انعدام الموضوعية في أحكام المعارضين العرب على حكّامنا في ما يخص نصرة غزّة
بقلم : محمود سلطاني 01/01/2024
المتفق عليه موضوعيا أنّ النقد البنّاء لا بدّ أن لا يخضع للعواطف والأهواء، وإلاّ تحوّل إلى رأيٍ شخصيّ يفرّق ولا يجمع، ويكون حينها إثمه أكبر من نفعه في علاقات الأشخاص ببعضهم البعض.
هذا ما لاحظته في خطاب المعارضين العرب من أصحاب اللجوء السياسي فرارا من أنظمتهم، وهُم يهاجمونها بكلّ أصناف الشتم والمعايرة، ومن كلّ صوب، بسبب ظاهر مواقف رجالها ممّا يحدث في غزّة. وكان حتميا أن تتسع دائرة النقمة لأولئك لتمَسَّ جميع الحكّام العرب الذين خذلوا أهلنا في محنتهم ولم يقوموا بواجبهم الديني والقومي، على حدّ قولهم، وجلسوا على عروشهم وكراسيهم متفرّجين وكأنّ الجرائم المقترفة في حق الأبرياء لا تعنيهم في شيء.
وفي قول المعارضين كثيرا من الحق، وليس في نيّتي التوقّف مطوّلا عند تفاصيل انتقاداتهم وطرائق وصفهم، لكني ألومهم جميعا على عدم التقيّد بالفوارق التي تميّز كلّ نظامٍ في العالم العربي والإسلامي في هذه القضية بالذات، وعلى وضْعِ الجميع في نفس قفص الاتّهام وكأنّهم كلّهم قد أجمعوا على صيغة فريدة ممّا يسمونه "خيانة" لا تُبقِي لأحد منهم عذرا أو حجة تنجيه من عارها.
هذا ليس عدلا، ولا هو مِن شيم المنصفين الحقّانيين الذين تعلو بهم أخلاقهم إلى مصاف النخبة الجديرة بثقة الجماهير إذا تكلّمتْ أو عملتْ، والتي تصبو إلى تغيير أوضاع بلدانها وإخراجها ممّا تصفه بالاستبداد والفساد وتبديد مقدّرات الأوطان من أجل المصالح الضيقة. ما رأيته هو جملة من الساخطين الذين لا يختلفون عمّن يشهّرون بهم ويدعون أهل بلدانهم للتخلّص منهم ليتمّ الإصلاح واستتباب الاستقرار والتنعّم بالكرامة الفردية والجمعية. بل إنّ دعواتهم تلك لا تزيد عن كونها أماني وتصوّرات مجرّدة لم تخضع لمحكّ التجربة، أو هي صور من المثاليات الرنانة والمخملية التي لا يسبر الصعوبات فيها إلا مَن انبرى لتطبيقها وتنفيذها. وكما يقال، فإنّ المتفرّج على المباراة هو أفضل اللاعبين وأجود المدرّبين على الإطلاق.
لن تسمع من أولئك هذه الأيام سوى طوفانٍ من المقارنات الساخرة الصاخبة والمهينة بين مواقف وردّات أفعال الأنظمة العربية صاحبة الشأن والقضية من ناحية ومواقف بعض الأنظمة الأجنبية، هنا وهناك، برغم انعدام القواسم المشتركة من الدين أو العرق بيننا وبينها من ناحية ثانية، فتُثبت بذلك للعالم أنّها أشدّ غيرة على المظلومين منّا، وأحْرَصُ على أمنهم وحقهم في السلام والعيش الكريم.
لا مكان لمثل هذا التعميم في سلوك من يقدّر مسؤوليات الدعوة والنضال حق قدرها، وخُلُقِ مَن رسخت لديه القناعة بحرمة الكلمة وبما يجب أن تعامل به من آدابٍ وإشفاقٍ، لأنّ من كان هذا شأنه فهو بلا ريب يؤمن بأنّ الكلمة أمانة وقوّة قد تصلح وقد ينجرّ عنها تدمير وظلم أعظم من الباطل الذي يدّعي قائلها به أنّه قام من أجل إزالته.
أعترف أنّ أنظمةً عربيةً انتهجتْ مسالك ليس لها ما يجمعها مع الحكمة والكرامة ولو خيط واهي، وأبانت عن فقرٍ عقلي وروحي وأخلاقي يحرمها قطعا من نعمة الأهلية للقيادة مطلقا، وشهدت لنفسها من خلال ما صدر عنها من سياسات أنّ بينها وبين الحكم وآلياته هوّة لا سبيل إلى تخطّيها في يوم قريب أو بعيد. وقد عشنا -للأسف- مظاهر من الانحراف المتعمّد الأشبه بالعزّة بالإثم، تفنّن السفهاء في إبرازه تحدّيا وإغاضة لكلّ من يقول "اللهم إنّ هذا منكر" وأعلنوها بكلّ أشكال التوصيل، بحيث يصعب إيجاد عذر واحد مقبول لأصحابها تحت أيّ مُسمَّى.
لكن في المقابل، رأينا أنظمة أخرى اصطفّت مع مصلحة الأشقّاء، وجاهرت بمؤازرتها لهم، وصرختْ بنفس أنينهم تحت الألم الذي ألمّ بهم، وسارعتْ إلى نصرتهم بكلّ وسيلة ممكنة.
فهل يعقل أن نسوّي بين الخائن والمخلص، ونرجم الجميع بنفس النعوت والعبارات النابية؟
سأتحدّث عن بلدي الجزائر وبكلّ بموضوعية، لكن موضوعيتي لن تمنعني من الشعور بإثلاج الصدر بما أبدتْه من مواقف لا يُنتظَر من المخلص غيرها لأنّه ليس بينها وبين خطّ الغيرة والصدق والحكمة انفصال. لقد كانت بلادي الجزائر مستقيمة في كلّ ما فعلته وأعلنته، وكان كلّه، والحق يقال، يجري صوب تحقيق الهدف الأسمى لقضايا الأمة، ولقضية فلسطين بالتحديد، لو انضمّت الأنظمة الإسلامية كلّها لِما نادتْ به لأنّه كان الأرضية الصلبة الوحيدة والمنطقية للتأثير العظيم الذي بواسطته يتحقق التغيير الأسمى. لقد كان طوفان الأقصى -بحقٍّ- فلتة من فلتات الزمن لرصّ الصفوف، وفرصة للالتحام، لا تتكرّر كلّ قرنٍ لقلْب الأحداث -بإذن الله- لتصبّ في صالح نفاذ صوت شعوبنا، ورسوخ أقدامنا، ووضْع حدٍّ لأساطير كثيرة عشّشتْ في لا وعينا فخدّرت أفكارنا وشلّت قدراتنا وأقنعتنا بأنّ الدونية هي كلّ نصيبنا من الحياة.
إنّ في ما فعلته الجزائر، في هذا الظرف العصيب، مِن التنوّع ما يكفي لأن يكون نواة قوية لهزيمة العدوّ الإسرائيلي وكلّ مَن يسانده من الدول الغربية، لأنّ فيه إشارات مخلصة ومقنعة، ومن زوايا عديدة، لكلّ نظامٍ لا يزال يفتقد الثقة في وعود وعهود كثير من الـ "زعماء"، بأنّ النوايا صافية هذه المرّة، وأنّ بمستطاعه حزْم أمْرِه والإقدام بعد تبدّد خوفه ممّا عاناه من خيباتٍ سابقة جعلته يحسب لكلّ خطوة ألف حساب حتى لا يجد نفسه وحيدا معزولا أمام قوى الشر المنقضّة بدون رحمة. فقد كانت بلادنا سباقة إلى إمداد أهل غزّة بجزء من حاجتها اليومية عبر جسر جويّ من المواد الغذائية والطبية والخيام، وكانت من بين من طلبوا، وألحّوا في الطلب، على الحكّام قبل انعقاد اجتماعهم في الجامعة العربية ورابطة الدول الإسلامية لاعتماد قرارات لها من قوّة الردع المباشرة والمخفية ما يمنحنا مساحة مناورة كبيرة تكون لنا فيها الكلمة الأخيرة العليا. ونشطت الدبلوماسية الجزائرية في المؤسسات الدولية ولدى القوى التحررية في العالم لاستنهاض همم أهل الشرف فيه لإعانة أمّتنا للتصدّي لتلك الوحشية والإبادة الممنهجة للمدنيين. وكان من بين ما بادرت به داخليّا، توثيق تلك الجرائم وتحضير ملفّ ثقيل بِنِيَّةِ محاكمة العدوّ الصهيوني لدى محكمة الجنايات الدولية عن جرائم الحرب التي اقترفتها.
هذا ما حدث اليوم.
واسألوا الأمس البعيد والقريب عمّا قدّمته الجزائر من مختلف التضحيات والمساعدات والمساندة للأمة العربية، دون مَنٍّ أو أذى، ونحن لا نذكره فخرا في هذا المقام، ولكن إثباتا لما قلناه أعلاه من أنّ الأمر له ما يعضده تاريخيا وبالملموس لمن لا يزال في شكٍّ من استعداد بلادنا لفعل ما هو واجب أو لِما لا يقوم الواجب إلا به.
لكن المعارضين السياسيين العرب في المهجر لم يأخذوا كلّ ذلك في الحسبان، ولم يتوانوا، في كل مرّة، عن الزجّ باسم الجزائر مع قائمة الخونة الذين لم يعد نبأهم يخفى على أحد، بل إنّهم أنفسهم، وبواسطة أبواقهم السياسية والدينية والثقافية، يصدعون بمواقفهم المعادية للمقاومة الشريفة دون خجل.
فما المطلوب من الجزائر فعْله أكثر من تلك التطمينات؟
في الحقيقة أنا أعلم المطلوب من بلدنا على لسان أولئك المعارضين، وهي مطالب تدلّ على جهلٍ بطبيعة الممكن والمستحيل في العلاقات الدولية والمفاهيم السياسية وشروط إدارة كلّ مستوى فيها وفق المصطلحات الموضوعة التي على ضوئها يتمّ السلم والحرب وكلّ إجراء في عالمنا اليوم. إنّ ما يُرضي الساخطين من وراء البحار، هو أن تعلن الجزائر، أو غيرها من أهل الغيرة في الوطن الكبير، الحرب علانية، وتشارك في الصراع المسلّح الدائر في الأراضي المحتلّة عنوة. نسوا أنّ التعامل مع دولةٍ رسمية ليس كالتعامل مع مقاومة تخوض حربَ عصاباتٍ ضدّ جيوش نظامية. هل يعتقد أولئك فعلا بأنّ ما سيكون في انتظار الجزائر، لو انخرطت في الحرب، سيكون مثل الذي تواجهه المقاومة المباركة في غزّة؟ ما هذا القصور في العقول التي تملي وتحكم وتكيل الانتقاص الارتجالي الانفعالي بدون حساب أمام الكاميرات بداخل الاستوديوهات المكيّفة والأرائك الوثيرة وإجراء الحوارات بواسطة التخاطب عن بُعدٍ عبر قارّات بعيدة؟ ألا يعلمون أنّ ما بحوزة الكيان الصهيوني وأمريكا وأوروبا وكثير من بلدان الشرق والغرب المؤيّدين أضعافا مضاعفة من الأسلحة، كمًّا ونوعًا، إلى حدٍّ يمكن أن يستأصل الجزائر، لا سمح الله؟ إنّهم قطعا سيستعملون كلّ سلاح يرون فيه اختصار الوقت والخسائر، ولن تجد الدولة الرسمية حينها مَن يقف في صفّها أو يتضامن معها ما دامت قد اختارت بنفسها وجهتها طواعية. في تلك الظروف لن يخرج أخد للتظاهر من أجل الجزائر والمطالبة بوقف قصف المدنيين، فضلا عن العسكريين، وسيكون ما حلّ بأهلنا الكرام في غزّة بمثابة تفجّر بضعة مفرقعات في حفل زفافٍ أو ختانٍ.
السؤال هو: ما الفائدة العائدة على أهل غزّة حين تسقط الجزائر قربهم جثة هامدة، ويكون عوض الجثة الواحدة اثنان؟
هل معنى الواجب في نظر المعارضين العرب محمول في مجرّد تلبية صوت رفض الضيم بأيّ طريقة مهما كانت التضحيات؟
ألا تجب مراعاة اعتبارات أخرى، يكون غيابها في نسيج الحلول والأحكام -قطعا- نقاط ضعف لا ينتظر منها إلا الهلاك؟
أليس لإنجاز المهام، كائنة ما كانت، سوى الاندفاع والانفعال وسطحية الرؤية، وإلاّ فهو الدليل على التهاون إلى حدّ التخوين؟
وعلى العكس تماما، لو اقتنص الجميع فرصة ما وفّرته الظروف من مقوّمات التوحّد وإمكان تحقيقه على أكمل صورة، فلن يكون بمقدور أمم الأرض المتبقية قاطبة، ولو اجتمعت، أن تغلبنا، وعلى كلّ الصعد، لأنّ بحوزتنا أعظم قسطٍ من أصول وفروع ما ينفث في الحضارة العصرية روحها نفسها، وبدون منازع، ويبوّئنا مُرتقى لا قِبَل لأمة، مهما كانت قوّتها، أن تلتفّ حوله وتتجاهله إلى ما يعوّضه من مصدر غير مصدرنا .. فلا عوض لِما تفقده البشرية من مددنا ومقدّراتنا.
فهل الخطأ خطأ الجزائر إنْ لم يستجب لندائها أحد، ولم يُعِرْ لحلولها -مع بعض الأشقاء- أذنا، بحجج ضيّقة لم تنل حظّها من عمق الرؤية لدرجة العجز عن حمْل النفس على تقديم عوامل ما يجمع مع الشقيق وتجاوز ما يفرّق مؤقّتا إلى ما بعد دحر العدوّ اللدود المطلق؟
ونقول لهؤلاء المعارضين الساخطين المقيمين في بروجهم العاجية، أنّ طريق الصواب لم تكن في يوم من الأيام أشدّ وضوحا منها اليوم، وأنّ من أبى سلوكها فقد رضي أن بدور المعطّل لملحمة الكرامة، فحُرِمَ وكان سببا في حرمان الأمّة كلّها حين كانت في أمسّ الحاجة إلى كلّ جهدٍ.
وذلك هو الفرق بين كرامة الله وإهانته، أو بعبارة أخرى الفرق بين قمم التاريخ ومزبلته.