إنّ هذا الأزهري لو لم يرتق منبرك ما كان أهلا للخطاب لأنّ الله علّمَنا أن نُعرض عن اللغو ونقول سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين .
وما ظَنَّ أنه يَصِلُ به إلى النَّيْلِ مِنْ مقام الإمام التجاني رضي الله عنه فهو فيه طائش السهم ، خائب الفأل . فقد علمت أن إخوان الإمام من الأولياء والعارفين ، وساداتهم من الصحابة والمرسلين لم تقصر عنهم الألسنة في مختلف الأزمنة ، ولهم في رسول الله إسوة حسنة ، فقد أوذيَ صلى الله عليه وسلم ممن لا يبوء بشسع نعله ، وأجاب عنه المؤيد بروح القدس ، شاعره حسان رضي الله عنه بقوله :
أتهجوه و لستَ له بكفء فشرُّكما لخيركما الفداء
ولكن لا يسعني مع مثلك إلاّ أن أبسط لك بعض البسط فيما غمّ عنك فيه وجه التأويل من الأقاويل عسى أن يصلح الله بينك وبين بني أبيك ، فما أنت إلاّ حسيني عثر في حَسَنِي ، وما القوم الذين ظننت بهم ما ظننت ، وعلّقت عليهم ما علّقت إلاّ مستقبلون للقبلة التي تستقبلها ، تالون للآيات التي تفسرها ، تابعون في عقائدهم للأشعري والماتريدي ، ومقلدون في عباداتهم ومعاملاتهم لأبي حنيفة أو مالك ، وليس لهم من نِحْلة ابتدعوها ، فلا تَعْجَلْ عليهم وأرفق ، فالرفق شأن العلماء العاملين .
إن جميع ما أنكر من الأقوال التي تنسب للإمام التجاني رضي الله عنه لا تعدو واحد من ثلاثة أنواع : ما أسيء فهمه ، وما حُرِّف نصّه ، وما دُسّ من أصله .
فمما أسيء فهمه مسألة تكفير الفوائت ، وقد اسلفت لك ما يكشف سحابة الشبهة عنها . ومسألة الزيارة وقد نقلت لك في الحاشية القول الفصل فيها مِنْ أوثق كتاب لدى الأحباب
1. وما دخله التصريف حتى كاد يلحق بالتحريف نسبة صلاة الفاتح إلى الكلام القديم ، فإنّ نصّ العبارة المروية عن الشيخ رضي الله عنه فيها " إنها من حضرة الغيب " ، ولقد سأل بعض التلامذة أحد خلفائه أهي من كلام الله القديم فأعاد له عبارة الشيخ " إنها من حضرة الغيب " اهـ . ولكن بعض من نقلها تنقل فيها تنقّلَ الفهم إلى المراد من قولك كثير الرماد ، فانتقل من حضرة الغيب إلى الإلهام ، ومنه إلى الوحي الإلهامي ، ومنه إلى الكلام القديم ، وأنت خبير بأن للصوفية في الوحي الإلهامي كلاما غير مردود .
فمن يعتقد أنها تُسَامِي القرآن منزلة أو أجرا ، أم من يقول أنها أعظم منه ذكرا ؟ معاذ الله أن نقول هجرا .
قد نقل الصاوي في شرحه لصيغ الصلوات عند الكلام على صلاة الفاتح ما نصه : " وعن بعض سادات المغرب - يعني الشيخ التجاني رضي الله عنه - أنها تعدل ست ختمات من القرآن . وهذا القول ـ إنْ صَحَّ ـ يجب تأويله " . اهـ .
ألم تكن أيها الرشيد العزيز أحق بهذه النزاهة وأهلها ؟ حاشا أن يسرّك خروج الإمام التجاني والتجانيين عن السّنة ، وحاشا أن ترضى بالحكم عليهم بذلك وأنت تَجِدُ لبراءتهم سبيلا .
فإذا أمكن فَهْمُ كونها من حضرة الغيب أنَّ من جَرَتْ على لسانه أُلْهِمَهَا إلهاماً كما بيّنّا ، وأمكن تصور تعديلها بالقرآن في الأجر بالنسبة لمن عجز عن التلاوة لعدم إمكان الحفظ أو لمنافاة الحال للتلاوة على حدّ معادلة الإخلاص لثلث القرآن ، ومعادلة التسبيح والتحميد والتكبير دبر الصلوات لما يأتيه الموسرون من أفعال البِرِّ ويعجز عنها الفقراء ، ومعادلة من يجلس في مصلاه بعد الصبح إلى طلوع الشمس لعمرتين كاملتين .
ثم ترجح هذا التأويل بأنّ الشيخ رضي الله عنه شدّد الوصية بالقرآن على من يتقنه حتى قال من لم يقرأ حزبين من القرآن على الأقل كل ليلة كان من الذين اتخذوا القرآن مهجورا . إذا أمكن التأويل بما قررنا ، وترجح بما نقلنا ، ففيم اللّجاج وركوب الإعوجاج شهوة في فَتْقٍ بين المسلمين لا يُرْتَق حتى تستباح الأعراض ، وتستبدل الموالاة بالإعراض ، وغير ذلك أولى بالمؤمنين ؟
أوَلَيْس من بادئ التأويل ما أكبره الكاتب من تجلي الذات الأقدس في الحضرة النبويّة ؟ أفيجهل مسلم أنّ الظاهر محال ، أو يخفى على ذي نور من العقل ـ وإن كان ضئيلا ـ أن العبارة من باب تجلّي الصانع في أكمل مصنوعاته ، والكاتب في أبدع تحريراته .
وأما مسألة رؤيته عليه الصلاة والسلام يقظة فأنت خبير بأنها من قبيل الجائز العقلي ، المؤيد وقوعه بظاهر النقل . فإنك لا تجهل حديث الصحيحين :
«
من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي
»
. فإن كنت تصرفه عن ظاهره ابتغاء تأويله فجمهور عظيم سواك مستمسك بظاهر الرواية ، يقول قول ابن أبي جمرة في تعليقه عليه " اللفظ يعطي العموم ومدعي الخصوص بغير مخصص منه صلى الله عليه وسلم متعسف " .
على أن الكل مجمعون على أنه صلى الله عليه وسلم لا يُلْقِي لرائيه ما يخالف الأحكام الظاهرة التي استقرت عليها الشريعة الطاهرة ، أما نقل فضائل الأعمال ومقامات الرجال فما به من بأس ولا التباس ، وغاية ما فيه إذا تقبل الخبر قوم ولم يسكن إليه آخرون أن يقول الآخذون به للممسكين عنه قول الشاعر للمنجم والطبيب - والخطاب لغيركم -
إن صَحَّ قولكما فلستُ بِخاسر أو صحّ قولي فالخسار عليكما
وأما مسألة التنويه بشيخنا رضي الله عنه يوم القيامة فإنها فرع مسألة ختم الولاية التي ترجع إلى عهد الترمذي الذي روى فيه أحاديث كانت موضوع ردّ وقبول ، وعموم الصوفية مؤمن بها ، وصرّح بعضهم بالوصول إلى ذلك المقام ثم لم يلبثوا حتى عُرِف عنهم الرجوع ، وأشهرهم الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي قدس سرّه ، فقدْ صرّح في الفتوحات بنيلها ، ثم تبيّن له خلاف ذلك ، فألّف رسالته عنقاء مغرب في ختم الأولياء وشمس المغرب ، وعيّن مستقره بفاس ، وصرّح بكنيته أبي العباس ، وأنه مكتوم الإسم ، وذَكَرَ عنه هذا التنويه في القيامة . فلمّا أخبر إمامنا أبو العباس أحمد التجاني رضي الله عنه ببلوغه ذلك المقام كان مصداقا لهذا الكلام ، فإن آمن بذلك أحد فإنه لم يصادم آية قرآنية ولا سنة نبوية ، إذ ليس فيهما نفي للمسالة ولا تكذيب لمدّعيها ، وإن توقف في ذلك متوقف فما عليه إلاّ بخويصة نفسه .
أما الرد بمثل قذارة ذلك الكاتب الذي يُعَيّر بالأعراض البشرية والطريق التي مر منها الرسل الكرام فهو خروج عن سنن الآداب في الكلام ، وحسبنا ما أدّبنا الله به في قوله :
كانا يأكلان الطعام
. وهل يلتزم هذا الكاتب عجرفته في قوله صلى الله عليه وسلم :
«
كنت نبيا وآدم بين الماء والطين
»
؟ وحسبي من تهافته استكبارُهُ ما يأتي من خزائن الفضل وتشبيه ذلك بأعظم ميزانية في العالم ، فكأنها كلمة يريد أن يُضحك بها القرّاء ، وأنت خبير بمن يلقي الكلمة ليضحك بها الجلساء ، ولولا ذلك القصد ما كان لِذِكْرِ الميزان من محل ، والله يقول :
فلا تعلم نفس ما أخفيَ لهم من قُرّة أعين
، وقال :
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة
، وهذه الكثرة لا يعادلها ميزان .
إذا تذكّرت قوله صلى الله عليه وسلم :
«
يعطي العامل منهم أجر خمسين منكم فقالوا : منهم فقال : بل منكم لأنّكم تَجِدُون على الخير أعوانا
» .
إذا تذكّرت هذا الحديث الذي وعد العامل ممن يأتي في آخر الزمان ويدرك الفتن أجر خمسين ممن يسمع الخطاب النبوي ، وأنت تدري من هم ، لم تستنكر نَيْل المقصرين ثواب الكاملين ، أو على الأقل لا تكفّر من يقول بذلك .
ليس من قصدي الحجاج والإستدلال لأنّ شرط ذلك ـ كما لا يخفي عليك ـ عدم إيحاش أحد المتناظرين قرنه ، وأن تجتمع عزيمتاهما على إظهار الحق بقطع النظر عمن بِيَدِهِ يكون .
وما رأيتُه في المنار لم يستوفِ تلك الشروط ، غير أني عهدت منك الإنصاف والنزاهة على المكابرة ، وظننت أنك اعتمدت مغرضا مجازفا حَسَّنْتَ به ظنك فنالك ما يندر من الجواد ، فأردتُ أن أبيّن لك بما بسطت أنّ إمامنا رضي الله عنه ليس كما ذكر لك ، وأن الأمر أيسر مما أزعجك ، وأن أتباع هذه الطريقة الشهيرة على بيِّنَة من ربهم وبصيرة ، وأن الرسالة المحررة شرارة لهب يتّقدُ منذ حَوْلٍ أو يزيد بالمغرب بين الشيخ النظيفي وخصومٍ له طمعوا في مجلّتك الواسعة السمعة فسجروها ، واستخدموا الأزهري وقّادا . وما عَلِمْنا منار المسلمين خادما إلاّ للعلم والآداب ، لا يتشح بمثل تلك المعرّات المحشوة في هاتيك الفقرات ، وحسبك من شَرٍّ سماعه فكيف يرضي بنشره الرضا .
أذكر غيرتك على الأستاذ الإمام لو تعَرّضَ له بمثل ذلك ذامّ ، واعلم أنّ القوم مثلك على أستاذهم يغارون ، وجوابك في هذا المقام هو جوابهم والأمر مشترك الإلزام . وإنّ في سَوْقِ البرهانِ ناصعاً ، وإبراز الحق لامعاً ، لَفَلَجاً أقْوَم من فَلَجِ السِّبَاِب وأقوى ، وأقرب للتقوى ، فاسلك سبيله إن شئت ، ففينا إن شاء الله لك مساجلون بعد أن نرى المنار اكتسي فضيلة الرجوع إلى الحق ، واستقام على سبيل الإعتدال ، بما يمحو الاحن من الصدور .
أما الهجاء والفحش فليس عندنا ما ننفق منه ، وإنّا فيه لمغلوبون وإن بدأنا به الجاهلون ، فاتقوا الله في إخوانكم لعلكم ترحمون . تمّتْ بمعونة الله سبحانه الرسالة ، أثاب الله محررها وبلّغه آماله.
دعاء ختم
سبحانك اللهم وبحمدك يا ذا الصفات العليّة ، يا من تفرّد باسم الجلالة يا الله ، يا من تقدّس في علوه عن الأين والكيفية ، يا قيّوم العوالم يا غنيّا عمّا سواه ، يا من تعرف بالإحسان لسائر البريّة ، يا من يجيب المضطر إذا دعاه ، نسألك بِنور وجهك الذي أضاء العوالم السفلية والعلوية ، وبأنوار الكتاب الذي عمّ هداه وبما أودعته في الآيات القرآنية ، وباسمك الأعظم والسر الذي حواه ، يا من أرسلت محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة عمومية ، نتوسل بجاهه إليك إذ هو عندك عظيم الجاه ، أن تصلي عليه وعلى عترته الطاهرة الزكية ، وأصحابه الذين صدقوا ما عاهدوا عليه الله ، وتبسط علينا سترا جميلا يواري عيوبنا الخفية والجلية ، وتذيقنا حلاوة المغفرة وبرّ العفو عما جنيناه ، وتجللنا ببرود العافية في الدين والنفس والذرية ، وتمحوا عنا بفضل منك كل جرم أصبناه ، وتزَكِّى نفوسنا حتى ترجع إليك راضية مرضية ، وتلهمنا شكر نعمائك وترزقنا الإنتباه ، وتَقِينَا بحفظك من كل شرّ وأذيّة وقايةَ مَنْ قال :
وأفوِّضُ أمري إلى الله
، وتجمع قلوبنا على المقاصد الخيرية ، وتوفقنا لما تحبه وترضاه ، وتردّ أُلْفَة هذه الأمة المحمدية ، وتأخذ بيدها في مرتقى العزّ إلى أعلى ذُرَاه ، وترسل لها من رياح النصر مايحقق الأُمْنِيَة ، ويعصف بمن نوى الشر للإسلام وناواه . ربّنا ربنا تداركنا بألْطافِك الخفيّة ، وارحمنا فأوْلى من يرحم العبدَ مولاه . اللهم صلِّ وسلّم على عين الرحمة الربانية ، وعلى آله صلاة تُعَرِّفُنَا بها إيّاه .
- قال في بغية المستفيد ج 3 ص 127 ، طبعة تونس ما نصه : " الزيارة في اللغة القصد إلى المزور في محله ، وهي في الإصطلاح قصد المزور إكراما له وتأنيسا ، ومنه زيارة الإخوان بعضهم بعضا . وقد تقدم بعض ما يتعلق بها في المقدمة ، وسيأتي بعض ذلك أيضا قريبا إن شاء الله تعالى . ومنها زيارة القبور مطلقا ، وهي مرغب فيها لما فيها من صلاح القلب بشرط الإشتغال بالإعتبار والتامل والتفكر في أحوال الآخرة ، والسلامة من الوقوع فيما يخالف الشريعة الطاهرة ، والكلام فيها مبسوط في كتب الفقه ، وليس القول فيها ولا فيما قبلها من غرضنا في هذا المحل وإنما كلامنا هنا في زيارة الأولياء ، أعني الأكابر الذين يعتقد فيهم ويتعلق بهم ، وحقيقتها قصد الولي للإنتفاع به ، والإستمداد منه ، وهذه هي التي منع منها المريد في بساط التربية الكاملة الخ .
<< الصفحة السابقة