بقلم :
محمود سلطاني
إذا تحدّثنا عن الغيب والعلم به فلا بدّ من تحديد المنسوب إليه . فهناك الخالق عزّ وجلّ ، وهناك المخلوق ، وكلّ يعلم الغيب ، لكن الخالق يعلمه حقيقة ، والمخلوق يعلمه استخلافا ، وبعد إذن الخالق . فإذا كنّا نعني بكلامنا علم الله تعالى فليس هناك غيب بالنسبة له ، لأنّ كلّ شيء من لدنه برز ، وعنده اختزن . أمّا إذا كان المعني هو المخلوق ، فإنّ الأمر يستوي عند كلّ المخلوقات إذا نظرنا إليه من زاوية ، ويختلف كثيرا إذا نظرنا إليه من زاوية أخرى .
فإذا نظرنا إلى علم المخلوق بصفته ملكا لله ، مكّنه بمحض فضله وحكمته من الإطّلاع عليه بغضّ النظر عن وسيلة الإطّلاع ، والمستوى الممنوح منه ، فإنّه يمكننا القول بأنْ لا أحد عالم حقّاً ، لأنّ مسألة الإعلام أو عدمها بيده ابتداء ، وأمرها موكول له على الدوام حتى عند العلم ، فهو القادر على أن يأخذه متى وأنّى يشاء . إنّ عالما بمثل هذه الطريقة يعتبر كـ" لا " عالم بالمنظور المطلق .
وإذا رصدنا الظاهرة من زاوية رقعة المخلوقات الكثيرة والمتنوّعة ، فإنّ العلم يتحوّل إلى نِسَبٍ ومستوياتٍ ، ويتحوّل معه الغيب إلى غيوب لا نهاية لها عموديّا وأفقيّا ، وذلك لأنّ كلّ علمٍ يصبح خاضعا للوسائل البحتة ، المادية المعنوية العقلية المجرّدة ، أو المعنوية الروحية ، وهذه خارجة عن الحصر لأنّها لا تختلف من مخلوق لآخر فحسب ، بل وتختلف عند المخلوق نفسه وفقا لطبيعته ، وأطواره ، ومكتسباته .
وقد جعلنا الله تعالى عند خروجنا من بطون أمّهاتنا متساويين في العلم ، وهو الجهل المطبق بكلّ شيء . ومنذ اللحظة الأولى من وجودنا في هذه الحياة إلى آخر لحظة فيها تتواصل عمليّة التعلّم ، ومصارعة المجاهيل من أجل المعرفة بكلّ الأسباب المتاحة ، ويرتسم لكلّ واحد خطّ مسيرته البياني في التحصيل والمختلف عن خطوط غيره دون استثناء .
فما يعلمه الكبار يعدّ غيبا بالنسبة للصّغار ، وما اطّلع عليه أصحاب طور راق من المعرفة ، وأصبح في نظرهم هيِّنا متيسّرا ، هو طلسم بالنسبة لمن هم دونهم من أطوار . وحتّى بالقياس إلى نفس الطور فإنّ الأمور ستتّصف بنفس الإختلاف والتباين ، وتجد بين من يجمعهم مجلس علم واحد مَنْ يعلم ويرى ويتصوّر ما لا سبيل إلى إدراكه من زملائه .
لقد علِم سيدنا رسول الله عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام وهو في أيّامه أو أسابيعه الأولى من الحياة ما لم يعلمه إلاّ القليل من البشر ، لأنّ الله تعالى زوّده بالوسيلة المناسبة للتعلّم والإفصاح عمّا علِم .
وأنت تسأل نفسك قائلا : ما السرّ في كون أفراد قليلين من البشر أمْلوا على الجيل تلو الجيل ، عبر التاريخ ، تعاليم ، وتوجيهات ، ومخطّطات ، وأفكارا ، وهم مثلهم في الخلق أو أقلّ ؟ وتجيب قائلا : إنّها العبقرية . ولو شئتَ لقلْتَ إنّها أداة ووسيلة ربّانية أودعها الله تعالى في هؤلاء فأوجدتْ تلك القدرة على النظرة الشاملة الخارقة للأزمان ، وأورثتهم تلك الدرجة من استشراف المستقبل والمجهول .
ما الفرق بيني وبين صديقي الذي كنتُ ألْجأ إليه لفهم كلّ ما أشكل عليّ من معضلات الرياضيات في الجامعة ؟ نفس الأستاذ ، ونفس الفرصة ، لكن ليس بنفس قوّة الفهم عند كلينا . الأسباب التي سهّلتْ التلقّي عند صديقي كانت أعظم وأشدّ تمكينا من أسبابي ومعدّاتي . إنّ صديقي عَلِمَ ما غاب عنّي ، فهو من هذا المنظور قد علم غيبا من الغيوب بواسطة ما تفضّل عليه ربّه من عقل فذّ ، وبقيت أنا في غياهب جهلي أو غياهب غيبي . لكن في نفس الوقت فإنّ صديقي كان يصرّح لي - صادقا - بعجزه عن فهمي وملاحقتي في " الْتِهَامِ " الكتب ، وقوّتي في وصف مواقف وجدانية ما كان لِيَجِدَ اللغة المناسبة لها لو كان مكاني . ولم أعرف نفسي أنّي تكلّفتُ ولو نقيرا ممّا اعتبره هو براعة ، ومقدرة جبّارة . لكن لا غرو إذا توفّرت الوسيلة عندي وغابت عنده .
وليس لديّ شكّ في أنّ حمورابي وسقراط وسيبويه والفرابي وغيرهم من عباقرة الإنسانية يجهلون فنونا ومهنا ومهارات لانتْ لأصحابها من العوام والبسطاء حتى وكأنّها الماء المترقرق .
إنّ الغيب ما لا تعلمه أنت أو أي فئة أخرى من المخلوقات وليس الله تعالى . وهو وإن وصف نفسه بـ " علاّم " الغيوب ، و"عالم الغيب والشهادة " ، فهو يعني ما انحجب عنّا من علوم لتذكيرنا بحاجتنا المطلقة له .
ويبرز سؤال في هذا المقام .
هل هناك حدّ فاصل معلوم بين ما أذِنَ الله تعالى به من لعباده ليعلموه من غيوب وبين ما استأثر به ، ولا يُطلع عليه أحد ؟
أمّا الحدّ فموجود بالضرورة الدينية والعقلية .
وأما موقع ذلك الحدّ في بحار الله فلا يعلمه من خلقه سوى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّه الأعظم نصيبا من العلوم الإلهية الممنوحة إلى عباده ، وهو صلى الله عليه وسلم لم يخبر به أحد لأنّه من الأسرار التي خصّه الله بها دون غيره .
الغيوب الخمس
يرفض الكثير إمكانية علم المخلوق - بإذن الله طبعا - بالغيوب الخمسة المذكورة في القرآن :
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
(1)
بحجّة أنّها ممّا استأثر الله به من العلوم ، ويستشهدون بنصّ الحديث الشريف الذي رواه الإمام أحمد رضي الله عنه
عن ابن عمر رضي الله عنه قال :
«
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خير
» .
إنّ كون تلك الغيوب لا يعلمها إلاّ الله لا يعني أنّ الله تعالى لا يعلّمها لمن شاء من عباده ، وتخصيصها بالذكر من بين علوم الله ، وفيها ما لا يخفى على أحد من العظمة والسرّية وبعد المغزى والحكمة ، لعلّة ظهرت لنا - والله أعلم - وسنتعرّض لها في ما بعد .
فالروح ، والملائكة ، واللوح ، والقلم ، والآخرة ، وعوالم الله المحجوبة ، والحكمة من خلق الخلق على هيئته المعروفة ، وما لا نهاية له من الموجودات ، هي أيضا من الغيوب التي تفوق إنزال الغيث أو الكسب المستقبلي ، فلماذا لم تذكر مع الخمس ؟ وهل نفهم من كلام المنكرين أنهم يؤمنون بإمكانية علمها ما دامت ليست في عداد الخمس المنزّلة ؟
والجواب الفوري هو قطعا : لا ! لأنّك لن تجد منكرا على الأولياء والعارفين يصدّقهم في إخبارهم عن علومهم اللدنية جملة وتفصيلا .
كلام المنكرين ليس بمعيار إذن . كأنّي بهم يخشون على الله الفقر ، أو يخشون عليه ضيم عباده . كأني بهم يعتقدون أن ليس بحوزة الباري الغنيّ الحميد سوى بعض الغيوب تميّزه عن خلقه ، فإذا كشف شيئا منها لهم أصبحوا له أندادا وشركاء .
إنّ من يتمعّن في الآية يرى أنّ كلّ الغيوب المذكورة من متعلّقات الحياة الدنيا ، من بدايتها إلى نهايتها مرورا بجميع خطوات الطريق المسلوك . ولو تمعّنت أكثر لتبيّنتْ لك سمة مشتركة تجمع بينها كلّها ، وهي الخضوع - بعد إرادة الله - لقوانين أكثر من أن يكون لأيّ مخلوق بشريّ عادي متّسع لعدّها ، ورصد كيفيات تأثيرها . إنّها التعقيدات المتولّدة عن الظواهر والمولّدة لها .
ومشكلة الإنسان مع الظواهر ليست في عجزه عن فهم جزئيّاتها متفرّقة ، ولا في اكتشاف ضوابطها العقلية الرياضية ، ولكنّها كامنة في عدم توقّعها انطلاقا من جهله بآليات وقوعها مجتمعة ، وبالتالي جهله بمحصّلة المؤثّرات التي بها يستشرف المستقبل ، ويحدّد صورا واضحة منطقية لإسقاطاته .
بالرغم من تقدّم العلوم ، فإنّ الإنسان لا يزال عاجزا عن تحديد جنس الجنين ، وحركات ووجهة الغيوم إلاّ احتمالاً وتقديراً بعيد كلّ البعد عن الجزم . ولن تجد من يستطيع بعقله تعقّبَ الأسباب المسؤولة عن جلب رزقه أو علمه أو حظّه ، أو يقدّر التقدير الدقيق السليم لجميع درجات الأخطار في جميع الإمكانات التي من خلالها يتعرّض إلى الهلاك والإتلاف . أمّا الساعة ، فإنها أعقد من كلّ ما ذكرنا لأنّ أمرها ، وإن كان دنيويا ، إلاّ أنه يزيد عليها بكونه متعلّقا بانخرام نظام الكون البعيد والمحجوب عن العقول بصفة شبه كاملة .
إذن فجهل المسألة وعلمها منحصر في الوسائل وجودا وانعداما .
إنّ العدد " خمسة " في الآية الكريمة يعبّر عن نمط معيّن من غيوب الحياة الدنيا ، في إشارة إلى عجز الإنسان المغرور بوسائله الظاهرية عن معرفة ما هو أشدّ منه قربا وملازمة .
لكن لله سبحانه وتعالى وسائل أخرى غير وسائل الأجساد والعقول يهبها لعباده المقرّبين ، ويعلّمهم بواسطتها ما يشاء ممّا هو من ضروب المستحيل بالنسبة للأولى . والأدلّة موجودة .
- روى الإمام مسلم رضي الله عنه عن سيّدنا عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال :
«
الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره . فأتى رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقال له حذيفة بن أسيد الغفاري . فحدثه بذلك من قول ابن مسعود فقال : وكيف يشقى رجل بغير عمل ؟ فقال له الرجل : أتعجب من ذلك ؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا مرّ بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا. فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال : يا رب أذَكر أم أنثى . فيقضي ربّك ما شاء. ويكتب الملك . ثم يقول : يا رب أجله . فيقول ربك ما شاء ويكتب الملك . ثم يقول : يا رب رزقه. فيقضي ربك ما شاء . ويكتب الملك. ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده ، فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص » .
ولا يكتب الملك الكريم إلاّ ما عَلِمَ ، فكيف يتأتّى ذلك وظاهر النصّ يوحي بعدم اطّلاع غير الله تعالى على جنس الجنين ؟ إنّ الإعتماد على ظاهر الحديث يوقعنا في التناقض ، ولا تناقض في قول الله وقول المصطفى صلّى الله عليه وسلّم والحقيقة أنّ تعليم المولى عزّ وجلّ عباده من أسراره وعلومه لا ينافي ولا يلغي كونه المتفرّد بالعلم .
- وملك الموت الذي وُكِّل بنا يُعْلِمُهُ الله بمكان وساعة موت كلّ إنسان مسلم أو كافر . ففي مستدرك الحاكم ـ كتاب الإيمان ـ عن سيّدنا
البراء بن عازب رضي الله عنه قال :
«
خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا الى القبر ولما يلحد بعد قال فقعدنا حول النبي صلى الله عليه وسلم فجعل ينظر إلى السماء وينظر إلى الأرض وجعل يرفع بصره ويخفضه ثلاثا ثم قال اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ثم قال إن الرجل المسلم إذا كان في قبل من الآخرة وانقطاع من الدنيا جاء ملك الموت فقعد عند رأسه وينزل ملائكة من السماء كأن وجوههم الشمس معهم أكفان من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة فيقعدون منه مد البصر قال فيقول ملك الموت أيتها النفس المطمئنة أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوانا قال فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من السقاء فلا يتركونها في يده طرفة عين فيصعدون بها إلى السماء فلا يمرون بها على جند من ملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الطيبة فيقولون فلان بن فلان بأحسن أسمائه فإذا انتهى إلى السماء فتحت له أبواب السماء ثم يشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي إلى السماء السابعة ثم يقال اكتبوا كتابه في عليين ثم يقال أرجعوا عبدي إلى الأرض فإني وعدتهم إني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى فترد روحه إلى جسده فتأتيه الملائكة فيقولون من ربك قال فيقول الله فيقولون ما دينك فيقول الإسلام فيقولون ما هذا الرجل الذي خرج فيكم قال فيقول رسول الله قال فيقولون وما يدريك قال فيقول قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت قال فينادي مناد من السماء أن صدق فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وأروه منزله من الجنة قال ويمد له في قبره ويأتيه روح الجنة وريحها قال فيفعل ذلك بهم ويمثل له رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول من أنت فوجهك وجه يبشر بالخير قال فيقول أنا عملك الصالح قال فهو يقول رب أقم الساعة كي أرجع إلى أهلي ومالي ثم قرأ يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة وأما الفاجر فإذا كان في قبل من الآخرة وانقطاع من الدنيا أتاه ملك الموت فيقعد عند رأسه وينزل الملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيقعدون منه مد البصر فيقول ملك الموت أخرجي أيتها النفس الخبيثة إلى سخط من الله وغضب قال فتفرق في جسده فينقطع معها العروق والعصب كما يستخرج الصوف المبلول بالسفود ذي الشعب قال فيقومون إليه فلا يدعونه في يده طرفة عين فيصعدون بها إلى السماء فلا يمرون على جند من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الخبيثة قال فيقولون فلان بأقبح أسمائه قال فإذا انتهى به إلى السماء غلقت دونه أبواب السماوات قال ويقال أكتبوا كتابه في سجين قال ثم يقال أعيدوا عبدي إلى الأرض فإني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى قال فيرمي بروحه حتى تقع في جسده قال ثم قرأ { ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق } قال فتأتيه الملائكة فيقولون من ربك قال فيقول لا أدري فينادي مناد من السماء أن قد كذب فأفرشوه من النار وألبسوه من النار وأروه منزله من النار قال فيضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه قال ويأتيه ريحها وحرها قال فيفعل به ذلك ويمثل له رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول أبشر بالذي يسؤك هذا يومك الذي كنت توعد قال فيقول من أنت فوجهك الوجه يبشر بالشر قال فيقول أنا عملك الخبيث قال وهو يقول رب لا تقم الساعة
» .
وفي مصنّف ابن أبي شيبة : «
: أتى ملك الموت سليمان بن داود ، وكان له صديقا ، فقال له سليمان : مالك تأتي أهل البيت فتقبضهم جميعا وتدع أهل البيت إلى جنبهم لا تقبض منهم أحدا ، قال : ما أعلم بما أقبض منها ، إنما أكون تحت العرش فتلقى إلي صكاك فيها أسماء .
» .
وقد كتبنا العبارات التي تشير إلى الأسماء المحدّدة واللحظة والمكان بالأحمر حتى يتنبّه لها القارئ الكريم ، وفي ذلك الدليل القاطع على أنّ الله سبحانه وتعالى يسمح بوصول مثل تلك العلوم إلى مخلوقاته .
- وقد أخبر سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الشياطين الذين يسترقون السمع من السماء فقال كما جاء في البخاري ، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عكرمة، عن سيّدنا أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه وعنّا به :
«
إذا قضى الله الأمر في السماء ، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله ، كالسلسة على صفوان - قال علي : وقال غيره : صفوان ، ينفذهم ذلك - فإذا فزع عن قلوبهم ، قالوا : ماذا قال ربكم ، قالوا للذي قال : الحق ، وهو العلي الكبير . فيسمعها مسترقو السمع ، ومسترقو السمع هكذا واحد فوق الآخر - ووصف سفيان بيده وفرج بين أصابع يده اليمنى ، نصبها بعضها فوق بعض - فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي بها إلى صاحبه فيحرقه ، وربما لم يدركه حتى يرمي بها الذي يليه ، إلى الذي هو أسفل منه ، حتى يلقوها إلى الأرض - وربما قال سفيان : حتى تنتهي إلى الأرض - فتلقى على فم الساحر ، فيكذب معها مائة كذبة ، فيصدق فيقولون : ألم يخبرنا يوم كذا وكذا ، يكون كذا وكذا ، فوجدنا حقا ؟ للكلمة التي سمعت من السماء
» .
وهنا أمران مهمّان :
-
إعلام الله ملائكته بما سيقضي لأنهم هم المسؤولون عن تنفيذه ، وتحدّثهم بذلك حتى يصل إلى آذان الشياطين . وهذا الغيب متعلّق بما سيقع على الأرض ، فلِمَ لا يكون الكسب الشخصي للبشر منه ؟
-
إذا كان للشيطان وأولياءه فسحة في الوصول إلى تلك الحدود من العلم ، فكيف لا يكون لأولياء الله تعالى حصّتهم من فضل مولاهم الذي اصطفاهم ومن علومه وكراماته ؟ وأي غضاضة علينا إذا قلنا ما قلناه بعد ما تبيّن لنا من النصوص ما يدفعنا إلى المقارنة الجائزة الحكيمة ؟
- وقد وكّل الله تعالى بشؤون الأمطار ملكا ، فهو يصرّف السحب وما تحمله من ماء إلى حيث يعلم من أمر الله ، فهل إذا قلنا أنّ الملك قد عَلِمَ بمكان ومقدار المطر الذي يصيب العباد نكون قد أشركنا وكفرنا ؟ هذا هو الله نفسه من يخبرنا بما فعل ، فمن يجرؤ على التعقيب أو المعارضة ؟
بل إنّ هذا الملك الكريم يعلم أكثر ممّا هو من اختصاصه
فقد
روى الإمام أحمد رضي الله عنه في مسند سيّدنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال :
«
استأذن ملك المطر أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فأذن له فقال لأم سلمة احفظي علينا الباب لا يدخل علينا أحد فجاء الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما فوثب حتى دخل فجعل يصعد على منكب النبي صلى الله عليه وسلم فقال له الملك أتحبه قال النبي صلى الله عليه وسلم نعم قال فإن أمتك تقتله وإن شئت أريتك المكان الذي يقتل فيه قال فضرب بيده فأراه ترابا أحمر فأخذت أم سلمة ذلك التراب فصرته في طرف ثوبها قال فكنا نسمع يقتل بكربلاء.
» .
فإذا كان ملك المطر يعلم مكان استشهاد سيّدنا الحسين رضي الله عنه فكيف بسيّد الخلق جميعا صلى الله عليه وسلم ؟ وقد يسقط البعض في الخطإ ، فيظنّ أنّ إعلام الملكِ للنبيّ عليه الصلاة والسلام دليل على غياب الأمر عنه . والحقيقة أنّه يعلم ما ليس للملك سبيل إلى شمّ رائحته ، ولكنّها الحكمة الإلهية في تربية المسلمين وإنبائهم بواسع تفضّله على خلقه ، وإرادته المطلقة على تفويض من يشاء منهم بما يشاء في ملكه .
فكلّ ذي بصيرة يرى جليّا أنّ الأمر بيد الله تعالى يهب منه ما يشاء لمن يشاء بما يشاء من وسائل ليس بالضرورة أن تكون معلومة من كلّ مخلوق . يكفي في المخبر أن يكون ثقة عدلا ، وأن يدخل إخباره في حيّز الممكن بحيث لا يتعارض مع النقل والعقل ، وهو ما أثبتناه بفضل الله في هذا المقال .
والله الموفّق للصواب .
- سورة لقمان ، الآية 34 .