نفحات7 ـ الجواب الكافي
الرّئيسية > مكتبة على الخـطّ > الجواب الكافي


الجواب الكافي




للشيخ العلاّمة سيّدي
العربي بن السايح
رضي الله عنه



بسم الله الرحمن الرحيم .
اللهمّ صلّ على سيّدنا محمّد الفاتح لما أغلق والخاتم لما سبق ناصر الحقّ بالحقّ والهادي إلى صراطك المستقيم وعلى آله حقّ قدره ومقداره العظيم .
الحمد لله هادي من استهداه واستند إليه في جميع الأمور، وكافي من استكفاه واعتمد عليه في الورود والصدور، أحمده حمد عبد هيّأ له الوصول إلى جنّة المعارف، وأهّله لمنازل التخصيص فسحب على الأكوان زهد سوابغ المطارف .
عبد تخالجه زهو بسيّده      والعبد يزهو على مقدار مولاه
والصلاة والسلام على سيّدنا ومولانا محمّد ، قطب دائرة الوسائل وقبلة التوجّهات لكلّ راغب وسائل ، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه مظاهر أنواره وينابيع حكمه وأسراره ، صلاة تزيح لنا عن وجوه الحقائق أستار المجازات وسلاما يجيزنا إلى حضرة الكرامة والرضى بألطف الإجازات ، وأخصّ بأسمى التحيّات الطيّبات المصحوبة من الله تعالى بسحائب الرحمات والبركات الواكفات الصيّبات ، حضرة المجد الصريح الموثل والفخر الصحيح الموصل ، والهمم المنيفة التي لها غاية السموّ والشفوف والشمائل اللطيفة الدانية القطوف ، والمناصب التي تكاثر النجوم والسواري والمناقب التي تفاخر السبع الدراري .
مناقب شمخت في كلّ مكرمة      كأنّها هي في أنف العلا شمم
حضرة الشيخ الإمام الصدر المبرز الهمام ، العالم العلاّمة الأوحد الفاضل المبجّل الأمجد ، مفتي الحضرة التونسيّة أبي محمّد سيّدنا صالح بن أحمد خلد الله في الصالحين ذكره وأدام لادّخار المحامد واقتنناء المكارم عزّه وفخره، في عافية وسلامة وسعود وكرامة .
هذا ، وقد وافانا بحمد الله تعالى أيّها السيّد الجليل والسند الكامل الأصيل ، كتابكم الأعزّ الفائق صحبة صاحبنا الأودّ الصادق ، سيّدي فلان حفظه الله تعالى وبارك فيه ، فحمدنا الله تعالى على ما أسداه من مننه إلينا وتفضّل به من نعمه علينا ، حيث أهّلنا سبحانه بمحض جوده لموالاتكم ومزيد التأكيد لمواخاتكم في ذاته جلّ وعلا ومصافاتكم .
ما كنت أهلا وَهُمْ رأوني      لذاك أهلا فصرت أهـلا
وعسى سبحانه بفضله الواسع العميم أن يديم علينا الإنتماء إلى علاكم والتشيّع بولائكم ، إذ هو وليّ التفضيل بذلك والقادر عليه .
وأيم الله لقد نفخ هذا الكتاب الأكرم والخطاب الأفخم ، في رميم أحوالنا أرواحا وأمال من روض آمالنا أدواحا . غير أنّه لمّا جليت عرائس معانيه علينا وفضّ ما في تامور حامله علينا ، لحقنا من شدّة الخجل ودهمنا من فادح الوجل ، ما تخوّفنا منه على أنفسنا وكدنا أن نغيب به عن حسّنا ، لعلمنا بما نحن عليه من غاية القصور والتقصير وأنّنا لسنا من أهل ما ترصّدتموه فينا في العير ولا في النفير . إلاّ أنّكم - أعزّ الله جلالة أقداركم - لما لكم في مولانا الشيخ رضي الله عنه من كمال المحبّة وصفاء الوداد وفي أصحابه رضي الله عنه من جميل الإعتقاد ، قد تجلّت صورة كمالاته رضي الله عنه في مرآة أفكاركم الزاهرة فانغمرت بنورانيّته حقائق سرائركم الطاهرة ، فجزاكم من أجل ذلك حسن الظنّ الذي هو للمتّقين الذين يؤمنون بالغيب من العرض للجوهر ألزم على أن استجزتمونا بالإجازة التي وصفتم وأسرج العزم منكم جياد الرغبة في ذلك وألجم ، فلم أزد على أن صرت أردّد حيث ألزمتوني في هذا الأمر الخطير ما لا يلزم :
أعيذها نظرات منها صادقة      أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
ثمّ توقّفت متثبّتا حيث رأيت فراستكم النورانيّة قد جعلتني في هذا السبب الأعظم عمادا ولضمائر هذا الخطاب الأفخم معادا ، فلم أزل أرجع البصر وأعاود النظر فيظهر لي أن الإقدام على ما رمتموه منّي من أعظم الغرر وأكبر الخطر ، وهل تطر إلاّ الناعلة وتسدر إلاّ السحاب الحافلة ؟ حتّى لاح لي في خلال ذلك أنّ القويّ لا يزال يستمدّ من الضعيف ليربيه والكامل لا يزال يأتمّ بالناقص ليرقّيه ، فاستخرت الله تعالى حينئذ في إسعافكم عسى نفحة تهبّ من خزائن الرحمة الوهبيّة فتشملني معكم ببركة حسن نيّتكم وجميل إنصافكم .
فأقولُ مستندًا إلى حول الله تعالى وقوّته معتمدًا على فضله ومنّته ، مستعيدًا من فيوضات الأنوار المحمّديّة متوسّلا بالهمم الختميّة والذمم الكتميّة الأحمديّة : قد أجزت لك أيّها الماجد ، السيّد الماسك لأسباب العناية الربّانيّة إن شاء الله تعالى بأقوى السواعد، في ورد شيخنا وقدوتنا ووسيلتنا إلى ربّنا ، الخاتم الأكبر والقطب المكتوم الأشهر ، مولانا أبي العبّاس التجاني الحسني رضي الله عنه ، ذكرا وتلقينا لمن رغب فيه منك من جميع المسلمين والمسلمات بعد قبوله الشروط المشروطة والتزامه الآداب التي هي بغاية الحسن والكمال منوطة ، وكذا في الوظيفة المعلومة وذكر الهيللة بعد عصر يوم الجمعة التابعين للورد الأصليّ المشمولين باللزوم معه ، وكذا في جميع ما ثبت لديكم أنّه مرويّ عن سيّدنا رضي الله عنه ومتداول في طريقه من الأذكار والأحزاب والأدعية والنوافل المؤقّتة بالأوقات المرعيّة ، جاعلا لك بحول الله وقوّته في هذا الإذن وهذه الإجازة أن تأذن وتجيز لمن ظهر لك تقديمه لذلك من ولد ومريد بما يقتضيه نظرك في ذلك من الإطلاق والتقييد ، لكن بشرط الأهليّة المعتبرة عند أهلها على المنهج المعروف والسنن المألوف . وليس أمر التقديم لتلقين الأوراد كتلقين الأوراد تلقّن لكلّ من طلبها على أيّ حالة كان بعد قبوله لشروطها ، بل لا بدّ فيه من اعتبار الأهليّة عقلا ودينا حسبما هو مشروط في عدل الرواية . فليحذر المشفق على نفسه ودينه ممّا دان عليه العامّة اليوم من التساهل في ذلك ، جبر الله أحوالنا جميعا بمنّه . وذلك بما أجازنا به سيّدنا المقدّم الفاضل المكرّم والناسك الأبرّ الصالح ، أبو عبد الله سيّدي محمّد الهاشمي بن محمّد الصرغيني ، دفين زاوية عين ماضي ضجيعا للعارف الأشهر أبي عبد الله سيّدي محمّد بن العربي الدمراوي التازي رضي الله عنهما ونفعنا بهما وبأمثالهما آمين ، وهو بما أجازه به المقدّم الأسمى البركة العظمى أبو عبد الله سيّدي محمّد بن عبد الواحد بنّاني المصريّ رضي الله عنه ، وهو بما أجازه به سيّدنا الشيخ الأكبر مولانا أبو العبّاس التجاني الحسني رضي الله عنه وأرضاه وجعلنا دنيا وآخرة في حماه . والإجازة المطلقة إنّما حصلت للفقير كاتبه - عفا الله عنه - بهذا السند المذكور إلى الشيخ رضي الله عنه ، وبسنده إلى الشيخ الإمام العمدة أحد أركان هذه الطريقة وأحد مشاهير ورثة سرّ سيّدنا رضي الله عنه أبي عبد الله سيّدي محمّد الحافظ العلوي الشنقيطي رضي الله عنه ، فقد حصل له الإذن المطلق العامّ من الشيخ رضي الله عنه ، إلاّ أنّ المقدّم بهذا السند الحافظيّ لا يقدّم إلاّ عشرة وكلّ واحد يقدّم عشرة وهكذا ، حسبما صرّح به صاحب الجيش رحمه الله تعالى . فليتنبه لذلك في هذا السند .
ووقع للفقير أيضا ما يقتضي الإطلاق المذكور فيما أجازه به مكاتبه ، فرْد زمانه وشمس أوانه ، حامل راية الطريقة التجانية ووارث أسرارها الصمدانية ، سيّدنا أبو الحسن عليّ بن سيّدي الحاج عيسى التماسينيّ رضي الله عنه . ولفظه في إجازته المذكورة : " فكلّ من أخذه عنه نفعه الله ونفع من أخذ عليه " . اهـ . وهذا ، وإن كان فيه إجمال ، فلا بأس بملاحظته حيث التلقين والتقديم تقوية لغيره ممّا تقدّم مفصّلا وتبرّكا بهمّة هذا السيّد الجليل القدر رضي الله عنه ونفعنا به . ومن المعلوم أنّ العامل على تغليب حسن الظنّ في باب التبرّك غير مؤنّب ولا ملوم ، والله الموفّق .
وها هنا تنبيه تتمّ به الفائدة عند كلّ لبيب نبيه ، وهو أن يعلم أنّ هذه الإجازة المطلقة العامّة الخالية من كلّ تقييد وحصر ما ، بحيث يجعل المريد لمن أجازه أن يجيز في جميع أوراد الطريق اللازمة وغير اللازمة ، وأن يقدّم لذلك من شاء ، ويجعل له ذلك أيضا وهلمّ جرّا إلى آخر الدهر ، لم يقع لسيّدنا رضي الله عنه إلاّ لإفراد من خاصّة أصحابه ، منهم الخليفة الأعظم العارف الكبير سيّدنا أبو الحسن عليّ حرازم الشهير ، فقد صحّ أنّ الشيخ رضي الله عنه خلفه بإذن من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ، وصحّ أيضا عنه رضي الله عنه أنّه قال فيه : " كلّ ما قاله سيّدي الحاج عليّ حرازم فأنا قلته " ، وقال فيه ما لا أكاد الآن أستوفيه . ومنهم سيّدي الحاج عليّ التماسينيّ المذكور ، وهو الذي صحّ عن الشيخ رضي الله عنه أنّه قال فيه ، مجيبا لمن قال له : كلّ من أذنت له فهو سيّدي الحاج عليّ : " وأين مثل سيّدي الحاج عليّ يا فلان ؟ " وكرّرها رضي الله عنه. وفي هذه المقالة غاية التنويه من الشيخ رضي الله عنه بقدر هذا السيّد الجليل ، نفعنا ببركاته . إلاّ أنّ الإجازة بالإطلاق العامّ لم تقع منه لأحد فيما نحفظه ، فإن بلغكم من ذلك شيء فلتمنّوا بإنهاء خبره إلينا فإنّه مهمّ كما لا يخفى عليكم . ومنهم الشيخ محمّد الحافظ المذكور ، وأمْره في ذلك شهير ، وجلّ من تخرّج على يده ، بل كلّهم ، علماء فضلاء عدول نبلاء . ومنهم الشيخ ، المولى الصالح العالم الناصح ، أبو سالم سيّدي عبد الله بن حمزة العيّاشي ، المعروف بسيّدي عبد الله عيّاش ، أحد حفدة الشيخ أبي سالم العيّاشي صاحب الرحلة رحمه الله تعالى ، وقد طالعت إجازة الشيخ له ، ومن جملة ما رأيته فيها من الشروط أن لا يصافح الملقّن بيده يد امرأة ليست بذات محرم منه . ومنهم سيّدي محمّد بن عبد الواحد بنّاني المصري المتقدّم الذكر . ومنهم المقدّم البركة الصالح ، سيّدي الحاج المفضل السقّاط المتوفّى بأكنى رحمه الله تعالى ورضي عنه ، فقد أجازه الشيخ بالإطلاق العامّ من فاس وهو بالبلدة المذكورة في قضيّة مشهورة . وأمّا السيد الجليل ، الشريف الماجد الأصيل ، القدوة البركة ، سيّدي محمّد بن محمّد الغالي بن محمّد بو طالب رضي الله عنه ، فالذي ثبت عندنا بالتواتر القطعي أنّ الشيخ رضي الله عنه إنّما أجازه بالإذن المقيّد ، وهو أنّه جعل له أن يقدّم أربعة من الناس ، وكلّ واحد من الأربعة المذكورين يقدّم أربعة لا غير ، هذا هو الثابت عندنا في الواقع له من الشيخ رضي الله عنه ، وأحد الأربعة ذوي الدرجة الثانية المقدّم العلاّمة ، أحد أركان الطريقة بلا ريب ، أبو عبد الله سيّدي محمّد بن قاسم المكناسي حفظه الله ، وهو الآن بقيد الحياة والناس يأتونه من أقاصي البلدان لأنّه بقيّة السلف في الطريق ، لم يبق أحد بهذه الديّار المغربيّة أقدم منه صحبة للشيخ رضي الله عنه ، فيطلبون منه الإجازة المطلقة فيمتنع ويصرّح بأنّ الإذن الذي عنده إنّما هو في الورد ، أيّ في تلقين الورد اللازم لا غير . فإذا ألحّوا عليه وطلبوا منه أن يكتب لهم بخطّ يده تبرّكا ، أجاز لهم في ذلك الورد لا غير . هذا ، والظاهر من عمل الشيخ عمر الفوتي صاحب الرماح الإطلاق ، وهو مقدّم من قِبَل سيّدي محمّد الغالي المذكور ، فالذي يجب اعتقاده جزما ، عملا بحسن الظنّ بهذين السيّدين الجليلين العلمين الأشهرين ، أنّ سيّدي محمّد الغالي حصل له الإذن المطلق في رحلته المشرقيّة ، التي لقيه فيها الشيخ عمر المذكور ، إمّا بواسطة من لقيه في وجهته ممّن كان بها من المقدّمين ، كسيّدي محمّد بنّاني وسيّدي الحاج المفضل المذكورين ، وإمّا سرّا عن روحانيّة الشيخ رضي الله عنه ، أو عن روحانيّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ، ولا بعد في وقوع ذلك لأمثاله رضي الله عنه .
وإنّما ألممت بهذا التنبيه هنا ليكون الواقف عليه على بصيرة من أمر هذه الإجازات التي هي بأيدي الناس ، وغير خاف أنّ معرفة السند متأكّدة ، والله الموفّق . ولعلّنا نستوعب لك ما ثبت عندنا من الأسانيد الصحيحة في غير هذا إن شاء الله ، والله المستعان .
وأمّا أمركم ، أيّدكم الله ، بتبيين كيفيات التوجّهات بالأذكار والأحزاب المذكورة ، فأمّا ما كان من قبيل الصلوات ذات الركوع والسجود فهو منصوص عليه في محالّه من الكناشين ، ومن كتاب الإحياء لحجّة الإسلام ، وكتاب القوت لأبي طالب المكيّ ، وكتاب الجواهر الخمس لغوث الله الشطّار رحمهم الله تعالى ورضي عنهم . وأمّا السيفي فهو من الأوراد المؤقّتة بالصباح والمساء ، يقرأ مرّة في الصباح ومرّة في المساء بطريق الورد لمن أراد ذلك وقدر عليه ، ويقصد به قارئه التعبّد لله تعالى لا غير . وكذلك دعاء " يا من أظهر الجميل " ، فهو من أوراد الصباح والمساء أيضا ، ويقرأ عشرين مرّة موزّعة على الوقتين عشرا في كلّ وقت ، ولمن شاء أن يوزّعه ، أعني العدد المذكور ، على أوقات الصلوات المفروضة ، يقرأه أربع مرّات دبر كلّ مكتوبة ، فذلك موكول إلى نظر الآذن في حال المأذون وما يناسبه . وأمّا المائة والألف من أحد الأمرين ، أو هُمَا معاً ، في الصباح والمساء لمن أراد المواظبة على ذلك بطريق الورد ، وإلاّ فعند الحاجة إلى التوسل بذلك في جلب أو دفع ، وهو من الأمور التي تسرع بالفرج وقضاء المآرب بإذن الله تعالى ، فلا يتجاوز المواظب عليه أكثر من ثلاثة أيّام إلاّ وقد قضيت حاجته بفضل الله . وأبلغ من هذا في العمل به المواظبة عليه دبر كلّ مكتوبة عند اشتداد الأمور ، ويقدّم ذاكره المائة من صلاة الفاتح ويعقبها بالألف من قول " يا لطيف " ، ثمّ يختم بما تيسّر من الفاتح ، عشرا أو أربعا أو مرّة واحدة . وأمّا الدور الأعلى فهو من أوراد الصباح والمساء لمن أخذه بطريق الورد ، فيقرأ مرّة مرة في الوقتين ، وإلاّ فعند الحاجة للتحصين ، والكيفية التي ذكرها صاحب الجيش لم يبلغنا الأمر بالعمل عليها من الشيخ رضي الله عنه ، فلعله نقلها من تآليف بعض أهل الطريق كما وقع له ذلك في غير هذا ، فليتنبه لذلك فإنّ الوقوف عند ما حدّته المشايخ الكمّل في طرقهم واجب في حقّ المتقيّد بطرقهم كما لا يخفى ، إذ كلّهم مجتهدون وليس قول المجتهد في مسألة بحجّة على غيره كما هو مقرر . وبالجملة ، فالسرّ في الصدق ، ومن أعظم آثار الصدق الوقوف عند إشارات الكمّل وعدم تخطّيها إلى غيرها باختيار من المتقيّد بطرقهم ، والله وليّ التوفيق . وأقلّ ما يلحق المريدين من شؤم التخطّي لما حدّه شيخه أن يتعسّر عليه الفتح إن لم يتعذّر أو يتعطّل فاعل ذلك ويتبطّل والعياذ بالله تعالى . وأمّا حزب البحر فهو من أوراد الصباح والمساء أيضا ، فيقرأ مرّة في كلّ من الوقتين بنيّة التعبّد لله تعالى لا غير ، ولا يؤذن فيه إلاّ للخاصّة كما كان عليه عمل الشيخ رضي الله عنه ، ومن قصد به التحصين فليداوم عليه بنيّة ذلك ثلاثا صباحا ومساء . وأمّا الأسماء الإدريسيّة فإن أردتم التوجّه بها إلى الله تعالى تبرّكا في بعض الأوقات فلكم ذلك ، وأمّا التوجّه بها بنيّة الخواصّ ، كُلاًّ أو بعضاً ، فسنكتب لكم ذلك ما لدينا في ذلك ويصلكم صحبة الواسطة المذكور إن شاء الله تعالى ، على أنّ المختار في طريقنا ، بل الذي عليه المعوّل ، هو التوجّه بصلاة الفاتح لما أغلق التوجّه الصحيح ، فإنّ فيها كفاية المهمّات كلّها كما لا يخفى ، وما بقي من كيفيّات الأذكار التي أشرتم إليها فهو ظاهر .
وأمّا مسألة الإشكال الذي صوّرتموه ، والبحث الذي على التقرير الجائز بيّنتموه ، فما أجدر الفقير أن يتمثّل فيها بقول إمام الوسائل والله ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ، لكن حيث كان امتثال أمر الأكابر من المتعيّن ، ووجهه عند التأمّل من الواضح البيّن ، فلا علينا أن نجاري جلالتكم المبجّلة في المذاكرة في هذه المسألة ، فنقول إسعافا لرغبتكم واغتناما لصالح دعوتكم وقضاء لبعض الواجب من حقّ موالاتكم في الله تعالى وأخوّتكم : إنّ وجه الإشكال في هذه المسألة هو ما تقرّر في علوم مجادتكم المؤصّلة من أنّ شيخنا شيخ المشايخ وقطب الأقطاب رضي الله عنه وأرضاه ومتّعنا وجميع الأحبّة برضاه قد قطع رجاءنا من غيره ومنع تشوّفنا إلى ما عند كلّ واحد من شرّه وخيره ، وجعل الإلتفات عنه إلى من عداه من أعظم الموانع الطاردة للمريد عن حوزة حماه ، وأكّد هذا من كلماته السنيّة الثابتة عنه من الطرق الصحيحة المرضيّة بما يفيد أنّ عليه في طريقه مدار التربية ، وأنّه في السلوك والتسليك بها مناط التزكيّة والترقيّة ، وأطلق رضي الله عنه القول في ذلك بما يفيد شموله لمن يتقيّد بعهده وينخرط في سلك أهل ورده ، سواء حصل التقييد والإنخراط قيد حياته أو بعد مماته ، وهذا معارض بظاهره لما نصّ عليه القوم من وجوب طلب شيخ التربية في الطريق ، وأنّه لا يكون إلاّ حيّا عند جمهور هذا الفريق حسبما هو موجود في نصّ الشيخ نفسه رضي الله عنه في بعض أجوبته لمن سأله عن ذلك وتلقّاه منه ، وإنّ من كلام الشيخ رضي الله عنه في هذه المسألة ما أملاه رضي الله عنه فيها من القاعدة المؤصّلة ، ومحصّله أنّ الفتح والوصول إلى حضرة الإختصاص لا يبعثه الله تعالى إلاّ على أيدي أصحاب الإذن الخاصّ . ثمّ صرّح بأنّ المراد بهؤلاء السادات الأحياء من الأولياء لا الأموات . ثمّ أفصح أيضا رضي الله عنه في هذا المقام بأنّ الإعراض عن أولياء الوقت كالإعراض عن الأنبياء في وقتهم عليهم الصلاة والسلام . هذا محصّل البحث الذي أبداه السؤال مبنيّا على التقدير الجائز أن يقال . ولا يخفى على نباهتكم الفائقة وألمعيّتكم الرائقة أنّ القول بأنّ شيخ التربية الذي يحصل على يده الإنتفاع والوصول لا يكون إلاّ حيّا لم يقع عليه الإتفاق ، وإنّما هو جار على الكثير الغالب عند المحقّقين بالإطباق ، وإلاّ فقد صحّ الوصول عن جماعة من الأكابر على أيدي الأولياء الأموات من غير منازع في ذلك ولا مكابر ، وأسانيد أهل الطرق الصحيحة المعتبرة مشتملة من ذلك على ما لا يعدّ من الشاذ النادر . وقد قال السيّد على قول صاحب المواقف " كان أبو يزيد سقّاء في دار جعفر الصادق " ما نصّه ، بعد كلام : " وأمّا أبويزيد فلم يدرك جعفرا رضي الله عنهما ، بل هو متأخّر عنه ، وإنّما كان يستفيض من روحانيّته فلذلك اشتهر انتسابه إليه " . اهـ . كلام السيّد . ونقله الشيخ أبو زيد سيّدي عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي ناظم العمل الشهير في كتابه الذي ألّفه في إمام سلسلة سلفه الشيخ سيّدي عبد الرحمن المجذوب ، وترجمه بـ" ابتهاج القلوب " ، وقال بعده ما نصّه : " على أنّ كونه كان سقّاء في دار جعفر يصحّ مع كونه ميّتا ". ثمّ قال رحمه الله : " وانتفاع الحيّ بالميّت وحصول المدد له منه شهير " . وبسط القول في ذلك في جواب الشيخ أبي المحاسن مذكور في المرآة ، والله أعلم . اهـ . من الكتاب المذكور . وذكر في هذا الكتاب أيضا سند الشيخ زرّوق رضي الله عنه ، واستبعد فيه أخذ ابن عقبة عن ابن وفا لتأخّره عنه بكثير ، ثمّ قال : " إلاّ أن يكون أخذ بالإستفاضة من روحانيّته ". اهـ . وذكر في هذا الكتاب أيضا سند حجّة الإسلام الغزالي رضي الله عنه عن الفارمدي عن الكاركاني ، ثمّ قال ما نصّه : " وانتساب الكاركاني في الباطن إلى جانبين ، أحدهما الشيخ أبو الحسن الخرقاني وهو عن الشيخ أبي يزيد ، وولادة الخرقاني بعد وفاة أبي يزيد بزمان ، فتربيته من روحانيّته ، وكذا تربية أبي يزيد من روحانيّة جعفر الصادق رضي الله عن جميعهم . اهـ . الغرض من الكتاب المذكور . فهذا ومثله ، وهو من الواضح الأشهر ، يدلّ على أنّ ما تقدّم من القول بانحصار الانتفاع للمريد في الحيّ جارٍ على الغالب لا على الأغلب الأكثر حتّى يكون مقابله من الشذوذ بحيث لا يلتفت إليه ولا يذكر ، فقد انخرمت القاعدة وسقطت المعارضة من هذا الوجه وهذه الحيثيّة بلا ريب . على أنّا ، وإنْ جرينا على تحكيمها حسبما تضمّنه السؤال ، وسجّلنا على بنيتها بالأعمال ، فليس المراد بالشيخ الحيّ في النصوص المقرّرة شيخ التربية المستكمل لشروطها المعتبرة ، بل المراد المرشد فقط . وقد نصّوا على أنّه لا فرق فيه بين أن يكون شيخا أو أخا في الطريق حسبما نقله في الجيش عن زرّوق ، وذكره اليوسي في بعض رسائله ، وصرّح به في ميزاب الرحمة الربّانيّة من غير تردّد في ذلك . نعم ، ذكروا أنّ الدخول مع المرشد على المشيخة اعظم حقوقا وآكد من الدخول معه على الأخوّة ، وعليه فلا فرق إلاّ من هذه الحيثيّة . فالمعتبر إذاً حصول الإذن من الشيخ الكامل المستوفي لشروط المشيخة سواء بلا واسطة أو بها ، ولا يشترط اللقي ، ولا كون الشيخ حيّا إذا صحّ الإذن عنه . قال الشيخ أبو الحجاج الأقصري ، معلّلا لهذه المسألة فيما نقله عنه الشيخ الشعراني في ترجمته من طبقاته : " لأنّ صور المعتقدات إذا ظهرت لا تحتاج إلى صور الأشخاص ، بخلاف صور الأشخاص إذا ظهرت فإنّها تحتاج إلى صور المعتقدات ، فإذا حصل الجمع بينهما فذلك كمال في الحقيقة " . قال الشعراني رحمه الله تعالى ، بعد ذكره له ، ما نصّه : " وفي هذا دليل عظيم لأصحاب الخرقة الأحمديّة والرفاعيّة والبرهانيّة والقادريّة ، ولا عبرة بمن ينكر عليهم ويقول هؤلاء أموات لا ينطقون ، فإنّ الإقتداء حقيقة إنّما هو بأقوالهم وأفعالهم المنقولة إلينا ، فافهم " . اهـ . كلام الشعراني رضي الله عنه . قلتُ : وهذا الكلام من الشيخ أبي الحجّاج الأقصري رضي الله عنه هو فيه ذائق لا ناقل ، بدليل ما ذكره الشيخ خالد البلوي في " تاج المفرق " عن حفيد الشيخ المذكور من أنّه لبس الخرقة من الشيخ أبي مدين رضي الله عنه ، وأنّ اجتماعه به كان على طريق خرق العادة بالأرض البيضاء من السودان ، وللأرض ألسن تذكر الله الله ، ولم يكن اجتماعه به على الهيئة المألوفة في اجتماع الأشخاص الجارية على قول من يشترط اللقي والحياة في المرشد ، فافهم ذلك . نعم ، يشترط في المرشد ، إذا كان أخا ، حصول الإذن الصحيح له ولو بالواسطة من الشيخ ، إذ بالإذن تتمكّن سراية السرّ الروحانيّ والمدد الربّانيّ حسبما نصّ عليه أئمّة الطريق رضي الله عنهم . وعلى هذا الذي تقرّر ، فمن أخذ طريق شيخ كامل عمّن نقلها إليه وأجازه أيضا بالإذن الصحيح فإنّه ليس معرضا عن أولياء وقته ، لأنّ لذلك المقدّم درجة في الولاية بها تأهّل للتقديم بلا شكّ . وفي هذا القدر ممّا يندفع به ما تعطيه ظواهر النصوص المتقدّمة في هذه المسألة من المعارضة ، وتوهمه ببادىء الرأي من المناقضة ، الغنية والكفاية ، والله وليّ التوفيق والهداية .
وإذا عرفت هذا ، عرفت أنّ ما ثبت من كلام الشيخ في الكناشين ممّا تقدّم ونحوه ، ممّا يقتضي المعارضة المذكورة ، هو كلام صدر منه في بساط التعليم ، فلسانه فيه لسان علم جرى فيه على ما عليه الجمهور ، فهو عام أريد به العموم بقرينة البساط ، وأنّ ما تقدّم وبلغ حدّ التواتر القطعي عنه رضي الله عنه من منع المريد من الإلتفات إلى الغير ، والتشوّف إلى السوى في جلب نفع أو دفع ضرر ، صدر منه رضي الله عنه في بساط التربية الخاصّة بطريقه . فلسانه فيه لسان دلالة وإرشاد جرى فيه على منهج أمثاله الكمّل الأفراد من إمحاض النصيحة للعباد ، بما أدّاهم إليه من طريق الكشف الصحيح النظر والإجتهاد . ومع هذا ، فإنّه ثبت عنه رضي الله عنه أنّه ألقى ما ألقى من ذلك على حسب ما برز له من الحضرة المحمّديّة الشريفة عليها الصلاة والسلام التي تربيته ومدده منها بلا واسطة في حال اليقظة لا حال المنام ، فهو خاصّ من طريق خاصّ أريد به الخصوص . وفرق بينه وبين الذي قبله ، فلا معارضة بينهما عند ذي النظر الصحيح البتّة ، والله أعلم .
هذا ، ولولا القصد في دفع هذه المعارضة إلى ما اقتضاه الحال من مجاراة ألفاظ السؤال لكان الجواب الحقّ والقول الفصل في هذه المسألة هو أن يقال : إنّه يجب أن يعلم أوّلا أنّ تصديق الشيخ والإيمان به والإنحياش بالمحبّة الخالصة إليه والإذعان له بإلقاء عصى المخالفة والمعاندة بين يديه هو سلّم السعادة وأساس كلّ خير ومبنى كلّ أمر في طريق الإرادة ، وإنّ من لم يوافق شيخه في اعتقاده ولم يترك مراده لمراده فقد انهار به في نار جهنم القطيعة ، والعياذ بالله تعالى ، جرى اعتراضه وانتقاده .
ومن لم يوافق شيخه في اعتقاده      يظلّ من الإنكار في لهب الجمر
وهذا ممّا لا ينكره إلاّ جاهل ولا يجحده إلاّ من كان نائيا عن الهدى بمفازات ومراحل .
ثمّ من المعلوم أنّه ثبت عن سيّدنا رضي الله عنه أنّه أخبر عن نفسه بإخبار من سيّد الوجود صلّى الله عليه وسلّم أنّه القطب المكتوم والبرزخ المختوم والخاتم الأكبر والوارث الحقيقيّ الأشهر ، الحائز لجميع ما للأولياء من الكمالات والأنوار والمآثر والأسرار ، مع ما هو متحقّق به في سرّه لما اختصّ به من العلوم اللدنيّة والمعارف الربّانيّة دون غيره . وقد صرّح رضي الله عنه في رسالة التحدّث بالنعمة بأنّ مقامه في الدار الآخرة لا يصله أحد من الأولياء من عصر الصحابة إلى النفخ في الصور إلخ كلامه في الرسالة المذكورة ، وقد أثبتها في جواهر المعاني ، وكذا في الجامع لما افترق من درر العلوم . وثبت عنه أيضا رضي الله عنه أنّ روحه هي الممدَّة لجميع أرواح الأقطاب والأولياء ، سواء منهم من تأخّر وجوده العيانيّ أو تقدّم . وثبت عنه أيضا رضي الله عنه أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم ضمن له أنّ من أخذ ورده الشريف ومات عليه لا يموت إلاّ وليّا قطعا ، وكذلك من أحبّه فقط . وأنّه صلّى الله عليه وسلّم قال له : " كلّ من أذنته وأعطى لغيره فكأنّما أخذه عنك ، وأنا ضامن لهم " . وقال رضي الله عنه ، بعد أن حكى هذا الكلام عن سيّد الوجود صلّى الله عليه وسلّم :" وهذا الفضل شامل لمن تلا هذا الورد سواء رآني أو لم يرني " . اهـ . ومعلوم أنّ من جملة الفضل المشار إليه ضمان الولاية من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم . وصحّ عنه أيضا رضي الله عنه أنّه قال : " طابعنا ينزل على كلّ طابع ولا ينزل عليه طابع " . وصحّ عنه أيضا رضي الله عنه أنّه قال : " طابعنا محمّديّ كلّ من أخذ وردنا ينزل عليه وتحصل الشفاعة له ولوالديه من حينه " . ولهذا قال بعض المشاهير من أهل هذه الطريق رضي الله عنه : " مراد الأشياخ من تلامذتهم من يحمل سرّهم ، وأمّا غيره فلا يحصل له إلاّ التبرّك " . والعجب ممّن يصدُّ عن طريقٍ أهلُها كلُّهم مرادون إلى طريق لا يدري هل يكون فيها مرادا أم لا . إلى غير هذا ممّا ثبت عنه رضي الله عنه من التصريح بعلوّ مقامه ، وإنافة قدره ، وشرف طريقته ، وسموّ مزيّة ورده ، وفخامة أمره . وما كان بهذه المثابة من الأوراد والطرق كيف تطمح إلى غيره بدلا عنه عين اللبيب العاقل ؟ أم كيف تتعلّق به دونه همّة النبيه الفاضل ؟ ومن كان بهذه المكانة القصوى السامية كيف ينسحب في نظر الأريب حكم الموت الذي ينقطع به المدد والإنتفاع على حقيقته الفردانيّة وروحانيّته النورانيّة ؟ وحدّثني بعض العلماء الأعلام من إخواننا الصادقين البررة الكرام حفظه الله ، أنّ بعض الخاصّة من أصحاب سيّدنا رضي الله عنه الذين أخذوا عنه وصحبوه قيد حياته حدّثه أنّه كان يوما جالسا بإزاء داره من محروسة فاس إذ خطر بباله مثل هذا المعنى المتكلّم فيه ، فقال في نفسه لعلّ المنع من هذه الزيارة كان خاصّا بمدّة حياة الشيخ رضي الله عنه . فما أتمّ ذلك في خاطره حتّى وقف عليه رجل من أصحاب الأحوال ، وكان الشيخ رضي الله عنه أشار إلى أنّه من أهل التصرّف ، فقال له بمجرّد ما وقف عليه : " قال لك هو لا يموت " ، ثمّ انصرف . فتنبّه ذلك السيّد وتاب إلى الله من ذلك الخاطر ، وعلم أنّها عناية من الله تعالى تداركته ببركة صدق محبّته في الشيخ رضي الله عنه . فلم يبق لمن ساقه سائق السعادة إلى الدخول في هذه الطريقة الأحمديّة ، والانخراط في سلك أهل هذه الدائرة المصطفويّة ، وأهّله الله بفضله لمشاهدة هذه الخصوصيّة العظمى ، إلاّ إلقاء القياد لأستاذه رضي الله عنه على طريق المحبّة والتسليم ، وسلب الإرادة له والتحكيم ، ويداوم على ذكر هذا الورد الشريف بالمحافظة على شروطه المشروطة ، والوقوف بغاية الجهد عند حدوده المضبوطة ، حتّى يأذن الله تعالى له بالفتح ، إمّا أن يفجأه ويهجم عليه هجوما ، وإمّا أن يمنّ الله عليه بكشف الحجاب بين عيني قلبه وبين روحانيّة الشيخ رضي الله عنه أو روحانيّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ، فتكون تربيته بطريق الإستفاضة من أحدهما أو منهما معا . وما في الكناش من اشتراط استحضار صورة القدوة أو صورة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لمن يقدر على ذلك رمز إلى هذه الطريقة ، وتلميح إلى هذه الدقيقة . وإمّا أن يقيّض الله تعالى له مرشدا من إخوانه يقوم بأعباء تربيته ليشهده الله سرّ خصوصيّته ، ويزيل بينه وبينه حجاب بشريّته ، فيسير به إلى الله تعالى في سرّه وعلانيّته . والقائمون بأعباء التربية في طريقنا ، والحمد لله ، كثيرون ، لم يخل منهم منذ توفيّ الشيخ رضي الله عنه زمان ولا قطر ، بل ظهر منهم عدد في حياته رضي الله عنه كما لا يخفى ، إلاّ أنّهم لا يتظاهرون بذلك لما لا يخفى من حكم الوقت ، فلا يعثر عليهم إلاّ من قيّد الله له الإنتفاع به ، وذلك لما خصّوا به ببركة أستاذهم من حالة الكمال المسمّاة عند أهل التحقيق من أهل هذا الشأن بالغيرة على الحقّ ، وهي كتمان السرائر والأسرار ، وهي حالة الأخفياء الأبرياء من الملامتيّة المجهولة مقاماتهم ، فلا يظهر قطّ أمر إلهيّ يعرف به أنّ لله عناية بهم ، وأحوالهم تستر مقاماتهم لأنّهم جارون مع العامّة على ما هي عليه العامّة من ظواهر الطاعات التي لم تجر العادة في العرف أن يعدّ بها من أهل الله تعالى . وهذا أمر أقامهم الله تعالى فيه ، وفضيلة حلاّهم الله تعالى بها شعروا أو لم يشعروا ، وهي غاية الكمال بلا شكّ . قال العارف بالله تعالى الشعراني في رسالته المسمّاة بـ" موازين الرجال القاصرين " : " وسبب ترك العارفين فتح باب المشيخة والتسليك في هذا الزمان شهودهم كثرة البلايا النازلة على الخلق ليلا ونهارا ، وعلمهم بأنّ الأمر راجع إلى وراء . وقد اشتدّ الأمر ولا يزداد إلاّ شدّة حتّى تكمل الدورة وتقوم القيامة " . ثمّ قال : " إذا علمت هذا علمت أنّ ترك العارفين فتح هذا الباب في هذا الزمان هو الصواب ، فلا يفتحه الآن إلاّ من أعمى الله بصيرته من هؤلاء المدّعين للمراتب المتنازعين عليها . اهـ . والمراد بتركهم فتح هذا الباب ، تركهم التظاهر بالمشيخة والإنتصاب للتربية بالإصطلاح المعروف الذي كان عليه من بعد الصدر الأوّل . وهذه الحالة هي حالة القائمين بالتربية من أهل طريقنا ، وهي طريق الحقّ والصواب ، والحمد لله . والتربية بالاصطلاح المذكور هي التي ذكر الشيخ زرّوق عن أشياخه أنّها انقطعت ، لا التربية الحقيقيّة التي معناها الإرشاد إلى العمل بالكتاب والسنّة وتلقين ذكر ونحوه ، ممّا يزيح الباطل عن النفس ويقطع العلائق والعوائق عنها بسبب استعانتها على ذلك بهمّة الشيخ الملقّن لذلك الذكر على حسب ما أذن له فيه من حضرة الله تعالى في سرّه ، أو حضرة رسوله صلّى الله عليه وسلّم يقظة أو مناما . وانظر الذهب الإبريز ، وتأمّل ما أملاه على صاحبه شيخه في هذه المقالة ، تقف على عين الحقّ فيها ، وتحصل من العلم فيها على ما لا تلتفت معه إلى كلام غيره إن شاء الله . وقد نصّ على مثل ما نصّ عليه الشيخ زرّوق العارف المحقّق اليوسي رحمه الله ، وهو مراد سيّدنا رضي الله عنه بقوله الثابت عنه : " من يريد السلوك في هذا الزمان كمن يريد أن يذبح نفسه " ، فإنّ مراده السلوك بالإصطلاح الذي أحدثه من بعد الصدر الأوّل ، أعني من بعد القرون الثلاثة ، لا السلوك بمعناه الحقيقي الذي هو تصفية النفس وتزكيتها من طريق التقيّد بالمشايخ الكاملين والإستناد إلى همم العارفين الواصلين ، حاشا أهل الله من ذلك . وبهذا يحصل الجواب الكافي والبيان الشافي ، إن شاء الله ، عمّا جعلتموه محصّل السؤال من قولكم ، أيّدكم الله : " هل يجوز لأحد من الأصحاب الذين لم يدركوا عصر الشيخ رضي الله عنه ، إذا عثر على شيخ تربية من غير الأصحاب ، أن يلقي نفسه إليه . إلخ كلامكم الذي أكّدتم علينا آخره بأنّنا إن أبينا عن ذلك الجواب عنه فالدرك علينا في ذلك . وهذا السؤال منكم ، حفظ الله جلالتكم وأيّد سيادتكم ، هو الموجب للإطناب فيما واجهناكم به من هذا الخطاب . ومحصّل الجواب أنّه لا ينبغي لمن أهّله الله تعالى بفضله لاتّباع هذا الشيخ الأعظم ، والإنحياش إلى جانبه الأفخم ، أن يستند إلى غيره أو يعتمد على من سواه من الأقطاب لا ظاهرا ولا باطنا في سرّه أو جهره ، وذلك لأنّه رضي الله عنه من خاصّة خاصّة الحضرة المحمّديّة صلوات الله وسلامه عليه ، بل لا أقرب منه رضي الله عنه إليها ، وأصحابه تلامذة سيّد الوجود صلّى الله عليه وسلّم سواء رأوه أو لم يروه ، وورده ورده عليه الصلاة والسلام كما ورد كلّ ذلك عنه . فمن التفتَ إلى غيره حرم الإغتراف من بحره والصولة بصارم نصره ، والعياذ بالله تعالى . فالحذر الحذر ، ففي طلعة الشمس ما يغني عن القمر ، والله تعالى المسؤول بجاه أحبّ الخلق إليه صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله أن يديم علينا وعليكم رضى هذا الشيخ العظيم وفيضان أنواره ، ويجعلنا من الثابتين في مركز عنايته تحت أفلاك عزّه وأدواره ، بمنّه وكرمه ، آمين .
وصلّى الله على سيّدنا ومولانا محمّد وآله وصحبه وسلّم آمين آمين آمين . والحمد لله ربّ العالمين .
وقال وكتب العبد الضعيف العربي بن السائح لطف الله به .