بقلم :
محمود سلطاني 03/02/2013
ومرّة أخرى .. العلم اللدنّيّ !
كان لا بدّ من عودة إلى الموضوع . وما أعادني هو الظلم الذي تُلْبِسه الفضائيات عباءة العلم وتذيعه في الناس سُمّا ملفوفا بطبقة رقيقة من السكّر فيهلك من يهلك بسبب لؤمها محروما حتّى من حلاوة يطول أمدها شيئا قليلا .
لقد كان يتحدّث عن آداب تلقّي العلم ، وكان حينها يفسّر الآيات التي تحكي قصّة سيّدنا موسى على نبيّنا وعليه الصلاة والسلام وسيّدنا الخضر رضي الله عنه في سورة الكهف .
فلمّا وصل إلى قوله تعالى :
وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا
قال ، ( في ما معناه ) : « وأنا لا أؤمن بتصنيف العلوم إلى صنفين :علمٌ لدنّيّ وعلمٌ ظاهريٌّ ، وأنّ العلم علمٌ واحد ، وهو كلّه من عند الله ، يتعلّمه مَن يتعلّمه بأسبابه المعروفة من جهدٍ وسهرٍ وكدٍّ ، ولا علم هناك يُنال بغير واسطة ، إذ حتّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاءه الوحي بالواسطة »
قلت في نفسي : « ولكن أسباب أخذ العلم عند سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ليست نفس أسباب غيره ولو تمّ بواسطة ؟ »
فأردف الرجل ، وكأنّه انتبه إلى خطئه وقال : « إنّ قصدي بعبارة بغير واسطة هو أن تتفاجأ بأنّك تعلم من غير شعور مسبق منك » . وأراد أن يُرفق قوله بحركةٍ يمنح بها القلّة الحاضرة حوله توضيحا أكثر ، فتيبّس واضعا يديه أمامه في هيئة المستسلم ، رافعا جبينه قليلا ، ومغلقا عينيه . فعل ذلك إمعانا في تقمّص الحالة المقصودة لعدم الواسطة .
ثمّ أضاف ، في صورة مَن يلقي بالنتيجة النهائية : « ولذلك فإنّه لا داعي إلى القول أنّ هذا علمٌ إلهيّ وذاك علمٌ شيطانيّ » .
من كلام الرجل نرى بوضوح هيئة مفهوم العلم اللدنّي في ذهنه واعتقاده :
1 - أنّ الخصيصة الرئيسيّة لهذا العلم التي اعتمدها أهله لفصله علما مستقلاّ هي كونه يُكتسب بدون واسطة ، ولذلك رفضَه ورفض وجوده أصلا .
2 - أنّ الصوفيّة لا يعتبرون غير العلم اللدنّيّ من الله ، بل يعتبرونه علما شيطانيّا أو شبيها به ، إنِ الْتمسنا للرجل عذرا تفرضه مبالغة محتملة في تعبيره .
إنّ أشدّ الأسف ألما في الأمور ليس عندما يقصّر في حقّها العوامّ ، وإنّما الألم الحقيقيّ في تقصير أولئك الذين ، إن تيسّرتْ لهم سبل الوصول إلى المعاهد والمقاعد ، لم يتيسّر لهم نفخ روح العلم الخاصّة الممدّة لحائزها بحياة تفيض من حناياها أنوار الفهوم ، ومفاتيح أسرار المعاني حتّى وكأنّها صفحات كتاب مفتوحة كلّها في ذات اللحظة يأخذ منها صاحبها ما يشاء وقت ما يشاء .
إنّ مثل هذا العالم فذّ حقّا ، وليس صورة مكرّرة عن غيره تضاف إلى نسخ البلاد القديمة . هذا الفذّ هو القادر على الإنفراد بصنع الجديد من الموجود المتاح لكلّ الأيادي ، لأنّ السرّ كامن فيه لا في ذلك الموجود . مثل هذا له إمكانية تعيين مكامن الحلّ لكلّ إشكال وربطه بها ، وكأنّ كلّ إشكال زاوية رؤيةٍ انعكستْ جميع إشعاعات المكامن الملائمة لحلّه فيها .
وما أبعد صاحبنا عن هذا المستوى !!!
نعم ، إنّ السادة الصوفيّة يصرّحون أنّهم يأخذون العلم بدون واسطة . لكن :
أوّلا - لم يقولوا كلّ علمهم ، وإنّما هي مواهب من الله تعالى تصلهم بالتوازي مع الآليات العادية للتعلّم .
ثانيا - إنّ القصد من عبارة " بدون واسطة " هو قصدٌ اصطلاحيّ محض ، شاء من شاء وأبى من أبى .
وكان لا بدّ لنا من تلك الحدّة في نبرة القول . وما الذي يُنتظر منّا إذا جهل أدعياء الدعوة إلى الله أبجديات فنون التنظيم في التسمية والتصنيف الخاصّة بالعلوم ؟ ومن أبسط هذه الأبجديات : المجازات ، والمصطلحات .
لقد قلنا في غير هذا الموضع أنّ العالم يكتب للعالم بلغته ، وهي لغة مختلفة عن لغة العوامّ ولو اتّحدت في الحروف والمعاني الظاهرة . من هذا المنطلق يمكن الإستنتاج أنّه لا يفهم أهل العلم إلاّ أهل العلم ، وأنّ من لم يفهم فإنّه من العوامّ ولو مات أمام السبّورة في أرذل العمر .
فالإطلاق الذي يوحي به الإصطلاح - وفي كلّ فنّ - إطلاقٌ بيئته العقول الجامدة التي يستوي بداخلها معنى الخصوصي والعامّ ، وليس هكذا العلماء . لن تجد عالما ينظر إلى المفردة أو التعبير الإصطلاحي نظرته إليها وهي رابضة مطمئنّة في القاموس اللغويّ العامّ . وهو سرّ استغراب مَن لا دراية له بالإختصاصات العلميّة من استعمال كلمات تختلف معانيها عمّا اطّلع عليه من مصادر محو الأميّة أو علوم صفوف السنوات الإبتدائيّة .
ولأعطي مثلا من ميدان المحروقات الذي أعمل به .
إنّ كلمة " Poisson " أو " Fish " في قواميس الفرنسيين أو الإنجليز هي ذلك المخلوق البحريّ المعروف عند أهل الأرض قاطبة ، وهي " السمكة " عندنا بالعربية . إلاّ أنّها في ميدان البترول تعني جسما غير مرغوب فيه بقي أو سقط بقاع بئر النفط يتوجّب إخراجه حتّى لا يعوق الإنتاج . واسألْ أيّ فرنسيّ أو عالم باللغة الفرنسية عن معنى كلمة " Carotte " فسيجيبك بأنّها نبتة الجزر . لكنّك لو سألت مهندسا أو تقنيّا متخصّصا في الحفر أو الجيولوجيا أو الإنتاج النفطي فسيقول لك أنّها عيّنة إسطوانية طويلة تُبتَلع ابتلاعا بتقنيّة معيّنة من الصخرة الخازنة للبترول لدراسة خصائصها التي هي نفس خصائص الطبقة المستخرجة منها .
وهناك مصطلحات أخرى تقترب من العاميّة لكنّها معتمدة ومعمول بها ، مثل " Dog House " وتعني " بيت الكلب " ، و " Mouse Hole " وتعني " جحر الفأر " ، و " The monkey " وتعني " القرد " ، وهي كلّها عبارات لا صلة لها بحقيقة الكلاب والفئران والقرود ، ولكنّه إيحاء الواقع ، وسحر الإصطلاح ، وسرّ الإتّفاق الراتق للمعاني ، والمقدّم من غير وصفات استعمال لأنّ مَن سيستعمله يُفترَض فيه العلم به مسبقا ، وإذا ما حدث لومٌ أو نقدٌ من غير أهل الفنّ ، فلا عبرة بالمتطفّلين الثقلاء .
وكذلك شأن الواسطة بالقياس إلى العلم اللدنّيّ .
إنّ الواسطة المقصودة هي الواسطة الطبيعية المألوفة في تلقّي العلوم اعتمادا على الحواسّ الجسديّة والعقل . وبديهيّ أنّ قولهم هذا لا يعني جحودا لهذه النعم كما يدّعي خصومهم ، ولكنّه يعني أنّ هذه النعم ليست الوسيلة المناسبة لنيل العلم اللدنّيّ لأنّ اختلافه عن العلوم المعتادة ليس اختلافا كميّا ليكون الجدّ والنبوغ كافيا لطيّ مراحله واللحاق بكلّ ذي سبْقٍ . الإختلاف هنا اختلاف في الكيف والطبيعة والماهية الخارجة عن دوائر الحيل ونطاقها .
بل وكذلك شأن كلمة " اللدنّيّ " التي لا تعدو أن تكون إطلاق إسم على مسمّى لتمييزه عن غيره من العلوم ، إذ لا يُعقل أن يُترَك نكرة لا علامة له أو عليه . والأهميّة ليست في اصطلاح الناس واتّفاقهم على الإسم ، إنّما هي في المسمّى وقيمة ما يرمز إليه ويحمله . والمسمّى جوهر موجود سواء باسم أو بغير إسم ، أو أُطْلِقَ عليه كلّ يوم عنوان جديد .
وكلمة " اللدنّيّ " هي نسبة إلى كلمة
لَدُنَّا
المذكورة في الآية الكريمة
وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا
،
إختارها العارفون بالله رضي الله عنهم من باب التحرّي في استعمال إسم له مغزى وهيبة ، وذلك جائز لأنّ العنوان الذي يرتبط بفنّ سيلزمه على الدوام ، ومن حقّ الفنّ على القائمين عليه تكريمه بإسم هادف جميل لطيف .
ولو أنّ المنكِر رفض الإسم لكان ذلك من قبيل حريّة التعبير عمّا لم يستسغه . أمّا أن ينكر جوهرا موجودا بذاته ، حقّا وحقيقة ، فقط انطلاقا من عنوانه ، وانطلاقا من مفهوم استبدّ به ، فهو العجب العجاب . إنّه بمثابة امرئ ينكر على " آينشتاين " نظرياته في علوم الذرّة والنسبية ويقول للناس : " لا تصدّقوا هذا الأفّاك ، فالعلم كلّه لله ، ولا داعي لهذا التصنيف الذي يذكره لكم " .
ولا أظنّ أنّ في الدنيا مخلوقا عاقلا ينكر في مصالحه على إطلاقها دور الأسباب ، فكيف بأكمل المخلوقات ، بعد الرسل والأنبياء ، عقلا ودينا ؟
ولو تمتّع صاحبنا بذرّة من بداهة لأحجم عن ظلمه ، لأنّه في تلك الحالة سيعلم أنّ الدليل على عدم الواسطة ليس دليلا ماديّا حتّى يمارسه مدّعي عدم الإحتياج لها ، ويفلح هو في إظهاره للناس باتّخاذ هيئاتٍ متحرّكة أو ساكنة . فمتى كان السكون توقّفا ؟ ومتى كان الصمت تعطيلا ؟ ومن قال أنّ أطباق الفكر والعلم والإبداع الفنّيّ والصناعة الذوقيّة لا تُعَدُّ إلاّ في أفران الجوارح الذاهبة والآيبة ؟ مهما كان الحال ، فإنّ هناك دائما واسطة عاملة تتغيّر بتغيّر عمق بيئة من ينشد خدمتها ، إن لم تكن ماديّة محضة فهي معنويّة عقليّة ، وإن لم تكن كذلك فهي معنويّة روحانيّة . ولقد كان يكفي هذا المسكين دليلا على حتميّة الواسطة ضرورة صفة الوجود في المخلوق لأنّها الأداة الأولى للتعرّف على خالقه واسطة الوسائط كلّها ، جلّ وعلا .
وكما يرى القارئ الكريم ، فإنّ الرجل حدّد لنفسه منوالا من الوسائط ، وأراده لنا ، لكنّه لم يذكر لنا اختلافاتٍ في الوسائط من الضروري الإشارة إليها لأنّه رأى أن في إبدائها فتْح باب تهبّ عليه منه رياح المتاعب أمام تلاميذه .
هذا الباب هو تقديم وسائط العامّة وواسطة الأنبياء والنبوّة بدون توضيح للفوارق بينهما لأنّ في تلك الفوارق تفسير الأمر كلّه . فإذا كان الناس العاديين يتلقّون علومهم من أناس عاديين مثلهم ولو فاقوهم في درجات المعرفة ، ويسعون إلى المدارس سعيهم لنيل كلّ رزق وما يسبق ذلك ويتبعه من ضرورات ونتائج وأحاسيس يعيشها ويعانيها كلّ من عرك نفس الظروف ، فإنّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وإنْ كانوا في جانب من جوانب خلقهم كالناس العاديين ، يتلقّون علمهم عن وحيٍ وبواسطة الملائكة ، وهي مخلوقات غير عادية ولا هي من جنسهم ، وبالتالي فإنّ وسائلهم كذلك ليست عادية . إذنْ فلم يكن يكفي لنفي العلم اللدنّيّ الإستشهاد بواسطية تلقّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنّ نهاية الإشكال ليست في مجرّد ثبوت الواسطة ، ولكن في نوعية الواسطة ، وقد رأينا أنّها مختلفة . فالسكوت عند هذا الحدّ ليس من الأمانة في شيء لأنّه تملّص من إحراج يرى المُحْرَج أنّه سينجرّ عن قول الحقّ ولا سبيل لتتفاديه سوى إنكاره أو الإلتجاء إلى تدليس ممقوت لا يليق بالمؤمن .
ولو كان مجيء الملك هو الواسطة الوحيدة لتلقين سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لاحتجّ البعض بقولهم أنّ للملَك القدرة على الحضور على هيئةٍ آدميّة ، وأنّ الأمر كلّه يتمّ على نفس النمط العاديّ . لكن الذي نعلمه في الدين هو أنّ وسائط تلقّي سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متعدّدة ، وكلّ واحدة منها أعجب من الأخرى .
تأمّلوا معي هذه الأحاديث الشريفة ثمّ احكموا .
1 -
عن سيّدنا جابر بن عبد الله الأنصاريّ رضي الله عنه قال ، وهو يحدّث عن فترة الوحي ، فقال في حديثه:
«
بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسيّ بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت زمّلوني زمّلوني
»
2 -
عن سيّدتنا عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها :
«
أنّ الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال : يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّه عليّ فيفصم عنّي وقد وعيت عنه ما قال وأحيانا يتمثّل لي الملك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول
» .
3 -
عن سيّدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال :
«
كان إذا نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الوحي يسمع عند وجهه دويّ كدويّ النحل
» .
4 -
وقال سيّدنا ومولانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم :
«
وإن الروح الامين نفث في روعي أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها
» .
واضح ممّا قدّمنا من أحاديث أنّ مناط الأمر كلّه هو أنماط الوسائط ، أمّا فكرة انعدام الواسطة فقد افتضح زيفها وزيف الفاشلين الذين يتّخذونها جُنّة .
إنّ المنكر يصرف اصطلاح الصوفيّة في التلقّي على هواه ، وإذا قُدّم له دليل خطئه ناصعا أبلجا رفض المادّة المُتَلَقَّاة من أساسها . ومن بين الحجج التي يلتجئ إليها : عدم صحّة القياس بأحوال الأنبياء .
لكننا لم نقدّم تلك الأحاديث لنقيس أحوال مقام النبوّة ومتعلّقاتها على غيرها ، وإنّما لنعطي الدليل على جواز الظاهرة بالقياس إلى ما لا يستحيل على الله سبحانه وتعالى من أفعال بينه وبين خلقه كلّ حسب مرتبته .
إنّ وسائط التلقّي والتعلّم العجيبة تكاد لا يحدّها حدّ ، وإنّها لتوغل في الخفاء والسريّة إلى درجة تستوي في علم الناس العاديين مع المعدومات ، وقد وقعت أو ستقع لعباد ليسوا بأنبياء ، بل ولحيوانات ، بل ولجمادات أصلاً .
ونقدّم في ما يلي لمن متّعه الله بدرجات المتواضعين له ولخلقه أمثلة متّفق عليها من أحاديث وأخبار ليرى الدليل الدامغ الصادق القائم على هيئة الأعلام الباذخة التي لا يخطئ رؤيتها إلاّ أعمى بصيرة ، ولا ينكرها سوى محروم .
-
الصبيان الذين تكلّموا .
روى الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة رضى الله تعالى عنه قال ، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم :
«
لم يتكلّم في المهد إلاّ ثلاثة عيسى بن مريم وشاهد يوسف وصاحب جريج وابن ماشطة بنت فرعون
»
وسوف لن نستشهد بكلام سيّدنا عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام لأنّنا اتّفقنا على تقديم أدلّتنا ممّا وقع لغير الأنبياء .
-
روى الإمام مسلم والإمام أحمد رضي الله عنهما وأرضاهما ، في سياق تفسير قصّة ضحايا الأخدود المذكورة في القرآن ضمن آيات سورة البروج الكريمة ، عن سيّدنا صهيب رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : ( سنذكر فقط جزءً من الحديث ) :
«
... فأمر ( يعني الملِك ) بالأخدود في أفواه السكك فخدّت وأضرم النيران وقال من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها أو قيل له اقتحم ففعلوا حتّى جاءت امرأة ومعها صبيّ لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام يا أمّه اصبري فإنّك على الحقّ
»
-
وهذا جزء من قصّة ماشطة فرعون المجاهدة رضي الله عنها ، كما يحكيها الإمام البغوي في تفسيره :
«
... فأتى ( يعني فرعون ) بابنتها الصغرى ، فلمّا أضجعت على صدرها وأرادوا ذبحها جزعت المرأة ، فأطلق الله لسان ابنتها فتكلّمتْ ، وهي من الأربعة الذين تكلّموا أطفالاً ، وقالت : يا أمّاه لا تجزعي فإنّ الله قد بنى لك بيتاً في الجنّة . إصبري فإنّك تُفضِينَ إلى رحمة الله وكرامته ، فذبحت ، فلم تلبث أن ماتت فأسكنها الله في الجنّة »
-
شاهد سيّدنا يوسف عليه الصلاة والسلام .
وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ
[ سورة يوسف - الآيتان 26 - 27 ]
-
واقعة الناسك جريج .
روى الإمام البخاري رضي الله عنه عن سيّدنا أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : ( جزء من الحديث )
«
فتوضّأ وصلّى ثمّ أتى الغلام فقال من أبوك يا غلام قال : الراعي
»
- كلام الحيوانات .
روى الإمام أحمد رضي الله عنه
عن سيّدنا أبي هريرة رضي الله عنه قال :
«
صلّى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة ثمّ أقبل علينا بوجهه فقال
بينا رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها قالت إنّا لم نخلق لهذا إنّما خلقنا للحراثة فقال الناس سبحان الله بقرة تتكلّم فقال فإنّي أؤمن بهذا أنا وأبو بكر غدا وعمر وما هما ثمّ وبينا رجل في غنمه إذ عدا عليها الذئب فأخذ شاة منها فطلبه فأدركه فاستنقذها منه فقال يا هذا استنقذتها منّي فمن لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري قال الناس سبحان الله ذئب يتكلّم فقال إنّي أؤمن بذلك وأبو بكر وعمر وما هما ثمّ
»
.
إنّ جميع ملابسات القصّة إبتداء من المخبر سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وانتهاء بساداتنا الصحابة المبدين لتعجّبهم الجمّ ، ومرورا بخليفتيّ النبيّ عليه وعليهم الصلاة والسلام الذيْن لم يُثِرْ فيهما الحدث أيّ انفعال ، كلّ هذا إشارة إلى لامحدودية طرق تعليم الله عباده وإلى لانهائية أنماط العلوم الخارقة الموهوبة . وهو كذلك درس بيداغوجي راقٍ ودقيقٍ من أعظم معلّم عرفه الوجود من بين خلق الله فصّل فيه الحبيب الأكرم جميع مراحل الظاهرة بالقياس إلى متلقّييها ، وبيّن مواقفهم من أمثالها وفقا لطبائعهم واستعداداتهم وسعة أوانيهم . فالقصّة هي نموذج حيّ صارخ للإبداع الإلهي في تشكيل خلقه وتصريفه لملكاتهم على أنحاء مبهرة معجِزة . وسيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو ناقل الخبر ، وكفى به مخبرا ، فهو نائب عن صاحب البقرة والراعي ، والصحابة الكرام الذين صدّقوا لكنّهم تعجّبوا مثال على فئة يُثير فيها غير المألوف تساؤلات ، إن كانت لديهم لا تعني سوى الإستغراب البريء ، فإنّها عند أكثر المتسائلين سواهم تتحوّل إلى إنكار بالجملة . وأمّا سيّدنا أبي بكر وسيّدنا عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما فَهُمَا مثال أصحاب العقيدة المسيطرة على كلّ ما له سيطرة على ذواتهم ، ولذلك صدّقوا ولم يتعجّبوا لأنّ حالهم كان كحال من حضر وقوع الحادثة ، ولذلك عبّر سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نيابة عنهما في محلّ لا ينوب عادة فيه واحدٌ عن واحدٍ ، وقَرَنَ تصديقهما بتصديقه ، وقال :
«
إنّي أؤمن بذلك وأبو بكر وعمر ومَا هُمَا ثَمَّ
» ، ليُنْبِئ مَن كان حاضرا ومن يصله حديثه عن عظمة الإعتقاد في خبر مَن تثبت عدالته ويتحقّق صدقه وورعه وتقواه .
وأسأل المنكر : كيف علِمتْ البقرة أنّها لم تُخلق للركوب ؟ وفي أيّ معهد تعلّمتْ لغة الرجل الذي كان يملكها ؟ فإذا كان كلامها كلاما خاصّا بالبقر ، فمَن علّم المالك لسان البقر ؟ وأنا أسأل كلّ من يصل إلى هذا المستوى من المقال ويقرأ كلامي ، هل تعرف " يوم السبع " ؟ فإن كنتَ منكرا على العلم اللدنّيّ ولا تعرف أنّ هذا اليوم لا محالة موجود ، فإنّي أبشّرك بأنّ ذوات الأنياب أعلم منك ، وأفصح منك في تقديم دروس الإقناع وتدبير شؤونها ومصالحها .
أمّا نحن ، فلا ريب عندنا أنّ تلك العجماوات قد زُجَّ بها في قبضة " كنْ " فبُدِّل الطبع غير الطبع ، وذلّلتْ لها ضروب الإستعدادات في أسرع من طرفة العين ، فوجدت نفسها عالمة مؤدّية وموفّية .
ويجب على من يقرأ القصّة أن يتنبّه إلى أنّ وقت سردها كان مقترنا بوقت انصرافه صلّى الله عليه وسلّم من مكتوبة ، وهو دليل على أهمّية مراميها ، وعلوّ شأنها ومرتبتها في حياته وفي أمّته من بعد رحيله .
- كلام الجمادات .
وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه
أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال :
«
لا تقوم الساعة حتّى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتّى يختبئ اليهود من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهوديّ خلفي فتعال فاقتله إلاّ الغرقد فإنّه من شجر اليهود
»
.
إذنْ ، فإنّ الله سبحانه وتعالى يمكّن الحجر والشجر ، ليس فحسب من النطق ، ولكن أيضا يُعْلِمُه بحقيقة عقيدة المختبئ وراءه ، وحقيقة عقيدة الباحث عنه .
أراد بعض الناس تأويل كلام الحجر والشجر وحمله على معاني إشاريّة يراد بها استعمال المخترَعات العالية في الإتّصال ، إلاّ أنّ ذلك لا يستقيم مع ذِكْرِ شجر الغرقد باسمه وعينه . بل على العكس ، فلو تعلّق الأمر بالمخترعات فإنّه لن يتكلّم سوى هذا الشجر لينبّه اليهوديّ إلى الخطر لأنّه شجرهم ، وفيهم الروّاد في الإختراعات والعلوم .
حقائق الإخبار
إنّ واقع الصالحين هو تاريخهم إلى يومنا هذا ، وإلى يوم الدين إن شاء الله . وإنّ تجاهل الواقع جملة وتفصيلا هو تجاهلٌ يعكس جهلاً حقيقيّا لأصحابه بمرتبة الوقائع المكوّنة له التي يمكن أن يتبوّءها على مدرج الحقيقة . ذلك الإمكان يمكن أن يكبر ويقوى ويدوم حتّى يُكَوّنَ ظاهرة تُجيزها معايير الحقّ إلى ضفّة الحقائق الثابتة .
وليس لدينا شكّ في أنّ الرجال يُعرفون بالحقّ ، لكن الرجال قد يتحوّلون بملازمتهم للحقّ وخدمتهم إيّاه إلى ترجمان له يشعّ الحقّ من سلوكهم ، ومن شهادات المحيط القريب والبعيد منهم ، ويكون من العبث المؤسف التعامل مع هؤلاء بنفس مقاييس تعاملنا مع المجاهيل أو المبتدئين .
إنّ ذلك الإشعاع وتلك الشهادات لم تنشأ من لا شيء ، وليست من صُنْع ظرف قصير الأمد اجتمعتْ خلاله كلّ أسباب فرص القفز إلى أعلى المراتب ثمّ ولّى والناس بين غافل ومتعجّبٍ . إنّه رصيدٌ ثمين تكوّن في رحم الحلال ، ونما على وتيرة مرور الساعات والأيّام والشهور والسنوات سافراً مكشوفا لكلّ عين ، ومعروضاً منذ مبتدئه إلى منتهاه أمام كلّ عقل وبصيرة لنقده وتقييمه والحكم عليه أو له .
ولَكَمْ تمرّ الإنسانية بجانب حقائق دون أن تستفيد منها لمعرفة الحقّ . يحدث هذا بسبب الجهل ، لكنّه قليل بالقياس إلى ما يحدث بسبب الإسراف في الركون إلى الذاتيات . وما أخطرها حين تستبدّ بأصحابها فتحوّلهم إلى جاحدين .
لقد أرسل الله سبحانه وتعالى رسله وأنبياءه عليهم الصلاة والسلام إلى أممهم فكان من بينهم المصدّق والمكذّب . ولو تعمّقنا ودقّقنا في سرّ التصديق والتكذيب لكان السؤال الذي يطرح نفسه هو : " لماذا يكذّب هذا ويصدّق ذاك ؟ " . شيء يحيّر حقّا ! هذان الشخصان من نفس المجتمع المحيط بذلك المبعوث من عند الله ، معروف لكليهما حقّ المعرفة ، ولم يكونا ليختلفا على شيء من متعلّقاته قبل ظهوره على حالته الجديدة . فَلِمَ وقع الإختلاف ؟ ولِمَ الآن ؟
الشيء الذي لا شكّ فيه هو أنّ لكلّ أمر جديد ردّة فعْل تقوى وتضعف حسب طبيعة الأمر البارز . والذي لا شكّ فيه أيضا أنّ أمر النبوّة ظاهرة عنيفة مزلزلة لما اعتاده الناس من ظواهر . ولذلك فإنّ ردّة الفعل لن تكون مقصورة على المكذّب حتّى نحصر فيها كلّ " حالة التكذيب " . إنّ لكلّ مؤمن ردّة فعل كذلك ، وقد تكون أعنف من تلك الصادرة من المكذّب ، وبالرغم من ذلك فإنّها لا تمنعه من اختيار دائرة الإيمان .
المشكلة ليست في ردود الأفعال إزاء الظواهر المستجدّة ، وإنّما المشكلة في ما ينجرّ عن تلك الردود من نتائج ، وفي مَن يُدير دفّة المواقف : أهي ردّة الفعل أم صاحبها ؟
والله سبحانه وتعالى حين يُلقي بأمره فإنّه برحمته يشفعه بكلّ لوازم تصديقه وتقبّله . فإذا ما عانى الخلق من استعصاء جانبٍ على الفهم فإنّ لهم في جوانب أخرى ما يمنحهم فهوما تصلهم بحكمة أمر مولاهم . وفي مثال الأنبياء والرسل الذي ذكرناه فإنّ الحالة التي تتبع ردّة الفعل هي حالة البحث عن وسيلة فهم الأمر الجديد ، وهنا مفترق الطرق بين التصديق والتكذيب .
ردّة الفعل للمكذّب تكون حجابا يعمي البصيرة ، ويكبح التفكير ، ويقيم السدود في قنوات سريان حكم الصواب .
أمّا ردّة الفعل للمصدّق فتكون رجّة منبّهة ، تهرع بواسطتها كلّ ما عداها من الحقائق في حقّ صاحب الأمر تترى مذكّرة إيّاها بعدم استأثارها بإدارة دفّة قيادة العقيدة ، أو احتكارها قرار اختيار الوجهة والمصير .
سدود تُقام في وجه هذا ، ونوافذ تُفتح في وجه ذاك بينما المنطلق واحد .
والتفسير الوحيد لهذا الإختلاف هو الركون إلى الذاتيات ، واستمراء ندائها وتوجيهها في حالة التكذيب ، والتنصّل من ذلك ، والتبرّء منه في حالة التصديق . أقول " التفسير الوحيد " لأنّ القضيّة تتعلّق بظاهرة موضوعية خارجة عن ضبابية التأويل والظنون . هذه الظاهرة هي : سيرة صاحب القضيّة بين معاصريه .
ولا يستخفّنّ أحدكم بما أقول ، لأنّ سيرة الأشخاص هي الجانب العلميّ الثابت المعوّل عليه في تحديد علاقات أولئك الأشخاص بكلّ أمر ذي بال ، وسرّ ذلك كامن في نقطتين :
الأولى : المعرفة الشبه مطلقة للأعداد الهائلة من أهل العصر لذلك الشخص وشهادتهم على سيرته .
الثانية : تنوّع مظاهر تلك السيرة ، وتجلّيها على أوجه مختلفة . إختلافٌ يحمل الكثيرُ المفهومُ منه العقولَ المتردّدةَ على التأنّي أمام الغريب الشاذّ الحدوثِ قبل الحكم عليه ، إذ لا يُعقل أن يتقلّب شخص ، مهما كانت عبقريّته ومكره ومكائده ، بين الحقّ والباطل من غير أن يتنبّه المحيط لألاعيبه .
قال سبحانه وتعالى في محكم تنزيله :
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ
[ سورة المؤمنون : الآية 69 ] . وتحمل هذه الآية قاعدة علمية ثابتة مفادها أنّ المعرفة الحقّة بالأشخاص ، المبنيّة على طول المعاشرة والصحبة والتجربة ، هي الوسيلة الحقيقية للحكم إمّا بالإقتداء والإتّباع أو بالهجر والترك .
وإذا ما أخذنا سيرة شيخنا سيّدي أحمد التجاني رضي الله عنه سنجد أنّ هذه القاعدة الربّانية تنطبق عليها تماما . فهو رضي الله عنه انطلق في مضمار العلم والمعرفة وتقوى الله منذ نعومة أظافره محفوفا برعاية الله تعالى ثمّ برعاية والديه الشريفين . لقد كان رضي الله عنه طالبا من جملة ملايين طلاّب العلم في العالم الإسلاميّ ، ومن بين ملايين الشباب الناشئين في تقوى الله ، ومن بين الآلاف من أقرانه في التميّز والنبوغ . لقد كان رضي الله عنه محطّ أنظارٍ أجمعتْ كلّها على نفس السمة والعلامة : ثباته على المنهج الإلهي القويم .
فلمّا خرج على الناس مصرّحا بما وهبه الله من فضل الولاية ، انقسم الناس إلى قسمين : قسمٌ سُدّت أمامه كلّ منافذ الموضوعية والصواب بفعل التصريح الغير مألوف ، وقسمٌ نظر إلى رصيد الرجل وحقيقته طيلة سنين ، فتريّث قبل البتّ في ما صرّح به ، فرأى عظيما تربّع على عرش العظمة حين امتنعتْ عن غيره وحين كانت الفرص ممنوحة للجميع دون تعقيد ، ورأى أنّ فحوى ما صرّح به لم يصدر عن تغيير في منهجه الربّاني الذي اتّبعه من قبل ، ولكنّه صدر عن تغيير في المواهب بواسطة ذلك المنهج نفسه ، والدليل على ذلك رصيد معرفة محيطه به بعد التغيير ، واطّراد القاعدة المذكورة أعلاه الناصّة على أهمّية المعرفة قبل الحكم .
إنّ الشاهد على استقامة شيخنا سيّدي أحمد التجاني رضي الله عنه قبل فتحه المبين ، ثمّ المنكِر عليه بعد ذلك ، ليس له أرض صلبة يتّخذها منطلقا لإنكاره إلاّ اتّباع ذاتية متغطرسة استبدّتْ بكلّ قواه وسخّرته لخدمتها المهلكة ، والدليل على ما نقول هو ثبات المنكَر عليه على منهجه المشهور به المقبول منه قبل الإنكار ، يُرى ذلك واضحا مبسوطا في أسلوبه الدعويّ ، وفي دروسه ووصاياه وتعاليمه وأوامره ونواهيه وتحذيراته التي استمرّت ردحا من الزمن يساوي ما أمضاه على نفس الدأب قبل فتْحِه .
إنّ لسان الحال يقول للمنكر على شيخنا : " ألم تعرف الرجل فأنت له مُنكِر ؟ "
ويقول أيضا نفس الشيء لمن ينكر على سادات الأمّة من أمثال الفضيل بن عياض والحسن البصري وإبراهيم بن أدهم ومعروف الكرخي والسريّ السقطي وأبي يزيد البسطامي وذي النون المصري وعبد القادر الجيلالي ومحي الدين بن عربي وعبد السلام بن مشيش وعبد الوهّاب الشعراني وجلال الدين السيوطي وسيّدي بومدين وعبد العزيز الدبّاغ وعبد الرحمن الثعالبي وغيرهم من الآلاف المؤلّفة من كبار صالحي هذه الملّة الحنيفية ، المشهود لهم بالصدق والتقوى والورع والزهد والعلم والجدّ والإستقامة والجهاد الأكبر والأصغر والتربية والوعظ وخدمة المسلمين ومحبّة الخلق إلى حدود تكاد تكون من ضروب الخيال . هؤلاء العدول الأصفياء المقرّبون أئمّة المتّقين في عصورهم كلّهم صرّحوا بالعلوم اللدنّيّة ، وبما وهبهم الله من فتْح يقينيّ ثابت . فبأيّ منطق أو دين يحكم المنكِر عليهم بالضلال ؟
ونحن حين نلتمس المعاذير للمنكرين فإنّنا نلتمسها لهم في محالّها وليس كيفما اتّفق . فلو أنّ تميّز الصوفيّة رضي الله عنهم نتَج عن تحوّل جذريّ في مرحلة تَلَتْ مرحلةً أخرى من أعمارهم اشتهروا فيها بسلوك بحيث انعدمت كلّ آثار ذلك السلوك فيها ، لقلنا أنّ إنكار المنكرين مبرّر ، ولكان من الصعب على كلّ متّبع لهم العثور على براهين تثبت صواب تحوّلهم . لكن ما هو كائن بالفعل - وبدون استثناء - هو ليس تواصل خطّ سيرتهم المستقيم قبل الفتح فحسب ، بل وازدياد متانته وقوّته وشدّة تعهّده بالمراقبة والإصطبار عليها ، ولن تجد في سلوك ساداتنا الصوفيّة ازدواجية في المرجعية حين يصرّحون بما اختلف الناس فيه من شؤونهم أو ما اتّفقوا عليه ، ولا ، ولن ، يتسنّى لأحد تحديد مواضع في أنبائهم وإنبائهم يغيب فيها ميزان الحقّ الإلهيّ فيدرجها المنكر ضمن الباطل . إنّها حُزم من مكوّنات منهج كامل تشابكت مع بعضها كالظفيرة المحكمة ، رابطها الوحيد الأمر والنهي الإلهيّيْن ، ومن غير الممكن لأيّ مخلوق حاز من الإنصاف ومن تقوى الله ولو قليلا ادّعاء الجزم بإطلاق صدق حيثيات حُكْمٍ بالباطل على مثل هذا المنهج وهو على هيئته المحكمة المذكورة ، ولا سبيل إلى الحكم عليه في غير تلك الهيئة إذْ أنّ كلّ هيئة عداها تكون تشويها لصورته الحقيقيّة ، وتصرّف مرفوض لأنّه إصرار على إنابة مَن لا أهلية له على النيابة ، ولا صلة له بالمَنُوب إلاّ صلة وهمية من صُنْع هوى وذاتية المصرّ على البغي والعدوان .
ويخطئ مَن يرى في كلامي دعوة إلى إلزام الخلق بضرورة التصديق بمبدئي ، وبحتميّة التسليم لأهله كتسليمي لهم ، والإعتقاد فيهم على دأبي . فلستُ أرافع عن ساداتنا الصوفيّة على منبر عواطفي ، لأنّي - وبفضل الله وحده - من أعلم الناس بعقم مثل هذا التصرّف . ولستُ أرافع - كذلك - مستعطفا اعترافاً هو في حدّ ذاته ليس مدرجا في قائمة ضَوَالّ أهل الله حتّى يظنّ ظانّ أنّهم يطلبونه منّي أو من غيري .
لا ذلك ولا ذاك .
المخدوم بحقّ هو الحقّ ، والمعنيّ بالخطاب هُمْ أهل الإنصاف والموضوعية ، والمعنى المراد إيصاله من دعوتنا هو الوقوف والإعتدال على صعيد الإستقامة في الفكر والنقد . فهل في رفض المدرّس على الفضائية للعلم اللدنّيّ شيء من الإنصاف والموضوعية ؟ إنّ أقلّ ما يوصف به هذا المنكر هو تكذيبه بما لم يُحط به علما . فليس له من وسائل الرفض إلاّ تأويله وظنّه وتخمينه ، وهي وسائل يعلم أهل العلم أنّ الحرب سجال بين نتائجها من عقلٍ إلى آخر بالرغم من انتمائها إلى نفس الأنماط الفكريّة ، تجري عليها سنن القوّة والضعف واستواء كسب الجولات وخسارتها .
فكيف بتلك الوسائل أمام مواجهة لم تُخلق لها ، ولا لها حيلة في اقتحام ميدان صالت به وحدها وجالت .
لست أتحدّث عن وهْمٍ أو خيالٍ .
ولا زلت على صعيد المنطق والموضوعية والحياد ، ولن أخرج عنه قيد أنملة بإذن الله .
أيّ مفعول أو فعالية للظنّ والإستنتاج - مهما كانت قوّة منطقهما - أمام الواقع الحقّ أو الحقّ الواقع ؟ أيّ مكسب للرّأي المجرّد المنفصل الغريب أمام الظواهر المُعاشة المجرّبة ؟
وإليكم هذه الحكاية القصيرة ذات العبرة الجليلة .
عندما كانت وسائل الحرب البحريّة في بداياتها لم تكن تتمتّع بالمستوى التكنولوجي العالي المعروف في أيّامنا . وللتيقّن من النجاح في إغراق غوّاصة ، كانت الجيوش تستعين بظهور بقعة زيت طافية على وجه الماء ، حينئذ يرفع تقرير إلى القيادة أن قد تمّ التخلّص من غوّاصة للعدوّ . ذات يوم دخل أحد ضبّاط العمليّات إلى مكتب الأميرال ، وقال ، بعد أن أدّى التحيّة العسكرية : " حضرة الأميرال ، لقد أغرقنا غوّاصة " ، فنهض الأميرال من كرسيّه قائلا : " هذا جميل جدّا ! وطبعا ، فقد لاحظتم بروز بقعة الزيت " ، فردّ الضابط : " لا يا حضرة الأميرال ، لم نر شيئا " ، فنهره الأميرال قائلا : " إنّكم إذن لم تُغرقوا شيئا . أغربْ عن وجهي " ، قدّم الضابط التحيّة العسكرية واستدار للخروج . لكنّه قبل أن يفتح الباب ، إلْتفتَ ثانية إلى الأميرال وأضاف : " حضرة الأميرال ، ماذا نفعل بالأسرى " .
كيف يتسنّى لك تكذيب وصفي لشهاداتي تحت نور المعاينة المباشرة اعتمادا على مرجعيّةٍ مبلغ قوّة إخبارها تحسّسٌ وتلمّسٌ تحت سدول ظلمات غيبك ؟ كيف يتسنّى لك تكذيبي - كما قال أحد الإخوان - عند إخباري لك عن ألَمٍ ألَمَّ بضرسي ؟
إنّها حدود عالم ذوقيّ شخصيّ ليس لعقول الغير بداخله من تصرّف ولا سلطان ، وليس لها أملٌ في جمْع براهينها منه .
ما لم يفهمْه هذا المنكر - وأمثاله - أنّه لم يُكتبْ على الفاضل الحرمانُ من مواصلة رقيّه إلاّ إذا تعهّد برَبْطِ كلّ مفضول به واصطحابه معه إلى حيث تعلّقتْ همّته . كأنّي بهؤلاء المنكرين يطالبون بإرساء مبدإ " لا إضافة ولا تغيير حتّى أنهي ما تراكم لديّ من شؤون لم أفهمْها " . هل يطلب هؤلاء تعطيل قوانين التفوّق والتميّز والإنطلاق ؟ وبعبارة أخرى أشمل ، هل يطلب هؤلاء المنكرون التحجير على الممكن في حيّز آفاقهم فلا يَنْفَذُ ولا يُنَفَّذُ إلاّ ما كان برداً وسلاماً على أوانيهم الهشّة والضيّقة ؟ ولم يعلم هؤلاء أنّ هشاشة أوانيهم وضيقها ، وإن كانت مبرّرا كافيا لهم في الرفض ، ليست بشيء ذي وزن بالقياس إلى الحقائق المطلقة أو حتّى الحقائق النسبيّة لأنّ الحقائق - مطلقها ونسبيّها - غير خاضعة إلاّ لإرادة الله وحكمته ، وهي صفات لا تحدّها حدود ، ولا تأتي أيّ حسابات لها على حصر .
وهنا نضع إصبعنا على مفهوم من أخطإ المفاهيم لدى المنكرين على التصوّف والصوفيّة حين يتحدّثون عن خصوصيات تفضّل الله بها عليهم . هذا المفهوم الباطل هو : " أنّ الإيمان بتلك الخصوصيات وتقبّلها شهادة سافرة على تقصير سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في التبليغ ، وإيثاره فئة على أخرى بالفضل ، ولو كان خيرا لأعطاه للجميع ، وهذا طعن في كمال الدين واكتمال الشرع " .
إنّ مشكلة المنكرين الحقيقية ليست في طبيعة خصوصيات الصوفيّة بقدر ما هي في ضخامة غلطهم في تصوّراتهم لتلك الخصوصيات ، وهي تصوّرات شاركت في نسجها أنامل عدّة ، وأهمّها المعلومات الزائفة المشوبة بالتشويش والمفتقرة إلى الوضوح المسؤول عن تلقّيها على حقيقتها لتتمّ معرفتها معرفة دقيقة . هذا نوع من السدود والحجب التي تحدّثنا عنها أعلاه إزاء العلم الصحيح والتي ورّطتهم في تعقيدات للأمور التي لا عقدة فيها أصلا .
فما فسّره المنكر بالإيثار الظالم بالفضل لفئة على فئة ، وتقديمٌ مجحفٍ لقوم على آخرين ، هو تخيّل خاطئ على الإطلاق يسقط بالأدلّة التي سوف نسوقها ، ويسقط معها - طبعا - كلّ ما انجرّ عنه من اتّهام بالتقصير في التبليغ .
والحقيقة التي لا ثاني لها ولا تعقيب عليها هي أنّ كلّ فرص الأفضال الإلهيّة على عباده مكفولة للجميع تماما كفرص النشأة على الإيمان به سبحانه وتعالى عندما أخرجهم من بطون أمّهاتهم على الفطرة . ولمّا كان الوالدان هُمَا المسؤولان عن استمرارية المولود في المضيّ على نهج الله أو العدول عنه ، فإنّ نيْل الأفضال الإلهيّة مرهون كذلك بمدى التقيّد بشروط وقواعد آليات السعي المنصوص عليها قبل كلّ انطلاق بدون استثناء .
فكما نرى ، فإنّ الفرصة عامّة والقانون واحد .
لكنّه لا يكفي أن تُعرف الفرصة والقانون لتنتهي عمليّة التقييم ، بل إنّ ذلك هو البداية ، لأنّ التقييم خاضع لمجاهيل غاية في التعقيد والكثرة ، مطمورة بأغوار النفس والطبيعة الإنسانية ليست ، هيَ ولا موازين الحكم فيها ولا نُظُم التحكيم ، بيد أحد من الخلق حتّى يُدْلَى في نتائجها برأيٍ أو يطالب بتقديم أو تأخير . عند هذه النقطة من التحليل يتّضح البون الشاسع بين الحقيقة المستقرّة على أرض الحقّ وانتفاخ تصوّرات المنكرين الذين يروْن كلّ شيء يتعلّق بالصوفيّة من قبيل المفاهيم الأسطورية المنفصلة التائهة الغريبة عن بيئتها التي حلّتْ بها والتي يجب نبذها .
التصوّف صورة لسَبْقِ فئةٍ على أخرى وليس إيثار فئة على أخرى . سبْقٌ على مضمارٍ محيطٍ بجميع المتنافسين إحاطة الهواء بالأنف ، وإحاطة الماء بالزعانف . نحن أمام أبعاد روحية ولسنا أمام أبعاد تقاس فيها المسافات بالكيلومترات والسنوات الضوئية . في مثل هذا المضمار لا يوجد ما هو أقرب إليك من فوزك ولا يوجد ما هو أبعد منه كذلك . وقد تكون في حقيقتك في ذروة تقدّمك وأقصى سرعتك وتسارعك وأنت ثابت في مكانك ، بينما يكون غيرك في غاية الركود والثقل والتخلّف وهو في ظاهره شعلة من طاقة لا يقرّ لها قرار ، ولا يجاريها في توثّبها مُجارٍ . ودليلنا الذي نقدّمه هو كلام المعصوم سيّدنا ومولانا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وما حصل الإجماع على صحّته وتواتره بصفته دينا وتشريعا للمسلمين كافّة .
العجائب في الإسلام
قال الخليفة الشيخ سيّدي البشير الثاني رضي الله عنه يوما ، ممازحا ومربّيا ( في ما معناه ) : " الناس يتساءلون عن الفتح ، ولقد أصبح الكلّ مفتوحا عليه في هذا الزمان بواسطة الوسائل الحديثة التي بين أيديهم " . والفتح الذي يقصده رضي الله عنه هو هذا الإستمرار في التنقّل النوعيّ بأعماق أسرار الطبيعة ومكوّناتها ، وأنّ كلّ ذلك إشارات من الله تعالى إلى أولي الألباب إلى لا نهائية تسلسل توالد العجائب ، وأن لا مانع عقليّا أو عقيديّا من دخول ظاهرةٍ في حيّز الإمكان مهما حفّتْ بها الأسرار الشبيهة بالمستحيلات بعد وقوع ذلك الأمر لما شابهها أو ما فاتها في الإستحالةً مرّاتٍ ومرّاتٍ .
وإنّ أولي الألباب يعلمون كذلك أنّ أسرار المولى جلّ وعلا لا تتركّز فقط في المادّة ، وأنّ عظمته سبحانه وتعالى تتجلّى أيضا في غيرها من أصناف خلقه المختلفة بكلّ المقاييس . تلك المادّة التي لم تُلْقِ لنا سوى جزءا يسيرا من مكنوناتها فضلا عمّن عداها .
وفي روح الدين الحنيف ونصوصه الصحيحة ما يؤكّد صحّة ما نقول .
لقد أشار سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صراحة إلى العجائب في الإسلام ، وفي ما يقع للمؤمن .
والعجائب مرتبطة بالإسلام ارتباطا بديهيّا لأنّ الإسلام طريق الله الخالق لعباده المكلّفين . فمَن انتهج منهجه سجد له اعترافا بكمال إبداعه في ما خلق ، وإنّي أرى أنّ المؤمن أوْلى من غيره في قابلية تقبّل العجائب إذا جاءت من مصادر ذات ثقة ومصداقية . لقد تبدّت العجائب في جواهر وذوات الخلق وفي سلوكهم وفي الظواهر المرتبطة بها بقدر ما استقرّ بين أيديهم من وسائل للرؤية والكشف .
قبل هذا العصر ، كانت الوسيلة لاكتشاف العجائب هي الحواسّ المجرّدة والعقل والخبرة . أمّا في عصرنا ، فقد سُخِّرت الآلة لتفتح لنفس الحواسّ أرتالا من الأبواب المتعاقبة ، كلّ باب ينفتح على عالم هو جُزَيْئ من العالم الذي يحويه ، إلاّ أنّ مكنون عجائب محتوياته تفوقه بنِسبٍ كبيرة جدّا . وقمّة الإبهار في المبهِر هي ثبات النِسَب بين المكوّنات وعالمها . نفس السكينة في كلّ العوالم المتداخلة ، ونفس توازن نسب الأبعاد والمقادير والأدوار في فضاءات لا فرق فيها بين ما تناهى في الكبر وما تناهى في الصغر .
أنظرْ حولك ، ثمّ تابع مراحل اكتشاف الإبداع في أيّ شيء تختاره ، فسوف ترى أنّ درجات عظمته تتضاعف كلّما ازداد الغوص في صلب الشيء المدروس . الصفة السائدة على الدوام هي النظام المحكم ، والغائية في كلّ دقيقة وجُزئية ، وصمتُ الأدب والإمتثال في التنفيذ .
لو نظرت بالميكروسكوب الإلكتروني اليوم إلى خليّة حيّة لرأيت ما يسلب لبّك من درجات الإحكام والإتقان وتعدّد الوظائف وتعقيد المهامّ ، ثمّ إنّه لو صادف أن وقع بين يديك حكما على نفس تلك الخليّة صدر منذ قرن ونصف لوجدتَ أنّ الكثير كان يعتبرها كيسا مملوءا بمادّة هلامية ، ولتملّكك ضحك يشبه البكاء من سخافة هكذا رأي . ويصدق هذا على قطرة ماء من بركة في الشارع أو في فتاتة بحجم حبّة الأرز من عفن على ثمرة أو في الأمواج العابرة للفضاء حاملة صورا وأصواتا ومكتبات ضخمة من كل لون تُنسخ وتُحوّر وتُطبع ، وغيرها . تلك نتائج لم تسقط بين الناس فجأة كالحجر ، وإنّما هي مرحلة من مراحل عدّة تدرّجتْ خلالها الحقيقة من مستوى إلى آخر لتمنح الخلق في كلّ مستوى درسيْن :
- الأوّل ، درْسٌ مباشر ، وهي معرفة ذلك المستوى المُدرَك .
- الثاني ، دعوة عامّة للجميع لانتظار المزيد ، وتذكير بإعداد ما يكفي من مساحات التقبّل عند حلوله .
وكما قلنا ، فإنّ سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اهتمّ في مواطن كثيرة من حديثه بذِكْر العجائب في الإسلام والقرآن . وفرْقٌ بين أن أحدّثك أنا عن عجبٍ وبين أن يحدّثك عنه سيّد الوجود صلّى الله عليه وسلّم ، لأنّ أقصى العجب لديّ هو كلّ ما خالف مألوفاتي في ما يخصّ المظهر والحدوث ، لكن العجب بالنسبة لسيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليس فحسب عجبٌ حقيقيّ في صورته ووقوعه وقوّته ، ولكنّه عجبٌ تعبّديّ جدّيّ يحمل دلالة على الله وإشارة إلى سبيل من سُبُلِه يوصل إليه .
روى الإمام مسلم - في كتاب التوبة - عن حنظلة الأسيدي قال ( وكان من كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ) قال :
«
لقيني أبو بكر فقال كيف أنت يا حنظلة قال قلت نافق حنظلة قال سبحان الله ما تقول قال قلت نكون عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يذكّرنا بالنار والجنّة حتّى كأنّا رأي عين فإذا خرجنا من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا قال أبو بكر فوالله إنّا لنلقى مثل هذا فانطلقت أنا وأبو بكر حتّى دخلنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قلت نافق حنظلة يا رسول الله فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما ذاك قلت يا رسول الله نكون عندك تذكّرنا بالنار والجنّة حتّى كأنّا رأي عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات
» .
هذا حديث شريف يُنبئنا عن مستوييْن مختلفَيْن من الأحوال التي يتقلّب فيها المؤمن وتختلف باختلافهما معارفه وعلومه . ولقد اشتمل ، إعتمادا على معنى متنه ومعنى ملابسات صدوره ، على جميع أسباب وشروط جوهر العلم اللدنّيّ .
ففيه نجِدُ :
- عموم الفرصة .
- إمكانية حدوث العجب الحقيقيّ بتوفّر أجوائه .
- إرتباط التغيير بأحوال المتغيَّر : سلامةً ووقتًا .
لو أحصيْنا أعداد المسلمين الذين عرفوا هذا الحديث من يوم بروزه إلى يوم الناس هذا لحصلنا على مئات الملايين ، لكن قِلّة منهم فقط في كلّ عصر فازوا بنعمة اجتياز المضمار إلى نهايته ، وتمتّعوا بكلّ مستحقّات مراحله .
ولقد ربط سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين وقوع " مصافحة الملائكة " بدوام رقيّ وصفاء حالة " المُصافَح " ، وهي حالة ممكنة وقابلة للوقوع بدون أدنى شكّ وذلك لأنّه قولٌ حقٌّ مرتبط بتشريع تطبيقيّ ، وعقيدة ترمي إلى التغلغل بطبع المخلوق الذي من أجله أُرسِيَتْ ارتكازا على الإقناع القائم على الحقائق الملموسة . فعبارة
«
لو تدومون
»
لا تعني الإستحالة وإنّما هي تطمينٌ وإخبارٌ ودعوةٌ . تطمين لمن ظنّ أنّه قد هلك بأنّه في حقيقته في صميم الرشاد ، وإخبارٌ عن عظمة ذلك الحال وجلال قدره ، ودعوةٌ مبّطنة حُبلى بالتحفيز والحضّ على نيلها بعد إظهار وسيلة فعْل ذلك . الشرط في
«
لو تدومون
»
يشبه حديث التوكّل الذي رواه الترمذي عن سيّدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه . قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم :
«
لو أنّكم كنتم توكّلون على الله حقّ توكّله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا
» . ونرى أنّ " حقّ التوكّل " على الله قد تيسّر للطير ، كلّ الطير ، فكيف لا يتيسّر لبعض عباده المؤمنين الصالحين ؟ .
وهو كذلك من قبيل معنى الآية
وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ
ووسيلة فعل ذلك ليست سهلة بالرغم من أنّها ممكنة ، ومن الحديث نعلم على سبيل القطع أنّها ليست من الأمور المتاحة لشرائح واسعة من قبيل ما إذا أُريدَ فُعِلَ كما هو معلوم من كلّ عاديّ شائع . ودليلنا هو مكانة وسلطان عائق وقوعها القويّ في قلوب الخلق . سلطانٌ يستمدّ استبداده من مصدرين في طبع المؤمن بصفته إنسانا يستوي مع كلّ أبناء جنسه في حبّ الزوجة والأولاد والأموال ، وبصفة ذلك الحُبّ والتلذّذ والركون حلالاً ، بل ومن صميم إرادة الله من خلق عباده وإسكانهم الدار الدنيا . والصعوبة المذكورة لا تكمن في تجاوز تلك العواطف الجبلّيّة النبيلة باجتثاثها أو تجاهلها ، ولكن برجحان كفّة حُبٍّ على كفّة حُبٍّ آخر ، وقوّة فهْم ينال من الدقّة والعمق إلى درجة اكتشاف كلّ وهْمٍ وزيْفٍ في بضاعة النفس والهوى مهما كانت حلالا ، ثمّ التحكّم فيه وإرجاعه في كلّ محاولةٍ للجموح إلى حجمه الحقيقيّ . قال الحقّ سبحانه وتعالى :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ
[]
، وقال أيضا :
إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ
[] .
إنّه شوقٌ إلى كمال يتمّ بواسطته الإقلاع والتفلّت من جاذبيةِ نقْصٍ أُلْبِسَ قناع الكمال ، وتتلاشى دونه كلّ مسبِّبات التثبيط والتخلّف والتسويف مهما كانت وطأتها وتأثيراتها .
مصافحة الملائكة ! وهي مصافحة مباشرة وفي كلّ مكان ، إذ لو لم تكن كذلك ما ذكرها بمثل هذا التعبير المتميّز ، لأنّ ملاقاة الملائكة من وراء الحجب لا تنقطع أبدا كما هو واقع مع الحفظة والكرام الكاتبين وفي مجالس الذكر وأيّام العيد ، وهي كذلك ملاقاة تقع للمؤمن والكافر على حدّ سواء . إنّها مصافحة فعليّة يلتقي خلالها المؤمن بالملائكة ويراهم عيانا ، ويقع الإتّصال الخارق بمقتضاها بين عالميْن شديدي الإختلاف بعد تأهيل مَن يتطلّب التأهيل بتزويده بما يلزم من استعداد ، وهو ما يُعبّر عنه بـ" رفْع الحجب " .
وكما قلنا فإنّ جميع شؤون الحضرة الإلهيّة جِدٌّ في جِدٍّ ، ولذلك فإنّ مصافحة الملائكة للمؤمن ليست تصرّفا عبثيّا أو قليل الأهميّة ، نعرف ذلك بمعرفة طبيعة مهمّة الملَك الموسومة بالطاعة المطلقة لله سبحانه وتعالى ، على عكس مهمّة المكلّفين من الثقليْن المتقلّبة بين الطاعة والعصيان . إنّ الملَك لا يصدر إلاّ عن أمْرٍ وتخصّصٍ مثالي نُزعتْ منه خصائص الشهوات والأهواء والنقص والضعف . فإذا أمَرَه المولى تعالى أن يسجد فإنّه يظلّ على حالة سجوده أحقابا وأحقابا وهو في قمّة نشوة عبوديّته للحقّ عزّ وجلّ لِمَا أظهره له من كماله وجماله وجلاله . ومن المعلوم أنّ المصافحة - بصفة عامّة - مدخلٌ للإتّصال وتمهيد لمهمّة تعقبها ، وإذا تعلّق الأمر بالملائكة فهو - بدون شكّ - مدخلٌ لاتّصال مبارك على عكس الإتّصال الإنسانيّ الذي قد يُخفي الشرّ ويُظهر الخير . فإمّا أن يكون بعد تلك المصافحة أخْذٌ بيد ذلك المؤمن الصالح إلى تَرَقٍّ في المرتبة والمشاهدات اليقينية التي تحصل معها معارف لا سبيل إلى نيلها بالعقل المجرّد وبتراكم التجارب ، وإمّا أن تكون مصافحة من المفضول للفاضل تعبيرا عن الإكرام وعِظم الحفاوة به لشدّة حبّ الله وإكرامه له .
لا ولن يخرج الأمر عن هاتيْن النتيجتين مهما قلّبته .
إذَنْ ، فمنطلق الجميع هو شرع الله المقدّس ، ثمّ تتدخّل الإستعدادات الفطريّة والأفعال المكتسبة لتصنع الفوارق الشاسعة بين المتنافسين . أنظر حولك مرّة أخرى في عالمنا الأرضيّ فسوف تجد الملايين من العلماء والفنّانين والرياضيين ، كلّهم يرتادون الجامعات والمخابر والأندية والملاعب ، وكلّهم يسعى بأقصى ما يملك لشقّ طريق إلى التفوّق والنبوغ والسبق ، لكن كم تجد من بين تلك الجحافل من آينشتاين ، أو عبّاس محمود العقّاد ، أو موزارت ، أو كارل لويس ؟ لن يجود الزمان بالكثير من أمثالهم ، وسبب ذلك ليس المحسوبية أو الرشوة أو المحاباة ، وإنّما المواهب الطبيعية المعجونة مع تلك الذات أو ذلك الكيان ممّا ليس لهم في الحصول عليه حيلة ولا مجهود إلاّ مجهود الصقل والتنمية . وكذلك أمر المواهب الربّانيّة في المسير إليه سبحانه وتعالى ، بل ولَهذه أكبر درجاتٍ وأكبر تفضيلا .
كنتُ ، ولا زلتُ ، أمثّل سُبُلَ الوصول إلى الله بالطرق المسدودة بالثلوج إلى مستوى رأس كلّ سائر إليه سبحانه وتعالى ، وأمثّل القابليّات الخلْقيّة والخلُقيّة والفعليّة بالإشعاعات الحراريّة ، وأقول إنّ سرعة وتسارع كلّ مؤمن في اجتياز طريقه ذا علاقة طرديّة مع قوّة توهّج حرارته المنبعثة من مكاسبه لأنّه بواسطتها وحدها يُذاب الثلج ويُفسح له بقدر ما ذاب للإختراق والمرور . ولك أن تتصوّر مدى تعرّج خطّ الجبهة السائرة بسبب تفاوت وقوّة وفعاليّة وسائل السائرين ، ولسوف تتعجّب حقّ التعجّب من شدّة هذا الإختلاف عندما تعلم أنّ الجميع قد انطلق من حدود خطّ واحد مستقيم ، وبأمر فريد من حَكَمٍ مطلق العدل .
نعم ، هذا هو العدل ، وذاك هو الفضل ، وليس ما وراء هذا وذاك إلاّ الإبتداع وسوء الأدب .
وممّا يصبّ في نفس المصبّ الذي تناولناه اليوم ، قوله صلّى الله عليه وسلّم
«
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي لَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَنَظَرْتُ فَوْقَ قَالَ عَفَّانُ فَوْقِي فَإِذَا أَنَا بِرَعْدٍ وَبَرْقٍ وَصَوَاعِقَ قَالَ فَأَتَيْتُ عَلَى قَوْمٍ بُطُونُهُمْ كَالْبُيُوتِ فِيهَا الْحَيَّاتُ تُرَى مِنْ خَارِجِ بُطُونِهِمْ قُلْتُ مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ قَالَ هَؤُلَاءِ أَكَلَةُ الرِّبَا
فَلَمَّا نَزَلْتُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا نَظَرْتُ أَسْفَلَ مِنِّي فَإِذَا أَنَا بِرَهْجٍ وَدُخَانٍ وَأَصْوَاتٍ فَقُلْتُ مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ قَالَ هَذِهِ الشَّيَاطِينُ يَحُومُونَ عَلَى أَعْيُنِ بَنِي آدَمَ أَنْ لَا يَتَفَكَّرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَرَأَوُا الْعَجَائِبَ
»
لننطلقْ من ثابتٍ كما هي عادتنا . والثابت الآن هو :
- توفّر العجائب بكثرة .
- سهولة رؤيتها وتمييزها .
- علْم الشياطين بذلك .
ونقول عِلْمُ الشياطين بذلك لأنّ قوّة سعي الشيطان واهتمامه بأمرٍ متعلّقة تعلّقا مباشرا بمدى فعالية ذلك الأمر على الهداية . وما وصَفَهُ عليه الصلاة والسلام أمرٌ غيبيّ محجوب خارج عن التكييف بالوسائل العادية ممّا نملك ، إلاّ أنّه أمْرٌ عظيم . فضاء لا يعلم إلاّ الله شساعته وسُمْكَه ، مشحون بما لا يُحصى من الشياطين تثير من أنواع الإنشغال والصدّ وتحويل الأنظار وإلْهاء البصائر ومنع التركيز عن العقول والقلوب ما يحجبُ الحقائق الواضحة الماثلة الدامغة ، بل والعجيبة ، وهو ما يزيدها وضوحا وظهورا وتعرّضا وأكثر احتمالا لاكتشافها ولاتّساع دائرة مكتشفيها . والأعجب أنّ تلك العجائب متعلّقة بالملكوت ، وهو عالم المثال والمخلوقات النورانية اللطيفة مقابلة مع عالم الملك الذي تميّزه المادة الكثيفة ، فلا شكّ أنّ الشياطين في تعاملهم مع مثل هذه المهمّة سيلجؤون إلى وسائل ، مهما تصوّرناها ، فلن نفلح في تصوّرها على حقيقتها : طبيعةً وقوّةً وفعاليّةً .
لكن ، في حين يكون العالم يموج في بحار الغفلة واللهو والسهو ، ويمرّ بجانب الحقائق الباهرة أو تمرّ بجانبه دون أن يتنبّه إليها ، فإنّ على الأرض فئة مستثناة من هذه الفتنة ، ومحصّنة من هذا البلاء العامّ . إنّهم عباد الله المخلَصين الذين تعهّد الله سبحانه وتعالى بحمايتهم من سلطان إبليس إعاذتهم من كيده ، والذين أقرّ الشيطان نفسه بعجزه عن غوايتهم أو الإقتراب منهم أو الحَوْمُ بساحتهم الطاهرة . قال عزّ مِنْ قائل :
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا وَاسْتَفْزِزْ مَن اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا
[ الإسراء : الآيات من 62 إلى 65 ] ،
وقال أيضا :
قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ
[ الحجر : الآيات من 39 إلى 42 ] .
إنّ هؤلاء الأخيار ، وفي كلّ زمان ومكان ، في حالة تمتّعٍ دائمٍ وتامٍّ بكلّ مواهبهم لأنّهم في منعة من تشويش الشيطان وجنوده ، وبذلك فإنّهم في حالة تفرّج مستمرّ على شريط عجائب الله في ملكوته كلٌّ على حسب استعداده ومرتبته .
وما يجب علمه هو أنّ كون الرهج والدخان والأصوات من فعْل الشياطين لا يعني أنّ المعنيّ بالإلهاء والتشويش هُمُ المغضوب عليهم من الكفرة أو عصاة المؤمنين لأنّ الإلهاء المذكور لا يعني الطرد والخسران فقط ، بل إنّ ذلك يصدق على المؤمن والكافر ، والبرّ والفاجر ، والعالم والجاهل ، لأنّ هدف الشيطان منه ليس فحسب سدّ طريق الإيمان والتوبة على الكفّار والعصاة ، ولكنّه أيضا محاولة لسدّ طريق الترقّي والصفاء والإطمئنان أمام العلماء والأتقياء . وقد يسألني أحدكم قائلا : " ما الذي تعنيه بالعلماء والأتقياء ؟ أين الحدّ الذي ترسمه ؟ " وأقول بأنّني لست واضع الحدّ ، وليس ذلك لأيّ مخلوق . لكن في المقابل يمكن لأيّ أحد معرفة إن كان ممّن نال هذه المرتبة أم لا ، وذلك سهل جدّا . فالسمة الرئيسيّة التي حدّدها سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهذه الدرجة من التقوى والقبول هي ما مكّكنك من رؤية العجائب ، فإذا لم يتسنّى لك ذلك فاعلم بأنّه لا يزال للشيطان فيك نصيب وتمكّن وإن كنتَ تقوم الليل وتصوم النهار . كُنْهُ الأمر ليس محصورا كلّه في العمل والمجاهدة والرياضة ، بالرغم ممّا لتلك الصفات من سموّ ونبل وأجر بدون حساب . إنّ كنه الأمر في جانبه الأكبر في ما أودع الله من تيسير فطريّ مكنون بين طيّات أخلاقٍ سامية تجدها في نفسك ولا تُحدثها لنفسك ، وتوظّفها بداهة ودون تكلّف فتطوي بروحك المقامات طيّا في عوالم الصدق ، والرضى ، وحبّ المحبوب ، وحبّ ما يحبّه المحبوب .
وليست العجائب المذكورة في الحديث هي ما يكتشفه الإنسان كلّ يوم بالتفكّر أو النظر أو الإخبار ، والدليل هو استواء المؤمن والكافر في اكتشاف ذلك ثمّ بقاء الكافر على كفره . فهي اكتشافات ، مهما كانت عظيمة ، ليست من قبيل الأولى ، ولو كانت كذلك لدلّ الأمر على رفْع يد الشيطان عن حجبها ، ولفعلتْ مفعولها في روح مكتشفها ولآمن بالله ، وكلّنا نرى الواقع على خلاف ذلك . وهناك دليل آخر ، وهو أنّ المكتشفات العامّة جميعها تحدث في عالم الملك ، وعلى رحابته فإنّه ليس ميدان الشياطين المذكور في الحديث الشريف . إنّه نشاط تدور فصوله بين السماء والأرض ، والمعنى المقصود هو بين عالميْن ، ويُفهَم ذلك من سياق ملابسات الواقع آنذاك ، وهي طريق العودة بعد المعراج المبارك ، حيث كان رصد الظاهرة من السماء الأولى ، وهي غير عالمنا . وكأنّ سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشير إلى حدّ فاصل بين عالم الظنّ وعالم اليقين احتلّتْهُ الشياطين لعلْمِها بخطره وجدواه فاعتبرته أنسب الأمكنة للتموقع والتخطيط وتنفيذ الخطط .
ولسنا نقصد ممّا سبق قوله أنّه لن يصل أحد إلى الإيمان بالله بواسطة الإكتشافات العلميّة أو الفكريّة الدنيوية ، بل إنّه قد وقع ، إلاّ أنّ تلك الآيات لا ترقى إلى ما أشار إليه المصطفى الكريم عليه الصلاة والسلام من عجائب لا يقوى شكٌّ على دحضها مهما استفحل ، ولا يفلح شيطانٌ في إخفاء اليقين الصادر عنها مهما أوتي من كيدٍ وخبثٍ .
ومرّة أخرى تطفو مسألة الإنطلاقة الموحّدة ، وتظهر قضيّة الفرصة الممنوحة للجميع القريبة من الكلّ ، وتظهر معها شرعية سبْق فئات في مضمار الإيمان والهداية والعلم الذي لا مثيل له بالقياس إلى ما هو معهود سواء في المضمون أو في وسائل كسْبه .