بقلم الأستاذة:
نجاح التجاني 07/05/2018
طالما كان تنوير الأذهان ديدنه، والمضيّ والرقيّ بها في مراتب الازدهار الفكريّ الحضاريّ من إستراتيجياته الأساسية الممنهجة في كلّ مشاريعه الطموحة. إنّه المفكر، ذا القدوة الأنفع، الشيخ الدكتور سيّدي محمد العيد التجاني التماسيني حفظه الله ورضي عنه.
ولنلقِ نظرة على منهجه في دروسه الفكرية المأثورة، وهذا لأنّ أصحاب الأفكار يتردّد صداهم جيل بعد جيل، بل داخل الجيل الواحد يشُقُّون طريقهم بتنويرهم الفكري الممنهج الفياض. فأفكارهم تظلّ تتوهّج لتكشف عن أسرارها وخباياها الدفينة الحين بعد الحين، وكلّما تقادم الزمان، خاصة عندما تكون أفكارا أصيلة نابعة من معاناة فكرية حقيقية ووعي فكري حقيقي. وأحسب أن مِن أهمّ المناهج في درس الأفكار هو ذلك المنهج النابع من الدرس " السوسيولوجي المعرفي " الذي يربط بين الأفكار وبين تاريخ أصحابها: نشأتهم وتفاعلاتهم الحياتية والمؤثّرات التي أثّرت عليهم وعلى تكوينهم الفكري.
وخاصة ونحن نعيش في عصر المعلومات لدرجة أننا نشعر في بعض الأوقات أننا غارقون فيها. عصرٌ يتطلّب تدفقا ثابتا من الأفكار الجديدة حتى يصل الفرد إلى إمكانياته ويوفّي مطلوبه. فهو يشجع في ذلك في ما معناه في مساره الفكري، أيّ أنّنا لو تتبّعنا هذا المسار العلمي للشيخ نجده يتمحور حول القيمة الحقيقية للمعلومات والتي تأتي فقط عند دمجها مع المعلومات الأخرى من أجل تكوين أفكار جديدة خلاقة وفعالة:
أفكار تحلّ المشكلات.
أفكار تساعد الناس.
أفكار تحفظ وتصلح وتخلق أشياء.
أفكار تجعل الأشياء أفضل وأكثر نفعا.
أفكار تنور وتنعش وتلهم وتثري وتشجع على حد رأي منثور فكري يقول: " إذا لم تستخدم هذه الثورة من المعلومات لخلق هذه الأفكار فأنت تهدرها ".
وعليه، عندما نتحدث عن زخم أفكاره فهي تحمل بين طيّاتها جميع جوانب الموقف وتجعله بسيطا. إنّها تربط جميع الأطراف السائبة إلى عقدة متينة متقنة، وتلك العقدة تسمى " فكرة ". وعند التدقيق في فكرته تجد أنها تلك الومضة من البصيرة التي تُمَكِّنك من رؤية الأشياء من منظور جديد، والتي توحّد بين خاطرتين مختلفتين ظاهريا لتصبحا مفهوما واحداً جديداً حيث ما من شيء قرأته له يوما وعرفته واستنتجته من طرح أفكاره إلا و يدور فحواه عن الدمج أو الوصل أو المجاورة أو الربط. وهذه المحاور هي الأنجح في المنهج و المسار الفكري الأمثل، والحديث فيما يقوله أحد المفكرين المعاصرين في ذلك ويلخصه بقوله: " كن منفتحاً للفكرة ".
ونجده يذكّرنا بتعاليم ديننا السمحاء، و يحثّنا على التكاتف والتعاون والتآزر وتحقيق الألفة بين الجميع، ونبذ الفرقة والإنفتاح على الآخر ...الخ. فيدعونا لاحترام الوقت واستثماره، ويرغّبنا في العمل الإبداعي المتواصل والعمل الجماعي الدؤوب والذي يحقق عدة أبعاد تنال بها المطالب حيث يقول: "العمل الجماعي الناجح 10/100 أحسن من العمل الفردي الناجح 70 أو 80/100".
يدعو لأنْ ننهل من جميع العلوم بما في ذلك تعلم اللغات الأجنبية، والقرآن وعلوم القرآن، وتعلّم المهارات من كلّ علم نتلقاه بالفعل، و يعلّمنا الدقة والتفعيل وقوة الملاحظة، ويؤكّد على المرجعية لكلّ فرد، إذْ هي الأساس. يعلمنا أن نبلور الأفكار ونشجع ابتكارها واستثمارها. يعلّمنا كيف نرى الأمور ونقلبها حيث قال في هذا الجانب، في احدى جلساته للشباب الأحمدي فيما معناه : " إنّ الشخص يتحيّن الفرصة عندما يكون في مجلس مّا، أنْ يتعلّم، أنْ يقيّم الجلسات ولو استدعى ذلك لكتابة وتدوين الملاحظات في سجل يومياته، وهذا ليس في الجلسات فحسب بل حتى في أهم مسارات و مشاوير حياته، حتى بعد قراءتها قد تعطيه دفعا قويا لفكرة مّا، أو تقوده لفكرة جديدة تغيّر مساره للأحسن "
يعلّمنا أن نتحلّى بالصبر والمرونة والثبات لدى مواجهة المشكلات، والمثابرة والعزيمة لكسب القوة للاستمرارية. مبدأه " وما نيْل المطالب بالتمنّي ولكن تؤخذ الدنيا غلابا ".
ونظرا للدور الأساس الذي تقوم به المرأة في المجتمع، فقد دعّم دورها في التنمية المستدامة، إذ قال: " سابقا كان للمرأة دور لوجيستيكي تقوم به في ما وراء الستار لتسند بذلك الزاوية وتدعمها، أمّا اليوم فالستار ليس بحائط يعزلها عن الرجل، وإنّما هو أمر معنوي يفصل بينها وبين الرجل في الأدوار فحسب، لكونها تختلف عنه في رقة الأحاسيس وليونة المواقف. لذلك وجب تكامل المهام بينهما "
كما يركّز في أغلب خطاباته، إنْ لم نقل كلّها، على التربية الروحية للأطفال منذ الصغر، وغرس تلك المعايير الأخلاقية والقيم، ويتمّ تشبّعهم بها منذ الصغر حتى ينشأ الفرد واعٍ و ناجح، قادر على تحمّل المسؤولية ومجابهة المشكلات. فردٌ له روح الاطّلاع والتطلّع للمستقبل، وبالتالي نتحصل على شباب أحمدي منفتح ومنظم ومنضبط، وقد قال هذا في سياق النهضة الشبانية التي يقودها رضي الله عنه في إحدى جلساته للشباب الأحمدي: " على الإنسان الذي يريد التغيير أن يسأل نفسه ثلاثة أسئلة جوهرية :
1- أين أنا ؟
2- أين أريد أن أصل؟
3- ما هو المنهج الذي أتبعه للوصول إلى الهدف؟
أين أنا: ويعني بها مراجعة الفرد لنفسه وتحديده لإطاره الزماني والمكاني، فإذا لم تعرف نفسك فلن تستطيع تحديد أين تذهب .
أين أريد أن أصل: أيّ هنا عليه تحديد الهدف المراد. فمن لم يكن له هدف فسيصبح وسيلة لغيره .
ما هي الوسيلة التي أستعملها للوصول لهدفي: وهي الخطة التي بها يتمّ بلوغ الهدف .
وعليه، يركّز الخليفة على أهميّة وضع وتحديد الأهداف، وأن يكون الهدف واضحا ومحدّدا، فيعلّم بذلك الدقة والنظام والترتيب .
إنّ الطريقة التجانية هي منهج سلوكي عملي وواقعي، وله أهدافه الكبرى، وهذا مما جعلها طريقة عالمية، طريقة العلم والعلماء، طريقة العلم والعمل والعبادة كما قال سيّدي الحاج علي التماسيني رضي الله عنه: " عليكم باللويحة والمسيحة والسبيحة حتى تطلع الرويحة "، وهذا إشارة إلى العلم والعمل والعبادة، وتتجلى فيها فسيفساء التربية الروحية والتي لا تخرج عن أوامر الله ورسوله أبدا. والخليفة الحالي سيّدي محمد العيد ينسج من نسج أسلافه في مواصلة الرسالة والأهداف العظمى، وإنّما الإختلاف في الأساليب المتّبَعة للوصول إليها، عملا بوصية الشيخ الأكبر سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه: " بسير زمانك سر "، وجُلّ ما ترمي إليه النهضة الشبانية هي مواصلة الدعوة إلى الله تعالى:
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا
والعمل، الذي هو عبادة في حد ذاته،
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُون
.
ولو اطّلعنا على توصيات الخليفة وتعاليمه نجده يلقي على عاتق المريدين مسؤولية تفهيم الآخر للفكر التجاني، فقال: " إنّ مخالفينا لم يفهموا ما نحن عليه حق الفهم، هذه مسؤوليتكم أنتم، فالساحة مليئة بوسائل الإعلام الهدّامة والفوضى الفكرية من خلال المطبوعات، فماذا قدّمتم للآخر حتى يفهم حقيقة ما أنتم عليه؟ إنّ بابتعادكم عن مشاركتكم في نشاطاتهم، ورفض التنازل لإفادتهم بحقيقة ما أنتم عليه، سيزيد الهوة اتّساعا وسيُصَعِّب علينا مسؤوليتنا.
ومحاربة الآفات التي تهدد شبابنا، وتهذيب النفوس، وإبعاد الشباب عن الفراغ وآفات اللسان ونهيك عن أعراض الناس كلها بسبب الفراغ أطلب منكم التمسك بهذه التعاليم السامية ورفع راية التوحيد من أجل وطن مجيد ومجتمع متماسك .
وقال في المنهج الفكري التجاني الشامل: " إنّنا نتّخذ الصوفي أخا في سبيل الروح، والتجاني أخا في سبيل الطريق، والمسلم أخا في سبيل الدين، وذلك الذي نختلف معه دينا وعقيدة هو شريك في العبودية لله سبحانه وفي المجتمع الإنساني الواسع "
إنّ لفكره السامي الذي ينمّ عن جوهر غزير بالعلوم الدنيوية واللدنيّة والمسالك الربانية أثر عظيم على عقول وقلوب مريديه وأحبائه، بل حتى أهل العوام والخواص الذين لا يعرفونه في كلّ مكان، إذْ أنّ كلّ ذلك يبثه في جلساته وخطاباته وتحليلاته والتي تحمل بين طياتها " شيفرة " لها عدة أبعاد تُفهم من سياق كلامه والتي يطرحها في بعض الجلسات مشفّرة بشيفرات يفهمها المتتلمذ والمتشبع الراوي من ملكته الفكرية النيرة، حيث أن كل مريد وكل فرد جاور الشيخ فكريا إلا ولمس بؤرة أفكاره وسهل عليه فكّ الشفرات، وبالتالي وضع الشيفرة في مسارها الصحيح.