مكتوب لصاحب المنار
هذه نسخة مكتوب لصاحب المنار في الرد على ما جاء في خاتمة المجلّد السادس والعشرين من هجاء الطريقة التجانية زادها الله نورا وانتشارا .
أُرسِل إليه في 9 ذي القعدة الحرام سنة 1344 .
بسم الله الرحمن الرحيم
أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إنّ ربّك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين .
أيها الأستاذ الرشيد لعا لعثرتك وغفرا لعجلتك .
يعز عليّ أن أخاطب مثلك في نسبه ومنزلته وأدبه خطابَ دالٍّ على طريقٍ أنت أحييتها ، وطالما دعوت إليها ، واليوم أصبحت عنها من العادلين . فعلها غيرة دينية طفرت بك فأخرجتك عن حدّ اللياقة ، وأبرزت منك خلقا لم يكن معهودا .
ذلك بأنّي طالعت خاتمة المجلد السادس والعشرين من مناركم الذي عهدته روضة فوائد وحلة آداب ، فرأيت مصداق ذلك في صدر فتوى سؤال الزواوي حيث الحكمة المتدفقة ، والإعتدال الفاتن ، والظن الجميل . ولكن ما أسرع ما اقتحم (الرشيد) اللهب ، وتميّز " الرضا " من الغضب ، وتقلب المنار إلى شعلة نار ، وجرت بأنهاره الأقذار من الحدث الأزهري الذي جرّد سيف العدوان على أهل الإيمان . فقلت سبحان الله سبحانه كيف ينسى العارف عرفانه ! ما كان عهدي بالمنار يعلوه إجمال بدون بيان ، أو ادّعاء مجرّد عن البرهان ، وما علمته يتسع صدره لما تنزه عنه القواميس اللغوية فضلا عن المجاميع العلمية من أقذاع لا مسلك له في الإقناع سوى شهادته على قاذفه بالخلو من الآداب . ألم يكن المنار يتأفف- كما هو خلق المسلم - من السباب والمهاترة ، ولا يجعل لها مدخلا في المناظرة ؟ أمَا كان ناهيا عن بسط الألسنة ، وداعيا بالحكمة والموعظة الحسنة ؟ ألم يُذَكِّر المسلمين بذممهم ؟ ألم يُعَرِّفْهم بحقوقهم على بعضهم ؟ فكيف قبِلَ حديث هذا السبابة على إبهامه وهو الثبت في إفهامه ، والمصيب الغرض القَصِيّ بسهامه ؟ وكيف أباح نشر ما أملاه التحامل ضد رجل من بني أبيه ثبت شرفه نفسا ونسبا ، وشهد له بالفضل أهله شرقا ومغربا ؟ وكفى بالإسلام حاجزا بين المسلمين .
يعز عليّ أن أذكِّر الرشيد بما كان ينهى عن توَخِّيه ، ويأمر بتَوَقِّيه مِن تحكيم فطير الفهم ، واتّباع الوهم ، والأخذ بالظنة ، وإيقاد نار الفتنة ، ولكنه مؤمن ، والمؤمن غر وبشر ، وقد كُتِبَ على البشر الذهول .
لولا الذهول أيها الرشيد ما سمحتَ أن يلوَّثَ منارُك بمثل قول مكاتبك إنّ فلانا " من أنذال القرن " الخ ، إذ ليس من مقومات الضلالة نسبة صاحبها إلى النذالة ، وليس هذا الوصف نافعا في الحجاج ، ولا شرطا للإنتاج ، فلم يبق إلاّ كونه بذاء ، والبذاء كما علمتَ شعبة من النفاق . أفَلَيْسَ لولا الذهول ما نفق النفاق عند الرضا الرشيد ؟ .
إنّ الإمام التجاني ـ عليه من ربه حلل الرضاء سابغة الذيول ـ لم تقف له على ترجمة كافية ، ولعلك إن كانت لك معلومات عليه فإنها بين تلميذ يُطريه وخصم يرميه ، فاطرحهما واستشهد التاريخ تجد في الإستقصاء ترجمته مختصرة من أجنبي عن طريقه ، اقرب من عدوه الأزهري زمانا ومكانا وصدقا . وقد أوردت لك نصه
1 في الحاشية لأن جعله في الصلب يضايقني في محادثة معك شهيّة ، وإن طريقته لم تنتشر بواسطة الملوك بل بواسطة العلماء ، فقد كان أول ناشر لها بيننا رأس الفتوى ، والإمام الأكبر بالجامع الأعظم ، وشيخ شيوخ القطر مولانا الشيخ سيدي إبراهيم الرياحي ، محيز علماء المشرق والمغرب . وتداولَ سندَه من بعده من شيوخ الفتوى والقضاء بالمذهبين الحنفي والمالكي ما يزيد على الأربعين من آل بيرم ، وآل النيفر ، وآل الخوجه ، وآل الشاهد ، وآل الشريف ، وآل حسين ، وآل جعيط ، وسواهم جمهور عظيم من أئمة ومدرسين ، وأمراء ووزراء ، وسراة وفضلاء ، ومن لم يدخل زمرتهم لم يتوقف عن الإعتراف بالفضل لهذا الإمام ، والكل شحيح بدينه ، غير مخدوع في يقينه .
أفلا يصعب عليك ، وأنت تنتسب إلى الرؤوف الرحيم ذي الخلق العظيم ، أن ترمي قبل التثبت جمعا كهذا الجمع ؟ العلماء بالإبتداع ، والأمراء بالتأييد ، والمعاشرين بالمصانعة ، والدهماء بضعف العقول .
لست أسرد لك العلماء والملوك لأحملك على تقليدهم ، فما أنا بالذي يحتجّ بمثل هذا ، ولا أنت ممن يدعى بمثل ذاك ، ولكن لأحملك على الإعتدال ، فإنّ عدم المبالاة بالناس ثمرة الإعتداد بالنفس ، وتلك أمارة الغرور .
أيها الرشيد أين غابت عنك الحكمة التي عهدناها تاجا للمنار فغفلت عن نهي الله المؤمنين عن سبّ الأوثان حتى لا يسبّ عبَّادُها العزيزَ الحكيمَ ؟ وهو سبحانه لا يناله ضرر ذلك ، إنْ هو عائد إلاّ على السابّين ، فكيف ألقيتَ بعرض مثل عرضك ، ونسب عال كنَسَبِك ، بين أيدي آلاف يدفعهم الإنتقام للتشفّي بأوفى مما كِلْتَ لأستاذهم ، ويقولون لك في الظلم مرتبة البادي ، وأنت عن ذلك في غنى ؟ وكأنّي بك لا تقول بقول النخعي : " وما عَلَيَّ أن يأثموا ونُؤجَر " لأنّ خيرا منه قول الأعمش : " وما عليك أن يسلموا وتسلم " .
إني متشرّف بالإستمساك بعهد هذا الإمام رضي الله عنه ، وليس بين يميني ويمينه إلاّ رجلان ، وأوّل وصية يلقاها من أراد الدخول في سلكه قوله المنقوش على قلب كل تجاني " ما بلغكم عنّي فزِنُوهُ بميزان الشرع ، فإن وافقه فهو قولي ، وإلاّ فهو مكذوب عنّي وأنا منه بريء " . أفمثل صاحب هذه الوصية يستباح عرضه بنقل مرسل أو نظرة حمقاء ؟
إنّي أظن بك أنك لم يبلغك هذا عنه ، وهو كافٍ لك في عصمة عرضه ، ووجوب الذود عن حماه ، حيث كان متبرّئا مما يخالف الشرع . نَعَمْ ، يمكن أن تكون مخالفا له في بعض ما ثبت عنه ، لكن لا يغيب عنك أنها مسائل اجتهادية تتحملها الأدلة الشرعية ، فإن رأيت فيها خلاف رأيه فما ذلك بمحلل لك من عرضه شيئا ، خصوصا إذا لم يكن فيها بدعا من الصوفية ، إذ ما اجتهادك أولى بالصواب . كيف يخفى عليك تحامل الأزهري حتى يستخدمك في أغراضه وشرر التحامل يتطاير حتى يكاد يحرق حروف تلك الرسالة ؟ دع عنك هذيانه أوّلا من نحو " مبتدع غرر بضعفاء العقول " ، وارجع البصيرة إلى المسألة التي استهلّ بها فأكبر وكفّر وهي مسالة كفارة الفوائت ، فقد ابتدأها بزور ـ وهو نسبه ابتداعها للشيخ ـ والحال أنها قد ذكرت في الكتب قبل وجوده .
وقد وصفها على ذلك النمط صاحب الجواهر الخمس السيد محمد غوث الله من أتباع الطريقة القادرية . فلم يكن للإمام التجاني ابتداعها ، وغاية ما ينسب إليه اتّباعها .
2 ثم لمّا أفاض فيها القول برهن على تعصّبٍ أضلّهُ عنِ الهدى وهو منه على كثب ، إذ فَهِمَ أنّ معنى التكفير إسقاط المطالبة بالفرض ، فقال إنه هدْمٌ للرُّكنِ الباقي من أركان الدين . ويخجلني أن أذكِّرَكَ بأنّ الكفارة في لسان الشرع لا تسقط المطالبة بالفرض ، وإنما ترجى لتكفير ذنب الإخلال بالواجب ، أو الإقدام على الحرام . ومَنْ كانت عليه فوائت فهو مطالب بالقضاء حتما ، ومكتسب بالتأخير إثْمًا ، والركعات الموصوفات مرجوّة لتكفير ذنب التأخير ، وكأنّي بك لا تعترف باستفتاح باب التوبة بصلاة واستغفار . فالشرع قد ندب النافلة أوقات الجواز بالندب العام ، وقد صلّى كعب بن مالك رضي الله عنه عند نزول توبته ، وخبيب رضي الله عنه عند حلول منِيَّتِه ، وما توقفا على تشريع خاص من الرسول .
أليس مِن شواهد تحامله فهْمُه أنّ تِبْيَان الكفارة إغراء بارتكاب الذنب ؟ أفهل يجري مثل قوله عند بيان كفارة الفطر في رمضان ، فيقال إن تبيانها هدم لركن الدين ؟ ألم يبالغ في التحامل لولا ذهولك في قوله " يريد أن يقول " ؟ فهل سمعت أم هل سمحت بمثل هذا الحجاج ؟
يحكم على جمهور عظيم من الأمة حكما قاسيا بالزيغ والإلحاد لكونه فَهِمَ أنّ إمامهم يريد أن يقول ما يقتضي الضلالة !
إن كنت لا ترتضي بذلك فإنّا أيضا عليه ناقمون .
قد علمتَ ، وأنت المثافن للإرشاد ربع قرن أو يزيد ، أن نفعه متوقف على الإخلاص فيه ، وما الإخلاص إلاّ إرادة النفع للضالين دون التشفي منهم ، وهذا لا يكون إلا بأخذهم بالرفق وجدالهم بالحسنى . أما مصادرتهم من أول الأمر فهي إغراء على التمسك بما هم عليه ، وانقلابهم من الإستسلام الخطابي إلى العناد الجدلي ، وإذ ذاك يضيع للمرشد جهاده ، وينعكس عليه مراده . ليس المرشد حاكما يقف بين يديه المتهم بين مجرم وبرئ ، أو ليس مِنْ شرط إنصاف الحاكم أن يهتمّ بإظهار براءة البريء اهتمامه بتحقيق الجناية على المجرمين .
أليس من الحكمة ، إذا أراد المرشد هداية فرقة اجتمعت على ضلالة ، أن لا يبادئها بتسفيه الأحلام ، وهجر الكلام ، وإرهاق نفوسها ، بشتم رؤوسها حتى يدعوها وأئمتها إلى العدل ، ويجادل بالحسنى ويعتمد الحجج التي يصح الإستناد إليها ، لا مثل " يريد أن يقول " ، ولا مثل " هذا مخالف لآيات القرآن " ، مع عدم تشخيص المخالفة والآية التي تقتضيها ، ولا يجازف في تطبيق القانون ، فلا يحكم بالخطأ إذا كان المحل للتعسف ، ولا بالزيغ إذا أمكن الحكم بالخطأ ، ولا بالكفر إذا حقّ الحكم بالفسوق ، إذ هذه كلمات لا تحشر مع بعضها إلاّ عند الشاتمين ، أما المفتي فلا يسعه أن يجهل ما بين قوله مبتدع وبين قوله ملحد من الفروق ، إذ الأول من أهل القِبْلَة له أحكام تخصه ، والثاني ليس منهم له غير تلك الأحكام .
فإذا قامت الحجة على تلك الفرقة وسلكت سبيل العناد أعطى فيها العالم الحكم مجرّدا ، وليس له أن يشتم خصمه بنحو أفواه الحمير ، لأنه إذا كان للخصم فم حمار فذلك لا ينقص من قيمة حجته ، ولا يزيد في جريمته .
- في الجزء الرابع من تاريخ الإستقصاء في أخبار المغرب الأقصى ، أثناء سياق أخبار السلطان مولاي سليمان صفحة 138 ما نصه : " ولما اجتمع به - أيّ المولى سليمان بالشيخ التجاني رضي الله عنه - ورأى سمته ومشاركته في العلوم أقبل عليه واعتقده وأعطاه دارا معتبرة من دوره كان أنفق في عمارتها نحوا من عشرين الف مثقال ، ورتّب له ما يكفيه . وأقبل الخلق عليه واشتهر أمره بفاس والمغرب ، وهو شيخ الطائفة التجانية رحمه الله ونفعنا به " . وقال في الجزء نفسه صفحة 150 : " وفي ليلة الإثنين الخامس عشر من شوال السنة المذكورة توفي الشيخ العالم العارف الإمام أبو العباس أحمد التجاني شيخ الطائفة التجانية ، وكانت وفاته بفاس المحروسة الخ " .
- في الجزء الأوّل من الجواهر الخمس للسيد محمد غوث الله الهندي الشطاري ، وشارحه أحمد بن علي بن عبد القدوس الشناوي ، المترجم له في خلاصة الأثر ، المتوفى سنة 1028 ما نصه : " وفي رواية
«
من صلى يوم الجمعة قبل العصر أربع ركعات يقرا في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وآية الكرسي مرة وسورة الكوثر خمس عشر مرة فإذا فرغ استغفر الله عشرا وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم خمس عشر مرة كانت كفارة للصلوات الفائتة
» .
قال عثمان رضي الله عنه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
«
كانت هذه الصلاة كفارة للصلاة الفائتة ولو مائة سنة
»
. وقال علي رضي الله عنه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
«
كانت هذه الصلاة كفارة للصلاة الفائتة خمسمائة سنة
».
وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
«
هذه الصلاة كفارة للصلاة الفائتة ألف سنة . من صلى هذه الصلاة ولا قضاء عليه إن كان في صلاة أبيه وأمه فوائت كانت كفارة
»
. اهـ .
<< الصفحة السابقة الصفحة التالية >>