بقلم :
محمود سلطاني
عادة ما يغضب الإنسان إذا ما استُهزِئ به ، لكنني لا أحسّ بأيّ حرج عندما يتندّر المنكرون بنا - نحن الطرقيون - وينعتوننا بـ" القبوريين " لأنّ هذه الصفة تشرّفنا إذا كان صاحب القبر الذي نُنسَب إليه رجلا كسيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو كشيخنا سيّدي أحمد التجاني رضي الله عنه . فنعمت القبور قبورهم ، بل نعمت القصور قصورهم ، بل نعمت الرحمة الربانية وبركته عندهم ومن حولهم .
وكلمة " القبوريون " تعني عند المنكرين " المتبرّكون بقبور الأنبياء والأولياء ، والمتوسّلين بجاههم عند الله لقضاء الحوائج بكلّ أنواعها " . وهذا في نظرهم شركٌ صريح ، وطامّة عظيمة ألمّت بالأمّة لأنّها مسّتْ صميم عقيدتها في توحيد ربّها عزّ وجلّ . وفي نظرهم أيضا أنّه لا وجود لدليل شرعي على صحّة التوسّل بجاه الأشخاص مهما كان قربهم من الله ، وأيّا كانت رتبتهم عنده .
وقد انبرى الفحول من علماء الصوفية ورجال الطرق الأفاضل للردّ ، وقدّموا الدلائل الدامغة المفحمة للسان كلّ منكر ، واطمأنّ أصحاب القلوب السليمة بتلك الردود وأُثلِجت صدورهم ، وتزوّدوا بدورهم بحصون العلم والمعرفة لتمكين من لم يستمتع بعد من معين الصواب الدافق أن ينال نصيبه من جهة ، وللمرابطة على ثغور الحمى للذود عن الحق ، وصرف الذين لا همَّ لهم سوى الجدال واللجج من جهة أخرى .
لكنّي سأتناول الموضوع بطريقتي ، وبأدواتي الشخصية ، وأعرض رؤيتي من زاوية لا أدّعي أنّ أحدا قبلي لم يتطرّق للموضوع منها ، لكنها على كلّ حال رؤية بتفاصيل مختلفة ولو اشتركت مع غيرها في المرصد .
لن يكون سؤالي : ما هي الوسيلة ؟
لكن سؤالي سيكون : لماذا أتوسّل بزيد ولا أتوسّل بعمرو ؟ لو كان عماد توسّلي صفة " الخَلْقِية " أو صفة " الإنسانية " لما احتجْتُ إلى اختيار زيد وتركِ عمرو ، ولكان الحاضر الأوّل منهما هو الذي يفي بالمقصود .
لماذا لا أذهب إلى الإسكافي إذا أردت شراء رغيف خبز لغذائي ؟ ولماذا لا أحمل فرشاة أسنان عند توجّهي إلى حرث قطعة أرض ؟ ولماذا لا أتوجّه إلى ملعب كرة القدم إذا أحسست بوعكة صحّية تتطلّب علاجا فوريّا ؟
والجواب هو أنّ " اختصاص " كلّ جهة يمنحها " خصوصية " تُطلَبُ بمقتضاها من كلّ من لا يمتلكها ضرورةً أو اختياراً .
والمنكرون يؤمنون بهذا في أمور الدنيا ومصالح العباد المادية ، ولكنهم ينفونها مطلقا في الأمور الدينية . أمّا نحن فلا نرى أيّ ضرر يصيب العقيدة إذا الْتجأنا إلى صاحب الخصوصية الدينية كما نلتجئ مطمئنّين إلى أصحاب التخصّصات المادية . ضالّتنا هي الموهبة المتوفّرة في " محلٍّ " لا الـ" محلّ " نفسه ، والقصد من الإلتجاء إلى " الموهبة "هو الوصول إلى غاية محدّدة ، وأسمى تلك الغايات هي الوصول إلى الله الواهب .
ولنكن منهجيين .
قال الله سبحانه وتعالى :
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا
(1) .
فنحن إذن أمام مهمّة متلخّصة في ثلاث نقاط :
- طريق يُقطع .
- بداية للطريق بالأسباب .
- نهاية للطريق وعندها الوصول إلى الله .
فكلّ طريق يتأكّد لك أنّ الله موجود عند نهايته يصبح وسيلة مشروعة . وهذه الوسيلة المشروعة قد تكمن في عملٍ ، وقد تكمن في خصوصية شخص .
ففي صحيح مسلم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم :
«
إنّ الله عزّ وجلّ يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضتُ فلم تعدني قال يا ربّ كيف أعودك وأنت ربّ العالمين قال أما علمتَ أنّ عبدي فلانا مرض فلم تعده أما علمت أنّك لو عدته لوجدتني عنده يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال يا ربّ وكيف أطعمك وأنت ربّ العالمين قال أما علمت أنّه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما علمت أنّك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني قال يا ربّ كيف أسقيك وأنت ربّ العالمين قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما أنّك لو سقيته وجدت ذلك عندي
» .
شاهدنا في هذا الحديث القدسيّ العظيم هو عبارة «
لوجدتني عنده
» . هي " عندية " بلا تكييف ، لكنها " عندية " خاصّة قطعا ، ولو لم تكن كذلك لما ذكَرها إذ أنّها في مفهومها العادي مكفولة لجميع الخلق . فالله سبحانه وتعالى يلفتُ انتباهنا إلى أنّ " مَرَضَ " فلان قد مَنَحَه رحمة وحظوة خاصّة منه إلى درجة أنّه تميّز عن غيره من الأصحّاء ، والدليل أنّ المقصّر في زيارته قد فوّتَ على نفسه فرصة " إيجاد الله " فاستحقّ لومه يوم القيامة . هذا المريض - ومثله الظامئ أو الجائع - تحوّل إلى مصدر ربحٍ لكلّ من يقصده ويخدمه طيلة فترة ابتلائه الذي أورثه " معيّة " الحقّ تعالى . لقد كان هذا الشخص مثل صاحبه في ظروف الرخاء والعافية ، وهو بعد شفائه وريّه وشبعه فَقَدَ تلك الخصوصية وعاد كما كان . ولو قُدِّرَ لشخص آخر من الذين زاروه وأعانوه مثلا أن يصيبه كربٌ من قبيل ما أصابه لنال هو الآخر تلك الخصوصية ، ولأصبح الله من لحظتها " عنده " .
وهذا الدليل الدامغ :
- أوّلا على مشروعية التوسّل والإنتفاع بخصوصيات الأشخاص .
- ثانيا على أنّ الخصوصية المُودَعَة هي مناط التوسّل لا الأشخاص بذاتهم ولذاتهم .
فإذا ضُمِنَ وجود الله الخاص مع صاحب شدّة مسلم ( وقد يكون حتى لغيره ) ، فكيف يجرؤ فِكْرٌ أو لسانٌ أو قلمٌ على نفيه لحبيب الله وسيّد خلقه عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم ؟ وإذا كنتُ سأجد المولى تبارك وتعالى عند عبيده العاديين في بعض أحوالهم الغير عادية فكيف يُنْكَر عليّ حين أقول وأُقِرُّ أني سأجده عند عباده المتبوّئين لأعلى قمم الإجتباء بأحوالهم التي كلّها خصوصيات وترقّي ؟ مهما صادفتَ فلن تصادف أعظم من هذه الإساءة للأدب مع سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأحبابه رضي الله عنهم .
وسوف أقدّم مثالا يقرّب حقيقة الخصوصية وتأثيرها . وقد اخترته من صميم الحياة العصرية وبطرح علميّ .
هناك أمر معروف في العلوم الإجتماعية ، وهو أنّ الشخص الواحد يتقلّب أثناء ممارسة حياته في مجتمعه بين " حالات " عديدة تكثر أو تقلّ ، وتسمّى اصطلاحا " حالة " Statut . وهذا الجانب من العلوم له أهميّة كبرى في حسن التواصل مع الناس La communication لأنّه كلّما أُحْسِنَ التفريق بين مختلف " حالات " الشخص كلّما كان التواصل والخطاب أفيَدُ وأعلى مردودية .
تصوّر معي رجلا ينتمي إلى دولة مّا ، يشغل منصب مدير عامّ في شركة مهمّة ، متزوّج وله أطفال يدرسون ، ولهذا الرجل نشاطات اجتماعية وهوايات شخصية يمارسها في النوادي المختلفة .
هذا الرجل بالنسبة لجميع مواطنيه هو مواطن يخضع لكلّ القوانين التي تُسيّر الشعب الذي يعيش بين ظهرانيه . إنّها حالة " المواطنة " Statut de citoyen . فإذا تعدّى عتبة سور الشركة تحوّل بمقتضى بنود قانونها إلى حالة " مدير عامّ " Statut de PDG يأمر وينهى ، ويمضي ويقرّر ، ولو نظر شزرا إلى أحد العمّال لتكوّم في مقعده كالقطّ ، ليس خوفا من قوّته إذ لو قُدِّر لذلك العامل أن يصارعه لسحقه سحقا ، ولكن الخشية من صلاحياته المخوّلة من القانون .
وانظر إليه بعد يوم حافل بالعمل والجدّية يجتاز باب البيت حيث الزوجة والأولاد . إنّه الآن في حالة " ربّ أسرة " Statut de chef de famille ، وترى عجبا من تصرّفاته التي لا تمتّ بصلة إلى ما كان يظهره في مقرّ العمل أو الشارع وكأنّه إنسان آخر .
وفي الحقيقة هو نفس الإنسان إلاّ أنّه الآن تحت حكم خصوصية مغايرة وهذا هو الذي صنع الفرق .
وإذا كان عضوا في نادي رياضي فإنّه يتوجّه يوم عطلته إلى ناديه ، ويستسلم لقوانينه وضوابطه ، وإلى أوامر مدرّبه الصارمة ، ويكون عندئذ قد تقمّص " حالة الرياضي " Statut d'athtlète السميع المطيع .
ونتصوّر الآن أنّ هذا المدير قد امتدّت يده إلى خزينة الشركة - لا قدّر الله - واختلس مبلغا من المال ، فإنّه بمجرّد صدور أمر إلْقاء القبض عليه ينتقل إلى حالة مجرم Statut de criminel تسيّره قوانين العقوبات الجنائية ، ويبقى على حالته تلك حتى يُنهي مدّة عقوبته . فإذا ما أُطلق سراحه عاد إلى حالة المواطنة الشريفة وهي الحالة الإفتراضية .
هذا العلم ينطبق على جميع الخلق كلٌّ حسب وضعه في الحياة . وأنت - أيّها القارئ الآن - يمكنك أيضا أن تحدّد جميع " حالاتك " التي تميّزك في مجتمعك .
وينطبق الأمر كذلك على النبيّ والرسول لأنّه خلق من خلق الله ، إلاّ أنّه يختلف عنهم اختلافا نوعيّا مباشرة بعد تكليفه بالرسالة الإلهية ودخوله في " حالة النبوّة " Statut de Prophète لأنّها " حالة " دائمة تلازمه حتى بعد بعد الحياة الدنيا . فالنبيّ أو الرسول - وعلى نفس المنوال الوليّ - يمارس حياته العامّة والخاصّة في آنٍ واحد من غير أن تشغله هذه عن تلك ، أو تلتبس عليه الأمور وتتداخل ، وذلك من عطاء الله الخارق لمن يشاء من عباده . وإلى ذلك أشار سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمّا قال
«
إني تنام عيناي ولا ينام قلبي
» ،
إذ أنّه بالرغم من سريان سنن الله العادية على وجوده الجسديّ فإنّه يستمرّ بالتوازي في الصحو الروحي بالحضرة الإلهية المقدّسة . إنّه بمقتضى هذه الحالة يكلّم الله تعالى كما وقع لسيّدنا موسى عليه الصلاة والسلام ، ويرى الله كما وقع لسيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، ويُحظى بكلّ أوجه الوصل الربّاني الذي لا ينقطع طرفة عين . والمتوسِّل بالرسول أو بالوليّ إنّما يستغلّ تلك المزيّة العظمى الممنوحة : العندية والوجود على غرار ما وقع للمريض والعطشان والجائع مع مراعاة الفوارق المتمثّلة أوّلا في ديمومة تلك العندية وثانيا في انعدام التناسب والنسب بين مرتبة العامّة وأهل الخصوص .
الضالّة هو الله سبحانه ، وحيثما وجدته فهو السبيل القويم ، وإذا كان المولى عزّ وجلّ دائم الوجود والتواصل مع الرسل عليهم السلام ومع الأولياء والصالحين رضي الله عنهم فَهُمْ بلا شكّ أمثل السبل للوصول إلى الله ، ويصبح الإلتجاء إليهم ، واللياذ بمقامهم الشريف من آكد الواجبات لمن له عقل وأراد الربح الأكيد .
والله ورسوله أعلم .
- سورة العنكبوت ، الآية 69 .