آنفا ، وانظر لو حملت المقالة الجيلالية على العموم لناقضها ما نقله صاحب ممتع الأسماع وغيره عن الإمام الأعظم ، شيخ المشائخ سيدي أبي عبد الله محمد بن سليمان الجزولي رضي الله عنه وهو قوله :قيل لي يا عبدي فضلتك على خلقي بكثرة صلاتك على نبيّي .
ومِمّن صرّح بأن المقالة خاصة بأهل زمانه برزخ الشريعة والحقيقة ، شيخ المربين ، وقدوة العلماء والعارفين ، أبو العباس سيدي أحمد زروق رضي الله عنه ، فإنه قال في التوطئة لبيان فضل الشيخ عبد القادر ما نصه :إثبات الحكم بالذاتيات ليس كإثباته بعوارض الصفات ، فقوله صلى الله عليه وسلم :« سلمان منّا أهل البيت » لأنه متصف بجميع جوامع النسب الدينية ، حتى لو كان الدين منوطا بالثريا لأدركه . وقد قيل في قوله صلى الله عليه وسلم : [ الأقربون أولى بالمعروف ] أنه يعني إلى الله تعالى ، إذ لا يتوارث أهل مِلّتين ، فالمعتبر أصل النسب الديني . ثم إذا انضاف إليه الطيني كان له مؤكِّدا ، فلا تلحق رتبة صاحبه بحال . وقد أُجِيبَ عن قول الشيخ أبي محمد عبد القادر الجيلاني : " قدمي على رقبة كل ولي لله تعالى " ، أنه في زمانه . ثم بين جزئيتين من كثرة عبادته وعلمه ، يعنى مع نسبه الشريف ، ففاق باجتماع هذه الثلاثة فيه جميع أهل زمانه ، فاستحق المقالة المذكورة عليهم .
فإذا حكّمنا هذا الضابط وأخذنا بمقتضاه ، وهو أن كل من اجمعت له هذه الخصال الثلاث استحق الأفضلية الظاهرة المسلّمة على غيره ممن ليس كذلك ، فإن الشيخ الجزولي رضي الله عنه ، لأجل هذه الخصال الثلاث ، نال مثل المرتبة التي نالها مولانا عبد القادر رضي الله عنه ، بل توَلّى الله تبارك وتعالى أن يقول ذلك عنه حيث أخبره به ، وإن كان لا فرق في الحقيقة ، لأن مقالة الشيخ عبد القادر إنما تكون عن إذن من الله سبحانه .وكذلك شيخنا أبو العباس التجاني رضي الله عنه ، فإنه قد اجتمعت له هذه الخصال المذكورة فلا شك ، وزاد خصلة رابعة ، وهي كونه في آخر الآخرين من الزمان ، فلذلك صدر منه مثل المقالة الجيلانية ، بل أزْيد منها . وإنما وقعت الزيادة ـ والله أعلم ـ للخصلة الرابعة ، ولمكان الختم المتقدم ذكره ، وقد أخبره صلى الله عليه وسلم مِن عُلُوّ شأنه على غيره مِنَ الأولياء في الدنيا والأخرى بما يبهر العقول لو ذكرناه . وإنما نذكر الآن شيئا واحدا اقتضاه المقام ، وهو أن جميع الطرق تضمحل ، ولا يبقى إلا طريقه ، وذلك واقع ما له من دافع بحول الله وقوته ، وعناية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك لِسِرِّ الختم الذي تقدم الكلام عليه . ثم نقول كما قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن يعقوب الفيروزابادي رحمه الله تعالى في شيخه محي الدين الحاتمي رضي الله عنه :
واللـه واللـه واللـه العـظـيـم ومـن
إن الذي قـلـت بعـض من منـاقـبـه ومـا علـيّ إذا ما قلــت معـتـقـدي |
أقـامـه حـجـة للـديـن بـرهـانـا
مـا زدت إلاّ لعَـلِّـي زدت نقـصـانا دع الجـهـول يظـن الحـق بهـتـانـا |
وأراهـم لم يجعلـوا الـواحـد القـهـا
|
ر فـي الخـلـق فـاعـلا ما يـشـاء
|
لـكـن نـور الحـق جـل فـلا يـرى
|
إلا بتخصـيـص مـن اللـه الصـمـد
|
ووقعت لي مناظرة أخرى مع بعض الفقراء المنتسبين إلى خدمة الصالحين رضي الله عنهم ، وذلك أني كنت أنا وهو نختلف إلى بعض الأولياء كثيرا ، فلما مات ذلك الولي جعلت أختلف إلى ولي آخر ، وبقي هو في زاوية الأول ، فلقيني ذات يوم فقال لي : أردت نصيحتك يا فلان ، فقلت له : حُبّاً وكرامةً ، وعلى الرأس والعين ، وقد فهمت مراده ، فقال : إنك كنت أولا مع سيدي فلان ، وكانت ولايته لا يشك فيها أحد ، ولا يختلف فيها اثنان ، وقد ذهبتَ اليوم إلى غيره ، فأنت بمثابة من ترك الجواهر واليواقيت واستبدلها بالأحجار ، فقلت له : أنت تتكلم عن بصيرة أو عن غير بصيرة ؟ فإنْ كان كلامك عن بصيرة فاذكرها لنا حتى نذكر لك ما عندنا ، وإنْ كان كلامك عن غير بصيرة فاذكر دليله ، فقال لي : ظاهر مثل الشمس ، فقلت له : فإن قال لك قائل إنّ كلامك هذا يبعدك من الله ويقربك من الشيطان فَبِمَ تجيبه ؟ فسكت ولم يدر ما يقول ، فقلت له : إني فكّرت في دليلك ، وجُلْتُ بخاطري في برهانك ، فلم أجد لك دليلا إلا أمرا واحدا ، فقال : وما هو ؟ فقلت له : إنك تزعم أنك شريك لله تعالى في ملكه ، بحيث لا يعطي شيئا ، ولا يفتح على أحد ، إلا بإذنك . والله تعالى في زعمك لا يعطي إلا بإذنك ، فمِنْ هذا الطريق تهيأ لك الإنكار على عباد الله الصالحين . ولو كنتَ تعتقد أنّ الله تعالى لا شريك له في ملكه ، ولا منازع له في عطائه ، لسلّمتَ لعباد الله تعالى ما أعطاهم ربُّهم عزّ وجلّ من الخيرات ، فقال الفقير : أنا تائب إلى الله تعالى ، والله ما نحن إلا فضوليون وما كنا ننكر إلا بالباطل ، والله الموفق .
تتمة
وقولكم أيدكم الله : " فإنّ التجاني لا علم لك به إذ لم تَلقَهُ ، ولم تَلْقَ عنه ذا عِلْمٍ تثق به إلخ " فإنّ ظاهره صريح أو كالصريح في أن مَنْ لم يَلْقَ أحدا مِنَ المشائخ لا يمكنه اتباعه ، ولا الإنتفاع به ، ولا الدخول في حزبه . وأنه إن فعل ذلك مخاطر بنفسه فقط ، أو بنفسه وغيره إن استتبع أحدا . وهذا يقتضي بفحواه أنّ من لم يلقَكُم ـ حفظ الله وجودكم ـ لا نسبة بينه وبينكم ، بل من لم يلق الشيخ عبد القادر مثلا لا نسبة بينه وبينه كذلك ، ولم نعلم أحدا قال ذلك . وقد علمت سيدي أن اللقاء لم يشترطه أحد حتى من أهل الصحيح ما عدا الإمام محمد بن إسماعيل البخاري رضي الله عنه ، شرَط ذلك زيادة في التأكيد ، وقد رأيتَ سيدي ما أقامه عليه تلميذه الإمام مسلم بن الحجاج في أول صحيحه من الأدلة الظاهرة البالغة ، والحجج الواضحة الدامغة ، حتى أبطل ذلك الشرط وهدمه من أول أساسه . هذا في رواية الحديث الكريم . وأما في تلقين الأوراد ، إذا ثبت الإذن فيها على الوجه المعلوم ، فلم نعلم أحدا اشترط اللقاء فيها ، بل ولا المعاصرة ، وذلك لأن صوَر المعتقدات إذا برزت لا تحتاج إلى صوَر الأشخاص ، بخلاف صور الأشخاص فإنها تحتاج إلى صور المعتقدات ، هكذا علّلَ هذه المسألة الشيخ الشعراني ناقلا عن الشيخ أبي الحجاج الأقصري . قال الشعراني :وفي هذا أعظم دليل ، وأوضح حجة ، لأصحاب الخرقة الأحمدية الرفاعية ، والبرهانية ، والقادرية ، ولا عبرة لمن خالفهم في ذلك وقال إن هؤلاء أموات لا ينطقون ، لأن المقتدى به إنما هو أقوالهم وأفعالهم المنقولة إلينا ، الثابتة عندنا لا أشخاصهم . أنظر ترجمة أبي الحجاج المذكور من الطبقات الشعرانية .
هذا مع أننا والحمد لله مولانا قد لقينا شيخنا لقاء التبرك ، ورأيناه وزرناه ودعا لنا بالخير ، وسمعنا منه ما نفتخر به ونتشرف به في الدنيا والآخرة . وأما الأخذ عنه إذ ذاك فلم نكن بصدده لأن ذلك في حالة الحداثة ، وحين السعي في تحصيل ما قسم من علوم الرسوم ، والأحكام الشرعية . وكنا نظن إذ ذاك أنه ليس الشيخ إلا الذين نأخذ عنهم تلك الرسوم . إلا أنّ الله تبارك وتعالى بفضله ورحمته ألاح لنا في تلك الحالة إشراقة تهدي إلى محبته ومحبة أوليائه ، فكنت أسمع بعض أشياخي الصالحين الذين أقرأ عليهم يقول المرة بعد المرة ، إذا عنت عويصة من أقوال المفسرين أو المحدثين ، قال الشيخ العارف بالله تعالى سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه ، ويبالغ في تعظيم ذكره ، فسألت الناس مَنْ هذا الذي يعظمه الشيخ هذا التعظيم كلما ذكره ؟ فقيل لي : وليّ كبير الشأن ، متبحر في جميع العلوم ، لايُسْأل عن شئ من العلوم إلا أجاب بصريح الحق والصواب ، بلا رَوِيّة ولا مراجعة كتاب ، فيكتب السائل جوابه من إملائه وحفظه كأنه يسرده من أصل صحيح . فكنت أتعجب من ذلك ، وعلمت أن لله تعالى أولياء ، فزرع الله في قلبي محبة الصالحين ، فلم أزل أسأل عنهم وعن أحوالهم ، وخصوصا شيخنا رضي الله عنه ، فأبحث عن أصحابه وأتلقى منهم أخباره وأحواله الشريفة ، فتَرْبُو محبة الله تعالى في قلبي ، ويزداد شوقي وغرامي . فلم يلبث الشيخ رضي الله عنه أن توفي إلى رضوان الله الأكبر وكرامته الباقية ، وكنت مِمّنْ حضر جنازته والصلاة عليه والحمد لله . فلما أخذت طريقته المباركة عن وارثي أنواره .
أتانـي هـواهـا قبل معـرفـة الهـوى
|
فصـادف قلـبـا خـاليـا فتـمـكّـنا
|
تعريف العيوب مع الستر نصيحة ، ومع الإشاعة والهتك فضيحة . فمن عرّفك بعيوبك من حيث لا يشعر الغير فهو الناصح ، ومن عرّفك من حيث شعور الغير فهو الفاضح ، وليس لمسلم أن يفضح مسلما إلا في موجب حكم بقدره ، من غير تتبع لما لا تعلّق له بالحكم ، ولا ذِكْر عيب أجنبي عنه ، وإلا انقلب عليه الحكم بقهر القدرة إلإلهية ، وبحسب الحكمة الربانية والوعد الصادق . اهـ المراد منه .
وقد كتب يحي بن يزيد إلى الإمام مالك رضي الله عنه ما نصه :بلَغَني أنك تلبس الرقيق ، وتأكل الرقاق ، وتجلس على الوطيء ، وتجعل على بابك حاجبا ، وقد جلست مجلس العلم ، واتخذك الناس إماما ، ورضوا بقولك ، فاتّقِ الله يا مالك وعليك بالتواضع . كتبته لك بالنصيحة كتابا ما اطّلع عليه أحد ألا الله تعالى .
فإذا علمتم هذا فاعلموا أيضا أن بعض الناس ، مِمّنْ يزعم أنه من أصحابكم ، والله يعلم حقيقة نسبتهم إليكم ، قد تعلقوا بهذا الكتاب المحدث عنه ابتغاء الفتنة ، ظانّين أن مثل ذلك يضع مَنْ رفَعَه الله ، أو يُهِينُ مَنْ أعزه الله سبحانه .
كنـاطـح صخـرة يوما ليـوهـنـهـا
|
فلم يضـرهـا وأوْهـى قرنـه الـوعـل
|
وكنـت إذا قـوم رمـونـي رميتـهـم
|
فهـل أنا في ذا يـا آل همـدان ظـالـم
|
لا تطمعـوا إن تهينـونـا ونكـرمـكـم
|
وأن نـكـفّ الأذى عنـكـم وتـوذونـا
|
لم أكن من جُنَاتِها علم اللـ
|
ـه وإني بِحَرِّها اليوم صالي
|
إن الأُلى قد بغوا علينا
|
إذا أرادوا فتنة أبينا
|
يا كتابي بالله قبِّلْ يديه
|
بدلا من فمي ففيه احتشام
|