نفحات7 ـ نوافذ على الحقّ - التوسّل 2
الرّئيسيـة > نوافـذ على الحـق > التـوسّـل 2

بقلم : محمود سلطاني 07/08/2013

حديث شفاء الصحابي الضرير الذي رواه سيّدنا عثمان بن حنيف رضي الله عنهما دليل على مشروعية التوسّل بالأشخاص الصالحين والإستغاثة بهم عند الملمّات والحاجة .
وهو ، كذلك ، حديث يعطي دليلا آخر على صحة ما استنتجناه من سلوك المنكرين على أهل الله عند طرح أفكارهم . لقد قلنا ، ولا نزال :
- أنّ الحق عند المنكرين هو الإنكار على كلّ ما له علاقة بالتصوّف .
- إعتبار استنتاجاتهم من النصوص هي الصورة المثلى والنهائية للحقّ .
والصحيح أن لا شيء من ذلك صائبا .
سوف نتتبّع خلاصة ما توصّل إليه المنكرون دفاعا عن آرائهم ، ونردّ عليها بطريقتنا الخاصّة من غير خلفيات معوجّة ، كما هي عادتنا دائما .
« عن عثمان بن حنيف رضي الله عنه " أن رجلاً ضريرَ البصر أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: ادْعُ الله أَنْ يُعَافِيَني ، قاَلَ "إِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ لَكَ ، وَإِنْ شِئْتَ أَخَّرْتُ ذَلِكَ فَهُوَ خَيْرٌ" (وفي روايةٍ "وَإِنْ شِئْتَ صَبَرْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ") ، فَقَالَ: ادْعُهُ ، فأَمَرَهُ أَنْ يتوَضَأَ فَيُحْسِنَ وُضُوءهُ، فَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحَمَّدُ إِنِّي تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلى رَبِّي في حَاجَتي هَذه فَتُقْضَى لي، اللَّهُمَّ فشفعهُ ِفيَّ وَشَفِّعْني فِيهِ ، قال: ففعل الرجل فبرأ . »
ونحن التجانيون نؤمن بنفع التوسّل والدعاء بهذا الحديث المرفوع إلى سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وقد أخبرنا التاريخ الإسلامي عن حالات جُرِّبَ فيها وقضيت به حاجات بإذن الله . ومن أبرز هذه الحالات ما رواه الطبراني رضي الله عنه في المعجم الكبير حين قام نفس راوي الحديث ، سيّدنا عثمان بن حنيف رضي الله عنه ، بتطبيق مفعوله أيام الخليفة الثالث سيّدنا عثمان بن عفّان رضي الله عنه مع رجل أراد مقابلة أمير المؤمنين ولم يتسنّ له ذلك ، فكان له ما أراد بعد تنفيذ ما فيه من توجيهات . ولنذكر حديث الطبراني :
روى الطبراني في المعجم الكبير « عن عثمان بن حنيف: أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفّان رضي الله عنه في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه، ولا ينظر في حاجته. فلقي عثمان بن حنيف فشكا إليه ذلك، فقال له عثمان بن حنيف: إيت الميضأة فتوضأ ثم إيت المسجد فصلّ فيه ركعتين ثم قل: اللهمّ إني أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك محمّد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة يا محمّد إني أتوجه بك إلى ربّي لتقضى لي حاجتي وتذكر حاجتك، وَرُح إليَّ حتى أروح معك. فانطلق الرجل فصنع ما قال له ثم أتى باب عثمان، فجاء البوّاب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفّان فأجلسه معه على الطنفسة وقال له: ما حاجتك؟ فذكر حاجته فقضاها له، ثم قال: ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة، وقال: ما كانت لك من حاجة فائتنا.
ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيرًا، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليَّ حتى كلّمته فيَّ. فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلّمته ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أَوَ تصبر"؟ فقال: يا رسول الله إنّه ليس لي قائد وقد شقَّ عليّ. فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ائت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين ثم ادع بهذه الدعوات" قال عثمان بن حنيف: فوالله ما تفرّقنا ولا طال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنّه لم يكن به ضرّ.
»
قال المنكرون : نحن نؤمن بالحديث في المعجم الكبير ، لكننا نشك في رواية الرجل مع سيّدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه . وسبب شكهم هي سلسلتهم البيزنطية التي لا تنتهي من نقد النصوص وانتقاد الرجال . ولسنا هنا ، على أي حال ، لتخريج الحديث لأنه ليس موضوعنا . ثمّ أنّني قرأت ما يثلج الصدر من ردود الغيورين المتمكّنين الذين فضحوا تدليسا ليس بالهيّن من هؤلاء الذين يدّعون تصحيح السنّة وتحقيق المخطوطات وعمل السلف .
لكني ، في مقالي هذا ، سوف لن ألتفتَ إلى قصّة الرجل مع أمير المؤمنين سيدنا عثمان رضي الله عنه ، ولسوف أمضي وكأنّها لم تقع ، ثمّ لن أعالج الموضوع إلا من خلال الحديث الثابت .

ملخّص إنكار المنكرين :
- الضرير طلب الدعاء ، فلا بدّ أن يكون الدعاء مقذّرا في متن الحديث .
- لو كان التوسّل بالجاه كافٍ لتوسّل الضرير بجاه الرسول صلى الله عليه وسلّم في بيته وما كان تجشّم عناء التنقّل إليه .
- طلب الدعاء من الحاضر الحيّ .
- الدعاء خاصّ به فقط لأنّه مذكور ضمن دلائل النبوّة .
- لو كان الدعاء عامّا لاستعمله كلّ العميان ولشُفُوا كلّهم ن وهذا لم يحدث .
وقبل الشروع في الردّ على الإعتراضات ، لا بدّ من توضيح أمريْن مهمّيْن في عقيدتنا :
الأمر الأول : التوسّل بجاه الأشخاص الصالحين هو دعاء .
الأمر الثاني : التوجّه بالجاه ليس توجّها بالذوات البشرية مستقلّة عن علاقتها بربّها الذي منحها مراتبها .
ذكرت هذا ، وأنا أعلم أنّ المعتقد والمنتقد يعرف ذلك . ذكره فقط للتذكير .
قالوا : بما أنّ الضرير قد طلب الدعاء فلا بدّ أن يكون الدعاء مقدّرا في الحديث ، ومعناه : اللهمّ إني أسألك وأتوجّه إليك بـ"دعاء" نبيّك محمد .
وهذا تعسّف في حقّ مفهوم ظاهر من خلال المتن . مفهوم صريح بالتوجّه بسيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم .وما يزيد في يقيننا بصحّة هذا هو التكرار المؤكّد لكفاية ظاهر الكلام . فقد قال :
- بنبيّك .
- نبيّ الرحمة .
- يا محمد .
والتكرار المتتالي علامة وإشارة إلى من خانه الفهم أو سها عنه أنّ المقصود هو المذكور لفظا .
وعند تأمّل مقطع " يا محمد " في الحديث نرى بغير الْتباس أنّه استئناف ٌ يفيد التضرّع ، لكنّه تضرّع على نفس المنهج والنسق . بل أكثر ، لأنه نقلة من مخاطَب إلى مخاطَبٍ آخر . ففي الأوّل كان المخاطَب هو الله بجاه سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وفي الثانية تحوّل الخطاب مباشرة إليه صلّى الله عليه وسلّم في صيغة استغاثة محضة به إلى الله . هو تعدّد لصيغ التوجّه لكن الوجهة واحدة : وهو الله .
إنّ التكرار للإسم والصفات ، والتنوّع في صيغة إصدار الدعاء ليس من محض الصدفة ، أو الحشو ، ولكنّه إمعان في لفتِ القلوب والعقول إلى محلّ قيمة صاحب الإسم عليه الصلاة والسلام من الدعاء حيث أنّه بالقياس إليه كالعمود الفقري بالقياس للجسد بل كالروح .
وإنّ في ذكر اسم " محمد " في الحديث دليلا على أنّ المقصود هو الـ"جاه" لأنّ اسمه الشخصي هو عنوان القرب والإصطفاء ، وبه عُرِف في جميع العوالم وبين جميع مخلوقاتها بصفته رسولا من عند الله . تلك الرسالة التي يؤمن بها لنفسه بنفسه بصفته بشرا مكلّفا . فهو صلّى الله عليه وسلّم محمّد المخلوق الذي يؤمن بمحمّد المرسل من عند الله . وهذا هو الـ"محمد" المذكور في الحديث .
وقول المنكرين أن الضرير ما دام قد طلب الدعاء فلا بد أن يكون الدعاء موجودا بالصفة التي ذكروها ليس صحيحا ، ولا يوجد ما يؤكّده ، خاصة أمام قوّة ظاهر اللفظ في النصّ الشريف .
أمّا الدعاء بالمفهوم المطلق فموجود : إنّه كلّ محتوى الحديث . هكذا بكل بساطة . سبحان الله كيف يركب الإنسان التعسير والتضييق على نفسه من دون طائل .
قال المنكرون : لو كان التوسّل بالجاه يصلح لتوسّل به الضرير في بيته .فلماذا حضر إلى مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ؟
لو شئنا أن نتفلسف مثل تفلسفهم لأغرقنا الدنيا أكثر منهم . من أخبر المنكرين أنّ الضرير لا يؤمن بالتوسّل بالجاه ؟ بل من أخبرهم من أنّه لم يتوسّل أصلا بجاهه صلّى الله عليه وسلّم ؟ طبعا قالوا ذلك لأنّهم - بجهلهم المربّع - يفهمون أنّ القائلين بالتوسّل بالجاه يعتبرونه مرادف للإستجابة . وليس هذا الحقّ في حقّنا . نحن نعتقد أنّ التوسّل بالجاه دعاء مثل الدعاء بغير وسيلة ، قد يُستجاب له وقد لا يُستجاب ، إلا أنّه أرجى وأقرب إلى الإستجابة بفضل المتوسَّل به .
ثمّ أنّ الرجل الذي شقّ عليه ذهاب بصره لم يخرج من بيته لطلب أمرٍ عاديّ يستطيعه كلّ أحدٍ ، ولكنّه خرج ينشد معجزة لعلّة لا تُزال سوى بخارقة . ولا صلة بين حجم ما يطلبه الرجل والتوسّل الشخصي العادي بالرغم من عمق صدقه . وهل يوجد أصدق من ضرير يرفع أكفّه إلى الله ؟
إنّ حضور الرجل إلى مجلس النبيّ عليه الصلاة والسلام هو حضور بديهيّ ، إن شئتم لمؤمن تأدّبا مع نبيّه ، أو لمريض مع طبيبه ، أو لمحتاج مع صاحب الفضل عليه . لا حجّة للمنكرين في هذا على وجوب الحضور عند الدعاء .
وليعلم المعتقد والمنتقد أنّ الحضور واجب فقط في خيال المنكرين ، لأنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يأمر الرجل ليحضر بعد وضوئه وصلاته كي يسمعه أثناء ترتيله الدعاء وحتى تُستوفَى شروطُه المزعومة . بل إنّه في رواية الطبراني قال له : " إيت المسجد " يعني أنّ سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، ومن كان معه ، لم يكن بالمسجد . والدليل الثاني على أنّ الرجل قد دعا وهو بعيد عن المجتمعين قول سيّدنا ابن حنيف : " حتى دخل علينا الرجل " ، يعني أنه - أوّلا - كان بعيدا عن القوم ، وأنّهم - ثانيا - كانوا بمكان يُدخَلُ إليه . فأين هي ضرورة الحضور ليستقيم الدعاء ؟
بل يوجد ما هو أكثر
لقد كان الرجل في مندوحة عن التطبيق الفوري لأمر سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طبقا لما جاء في الرواية التي اعتمدها المنكرون في ردّهم والتي أتينا بها عمدا حتى نقارعهم بأدواتهم . لقد أمره بالوضوء والصلاة والدعاء ولم يحدّد له وقتا ولا مكانا . ولو كان الحضور والإسماع ضروريّا ليصحّ الدعاء لكان الرسول صلّى الله عليه وسلّم أمره أن يحضر إلى مجلسه ويُسمِعَه ، وما كان ليتركه أمرا مفتوحا قد يحدث ويؤخّره الضرير أو يقوم به في مكان بعيد كأن يتوضّأ ويصلّي ويدعو في بيته . إذنْ فهو دعاء شُرِّعَ بخصيصة إمكان التوسّل به في غياب مشرّعه عليه الصلاة والسلام .
ثمّ أنّ هناك فرقا بين المبادرة الفردية بالتوسّل بجاه الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأمْرِه هو بالتوسّل . في الأولى هو دعاء قريب من كلّ الأدعية المعتادة قد يأتي بعدها الفرج وقد يتخلّف ، أمّا في الثانية فالإستجابة مضمونة والنتيجة محسومة .
المنكرون يقولون : إنّه دعاء خاصّ بذاك الضرير ولا يتعدّاه إلى غيره لأنّه مدرج في دلائل النبوّة .
المدرج في دلائل النبوّة هي المعجزة . لكن صورة المعجزة لا يجب أن تحجب عنّا صورة التشريع في الحادثة . إنّها خصوصية الحدث وعموم الحكم . فالدعاء بتلك الصيغة بارز من بين شفتيّ المشرّع المعصوم عليه الصلاة والسلام . والدليل على أنّه عامّ عملية " التلقين " من غير تقييد . نعم ، نحن نؤمن بالخصوصيات والتخصّص ، بل نحن من يقول بها أكثر من غيرنا ، وما الأذى الذي ينالنا ونكتب لصدّه دفاعا عن منهجنا إلا منه . فلو كانت صيغة التوسّل الملقَّنة للضرير رضي الله عنه خاصّة به لكان صدر منه صلّى الله عليه وسلّم ما يناسبها من قيود . وفي السُّنة كثير من الأحداث والوقائع ظاهرها خصوصيّ لكنه عامّ ، وما هو خصوصيّ فعلا لكنّه مشفوع بحدوده . فقد سألت سيّدتنا أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : « أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول فيها قال قولي اللهمّ إنّك عفوٌّ تحبّ العفو فاعف عنّي » . ولم يقل أحد أنّه دعاء خُصّتْ به أمّ المؤمنين رضي الله عنها وأنّه لا يصلح لغيرها أن يدعو به سواء في ليلة القدر أو في غيرها من الأوقات .
وقال سيّدنا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه : « كان الناس يسألون رسول الله عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يُدركني ». وهي صورة مثلى في الإنفراد بالأمر ، أيّ الخصوصي ، لكن المعمول به من كلّ الأمّة هو تلقّي كلّ إجابات سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم له على أنّها توجيهات شرعية عامّة .
وانظر حين كان الإختصاص اختصاصا فعلا ، فإنّ نفس الصحابي الجليل رضي الله عنه ، سيّدنا حذيفة ، قد ضبط له الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام حدوده بعدم البوح لأحد عمّا علمه عن المنافقين . نفس القاعدة تنطبق على ما ناله سيّدنا أبي هريرة رضي الله عنه من وعائيّ العلم بين وجوب الإفشاء ووجوب الكتمان .
بل نذهب إلى أكثر ممّا قلنا . هناك ما هو خصوصي بالأمر الصريح لكنّ المختصَّ به باح به في آخر حياته . ففي صحيح مسلم حدثنا أنس بن مالك : « أن نبي الله صلى الله عليه وسلم ومعاذ بن جبل رديفه على الرحل قال يا معاذ قال لبيك رسول الله وسعديك قال يا معاذ قال لبيك رسول الله وسعديك قال يا معاذ قال لبيك رسول الله وسعديك قال ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار قال يا رسول الله أفلا أخبر بها الناس فيستبشروا قال إذاً يتكّلوا فأخبر بها معاذ عند موته تأثما » . وتأثّما تعني أنّه رضي الله عنه خاف أن يلحقه الإثم من عدم تبليغ علمٍ اكتسبه . وقد خاض الكثير في مسألة أسباب البوح هذه ، لكن الشيء الأكيد هو أنّ لسيدنا معاذ رضي الله عنه أسبابه الوجيهة . وليس ذلك ما يعنينا . ما يعنينا هو الأهميّة القصوى التي يوليها الإسلام لتعميم المنفعة المستوحاة من سلوك مولانا معاذ إلى الدرجة التي يتحوّل به الخاصّ بنصٍّ صريح إلى عامٍّ جالبٍ للبشرى .
فإن كان سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد وضع لكلّ أمر خصوصيّ قيوده ، فكيف لا يضع لهذا الدعاء قيودا توضّح لمن سيأتي من الأمّة أنّه مقتصر على شخص بعينه ، خاصّة حين يكون مصدرا محتملا للشرك ( كما يراه المنكرون ) ؟ لا غموض في ما يخصّ صحّة العقيدة في الإسلام ، وما دام سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يصرّح بالتخصيص فمن سوء الأدب إلصاقه به اعتمادا على الظنّ .
ومن الأدلّة القاطعة على ازدواجية الحدث : معجزة وتشريع ، أنّه صلّى الله عليه وسلّم قد تصرّف في حالة من نفس الجنس تقريبا ، وهي ردّ عين سيّدنا قتادة بن النعمان رضي الله عنه التي فُقِئتْ في المعركة . لكن فيها استأثر عليه الصلاة والسلام بالدعاء مطلقا ، فكانت حقّا حالة خاصّة به عليه الصلاة² والسلام من دلائل النبوّة والإعجاز الذي لا يُعطى إلاّ لرسول . فلماذا لم يدْعُ الرسول الأعظم صلّى الله عليه وسلّم للضرير مثلما دعا لقتادة ؟ وهل حصول هذا الفرق بين الحالتين للعبث ؟ لا شيء يجري اعتباطا في الشرع ، ولكنه تقديرٌ محكَم وفي محلّه .
قال المنكرون : لو كان الدعاء للرجل عامّا لاستعمله جميع العميان ولشفوا كلّهم . وما دام لم يقع فهو الدليل على أنّه خاصّ بالضرير الصحابي لا يتعدّاه إلى غيره .
لقد قلنا أنّ الحادثة ينطبق عليها ما ينطبق على كلّ حوادث التشريع في الإسلام ، وهي خصوصية الوقوع وعموم الحكم . فالدعاء بجاه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وبصفاته الصادر عنه نفسه عليه الصلاة والسلام دخل منذ لحظة بروزه وإلى يوم الدين في مكوّنات النصوص الشرعية من السنّة . وكون عدم تكرار نتيجته الخارقة مرّة أخرى - على افتراض عدم تكرارها أو عدم إمكانها - لا دليل منه على أنّ غير صاحبه لم يستعمله ، أو أنّ استعماله ممنوع . إنّه دعاء مبارك يتوسّل به المسلمون راجين من الله فيه ما لا يرجونه من دعائهم العادي . فأين الشرك ؟
ولمسائل الإستجابة لله في خلقه شؤون وأيّ شؤون .
فسيّدنا المصطفى ، وما أدراك من هو سيّدنا المصطفى ، صلّى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه ، الذي جرت المعجزات العظام على يديه ، وهو خير من وقف بباب المولى عزّ وجلّ داعيا بما يليق بذلك الباب من أدب وتذلّل ، وخير من استجيب له من بين الخير جميعا ، لم تُلبَّ بعض دعواته لأمر يعلمه المانع المطلق سبحانه وتعالى . فعن عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ , عَنْ أَبِيهِ , قَالَ : « كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَسْجِدِ بَنِي مُعَاوِيَةَ فَدَخَلَ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَامَ يُنَاجِي رَبَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، ثُمَّ انْصَرَفَ , فَقَالَ : سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ ثَلاثًا فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً ، سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَلا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ ، وَلا يُهْلِكَهُمْ بِالسَّنَةِ ، فَفَعَلَ ، وَسَأَلْتُهُ أَلا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا " ». فالذي يدعو بالجاه أو بغيره لا يدعو إلا الله أوّلا وآخرا ، والإستجابة من أمور الله تعالى يمنحها لمن يشاء ويصرفها عمّن يشاء ، لكنه عزّ ذكره جعل لنا وسائل خير من وسائل وأسبابا أفضل من أسباب ، وسبُلا أرجى من أخرى وأقرب للإجابة تفضّلا منه . وانطلاقا من هذا المفهوم الراسخ نذكّر المنكرين بأنّ السرّ الأوّليّ المودوع في الحديث باقٍ إلى يوم القيامة ، وما المتغيّر إلاّ أحوال الأشخاص الذين يدعون به ، ومنها تأتي الإستجابة بإذن الله . فمن كانت أحواله على نمط العارفين أصحاب اليقين وحسن الظنّ الكامل في الله فإنّ الحاجة المراد قضائها تُقضى ولو كانت تتطلّب خارقة ، ومن كانت أحواله متقلّبة بين بين فبقدر سموّ همّته ونهوضها يكون عطاؤه ، ومن كان منكرا مكذّبا مذبذبا فليس له سوى الهواء جزاء وفاقا لركونه للشيطان وللهوى .
المنكرون يقولون أنّ " الشفاعة " المطلوبة في الحديث هي دعاء . ونقول : نعم ، إنّها دعاء . دعاءٌ سبقه توسّلٌ بجاه وقدر سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم . وهل التوسّل إلا دعاء؟ المنكرون لا يعتدّون سوى بالدعاء المصاغ لغويّا ، لكننا نزيد عليهم بكوننا نؤمن إيمانا جازما أنّ جاه مولانا المصطفى عليه الصلاة والسلام هو ذروة الدعاء ، وخير سبيل وأقصره إلى حضرة الكريم الوهّاب .
قال المنكرون : إنّ الصوفية يتجاهلون ما جاء في آخر الحديث ، وهو " وشفّعني فيه " . وحسب فهمهم فإنّ المقصود منها هو دعاء الصحابي الضرير رضي الله عنه للرسول صلّى الله عليه وسلّم كي يأذن الله له في أن يشفع .
يعني أنّ شفاعة سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحتاج لكي تتمّ إلى من يشفع فيه ؟ وهذا هو الإفلاس الفكري الذي عوّدنا عليه المنكرون في كلّ ما يصدر عنهم ، ويختمون به مسرحياتهم على الدوام .
والأمر سهلٌ جدّا كي يُفْهَمَ .
فإن كان أحبّ الخلق إلى الخالق عزّ وجلّ يحتاج إلى شفاعة الشافعين كي يُؤذَن له بالشفاعة ، فمن المنطق أن يحتاجها غيره . فحين يسأل الضرير ربّه شفاعة الإذن للمصطفى عليه الصلاة والسلام كي يشفع فيه ، فهو لمن يشفع له في شفاعته أحوج . لو اتّبعنا هذا الطرح فسوف نقع في حكاية الرجلين الذيْن يخافان من الظلمة وسهرا ذات ليلة إلى ساعة متأخّرة ، وحين أرادا العودة لبيتيهما تطوّع أحدهما لإيصال صاحبه كي يؤنسه أثناء الطريق ، إلاّ أنّهما وقعا في ورطة كيفية رجوع الآخر ، فقرّر الصاحب أن يصطحب صديقه ، وعند الوصول اصطدما بنفس المشكلة الأولى : كيف يعود المتطوّع في كل مرّة ؟ وبقيا على حالتهما إلى الصباح . فهل هذا ما يريده المنكرون من فهمهم ؟
إنّ سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يحتاج لأحد أبدا سوى الله ، وإنّه الفاضل الذي يستحيل أن يكون في يوم مّا مفضولا حتى يشفع فيه أحد ليمارس صلاحيات مُنِحتْ له وحده من دون أولي العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام فضلا عمّن هُم دونهم .
ربّما اغترّ المنكرون بظاهر بعض الأحاديث التي ينزل سيّد الخلق عليه الصلاة والسلام تواضعا إلى إبداء الحاجة إلى أتباعه من أمّته كأن يغتنم بركتهم ، أو يطلب عدم حرمانه من دعائهم ، أو يأمرهم بطلب مرتبة المقام المحمود ، أو أن يطمئن الإعرابي الذي جلس يرتجف في حضرته بأن قال له أنّه ابن عربية كانت تأكل القدّيد ، وغيرها من هذه الأفعال والأقوال التي صدرت عنه . لقد كان في كل قول وفعل يعلّم المؤمنين بما يبديه من تلك الصفات ويعرض نفسه على أنّه القدوة حتى يُحتذى حذوه وليس لأنّه يفتقر فعلا إلى معونةٍ أو بركة أو شفاعة أحد أو أنّ مجلسه فعلا خالٍ من الهيبة والجلال المورّث للرعشة والقشعريرة . كانت مهمّته نشر الحقّ وقوله ، وكانت تلك الأفعال هي أفضل سبل توصيله بعيدا عن الإعتبارات المجاملاتية المشروعة وهي في أصدق صورها عند غيره . فحين تتطلّب خدمة الحقّ اعتماد قوّة الفوارق بينه وبين الخلق فإنّه لا يتردّد في إظهارها ومخاطبة الناس من أعلى منابرها عليه الصلاة والسلام . فقد قال للذي ناداه بأن يعدل : ويلك من يعدل إذا لم أعدل . وقال : أنا سيّد ولد آدم ولا فخر .
وهكذا كان حين قال صلّى الله عليه وسلّم : وشفعني فيه .
وأخيرا ..
ما لاحظته في ردود المنكرين أنّه لا توجد نقطة اتّفاق واحدة بيننا . فهُم يهاجموننا بموجب مهمّة وحيدة واضحة وهي معارضة الصوفية ، ومجابهة كلّ ما يتبنّوْنه ، ثمّ بعد ذلك تُفصَّل الأدلّة بكيفية لا تتعارض والهدف الأصلي ولو بالتحايل والتدليس . هل يُعقل أن لا يصيب الملايين منذ عهد النبوّة الحقَّ ولو في نقطة واحدة في فهم الحديث ؟ وهل يعقل أن تمرّ العصور تلو العصور والعلماء الحقّانيون يتقلّبون في آرائهم وإصداراتهم بين الإئتلاف والإختلاف ثمّ فجأةً تنقلب السنن رأسا على عقب ، ويأتي من يدّعي احتكار الحقّ كلّه وحرمان غيره منه ؟ ألهذه الدرجة تعطّلتْ أدوات الفهوم في الأمّة كلّها وانفجرتْ عبقريّةً ونفاذاً عند هؤلاء وحدهم ؟ لعمري لقد سمعنا عن فلتات الزمان ، لكن بمثل هذا ، لا . إنّه بالأحرى زمن الفلتان .