نفحات7 ـ الجواب المسكت 2
الرّئيسيـة > مكتبة على الخـطّ > الجواب المسكت ـ الفهـرس > الصفحـة الثانية


والحق أن الفتح والوصول قد كانا بالتربية لمّا كان الزمان صالحا كزمان الكيلاني والرفاعي وأمثالهما ، وبعد ذلك صار لا يكون إلا بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لقول الشيخ زروق عن شيخه كما يأتي :

رأيت أبواب الله تعالى قد استدارت للغلق ، فلم يبق باب مفتوحا إلا باب الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وإلى هذا أشار البوصيري في الدالية بقوله :
وتـزوّد  التقـوى فـإن لـم  تستـطـع
فـمـن الصـلاة علـى النـبـي تـزوّدِ

قال صلى الله عليه وسلم للذي قال له أجعل صلاتي كلها لك « إذًا تكفى همك ويغفر ذبك » . فمن فهِمَ عن الله تعالى عَلِم أن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الطريق الواضح إلى حضرة الله تعالى قطعا ، بلا خوف ولا حرج . قال الشيخ الشعراني في ترجمة أبي المواهب أنه قال :

ومِنَ المريدين من يتولى الله تعالى تربيتَه من غير واسطة لأحد من الأئمة حتى لا يكون لواسطة عليه مِنّة ، ومنهم من يتولاّه بواسطة بعض الأولياء ولو ميتا في قبره ، فيُرَبّي مريدَه وهو في قبره ، ويسمع مريدُه كلامَه من القبر ، ولله عباد يتولّى تربيتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه من غير واسطة بكثرة صلاتهم وتسليمهم عليه .

قال الشيخ زرّوق في أواخر ( شرح حزب البحر ) :

وممّا كتب لنا به شيخنا أبو العباس الحضرمي في وصيته الأولى : " وعليك بدوام الذكر والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهي سلم ومعراج إلى الله تعالى ، وسلوك إلى حضرته إذا لم يلق الطالب شيخا مرشدا " .

ومعلوم ما وقع آخر المائة الثامنة بين فقراء الأندلس من الإختلاف حتى تضاربوا بالنعال ، فقال بعضهم : يمكن الإستغناء بالكتب عن الشيخ ، ومنع البعض ، وكتبوا إلى الآفاق ، ومعلوم جواب الإمام ابن عبّاد رضي الله عنه في ذلك فلا نطيل به . وقال حجة الإسلام الغزالي في المنهاج :

قد يكون ذلك بلا شيخ ، ولكن الشيخ فاتح .

وقال الشيخ أبو العباس سيدي أحمد بن موسى اليماني رضي الله عنه :

" من لم يكن له شيخ يُربّيه فليلزم الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي تربّيه بأحسن الآداب النبوية ، وتهديه بإشراق أنوار الأخلاق المحمدية ، وترقّيه إلى أعلى درجات الكمال ، وتوصله إلى المحل الأسنى من حضرة الملك الكبيرالمتعال ، وتنعمه برؤية الله تعالى ، وقربه من النبي صلى الله عليه وسلم " . وقال رضي الله عنه : " بكثرة الصلاة على رسول الله صحبتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبِقلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌعرفتُ الواحد الأحد " .

فأين قول من بلّغكم ـ رضي الله عنكم ـ : أن شيخنا ليس له شيخ ولا طريق ؟ فهل ذلك إلا جهْلٌ بما تقدّم ، أوعنادٌ وغفلةٌ ؟
وهل تـرك الإنسـان في الديـن  غايـة
إذا  قـال قـلّـدت النـبـي مـحـمـدا

فعلى كل حال فهو قول بلا دليل ، ودعوى بلا حجة .
والـدعـاوى  ما لـم يقيمـوا عليـهـا
بـيّـنـات أبـنـاؤهـا  أدعــيــاء

وكان من حق ذلك المبلِّغ أن يُنهى ويُزجر إن كان معاندا ، ويُعلَّم إن كان جاهلا ، ولكن الأمر لله سبحانه ، وعفوه سبحانه أوسع .
فهذه الطريقة المحمدية ، والحمد لله ، واضحة موصولة الأسباب ، مفَتّحة الأبواب لمن أراد سعادته من أولي الألباب ، إلاّ أنها عزيزة الوجود ، وأهلها أعزّ مِنْ كل عزيز . قال الشيخ الشعراني :

وهذا مقام شريف لا يصل إليه السالك إلا بعد مجاوزة مائتي ألف حجاب وسبعة وأربعين ألف حجاب وتسعمائة وتسعة وتسعين حجابا ، فليس هذا لكل وليّ .

وهذه الحجب هي المنازل التي ورثها الأولياء من المرسلين ، قاله الشيخ الأكبر في الباب 73 من الفتوحات ، وقال :

إنه كلّمَا نزل الولي مقاما منها يخلع عليه من العلوم ما لا يحصى ، لكل منزل ذوق خاص لا يكون لغيره .

إلا أن شيخنا ، وإن شاركه بعض من قبله من الأولياء الكاملين في الوصول إلى هذا المقام ، فإنه لايشاركه فيه من بعده لأنه الختم الأكبر الذي ختم الله به المقام المحمدي ، أخبره بذلك من لا يتطرق الرّيب إلى إخباره صلى الله عليه وسلم ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر .
وإلى شيخنا التجاني رضي الله عنه أشار الشيخ الأكبر محيي الدين رضي الله عنه بقوله في الفتوحات :

وقد اجتمعْتُ به سنة 478 ، يعني بالخاتم المحمدي الذي لا ختم بعده ، ورأيت العلامة التي أخفاها الله تعالى فيه عن عيون عباده ، وكشفها لي بمدينة فاس حتى رأيت خاتم الولاية المحمدية منه ، ورأيته مبتلى بالإنكار عليه فيما يتحقق به في سرّه من العلوم الربانية . أهـ .

ولا شك أن الإجتماع المذكور برزخي والله أعلم ، ولا شكّ أن سبب " الإنكار " هو انحجاب المنكِر عن مقام المنكَر عليه ، وعُلوّ مقام المنكَر عليه على مقام المنكِر ، كقضية الشيخ عبد الرحمن الطفسونجي مع الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنهما ، وكم لها من نظير ، لأن من جهل شيئا عاداه . قال الشيخ الشعراني في اليواقيت والدرر في مناقب شيخه الخوّاص :

وسمعته يقول : " الخلق على طبقات : عامّة ، فقهاء ، متصوفة ، صوفية ، عارفون ، كاملون ، مكمّلون , أقطاب . فكل من كان في مرتبة من هذه المراتب ينكر ما وراءها ضرورة لعدم ذوقه له ، فالفقيه يُنكِرُ على المتصوّف ، والمتصوف ينكر على الصوفي ، والصوفي ينكر على العارف ، وهذا لا ينكر على أحد لمروره على المراتب كلها . ومرادنا بالإنكار من حيث الفهم لا الإنكار من حيث الأحكام الشرعية " اهـ .

فإذا تقرر هذا ، ظهر لك أنّ الإنكارَ على شخص عارف دليلٌ واضحٌ على أكمليته . وقد تقدّم في صدر هذا التقييد قول الشيخ ابن عبّاد : " ثم لنا في الإنتظام في سلك من اعتُرِض عليه من أهل الحق ، ونُسِب إلى أهل الضلال والزندقة ، وهم خاصة الأولياء ، نعمة جزيلة لا يُقدَّر قدرُها ، ولا يُوفَّى شكرُها " الخ . ولذلك قيل :

كلما اتّسعتْ دائرة المعرفة ضاقت دائرة الإنكار .

ومدار طريقة شيخنا رضي الله عنه على قطبين :
الصلاة المفروضة ، والمحافظة عليها أكثر من غيرها بأدائها على الوجه الأكمل بقدر الإمكان.
الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإكثار منها آناء الليل وأطراف النهار مع مراعاة الأدب مع حضرة الله تعالى ، وحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإخلاص والتعظيم والمحبة .
وأما عمود نسبه رضي الله عنه فإنه مرفوع إلى محمد المهدي المعروف بالنفس الزكية ، بن عبد الله الكامل ، بن الحسن المثنى ، بن الحسن السبط ، بن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ومولاتنا فاطمة الزهراء رضي الله عنها ، بضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذكره الثقات وحرّروه ، وذكره الشيخ رضي الله عنه عن نفسه وعن آبائه العلماء الأئمة الكرام ، والناس مصدّّقون فيما حازوه من النسب لأنفسهم ، لا سيما من هو مسلّم العدالة ، والموصوف بالولاية ، والتبحّر في العلوم الشرعية الظاهرة والباطنة . فقولكم ، أيّدكم الله وأرضاكم : " ويذكر أنه شريف ما أعظمه ، على قدر صحّة ذلك عندي وضعفه " ، من العجب بمكان ، ولكن أنتم أعلم . وما ذكرنا هذا فضولا ، ولكن القول للقول سلم ، وأما من بلّغكم ذلك على شك وارتياب وهو يسر حسوا في ارتغا فيقال له لما حيل بينه وبين ما نوى وإبتغى:
عبـد شمـس أبـي فـإن كنت غضبـى
فـاملئـي  وجهـكِ الجميـل  خمـوشـا

وأما أتباعه الذين بلّغك من بلّغك عنهم أنهم لا إمام ولا مأموم ، أي ليسوا بشئ ، فإنهم والله من خير هذه الأمة ، وهم بحمد الله مطهرون من كل مذمّة ، وكيف لا وهم الصائمون القائمون ، يدعون ربّهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، فمنهم من لا يعرف المنام بالليل أصلا ، ومنهم من لا يعرف الطعام والشراب بالنهار إلاّ في الأعياد ، ومنهم من لا ينقص ورده من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاة الفاتح لِمَا أغلق عن عشرة آلاف بين اليوم والليلة ، ولا يدّعون دعوى ولا مزيّة ولا خصوصية ولا تمييزاً عن الجنس ، كلٌ ذي حرفة في حِرْفَتِهِ ، وكل ذي شغل في شغله ، مع أن منهم المتصرفين في الكون بالأحوال الصادقة لا بالخواص والإستعدادات الطبيعية . فلا شكّ أنهم السادات الملامتية الذين رئيسهم ذو الخلال أبو بكر الصديق الاكبر رضي الله عنه وعنهم . .
حسبـي  بهم من غيـرهـم بـدلا فَهُـم
إنّـي ختمـت علـى الضميـر بحبّـهـم
وجعلـتـه  حـرمـا لهـم فـسـواهـم
إن لاح لـي مـن أفـق مغناهـم سنـى
رَوْحِـي وريحـانـي وبـرء  سقـامـي
فـغـدا هـواهـم  فيـه زهـر كـمـام
مـا إن لــه بـحـمـاه مـن إلـمـام
فعلـى الـوجـود تحيـتـي وسـلامـي

وإنما عرّفناكم ـ أعزكم الله ـ بجلالتهم الحقيقية التي لا شك فيها بالمشاهدة والعيان ، والتي لا تحتاج إلى دليل ولا برهان ، وإلا لم يصح شئ في الأذهان ، لأن الذي بلّغكم إنما أخبركم أنه ليس لهم طريق إلا الرقص واللعب ، فحملتكم الحميّة الإيمانية ، والغيرة الإسلامية ، حتى تلوتم في حقهم ، لأجل تلك الحمية ، قوله تعالى : وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية . سبحان الله تعالى !!! أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ، يشبه بالكفار ؟ بل بأقبح المشركين الذين كانوا يشوّشون على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته وطوافه : يقفون عراة ، بعضهم عن يمينه صلى الله عليه وسلم وبعضهم عن يساره ، ويرفعون أصواتهم بالهجر والفحش ، ويصدّون كل من أراد الإستماع لقراءة النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن العظيم . هذا أحد الوجوه التي فُسّرت بها الآية الكريمة وأحسنها ، فأين حالة المؤمنين التجانيين لو لم يكن لهم إلا حالة الإيمان الذي كله خير ، والمؤمن بخير على كل حال ، من حالة أولئك البعداء المشركين الذين لا حالة أقبح ولا أخزى من حالتهم ؟ وأين وجه الشبه بينهم ؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . ولكن الغيرة المتقدمة تحمل على مثل ذلك . قال قال صلى الله عليه وسلم إنَّ الغيرة أنْ لا تبصر أعلا الوادي من أسفله . وأما ذلك المُبلّغ من الداغلة الذين ابتلاهم الله تعالى بكراهة أهل الخير ، والإزدراء بأهل الإيمان ، فليس معه كلام ، وإن كان من أهل الخير المغفّلين فإن قوله غير مقبول في هذا المقام .
كضـرائـر الحسنـاء قلـن  لـوجههـا
حــسـدا  وبغـضـا إنـه لـدمـيـم

وأما قولكم رضي الله عنكم " : وأما الطريق الذي يذكر التجانيون عن التجاني فليست بطريق ، إنما ذكروا تواجداً ورقصًا ولعبًا وهجراناً لأولياء الله تعالى ، هذا ما بلغني من طريقهم " .
فـقـول لـه  وقـع الأسـنّـة لـم أزل
أكـفّ  عـنـانـا عنـه عـنـد طـراد

وما أحسن قولكم " هذا ما بلغني الخ " . فإن كان المراد بالطريق هو المثابرة على ذكر الله تعالى ، والإفراط من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإقامة الفرائض على أكمل الوجوه ، واجتناب المنهيات ، والعمل على الإخلاص والشوق والمحبة ، فوالله ما رأينا طريقا أحسن من طريق التجانيين رضي الله عنهم ، وإن كان الطريق شيئا آخر ، فليس لهم طريقا إلا ما ذكرنا ، وإن كان مراد منبلّغكم بالرقص واللعب هو ذكر الله تعالى على الصفة الموجودة اليوم في جميع أمصار المسلمين ، وفي جُلّ حضرات المشائخ ، وزوايا الأولياء شرقا وغربا من غير نكير ، وتلك الصفة هي مراد الأقدمين بالتعبير والذكر بالسماع ، وقد اختلف الناس فيه قبل اليوم بالجواز والكراهة والمنع ، وألّف كل فريق تآليف تصحح مذهبه ، وفرغ من ذلك قبل هذا الزمان بكثير ، والمسائل الخلافية الإجتهادية ليس لأحد أن يستدل على مجتهد بقول مخالفه ، وأما اليوم فقد وقع الإتفاق على الجواز بعد ذلك الخلاف ، وجرى به عمل المسلمين في أمصارهم المعتبرة التي تؤخذ الأحكام الشرعية من اتفاقهم ، فكان الأمر فيه كما قال العلامة الحجة المتبحر الأورع الأتقى ، سيدي محنض بابا ، أبقى الله بركته وبارك في وجوده المسلمين والإسلام آمين .
جـرى  علـى ذلـك مـــذ أعـصـار
فـوقـع الإجـمـاع بـعـد الخـلــف
شـرقـا وغـربـا عـمـل الأمـصـار
فـيـه  فـجـاز اليـوم دون خـلــف

وإن كان إنما قال ذلك في الإجتماع على الذكر والجهر ، ولكن الحكم واحد والعلة واحدة ، فإن كان مراد مبلغكم باللعب هو هذا ، فقد أفضى به اتّباع هواه إلى تسمية ذكر الله لعبا ، وتسمية الذاكرين لله تعالى من الأولين والآخرين لاعبين ، وقد أوقعه بغيه على أولياء الله تعالى التجانيين في تضليله أعلام الأمة وهداتهم الذين هو وغيره في ظِلالهم ، وقد باء بما نعوذ بالله مما ابتُلِيَ به . قال الأستاذ أبو القاسم القشيري رضي الله عنه في رسالته :

سألت الأستاذ أبا علي الدقاق عن السماع غير ما مرة ، كأني أطلب رخصة في السماع . فلما رأى طول معاودة سؤالي له قال لي : " قال المشائخ : كل ما جمع قلبك على الله تعالى فلا بأس به " ، وقيل لأبي سالم : كيف تنكر السماع وقد كان الجنيد والسري وذو النون وغيرهم يفعلونه فقال : " كيف أنكره وقد أجازه من هو خير مني ؟ " اهـ كلام الرسالة .

وفي قوت القلوب :

" إنْ أنكَرْنا السماع أنْكَرْنا على سبعين صدّيقا من خيار هذه الأمة " ، قال : " وإن كنا نعلم أن الإنكار أقرب إلى قلوب القراء ، إلا أننا لا نفعل لأنا نعلم ما لا يعلمون ، وسمعنا من أحوال السلف ما لا يسمعون " .

قال في عوارف المعارف :

قول الشيخ أبي طالب هذا معتبر ، لوفور علمه ، ومعرفته بأحوال السلف ، ومكان تقواه وورعه وتحرّيه للصواب .

قال الشيخ ابن البناء ناظم المباحث :
وحـيـث كَــلّـتْ نُـجُـبُ الأبــدان
وهـو صــراط عـنـدهـم مـمـدود
قـيـل  احْـدهَـا يا حـاديَ الأظـعـان
يَـعـبُـره  الـواجــد  والفـقـيــد

وقول أبي عليّ الدقاق المتقدم ، وهو " قال المشائخ : كل ما جمع قلبك على الله إلخ " ، هو مثل ما نقل القاضي عياض ، عن ابن مهدي قال :

سمعت مالكا يقول : لو كنت أعلم أن قلبي يصلح بالجلوس على كناسة لجلست .

وقال الجنيد :

كل ما يجمع العبد على مولاه فهو مباح .

وقال الشيخ زروق :

معظم نظر القوم إلى ما يجمع القلوب على مولاها . فمن ثمّ قالوا بأشياء في باب الأدب أنكرها من لم يعرف قصدهم

. والقصيدة النونية المروية بالتواتر عن الشيخ أبي مدين رضي الله عنه : " ما تركت لقائل مقالا إن كان ممن ذاق من مشارب القوم وإلا فينشد له بيت واحد منها وهو :
إذا لم تـذق ما ذاقـت الناس في الهـوى
فبـاللـه يا خـاليَ الحشـا لا  تعـنِّفنـا

وأبو مدين رضي الله عنه حجة الله في الخلق ، وهو ممن أخذ عن الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه . يقول الشيخ الشعراني رضي الله عنه في اليواقيت والجواهر :

أن الخضر عليه السلام سئل عن أبي مدين فقال فيه : " إنه جامع لأسرار المرسلين ، لا أعلَمُ أحدا في عصري هذا أجمع لأسرار المرسلين منه " اهـ .

وهذا الرقص الذي ينكره الجاهل به هو الذي أصفه لك أيها الإمام حتى كأنك حاضر عنده ، وهذه الكيفية الموجودة اليوم التي جرى بها العمل أصلها للسادات الخلوتية رضي الله عنهم ، والله أعلم ، وتبعهم الناس على ذلك . وهي أنهم في عشية يوم الجمعة ، إذا بقي للغروب نحو ساعة واحدة ، يجلسون جلوس أحقر العبيد بين يدي أعز مالك غالب قاهر ، ثم يفتتحون بالبسملة والفاتحة ، ثم بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصوات تكون أولا ضعيفة لطيفة ، تعلم منها الذلة والخشوع والمسكنة والخضوع ، ثم يشرعون في الكلمة الطيبة ، ولا يزالون يرددونها على كيفيات معلومة ، وجلّها مذكور في كتاب الجواهر الخمس لغوث الله الشطاري ، مع حركة معلومة الهيئة عندهم أيضا ، يشيرون بالنفي يمينا وشمالا ، وبالإثبات إلى أمام ، مع الإشارة إلى القلب في جهة اليسار ، وإيقاع اسم الجلالة على القلب بالقصد والإشارة ، وذلك له أثر عظيم . حتى إذا غلب الإثبات عندهم بكثرة الأنوار ، وتلاشت في مشهدهم جميع الأغيار ، إقتصروا على اسم الذات الأقدس فافردوه بالذكر ، فيقومون حينئذٍ على أقدامهم إجلالا لذلك الإسم ومسماه . فيذكرون قياما بسكينة ووقار أولا مع حركة خفيفة ، ثم بعد ذلك منهم من يهتز على قدر ما يجد ويتجلى في قلبه ، إما فرحا بكونه أوقفه مولاه في بابه ، وإما بكونه أهّلَه لذكره لحضرة اقترابه مع جملة أحبابه ، وإما بكونه عبدا لمالك الملوك الذي تولاه ، فيتيه على الأكوان بعظمة مولاه كما قال عياض :
ومـمـا  زادنـي طـربـا وتـيـهــا
دخـولـي تـحـت قـولـك يا  عبـادي
وكـدت  بـأخـمـصـي أطـأ الثـريـا
وأَنْ صّـيـرْتَ أحـمـد لـي  نـبـيّـا

وإما لغير ذلك مما لا يمكن إحصاؤه وضبطه لاختلاف استعدادات القلوب ، وتوجهات المتوجهين . وفي خلال هذا الذكر ، من أوله إلى آخره ، ينشدهم منشد منهم أقوال المتغزلين في حضرة مولانا جل جلاله ، وحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيزداد بذلك ما يَجِدُون ، ويوجد ما يفقدون . فإن قيل كيف يزيد سماع الأغزال وُجْدَان الواجد ، ويُوجِد ما فَقَدَ الفاقدُ ؟ فالجواب : إن ذلك من الأذواق التي لا تفي العبارة بشرحها ، وقد أشار إلى ذلك في عوارف المعارف فقال :

وكان الراسبي يشغل أصحابه بالسماع وينعزل عنهم يصلي ، فقد تُطْرق النغمات مثل هذا المصلي فتنزل النفس إليها مُتَنَعِّمَة بذلك ، فيزداد مورد الروح بذلك صفاءً . اهـ .

وقال الإمام ابن العربي المعافري في سراجه نكتة بديعة وهي :

أن النفس تميل إلى اللهو ، وتسرع إلى الغزل ، فينشد المرء الأشعار الغزلية تانيسا لها ، ويقصد بها الحقائق الإلهية ، والشمائل النبوية تحقيقا معها

. وقال الشيخ أبو حامد الغزالي في الإحياء بعد كلام :

" ينزلون ما يسمعونه على أحوال أنفسهم في معاملتهم لله تعالى وتَقَلّب أحوالهم ، فإن للمريد لا محالة مقصدا ، وهو معرفة الله تعالى والوصول إليه ، فإذا سمع ذكر خطاب أوْعتاب ، أو قبول ، أو رَدّ ، أو وَصْلٍ ، أو هجر ، أو قرب ، أو بُعد ، أو تَلَهُّف على ما فات ، أو تَعَطُّشْ إلى منتظَر ، أو شوق إلى وَارِد ، أو طمع ، أو يأس ، أو استيناس ، أو وفاء بوعد ، أو نقض لعهد ، أوْ خوف فراق ، أو فرح بِوصال ، أو ذكر ملاحظة الحبيب ، أو مدافعة القريب ، أو همول العبرات ، أو ترادف الحسرات ، أو حلول الفراق ، أو عسر الوصال ، أو غير ذلك مما تشتمل عليه الأشعار الغزلية ، فلا بد أن يوافق بعضها حال المريد في طلبه فيجري مجرى القداح الذي يوري زناد قلبه فتشتعل به نيرانه ، ويَقْوَى له انبعاث الشوق وهيجانه ، وتهجم عليه بسببه أحوالٌ مخالفةٌ لعادته ، ويكون له مجال رحب في تنزيل الألفاظ على أحواله . فالسماع يُهّيج الشوق إن كان ثَمّ شوق حاصل ، وإن لم يكن ثَمّ شوق حاصل فالسماع يجتلبه ، فللكسب مدخل في باب الأحوال ، ولذلك ورد الخبر بالأمر لمن لم يحضره البكاء أن يتباكى ، فإن هذه الأحوال قد تتكلف مباديها " ، إلى أن قال : " فإذا انضاف إليها صوت طيب ، ونغمات طيبة موزونة ، زاد وقعه " .

من الأحياء بنقل الإمام العلامة العارف بالله تعالى سيدي محمد بن يوسف المواق .

<< الصفحة السابقة    الصفحة التالية >>