بقلم :
محمود سلطاني 01/09/2008
يختلف معنى الحداثة عندي عن معناه عند كثير من دعاة الحداثة المسلمين . ومنشأ هذا الإختلاف متعلّق مباشرة بتراث الأمّة ، وفي أوجه كثيرة . أمّا ما عدا ذلك من الطروحات والفلسفات ذات الصلة فلا حرج عندي منها في حالتَيْ الإئتلاف والإختلاف . وهم يبدون شيئا من الإبداع خارج حدود التراث ، لكنّهم يُمسَخون عند التعرّض للدين ونصوصه الثابتة من مفكّرين إلى عبثيين ، ويتحوّلون إلى هجين هو مزيج من الجهلة والمزاجيين السطحيين .
عجباً !!!
كيف يتحوّل صاحب الفكر إلى ثرثار كأنّه مهرّج يريد أن يقنع من حوله بصدق دعواه فلا يفلح حتى في إقناع الأطفال . تلك الضريبة الثقيلة لمخالفة الموضوعية ، وفضيحة تجاهل الحقّ ، خاصّة عندما يتعلّق الأمر بدين الله تعالى .
ولننطلق من تعريف الحداثة .
الحداثة عندهم هي تبنّي السائد من الحضارة والفكر والمفاهيم في كلّ عصر بإحداث جميع التحوّلات اللازمة لتعديل كلّ الإنحرافات الذاتية حتّى يتوافق المسار الخاص مع خطّ ذلك الفكر أو تلك المفاهيم .
أمّا تعريفها عندي فهو خوض السائد من الحضارة والفكر والمفاهيم في كلّ عصر بإحداث جميع التحوّلات اللازمة الممكنة لتعديل كلّ الإنحرافات الذاتية حتى يتوافق المسار الخاص مع ما يتناسب ومصالحي من ذلك الفكر وتلك المفاهيم .
الحداثة عندهم ذوبان في تيار الإنسانية الحاضر المسيطر ، وتخلّصٌ من الماضي بأثقاله عديمة الجدوى ، بل والحائلة دون الإنغماس اللاّئق لاستغلال أمثل ، وتذوّق أتمّ .
أمّا عندي فهي مواجهةٌ وجَرْدٌ للواقع يليه اختيار يتحدّد بموجبه وجودي واختلافي عن الآخر .
والصيغة العامّة التي يشترك فيها دعاة الحداثة الجدد لنقد التراث هي كما يلي : إنّ فكرة تقديس التراث هي أسّ المعضلة . وخطرها كامن في القيد الذي يخلقه ذلك التقديس لمكتسبات وقدرات الفرد أثناء انطلاقها بدوافع طاقاتها الفطرية فتصطدم بسقفٍ صلبٍ يمنعها من المُضِيّ في إنتاج الثمرة الطبيعية الصالحة للتغذية كما أُرِيدَ لها ، وبهذا ينشأ بداخل كيان الفرد المُقَدِّس للتراث مركّب نقص من كلّ ما يمتّ بِصِلة إلى الفكر الخلاّق ، وتسكن بين حناياه " فوبيا " مزمنة وخطيرة من كلّ جديد وطريف ، تنتهي بتوفير أجيال من أنصاف الأفراد المزدوجي الشخصية ومهزوزي الثقة بالنفس ، يموجون في نفاق مستمرّ مصدره تكميمهم المضني والدائم لصوت الموضوعية في أنفسهم . ومثل هذه الأصناف لا ولن يمكنها أن تشارك في يوم مّا في وضع بصماتها على صروح الحضارات بفعالية لأنّها أقرب إلى المتفرّج الغريب عن الأحداث ، القابع على رمال الشاطئ .
نعم ، هكذا يقولون .
بحثتُ في ذاكرتي وذكرياتي فلم أجد فيها نموذجا واحدا لأجيال أو مجتمعات ينطبق عليها كلام دعاة الحداثة المغرق في التفلسف العقيم ، والمفرط في التنظير الخيالي . وقد يظهر ذلك من أفراد قلّة ، أو جزء ممّا يقولون داخل مجتمع ، لكنّها عيّنات استثنائية لا عبرة بها . ولقد سمعتُ أحد المحسوبين على كبار دعاة الحداثة ينتقد كلّ الدعاة المسلمين المعاصرين المتحمّسين للأخذ بأسباب الحضارة الغربية لأنّهم يتقيّدون بحدود الشرع في دعوتهم واختياراتهم ، وقال عبارة لَيتَهُ لم يقلها لأّنّه دلّ بقولها على جهله وسذاجة عقله ، قال : " أنا لا أفهم لماذا كلّ هذا الخوف من نقد التراث وكأنّنا وحدنا من يملك تراثا . أليس لفرنسا تراثا مثلا ؟ " .
ألم أقل لك أيها القارئ الكريم أن عدم التأدّب مع دين الله يحوّل الخلق إلى مسخ ؟
من قول الرجل نفهم أنّ التراث عنده اسم جنس يطلق على مسمّى ذي خصائص معيّنة ثمّ لا شيء بعده ، وبذلك فإنّ نقد أو انتقاد أو استهتار فرنسا بتراثها هو تحرّر شرعي مطلق لكلّ من عداها من تبعات احترام التراث يتبعه تقليد محتوم لكلّ من رام الإلتحاق بركب التقدّم كما الْتَحَقَتْ ، والإنسجام مع روح العصر كما انسجمتْ .ونسيَ الحداثيون - بل تناسوا - بأنّ معنى التراث المقصود بالتقديس ليس في إناء الإسم ولكن في محتواه . ولا يوجد في الدنيا تراثين متماثلين أبدا لأنّ التراث حاضر خاصّ لحياة مضتْ بكلّ مقوّماتها ، وبذلك فليس من الممكن توزيع نُسخٍ عديدة من نفس الحكم على " التراث " ثمّ اعتبار حلّ المشكلة محسوما .فإذا كانت الفروق بين تراث وآخر تكبر وتصغر ، فإنّ ممّا لا شكّ فيه أنّ الفرق بين التراث الإسلامي العربي الشرقي وبين التراث المسيحي الغربي هو من الصنف الكبير ، والكبير جدّا . بل ويصل في جانب من مستوياته إلى الإنقطاع التام الذي تغيب معه كلّ مقارنة . وأقصد بهذا الجانب ، طبعا ، كتاب الله عزّ وجلّ وسنّة سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنّه الجانب المقدّس بأمر من الله تعالى لا بقرار ذاتي من الأمّة ، وبذلك يصبح من العبث وضعه مع غيره من منتجات البشر على ميزان واحد للإدلاء فيه برأي ، أو التعرّض له بالنقد والتصحيح ، ويكون كلّ تجاوز وتطاول على قدسيته بمثابة التطاول على ذات الله سبحانه ، وهو كفرٌ يفهم منه كلّ ذي لبٍّ دوافع تصريح السادة من دعاة المسلمين بوجوب تحرّي مواضع الخطوط الحمراء التي ما وراءها إلاّ الخسران المبين .
أمّا ما عدا هذا فلا أحد من السلف أو الخلف ادّعى قدسية التراث بجميع أوجهه ، بما في ذلك التراث الإجتهادي الإستنباطي من النصوص الظنّية الدلالة ولو صدر من أهل القرون الثلاثة الأولى . وإذا كان هذا شأن العلوم الدينية فما بالك بشتّى الفنون الأخرى الوجدانية والعقلية والبدنية .
وقد يكون دعاة الحداثة قد اعتمدوا في حكمهم على التراث الشرعي من خلال ما رأوه وشاهدوه ولاحظوه من إقبالٍ شديدٍ على المعارف الدينية في العبادات والعادات من أبناء الأمّة ، تعلّماً واستفتاءً ممّا جلّ من متعلّقات الحياة أو صَغُر . وهو خطأ جسيم منهم لأنّ حرص المسلم على تعلّم أمور دينه لا يعني أنّه تشبّث تقليدي عقيم بالماضي ، ولكن لأنّ ذلك من صلب عقيدته الناصّة على أنّ الدنيا معبر بين نشأتين ، والحياة فيها امتحان من ترتيب واختيار الله وحده يتحدّد بمقتضاها مصيره في الحياة الآخرة . فالمسألة إذن لا صلة لها بماضٍ أو حاضرٍ أو مستقبلٍ أرضيّ ولكنّها واقع روحي خارج عن زحف الزمن ، يمارسه المسلم ويذلّل الكلّ في سبيله وليس العكس . فإذا توافق جزء من الكلّ ، أو حتّى الكلّ برمّته ، مع إملاءات العقيدة الحقّة التي أجمع عليها العلماء والعارفون فلا إشكال في الإنغماس حتى التواري في لجج كلّ جديد ، وأمّا إذا وقع التعارض بينهما فلا مناص من التضحية به ، على علم وبصيرة وحريّة ، لأنّ الحرمان الظرفي المحدود مهما طال خير من الحرمان الأبدي المطلق .
ومن البديهي أن تنشأ صلة احترام وتبجيل متينة بين العلماء الأجلاّء على امتداد التاريخ وبين سائر المسلمين من كلّ جيل ، وهي علاقة طبيعية صحيّة دالّة على سلامة الجانب الأخلاقي عند الجميع والمتمثّل في الإخلاص في خدمة الأمّة من جانب والإعتراف بحسن الصنيع من الجانب الآخر . ولا يوجد من صرّح بأنّ تلك العلاقة ، مهما بلغتْ قوّة روابطها ومتانة عراها ، قد ارتقتْ في يوم مّا ، بل في لحظة مّا ، إلى مرتبة التقديس الذي يماثل تقديس كلام الله ووحيه لرسوله عليه الصلاة والسلام . ويخبرنا تاريخ الأمّة أنّه بالتوازي مع الأدب الجمّ ، والتوقير العظيم للأئمّة المجتهدين رضي الله عنهم ، فإنّ حركة الدراسة والفتوى والإستنباط ظلّتْ قائمة في كلّ عهد يطاله التجديد ، وعند كلّ نقطة تقاطع مع الفكر الإنساني المختلف ، لضبط أوتار حياة الأمّة مع نغمات أوامر الله تعالى ونواهيه . فلا تجمّد ولا سجود أمام وثن تراث " الرأي " كما يدّعيه دعاة الحداثة .
وهناك حالة تُظهِر للوهلة الأولى وكأنّ موقف الخلف من رأي واستنباطات السلف يكتسي منحى تقديسيّا وذلك لأنّ الخلف تبنّى تلك الآراء والْتزمَ بها ولزمها ، ولم يتعرّض لها بالنقد أو التغيير إلاّ قليلا ، وأقصد بما قلت الفكر التقعيدي المستخرج من النصوص الدينية الثابتة . لكن ذلك الإلتزام لا يعني التقديس وإنّما يعني أنّ الحاجة إلى تغييره لم تبرز فاستمرّ الناس في تطبيقه عن بيّنة . ولِمَ تغيير ما لا يزال صالح المردودية والنتائج ؟ هل يمارس التغيير من أجل التغيير ؟ إنّ من الغباء تحمّل مشقّة تغيير ما لا يدعو إلى التغيير لأنّه تبذير للوقت والجهد . وكما يقال في المثل : " ما الفائدة من إعادة اختراع العجلة ؟ " ( Pourquoi réinventer la roue ? ) ، أو المثل الآخر الذي يردّده الرياضيون كثيرا : " لا تغيّر فريقا اعتاد على الفوز " ( On ne change pas une équipe qui gagne ) . وعلى غرار ما يقع في البرمجة المعلوماتية حيث يلجأ المبرمجون مهما كانت درجة عبقريتهم إلى استعمال برامج مستقلّة ذات وظائف متباينة ومحدّدة أعدّها غيرهم سلفا إذا رأوا بأنّ برنامجهم يحتاج إليها ، ويقول المبرمجون في هذا الصدد : " لِمَ إعادة ما تمّ إنشاؤه ويفي بالغرض ؟ " ، وتسمّى هذه البرامج الصغيرة المتنوّعة " مكتبات للروابط الديناميكية " ( dynamic link libraries ) ، ويُرمز إليها بـ" DLL " . إنّ كلّ علوم الإنسان من هذا القبيل ، إضافة إلى إضافة هي نفسها تراكم إضافات ، ولو قدّرنا أنّ كلّ مخلوق على وجه الأرض مطالب بتحضير مقوّمات حياته ووجوده بمجهوده الفردي لما عاش إنسان على ظهرها ، وفي أحسن الأحوال لما كان تعدّى عصر " إنسان الكهوف " . إذن فما تفعله الأمّة من الإعتزاز والتمادي في الإحتفاظ بجوانب من تراثها على ما كان عليه لدليل على إرادة ساداتنا العلماء والعارفين على مواصلة البناء فوق ما تمّ بناؤه من أسس صلبة ، ونيّتهم في إتمام الجدار لا هدمه والبدء من جديد على أنقاضه .
وقد يكون دعاة الحداثة قد ألْقَوا بأحكامهم حين رأوا شدّة تمسّك المسلمين باللغة العربية ، وظنّوا أن الإلتفاف البالغ حولها من التقديس . والحقيقة غير ما يقولون ، وإنّما هي غيرة وعناية بنصوص الدين المقدّسة متجلّية في المحافظة على اللغة التي تحمل معانيه ، وهو تأدّب مع كلام الله الأزلي ، ومع لغة المحبوب الأعظم سيّدنا ومولانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم . وما عدا ذلك فإنّ اللغة العربية لا تعدو أن تكون وسيلة كآلافٍ مثيلاتها للتواصل بين البشر في أركان الأرض الأربعة . وقد أثبتت القرائن التاريخية الصحيحة زيف قول دعاة الحداثة ، وأنّ عباقرة العربية من المسلمين ، مدعومين من علماء الدين ورجال الحكم ، قد امتدّتْ أيديهم لإدخال الإضافات الصالحة على حروف اللغة حين دعت الضرورة إليها ، وأظهرت الظروف أنّ ذلك التدخّل عين إضافية لحراسة الكتاب والسنّة من تلاعب المتلاعبين والأعداء .فلا قداسة إذن إلاّ للقرآن الكريم والسنّة المطهّرة لأنّهما من كلام الله عزّ وجلّ . وحتّى على افتراض ثبوت نوايا التقديس في كلّ ما ذكرناه من غير النصوص الموحى بها من السماء ، فإنّه تقديس مجازي ، يذكره من يذكره وهو لا يعتقد فيه الإطلاق أبدا . تلك أمور يتّضح معناها من سياق استعمالها ، و يتمّ تمييز مؤدّاها الصحيح عند المتلقّي المطّلع ، بالرغم من كثرة تكرارها ، بواسطة ما استقرّ لديه من معانيها عند كلّ حالة ومدلول . ولا كلام لنا مع غير المطّلع أو مع المطّلع المتعامي .
ولو تأمّلنا المسألة قليلا لاكتشفنا أنّ الإعتناء بالتراث رافد قويّ من روافد الحاضر ، وفي أسوإ الأحوال لا ضرر فيه . والغريب أنّ دعاة الحداثة لم يتنبّهوا إلى ما يدور حولهم من سلوك الأمم تجاه تراثهم وهو أمر يكاد يدمغ الجباه . لقد بلغت أمّة اليابان ذروة التقدّم والتحضّر في عصرنا وهي من أشدّ الأمم تمسّكا بميراثها الخالي . وقد كانت لي الفرصة السعيدة أن أشاهد حفل افتتاح الألعاب الأولمبية التي أقيمت في بكين عاصمة الدولة والأمّة الصينية العظيمة ، وكان ذلك وحده الدليل المفحم لمن ينكر إمكانية اجتماع التمسّك بالتراث والدخول الحقيقي في الحضارة الراهنة . إنّه التقديس الواضح والمفرط الذي يحذّر منه دعاة الحداثة لكنه لم يمنع تألّق الصينيين على أجنحة العبقرية التي عرضتْ التاريخ ، والخيال الخلاّق ، وأحدث العلوم الكونية على بساط فريد في اتّساق وانسجام إلى درجة يصعب على المرء فرز مكوّن عن آخر من شدّة تداخل حدود الواحد في الآخر ، واندماج الفنّ في صنوه اندماج خيوط الديباج في لحمة وسدى الثوب المحكم النسج ، والمطرّز بإتقان .
وادّعاء صاحبنا الحداثي بأنّ فرنسا لا تقدّس تراثها ادّعاء كاذب . إنّ فرنسا اعتبرتْ نفسها ، ولا تزال ، الحارس والغيور الأعظم على المسيحية مثل الفاتكان أو أكثر لكن ذلك التقديس لم يحُلْ دون تقدّم فرنسا وبمشاركة علماء متديّنين بعمق . ولقد رأيت على القناة الفرنسية الثالة France3 تحقيقا عن مخترعين هوّاة استماتوا لأكثر من عشر سنوات لتحقيق حلم متأصل فيهم منذ الصغر ، وهو صنع باخرة متوسّطة تستطيع الإبحار وحمل العائلة إلى أيّ مكان يريدون . لقد ضحّى هؤلاء براحتهم لأنّ نشاطهم كان بعد ساعات العمل الرسمي ، واشتكى أفراد الأسرة من الظروف القاسية التي تنتج عن الإنشغال ليل نهار بالمشروع ، كالإهمال ونقص الحنان ، وغيرها . كانوا ثلاثة وفي أماكن متفرّقة من فرنسا ، وقد أقيم لهم في مدينتهم ، يوم أن عزموا على حمل إنجازهم إلى الماء لتجريبه ، احتفال ضخم حضره الرسميون والمواطنون ، وكانت لحظات مؤثّرة ذرفت فيها كثير من الدموع . لكن ما لفتَ انتباهي هو حضور رجل الدين ومباركته للتحفة المعروضة أمام الناس ، وقراءة فقرات من الإنجيل قبل البدء في تنفيذ أيّ نقطة من مخطط النقل المسطّر . فإذا لم يكن ما رويناه تعظيم واعتراف وتقديس للتراث الروحي والعقيدة الراسخة فأين إذن التقديس والإعتراف ؟ وقل مثل ذلك في أمريكا وروسيا والبرازيل والهند ، وهي أمم مختلفة ، ذات إرث حضاري مختلف ، وهي أيضا دول منها التي تربّعت على ذروة الحضارة المادية ، ومنها من حازت نصيبا وافرا في جوانب وتسعى جاهدة لإلحاق ما تخلّف بما تقدّم .
يقول الحداثيون بأنّ الحضارة العصرية منظومة متكاملة ، ومن غير الممكن أن نساير الدنيا المتقدّمة بالتبنّي الجزئي الإنتقائي ، وأنّ الحداثة ليست مجرّد تحديث المصانع والأدوات والأثاث والأمتعة ، ولكنّها نمط فكر وتفكير من فرض الواقع الذي لا مناص من الخضوع له .
ونتّفق على أنّها نمط تفكير
لكن المعضلة لا تُحلّ بالوصول إلى هذه النتيجة . والسؤال هو : ما الذي أو من الذي حوّل ذلك الفكر والتفكير إلى مرجعية ؟ ألأنّ حضارة مادية ضخمة خرجتْ من تحت كُمِّه ؟ من البديهي لكلّ ذي بصيرة أنّ بداية الحضارة فقط انبثقت من ذلك الفكر ، ثمّ تحوّلت الصلة بينهما إلى علاقة جدلية تصعيدية أخذ فيها الجانب المادي الدور " الأبوي " المولّد لكلّ تنظير يفسح له طريق تقدّمه ، ولذلك فإنّ الفكر المذكور وما تبعه من تفكير تميّز بطابع ماديّ فضّ تحكمه في جلّ أرجائه غرائز إنسان وهمي يُسمّى المجتمع الإستهلاكي بمعناه الإجتماعي البحت ، ومعناه الإقتصادي والسياسي الرسمي . ويتبيّن لنا جليّا خطأ إخواننا دعاة الحداثة في ضرورة دمج الفكر والتفكير مع الإزدهار المادي لأنّ العلاقة بينهما أبعد ما تكون عن المثالية الجديرة بالإحتذاء .
ثمّ أنّ الدعوة إلى أخذ كلّ شيء أو لا شيء La loi de tout ou rien دعوة خطيرة جدّا ، وخطورتها في دكتاتورية مبطّنة مفضوحة لا تعرض إلاّ خيارين لا ثالث لهما . والظاهر أنّ العصر أصبح عصر فلسفة " الثنائيات " ليس فحسب في علم الإجتماع ولكن في عالم السياسة كذلك حيث شاع مبدأ " من ليس معنا فهو ضدّنا " .
إنّ الخطأ الفظيع الذي وقع فيه دعاة الحداثة هو الخلط بين مفهومين : مفهوم التفكير الرياضي المنطقي ومفهوم الإعتبار الأخلاقي الروحي . لقد ظنّوا أنّ فكرا يمنح الإنسانية مثل هذه الحضارة البرّاقة ، الممتعة ، لا بدّ وأن يكون فكرا قويما مستقيما . ولا أحد ينكر أنّ حضارة العصر ممتعة ، ذلّلت كالسحر الكثير المستعصي ، وليس من شبر في الأرض إلاّ وفيه من ذاق ثمارها الحلوة ، لكن ذلك لا يعني حتما أنّها نفسها ثمرة من ثمرات الخير . إنّ وظائف الأشياء قد تنفصل عن طبيعة المصادر التي أوجدتها ، ونوايا من أوجدها من الخير إلى الشرّ أو العكس . فيجب إذن مراعاة ظروف " الخدمة " عند معالجة كلّ حالة إذ قد تتعارض ملابسات التوظيف مع دوافع الإنشاء والتصنيع ، والعبرة بالأولى لأنها صاحبة الفعل والتأثير . فالمواجهة في النهاية ليست مع المخترعات والمصنّعات ولكنها مع أصحاب الفكر المخطّط المسؤول عن إمكانية تلك الردّة عن المهمّة الأصلية ، والتي بموجبها تنهدم قاعدة " جنس الشيء من جنس الهدف الذي من أجله أوجد " . فظهر أنّ الإنتقاء والإختيار ليس ممكنا فحسب بل وآكد الوجوب أيضا لأنّه عين العقل والصواب . وتُعدّ لحظة الإختيار هي لحظة تدخّل العامل الأخلاقي الذي أغفله دعاة الحداثة . هذا العامل قد يكون إنسانيا عامّا ، وقد يكون خاصّا مثل ما نحن بصدد الحديث عنه من نصوص الشرع الحنيف الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
ولِمَ التعب وفي فلكنا يدور ما لا يحصى من الأمثلة ، وما علينا إلاّ مدّ الكفّ لصيد ما يشفي الغليل . لكننا لن نأخذ سوى ثلاث أمثلة هنّ أعظم دعامات الفكر الحضاري الحديث كي نبرهن على صحّة ما قدّمنا من آراء .
-
الديموقراطية : وتُبنى على مبدإ حكم الأغلبية للجميع مع إقرار الأقلّية مقابل احترامها . إلاّ أنّ هذا المبدأ الجميل يصطدم عند تطبيقه بحالات يستحيل التوفيق بينه وبينها . فهو صحيح طالما أنّه لم يتعارض مع بديهيات منطقية من إملاء أولويات الطبيعة الإنسانية السليمة الخاضعة إلى قوانين الكون المعنوية والمادية . والثابت الذي لا يحاول دحضه سوى الأغبياء هو أنّ صفة الأكثرية في الكثرة لم ولا ولن تخلق حقّا مفقودا فيها لأنّ معادلة عين الحق وروحه لا تحتوي على متغيّر اسمه " الأكثرية " يحدّد درجة مصداقيتها . وإذا حصل وتوّج الحق جبهة الأغلبية فليس لأغلبيتها ولكن لأغلبية أهل الحق فيها . فبان لنا أنّ الحقّ قد يكون مع الأقليّة لكنه يُسحَق تحت وزن وضغط الأغلبية فيضيع الخير على الجميع . إنّ هذا مرادف لقولنا ورود تسلّط الجهلة والرعاع والسفهاء ، وتربّع الباطل السافر على عرش الحكم وتسيير الأمم ، وهو أمر مرفوض ينضح بالخزي الذي يمكن أن تتسبّب فيه الديموقراطية ، والنماذج حاضرة متوفّرة في كلّ مكان في العالم . إذن فليست الديموقراطية هي الطريق الوحيد الموجود ، وأنّ هناك خيارا فكريّا على الأقلّ يتعلّق بالأقليّة المحقّة ، وهو الدليل على أنّ الإنتقاء واجب لاتّقاء شرّ الوجه السلبي فيها .
-
حريّة التعبير : شعار نظري من ذهب يكاد يختفي في غابة أعشاب الممارسة التطبيقية الضارّة والمدمّرة . وأقول الضارّة والمدمّرة اعتمادا على رأي العلم التجريبي الدقيق ، وأحكام العلماء المجازين في اختصاصاتهم . فإذا كانت وسائل الإعلام بأنواعها توفّر منابر للكلمة االبنّاءة الداعية إلى الإصلاح ، والفاضحة لكلّ انتهازي وسارق وخائن ، فإنّها قد وفّرت بالتوازي منابر أكثر للفساد المجمع على خطورته علميّا إلى درجة أنّ عظم الطفرة بين الحياة الفطرية وما بحوزتنا من تصميمات جديدة لنفس الحياة لا يعكس سوى أعراض المسخ الشامل .
وإذا كان كلّ طالب لأمر يرى فيه حقّا يناسبه ، فلا أقلّ من عذري إذا الْتجأتُ إلى الإختيار والإنتقاء لما أراه مناسبا لي من حقوق أنا أيضا .
-
حقوق الإنسان : أرني ميزانك الذي به وُزِنتَ أقول لك أيّ خانة تحتلّ في سجلّ حقوق الإنسان . لو كان لمؤسّسة دولية أن تزول لكانت مؤسّسة حقوق الإنسان ، ليس امتهانا للإنسان أو احتقارا لحقّه وكرامته ، ولكن لأنّ وجودها إعلان ناطق بأفصح لسان على أنّ إنسانا لا يزال يسلب حقّ مثيل له . هذا إذا افترضنا صحّة نوايا إنشائها لهذا الهدف . ولو ثقنا في كلام دعاة الحداثة لكانت الدول المتحضّرة هي الوحيدة التي لا يطال من جانبها وجنابها ظلمٌ للإنسان قطّ لأنّ فكرها وقناعاتها وثوابتها مثالية تامّة كمنشآتها الصناعية والمخبرية والعلمية . لكن الحقيقة المُرّة والمؤسفة أنّ ما يتجرّعه الإنسان من هذه الأمم من ظلم يضمحلّ أمامه ، إلى درجة الإسقاط ، ظلم المتخلّفين له . هل تريدون أمثلة ؟ أحيلكم على ملفّات الفكر الإستعماري ، والسياسي ، والثقافي ، والطاقوي ، والإستراتيجي ، والإيديولوجي الخ... .
ومرّة أخرى يظهر قصور دعوة الحداثيين بضرورة تبنّي الفكر الذي أرسى صرح الحضارة العصرية .
لنتعمّق أكثر كي نصل إلى الحقيقة .
ما الذي يجعل تولّد الفكر الهدّام عن حضارةٍ مادية ممكنا ؟
هو طبع الإنسان .
مهما اختلفت الأجناس والألوان واللغات فإنّ الإنسان لا يعدو أن يكون ثمرة تفاعل نِسَبٍ من الروح والمادة ، والإختلاف الحقيقي هو في اختلاف وضعية مؤشّر كلّ واحد داخل المجال المحصور بين ما يقارب الروح الصرفة والمادة الصرفة والذي به يواجه عالمه الخارجي ، ويتعامل مع تفاصيله بأدوات وراء اختيارها ما توفّره تلك النسب من مفاهيم وتصوّرات جبلّية . وهذا هو سبب إرساء مبدإ الجزاء والعقاب الديني والوضعي لأنّ الحياة الإجتماعية حياة تكاملية المصالح ، ومطلبها الأساسي هو التوازن في التعايش . وتكون هذه المصالح مكفولة أكثر ، وتوازن الحياة الإجتماعية أقرب إلى القوّة كلّما زاد عدد الأفراد الأعظم نصيبا من الروحانيات في المجتمع ، وهي حالة تتّسم باستواء ذاتي من غير حاجة إلى توجيه خارجي عن دائرتها . لكن تلك المصالح تصبح مهدّدة بالزوال كلّما زاد عدد ذوي الطباع الأقرب إلى المادّة ، وبذلك يتوجّب تدّخل كلّ وسائل الردع الخارجية ، والمراقبة المستمرّة لهم .
وما نقوله ليس فلسفة نظرية عقيمة وإنّما هو واقعٌ إنسانيّ معترف به . فمقابل الكرم والشجاعة والتضحية والتودّد وإنكار الذّات والحبّ واللين والتسامح نَجِدُ البخل والشحّ والجبن والأنانية والبغض والحسد والشدّة وإنكار المعروف ، وكلّ عنصر من العناصر المذكورة له أثره في السلوك ، وبالتالي في علاقة صاحبه بمجتمعه ، المسؤولة الوحيدة على تحديد وضعيته في سُلّم محيطه .
وما هي الحضارة ؟
هي ثمرة إنسانية تساهم في إنشائها أجيال من جميع أطياف " الإنسان " المذكورة ، وهي في كلّ حين - يقصر أو يطول - خاضعة إلى نسبة المسيطرين على تولّي إدارتها تنظيرا وتطبيقا وترويجا وتسويقا إن خير أو شرّ .
وهو السبب الذي دفعنا إلى الدفاع باستماتة عن ضرورة انتقاء ما يخدم تراثنا المعصوم ، وباستماتة بها بعض اللين إذا تعلّق الأمر بباقي التراث الساكن بسويداء القلب .