رأيت أبواب الله تعالى قد استدارت للغلق ، فلم يبق باب مفتوحا إلا باب الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وإلى هذا أشار البوصيري في الدالية بقوله :
وتـزوّد التقـوى فـإن لـم تستـطـع
|
فـمـن الصـلاة علـى النـبـي تـزوّدِ
|
ومِنَ المريدين من يتولى الله تعالى تربيتَه من غير واسطة لأحد من الأئمة حتى لا يكون لواسطة عليه مِنّة ، ومنهم من يتولاّه بواسطة بعض الأولياء ولو ميتا في قبره ، فيُرَبّي مريدَه وهو في قبره ، ويسمع مريدُه كلامَه من القبر ، ولله عباد يتولّى تربيتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه من غير واسطة بكثرة صلاتهم وتسليمهم عليه .
قال الشيخ زرّوق في أواخر ( شرح حزب البحر ) :وممّا كتب لنا به شيخنا أبو العباس الحضرمي في وصيته الأولى : " وعليك بدوام الذكر والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهي سلم ومعراج إلى الله تعالى ، وسلوك إلى حضرته إذا لم يلق الطالب شيخا مرشدا " .
ومعلوم ما وقع آخر المائة الثامنة بين فقراء الأندلس من الإختلاف حتى تضاربوا بالنعال ، فقال بعضهم : يمكن الإستغناء بالكتب عن الشيخ ، ومنع البعض ، وكتبوا إلى الآفاق ، ومعلوم جواب الإمام ابن عبّاد رضي الله عنه في ذلك فلا نطيل به . وقال حجة الإسلام الغزالي في المنهاج :قد يكون ذلك بلا شيخ ، ولكن الشيخ فاتح .
وقال الشيخ أبو العباس سيدي أحمد بن موسى اليماني رضي الله عنه :" من لم يكن له شيخ يُربّيه فليلزم الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي تربّيه بأحسن الآداب النبوية ، وتهديه بإشراق أنوار الأخلاق المحمدية ، وترقّيه إلى أعلى درجات الكمال ، وتوصله إلى المحل الأسنى من حضرة الملك الكبيرالمتعال ، وتنعمه برؤية الله تعالى ، وقربه من النبي صلى الله عليه وسلم " . وقال رضي الله عنه : " بكثرة الصلاة على رسول الله صحبتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبِقلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌعرفتُ الواحد الأحد " .
فأين قول من بلّغكم ـ رضي الله عنكم ـ : أن شيخنا ليس له شيخ ولا طريق ؟ فهل ذلك إلا جهْلٌ بما تقدّم ، أوعنادٌ وغفلةٌ ؟
وهل تـرك الإنسـان في الديـن غايـة
|
إذا قـال قـلّـدت النـبـي مـحـمـدا
|
والـدعـاوى ما لـم يقيمـوا عليـهـا
|
بـيّـنـات أبـنـاؤهـا أدعــيــاء
|
وهذا مقام شريف لا يصل إليه السالك إلا بعد مجاوزة مائتي ألف حجاب وسبعة وأربعين ألف حجاب وتسعمائة وتسعة وتسعين حجابا ، فليس هذا لكل وليّ .
وهذه الحجب هي المنازل التي ورثها الأولياء من المرسلين ، قاله الشيخ الأكبر في الباب 73 من الفتوحات ، وقال :إنه كلّمَا نزل الولي مقاما منها يخلع عليه من العلوم ما لا يحصى ، لكل منزل ذوق خاص لا يكون لغيره .
إلا أن شيخنا ، وإن شاركه بعض من قبله من الأولياء الكاملين في الوصول إلى هذا المقام ، فإنه لايشاركه فيه من بعده لأنه الختم الأكبر الذي ختم الله به المقام المحمدي ، أخبره بذلك من لا يتطرق الرّيب إلى إخباره صلى الله عليه وسلم ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر .وقد اجتمعْتُ به سنة 478 ، يعني بالخاتم المحمدي الذي لا ختم بعده ، ورأيت العلامة التي أخفاها الله تعالى فيه عن عيون عباده ، وكشفها لي بمدينة فاس حتى رأيت خاتم الولاية المحمدية منه ، ورأيته مبتلى بالإنكار عليه فيما يتحقق به في سرّه من العلوم الربانية . أهـ .
ولا شك أن الإجتماع المذكور برزخي والله أعلم ، ولا شكّ أن سبب " الإنكار " هو انحجاب المنكِر عن مقام المنكَر عليه ، وعُلوّ مقام المنكَر عليه على مقام المنكِر ، كقضية الشيخ عبد الرحمن الطفسونجي مع الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنهما ، وكم لها من نظير ، لأن من جهل شيئا عاداه . قال الشيخ الشعراني في اليواقيت والدرر في مناقب شيخه الخوّاص :وسمعته يقول : " الخلق على طبقات : عامّة ، فقهاء ، متصوفة ، صوفية ، عارفون ، كاملون ، مكمّلون , أقطاب . فكل من كان في مرتبة من هذه المراتب ينكر ما وراءها ضرورة لعدم ذوقه له ، فالفقيه يُنكِرُ على المتصوّف ، والمتصوف ينكر على الصوفي ، والصوفي ينكر على العارف ، وهذا لا ينكر على أحد لمروره على المراتب كلها . ومرادنا بالإنكار من حيث الفهم لا الإنكار من حيث الأحكام الشرعية " اهـ .
فإذا تقرر هذا ، ظهر لك أنّ الإنكارَ على شخص عارف دليلٌ واضحٌ على أكمليته . وقد تقدّم في صدر هذا التقييد قول الشيخ ابن عبّاد : " ثم لنا في الإنتظام في سلك من اعتُرِض عليه من أهل الحق ، ونُسِب إلى أهل الضلال والزندقة ، وهم خاصة الأولياء ، نعمة جزيلة لا يُقدَّر قدرُها ، ولا يُوفَّى شكرُها " الخ . ولذلك قيل :كلما اتّسعتْ دائرة المعرفة ضاقت دائرة الإنكار .
ومدار طريقة شيخنا رضي الله عنه على قطبين :
عبـد شمـس أبـي فـإن كنت غضبـى
|
فـاملئـي وجهـكِ الجميـل خمـوشـا
|
حسبـي بهم من غيـرهـم بـدلا فَهُـم
إنّـي ختمـت علـى الضميـر بحبّـهـم وجعلـتـه حـرمـا لهـم فـسـواهـم إن لاح لـي مـن أفـق مغناهـم سنـى |
رَوْحِـي وريحـانـي وبـرء سقـامـي
فـغـدا هـواهـم فيـه زهـر كـمـام مـا إن لــه بـحـمـاه مـن إلـمـام فعلـى الـوجـود تحيـتـي وسـلامـي |
كضـرائـر الحسنـاء قلـن لـوجههـا
|
حــسـدا وبغـضـا إنـه لـدمـيـم
|
فـقـول لـه وقـع الأسـنّـة لـم أزل
|
أكـفّ عـنـانـا عنـه عـنـد طـراد
|
جـرى علـى ذلـك مـــذ أعـصـار
فـوقـع الإجـمـاع بـعـد الخـلــف |
شـرقـا وغـربـا عـمـل الأمـصـار
فـيـه فـجـاز اليـوم دون خـلــف |
سألت الأستاذ أبا علي الدقاق عن السماع غير ما مرة ، كأني أطلب رخصة في السماع . فلما رأى طول معاودة سؤالي له قال لي : " قال المشائخ : كل ما جمع قلبك على الله تعالى فلا بأس به " ، وقيل لأبي سالم : كيف تنكر السماع وقد كان الجنيد والسري وذو النون وغيرهم يفعلونه فقال : " كيف أنكره وقد أجازه من هو خير مني ؟ " اهـ كلام الرسالة .
وفي قوت القلوب :" إنْ أنكَرْنا السماع أنْكَرْنا على سبعين صدّيقا من خيار هذه الأمة " ، قال : " وإن كنا نعلم أن الإنكار أقرب إلى قلوب القراء ، إلا أننا لا نفعل لأنا نعلم ما لا يعلمون ، وسمعنا من أحوال السلف ما لا يسمعون " .
قال في عوارف المعارف :قول الشيخ أبي طالب هذا معتبر ، لوفور علمه ، ومعرفته بأحوال السلف ، ومكان تقواه وورعه وتحرّيه للصواب .
قال الشيخ ابن البناء ناظم المباحث :
وحـيـث كَــلّـتْ نُـجُـبُ الأبــدان
وهـو صــراط عـنـدهـم مـمـدود |
قـيـل احْـدهَـا يا حـاديَ الأظـعـان
يَـعـبُـره الـواجــد والفـقـيــد |
سمعت مالكا يقول : لو كنت أعلم أن قلبي يصلح بالجلوس على كناسة لجلست .
وقال الجنيد :كل ما يجمع العبد على مولاه فهو مباح .
وقال الشيخ زروق :معظم نظر القوم إلى ما يجمع القلوب على مولاها . فمن ثمّ قالوا بأشياء في باب الأدب أنكرها من لم يعرف قصدهم
. والقصيدة النونية المروية بالتواتر عن الشيخ أبي مدين رضي الله عنه : " ما تركت لقائل مقالا إن كان ممن ذاق من مشارب القوم وإلا فينشد له بيت واحد منها وهو :
إذا لم تـذق ما ذاقـت الناس في الهـوى
|
فبـاللـه يا خـاليَ الحشـا لا تعـنِّفنـا
|
أن الخضر عليه السلام سئل عن أبي مدين فقال فيه : " إنه جامع لأسرار المرسلين ، لا أعلَمُ أحدا في عصري هذا أجمع لأسرار المرسلين منه " اهـ .
وهذا الرقص الذي ينكره الجاهل به هو الذي أصفه لك أيها الإمام حتى كأنك حاضر عنده ، وهذه الكيفية الموجودة اليوم التي جرى بها العمل أصلها للسادات الخلوتية رضي الله عنهم ، والله أعلم ، وتبعهم الناس على ذلك . وهي أنهم في عشية يوم الجمعة ، إذا بقي للغروب نحو ساعة واحدة ، يجلسون جلوس أحقر العبيد بين يدي أعز مالك غالب قاهر ، ثم يفتتحون بالبسملة والفاتحة ، ثم بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصوات تكون أولا ضعيفة لطيفة ، تعلم منها الذلة والخشوع والمسكنة والخضوع ، ثم يشرعون في الكلمة الطيبة ، ولا يزالون يرددونها على كيفيات معلومة ، وجلّها مذكور في كتاب الجواهر الخمس لغوث الله الشطاري ، مع حركة معلومة الهيئة عندهم أيضا ، يشيرون بالنفي يمينا وشمالا ، وبالإثبات إلى أمام ، مع الإشارة إلى القلب في جهة اليسار ، وإيقاع اسم الجلالة على القلب بالقصد والإشارة ، وذلك له أثر عظيم . حتى إذا غلب الإثبات عندهم بكثرة الأنوار ، وتلاشت في مشهدهم جميع الأغيار ، إقتصروا على اسم الذات الأقدس فافردوه بالذكر ، فيقومون حينئذٍ على أقدامهم إجلالا لذلك الإسم ومسماه . فيذكرون قياما بسكينة ووقار أولا مع حركة خفيفة ، ثم بعد ذلك منهم من يهتز على قدر ما يجد ويتجلى في قلبه ، إما فرحا بكونه أوقفه مولاه في بابه ، وإما بكونه أهّلَه لذكره لحضرة اقترابه مع جملة أحبابه ، وإما بكونه عبدا لمالك الملوك الذي تولاه ، فيتيه على الأكوان بعظمة مولاه كما قال عياض :
ومـمـا زادنـي طـربـا وتـيـهــا
دخـولـي تـحـت قـولـك يا عبـادي |
وكـدت بـأخـمـصـي أطـأ الثـريـا
وأَنْ صّـيـرْتَ أحـمـد لـي نـبـيّـا |
وكان الراسبي يشغل أصحابه بالسماع وينعزل عنهم يصلي ، فقد تُطْرق النغمات مثل هذا المصلي فتنزل النفس إليها مُتَنَعِّمَة بذلك ، فيزداد مورد الروح بذلك صفاءً . اهـ .
وقال الإمام ابن العربي المعافري في سراجه نكتة بديعة وهي :أن النفس تميل إلى اللهو ، وتسرع إلى الغزل ، فينشد المرء الأشعار الغزلية تانيسا لها ، ويقصد بها الحقائق الإلهية ، والشمائل النبوية تحقيقا معها
. وقال الشيخ أبو حامد الغزالي في الإحياء بعد كلام :" ينزلون ما يسمعونه على أحوال أنفسهم في معاملتهم لله تعالى وتَقَلّب أحوالهم ، فإن للمريد لا محالة مقصدا ، وهو معرفة الله تعالى والوصول إليه ، فإذا سمع ذكر خطاب أوْعتاب ، أو قبول ، أو رَدّ ، أو وَصْلٍ ، أو هجر ، أو قرب ، أو بُعد ، أو تَلَهُّف على ما فات ، أو تَعَطُّشْ إلى منتظَر ، أو شوق إلى وَارِد ، أو طمع ، أو يأس ، أو استيناس ، أو وفاء بوعد ، أو نقض لعهد ، أوْ خوف فراق ، أو فرح بِوصال ، أو ذكر ملاحظة الحبيب ، أو مدافعة القريب ، أو همول العبرات ، أو ترادف الحسرات ، أو حلول الفراق ، أو عسر الوصال ، أو غير ذلك مما تشتمل عليه الأشعار الغزلية ، فلا بد أن يوافق بعضها حال المريد في طلبه فيجري مجرى القداح الذي يوري زناد قلبه فتشتعل به نيرانه ، ويَقْوَى له انبعاث الشوق وهيجانه ، وتهجم عليه بسببه أحوالٌ مخالفةٌ لعادته ، ويكون له مجال رحب في تنزيل الألفاظ على أحواله . فالسماع يُهّيج الشوق إن كان ثَمّ شوق حاصل ، وإن لم يكن ثَمّ شوق حاصل فالسماع يجتلبه ، فللكسب مدخل في باب الأحوال ، ولذلك ورد الخبر بالأمر لمن لم يحضره البكاء أن يتباكى ، فإن هذه الأحوال قد تتكلف مباديها " ، إلى أن قال : " فإذا انضاف إليها صوت طيب ، ونغمات طيبة موزونة ، زاد وقعه " .
من الأحياء بنقل الإمام العلامة العارف بالله تعالى سيدي محمد بن يوسف المواق .