بقلم :
محمود سلطاني 25/11/2009
يُخيّل إليّ أنّ حال المنكرين مع الصوفية كحال ذلك التلميذ البليد الذي لم يُحضِّر سوى درس الدودة لامتحان العلوم الطبيعية ، لكنّه تفاجأ يوم الفحص لأنّ الأسئلة كلّها كانت متعلّقة بدرس القط . وبعد تفكير قليل شرع الطالب في الإجابة ، وبدأ كما يلي : " القط حيوان له رأسٌ وأربعة قوائم وذيل يشبه الدودة . وأمّا الدودة فهي حشرة ... " ، وكتب درس الدودة بأكمله على ورقة الإجابة .
تُحكى هذه الطرفة تعبيرا عمّن يسوق الأحداث والظواهر قسرا خدمة لنوايا وأهداف معدّة سلفا ولو لم تتوفّر لها الأسباب الموضوعية .
وهكذا أيضا شأن المنكرين على ساداتنا الصوفية رضي الله عنهم ، فلو عثرتْ بغلة في المشرق لأشارت أصابعهم متّهمة إيّاهم ولو كانوا في المغرب ، ولنسجوا حبلا طويلا من التلفيقات يصل تلك الدابّة البريئة بضريحٍ أو قبرٍ أو سبحةٍ أو وِردٍ أو حلقة ذكرٍ أو غير ذلك ، ثمّ يرفع صائحهم عقيرته في الملإ أنْ هوّنوا على أنفسكم فقد عرفنا السبب ! ألمْ نقُلْ لكم أنّهم هُم !
ويشهد الله أنّ مثل هذه التصرّفات تخلق بداخلنا نوعا من الإطمئنان المثلج للصدور من غير أن يكون للمتسبّبين فيه فضلاً لأنّه اطمئنان مخفيّ بين طيّات سوء النوايا كما يقع للألطاف الإلهية حين يلفّها الباري عزّ وجلّ داخل أتون البلاء فتصِلُ بحوله وطوْله كاملة ، وينفع بها من يشاء من خلقه نسلا وحرثا . مصدر هذا الإطمئنان هو فكر المنكرين السطحي إلى درجة السذاجة . سذاجة يُذيعونها ، ويُروّجون لها ، ويزيّنونها بصفتها عِلْماً ، فيتلقّفها ويصدّقها كلّ من هُم على شاكلتهم ، فيَسْتَمْرونها ، وتراهم يردّدونها مستمتعين أمام أنظار أهل الحقّ والحجى المذهولة من هول أمواج تفاهة العقول التي تظنّ نفسها في القمّة بينما هي في الأسفل . والمُصابُ الأوّل بتلك السطحية هم علماؤهم . ونحن لا ننكر أنّ للمنكرين علماء ، ومعاهد عليا لكلّ فنون الدين ، ونشاطات ومجهودات جبّارة لبثّ مذهبهم وبكلّ الوسائل المتاحة . لكن هل يكفي كلّ هذا وأكثر منه لتكوين عالم ؟ لقد كان قصدنا بتسميتهم " علماء " مجاراة لقول أشياعهم فيهم ، أمّا في الحقيقة فإنّهم أبعد الناس عن العلماء .
العالم الحقيقي ليس فحسب مَن تردّد على المعاهد والجامعات طيلة سنين ، ولكن العالم من أوتي الحكمة . والحكمة منبعها مصدرين اثنين يُوظّفان معاً في نفس الوقت ، ولِواحدٍ منهما سلطة على الآخر . هذان المصدران هما : العقل والقلب ، وشرطهما أن يكون كلّ واحد منهما فذّا في ميدانه ، مع سيطرةٍ للقلب على العقل . وتلك الفذاذة في ذينك المصدرين إنّما هي موهبة ربّانية ابتداءً ، ومباركة منه سبحانه وتعالى عند توظيفها في نصرة الحقّ وكلمته .
وليمكثْ من شاء ما شاء على كراسي المعاهد فلن ينفعه ذلك نقيرا في هذا الصدد ، وغاية ما يناله هو الإطّلاع وحفظ القواعد والأقوال التي تشحن المقرّرات ، ثمّ الخروج بشهادة لا تعكس سوى ضنى سنوات تحوّل خلالها عديمُ الموهبةِ إلى كتلة من الصدى المردّد لِما اختزنه من معلومات ومصطلحات . ولو أنّ عديم الموهبة عرف قدر نفسه ووقف عند حدوده لَمَا كان عليه من غضاضة ، ولكنّه يسقط في الخطإ حين يدّعي العلم ويحاول تبوّء مراتب العلماء في حين أنّه لا يختلف عن العامّة إلاّ بالحفظ ، بل ويوجد في العامّة من ذوي العبقرية الذين لم تسعفهم ظروفهم مَنْ هو خير منه آلاف المرّات .
إنّ الدراسة لا تخلق العبقرية إذا عُدِمَتْ لكنّها تخدمها وتهيّئها إذا وُجِدتْ لتتبَّع في نهاية المطاف سبيلها الذي من أجله خُلِقتْ كما ينساب النبع الزلال بداخل مجراه الطبيعي من غير تكلّف ولا تصنّعٍ .
قد يسألني سائل ويقول لي : " كيف يُعقل أن تخلو فئة كبيرة من الناس من عباقرة وأهل عقل راجح ؟ " ، وأردّ على السائل قائلا : كان عليك تحديد نوعية الفئة التي تقصدها ، لأنّ للمنكرين فئتان في حقيقة الأمر ، واحدة خيالية وأخرى واقعية . أمّا الخيالية فهي تلك التي تُبرِزها الدعاية ويُنمِّقها الترديد المستمرّ ، وفي شراك هذه الفئة يسقط كثير من المنخدعين ويكون فيهم حتما عباقرة وأهلُ حصافة دفعتهم النوايا الحسنة تلبية لنداء العقيدة وخدمة الدين ، ثمّ يمرّ الزمن ويفعل مفعوله ، ويظهر كلّ قبيح كان مستورا ، وتُطِلّ الفئة الواقعية أو قُلْ إن شئتَ واقع الفئة ، فتنتفض المجموعة المختارة بحكم كمالها الطبيعي وبدون إرادتها ، ويتعذّر عليها الصبر على التناقضات ، فتنفر وتنفضُّ وتنسحب من عالم لا يشبع نهمها ولا يروي عطشها ، وتشهد نفسها فيه - لو بقيتْ - أنّها منافقة . ولا يبقى سوى مُمَاثلٍ في فقر العقل والقلب متطفّل على ما ليس له ، أو انتهازيّ عدوّ لنفسه أو عدوّ لله . بداخل هذه الفئة لن تجد صاحب حكمة يُدخل عليك قوله فرحة ، وإنّما تجد نفسك بإزاء حزب جمعتْهُ نفس الأفكار الباهتة المنطفئة ، يزكّي بعض أعضائه البعض الآخر والمحصّلة لا شيء .
قرأتُ واستمعتُ وشاهدتُ ما فيه أكثر من الكفاية التي تجعلني أقول قولي مرتاحا ، وإنّي كلّما ازددتُ اطّلاعا على عالم هؤلاء ازددتُ معرفة بأنواع من التكلّف والسطحية والتناقض لم يسبق لي أن عرفتها من قبل . كنتُ أحسّ عند ولوج عالمهم لدراستهم عن كثبٍ بأنّي مع أناس يسبحون في شبر ماء ، ويقطنون جحر ضبّ ، ويعالجون الجدّ بأدوات بلاستيكية . كنتُ أجد كلّ شيء زائف إلى درجة أنّي أشفق على نفسي من خطر هذا العالم الغريب عنّي لأنّ نزولي من أجل الإطّلاع عليه تضحيةٌ تصيبني بألمٍ روحيّ شديد .
كنت دائما أسأل نفسي : كيف تسنّى لكلّ هذا الكمّ من الغثاثة أن يتجمّع ؟ وكان جوابي الوحيد دائما : هي إهانة الله وخذلانه لكلّ فردٍ أو جماعةٍ أو مشروعٍ ينبري لمحاربة أهل الله رضوان الله عليهم ، فيتركهم الحقّ سبحانه وتعالى يتخبّطون في قارورة لا منفذ فيها ، ويحرمهم من هبة الحكمة الفاتحة لبوّابات عوالم البركة الرحبة حيث العلم وقوّة الإستنباط ، وتيجان الخلق السامي بين عباد الله المُكْرَمين . ذلك وجهٌ من وجوه الحرب التي آذن الله بها منذ الأزل كلّ عدوّ جرّد وسائله لإذاية أوليائه : إفراغ كلّ سعيٍ من مساعيه من كلّ حسنةٍ وحُسْنٍ ، وحرمانه من الوصول إلاّ لكلّ أُذُنٍ بنفس السقم ابتُلِيَتْ .
وبديهيّ أنّ كلّ مَن سقط من عين الله فوحْل الهوى أوْلى به ، وعالم المنكرين من عوالم إبليس المفضّلة لطرح اقتراحاته ، وتنفيذ مشاريعه ، وتحقيق أحلامه المستعصية عن التحقيق في غيرها . وهُم من فرط جهلهم وجمودهم لا يتنبّهون إلى كونهم قد تحوّلوا إلى آلة طيّعة في يديه ، يدير بها شؤونه العدوانية ضدّ الإسلام والمسلمين .
نعم ، يغمرك اطمئنان عارمٌ هو مِن ثمرات نِعَمِ المنعم المطلق جلّ شأنه فتتحقّق بمقتضاه من استقامة منهجك الروحي ، وصواب سبيلك وطريقك ، ولا يسعك في تلك الأثناء إلاّ شكر صاحب النعمة الكريم وكلّك يقينا بالزيادة .
لقد اخترتُ اليوم أن أتكلّم عن قضية اتُّهِمَتْ بأنّها " قضيّة " ، وأُلْصِقتْ بها هذه التسمية وهي من الكلّ براء . لقد كانت ظاهرة طبيعية صحّية مباركة منذ نشأتها وطيلة قرون متتالية حتّى جاء مَن اختلق لها ملفّا طويلا ثقيلا من الإتّهامات وأدخلها أقفاص المجرمين في محاكم المُتَّهـِمُ والقاضي فيها من الظالمين .
هذه القضية هي : التقليد المذهبي .
أسألكَ بربّك : هل سمعتَ عن جريمة اسمها " جريمة اتّباع الإمام أبي حنيفة أو الإمام مالك أو الإمام الشافعيّ أو الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين وأرضاهم وجعل أعلى عليّين مأواهم ؟ " .
كيف ؟ لم تسمعْ ؟؟!!
نعم هذا النوع من الجرم موجود اليوم عند المنكرين على أهل التصوّف . وأرجوك لا تتفاجأ وتقول : ما دخْل رفض التقليد المذهبي بالإنكار على التصوّف ؟
أخي الكريم ، وهل أُثيرَ الموضوع ، ولُفِّقت التّهم إلاّ من أجل ضبط خطّ الرمي باتّجاه صدور الصوفية ؟ ألم أحدّثـْكَ عن " درس الدودة " ؟ لقد كان إطنابي في مقدّمتي ضروريّا لألفتَ انتباهك إلى أيّ مدى يصل جدبُ العقول وعقم القلوب ، وسوف تكتشف بنفسك صدق دعواي في ما يلي من الكلام .
يقول المنكرون : " نرفض التقليد المذهبي انطلاقا من أوامر أئمّته أنفسهم ، حيث نهوا غيرهم عن اتّباعهم ، وأمروا بالعودة إلى مصادر التشريع للأخذ منها كما أخذوا . ولقد تبرّأ الإئمّة من ادّعاء العصمة في كلّ قولٍ لهم أو استنباط أو فتوى لأنّهم مهما كانوا في علمهم وتقواهم فهُمْ بشر يؤخذ من كلامهم ويُردّ . ونرفض التقليد أيضا لأنّ لكلّ عصر طبيعته ومشاكله التي تختلف عن طبيعة ومشاكل غيره من العصور ، وليس لها سوى أهله ورجاله . بذلك فقط نحافظ على دين الله حيّا متجدّدا وصاحب الكلمة والحكم في الأمّة " .
هذا ملخّص أفكار الرافضين لتقليد المذاهب ، وهو كلامٌ حقّ ، نؤمن به إيمانا قويّا ، ونتبنّاه بدون تحفّظ . وبصفتي تجانيّ فإنّي أحيل كلّ من يشكّ في تصريحي إلى
الفصل الثامن من كتاب " رماح حزب الرحيم " للشيخ سيّدي عمر الفوتي رضي الله عنه ليطّلع بنفسه ويتأكّد .
وتسألني قائلا : كيف يكون المنكرون قد ارتكبوا ظلماً في مسألة التقليد المذهبي وأنت منذ ثانية قد اعترفتَ أنّ ما يقولونه الحقّ ؟
وأقول أنّ ظلمهم ليس في قول الحقّ ، ولكن في عدم قول كلّ الحقّ في حقّ الأمّة قبلهم وإلى عصر الأئمّة المجتهدين صعودا على سلّم الزمن .
ليس الحقّ أمرا بسيطا على الدوام يؤدَّى بحركة واحدة ويُفرَغُ منه . إنّ جُلّ أمر الحقوق والحقائق مركّب متشعّب يستدعي التوضيح عند الْتقاء أو تفرّع كلّ مسلك من مسالكه ، ويتطلّب تفصيلا لملابساته لا يغني عنها الإجمال . وما نعيبه عن المنكرين هو معاملة الكلّ مثل معاملة الجزء ، وهو رتْقٌ ودمْجٌ ظالمٌ إن لم يعكس الحقّ الذي يراد به الباطل فهو - بلا شكّ - يعكس جهلا وتسرّعا وضعف بصيرة .
وينقسم المقلّدون عند المنكرين إلى قسمين : قسمٌ يشمل العامّة وقسمٌ آخر يشمل العلماء بالمذهب .
أمّا العامّة فقد وصفهم قائلهم بـ" المتّبعين للمفتين المقلّدين كالسوائم ( أيّ الحيوانات ) من غير مناقشة ولا طلب دليل ، الأمر الذي عطّل العقول عن البحث في الكتاب والسنّة ، ووجّهها إلى تقديم آراء الأشخاص على النصوص القاطعة ، وأدّى ذلك إلى تعظيم الأئمّة إلى حدّ نسبة العصمة لهم وهذه ذريعة إلى الشرك " .
وأمّا عن العلماء فقد أضاف نفس المصدر بـ" أنّهم متعصّبون ، ضعيفوا العقول والوازع الديني ، وأنّهم تاجروا بأقوال الإئمّة وتَتَرّسوا بهِمْ موهمين الناس أنّهم على طريقتهم ومذهبهم ، وما هُمْ كذلك . ولقد اتّبعوا وأفتوا بأقوالهم دون معرفة دليلهم "
حين تطّلع على مثل هذه الأقوال يخيّل لك أنّ الطبقات تلو الطبقات من العلماء الفطاحل ، وأطواد الأمّة منذ عصر الأئمّة إلى يومنا هذا ، أشدّ سوءا من منافقي ومحتالي ودجّالي الأرض مجتمعين . ولو أردتُ أن أضرب مثلا من واقع المذهب الذي أتّبعه بكلّ فخر واعتزاز ، وهو مذهب الإمام مالك رضي الله عنه ، فإنّ أئمّة مثل ابن القاسم ، وسحنون ، وابن عبد البرّ ، وابن رشد ، وابن العربي ، وأبي يزيد القيرواني ، والقاضي عياض ، والدردير ، والدسوقي ، والشيخ علّيش ، والطاهر بن عاشور ، والشيخ عبد الرحمن الجيلالي ، وغيرهم رضي الله عنهم يعتبَرون في عقل هؤلاء المنكرين من أعظم اللصوص والغشّاشين . ما الذي بقي للأمّة لو شطّبنا على رجال المذاهب السنّية كلّها منذ قرون ؟ أهذا كلام يردّده حتى المجانين ؟ الغريب في الأمر هي تلك البساطة في إعلان ذلك الحكم الشنيع وكأنّ أصحابنا يروّحون على أنفسهم في نزهة .
وإلى يوم الناس هذا لا نعرف كيف عَلِمَ المنكرون عدم معرفة علماء المذاهب دليل إمام مذهبهم . فإذا كنتُ أنا البسيط لديّ في متناول يدي الآن تأليفان ضخمان معاصران بعنوان : الفقه المالكي وأدلّته ، فكيف برجال كلّ عصر وجيل ممّن وهبوا حياتهم للعلم ، ونذروا كلّ جُهدٍ لخدمة الدين . إنّ أدنى مطّلِعٍ عاقلٍ يعلم أنّ ما استقرّ بين أيدي العالمين من أصناف العلوم لهي من كنوز التراث المحقّق والمطبوع .
وأعظم من تُهمة عدم معرفة الدليل تهمة نقص الوازع الديني والعقلي لدى هؤلاء الفحول من الذين ذكرتهم لك أو من الآلاف الذين تعاقبوا ففهموا وخدموا وأخلصوا النية والقول والعمل بشهادة التاريخ والثقات ، وكانوا مضرب الأمثال في تقواهم وورعهم وجدّهم وصبرهم . لقد قلت لك - أخي القارئ - منذ البداية أنّ كلّ قرينة وحيثية في القضيّة المزعومة ملفّقة ومزوّرة ، فإذا لم يكْفِكَ ما نقلته لك من أقوالهم لتقتنع بزيفها وزيفهم ، فليتَ شعري أيّ زيادةٍ تروم ؟
ويشهد الله والأمّة والتاريخ أنّ علماء المذاهب لم يعطّلوا عقولهم في لحظة من لحظات حياتهم ، ولم يكفّوا عن التكفّل بمعضلات عصورهم أوّلا بأوّلٍ ، ولم يحجموا عن الإختلاف مع إمام المذهب أو مع من سبقهم من أئمّته إذا دعت ضرورة المصلحة إلى ذلك ، ومِن غير الممكن أن يتمّ التحوّل إلاّ بشروط وأدوات الإستنباط والإفتاء ، وأوّلها العودة إلى كتاب الله وسنّة سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، ومَن يطّلع على فتاواهم جيلا بعد جيل سيعلم صدق قولنا .
لكن الذي يقضّ مضاجع المنكرين هو التمسّك بأغلبية المذهب ووراثته خلفا عن سلف من غير تبديل . هذا هو التقليد الأعمى في نظرهم الأعشى . وسبحان الله كيف تشابهت قلوب أولئك الذين يدّعون التقوى والتديّن وقلوب أدعياء الحداثة والعلمانيين ، وكيف تقاطعتْ سبلهم ومناهجهم عند هذا الأمر ! كلّ أولئك متقزّز من التقليد ويحمّله تبعات كلّ سوء اجتاح الأمّة . وهنا تبرز أهميّة التصدّي لأمثال هذه التيارات الهدّامة للدين والخير مِن كلّ مَن وهبه الله فهما بقوّة موهبته ، والجهاد بجهد الكلمة الصادقة والرؤية العميقة ، والزحف لاحتلال الساحة بالحجّة الصلبة والفكر النيّر المقنع ، وليكن البقاء للأصلح بإذن الله تعالى .
ليس الخير في التقليد لذاته .
وليس الشرّ في التقليد لذاته كذلك .
إنّما العبرة كلّها - خير أو شرّ - في محتواه ولُبابه .
ومناط الأمر كلّه هو المخلوق البشري . فحين ترصد الإنسان من زاويةٍ معيّنة سيتبيّن لك أنّه مهما تنّوعت العصور ، وتعدّدت البقاع ، وتقلّب الناس بين الحضارة والإخشيشان ، فإنّ الطبيعة البشرية لا تتغيّر ، ووفقا لذلك فإنّ جميع مناحيها تكون متشابهة ، وجلّ أحكامها قبل ألف سنة هي أحكامها اليوم ، وهي أيضا أحكامها بعد ألف سنة . وقد شاء الله سبحانه وتعالى أن يخلق الأجيال وفق منوال حدّده وحده داخل حيّز الزمن الذي خلقه ، ولا أحد له دور في اختيار زمنه الذي فيه وُجِدَ ، فأيّ غضاضةٍ على متأخّرٍ إذا وجد مرغوبه مهيّأً بمجهود مُتقـدِّمٍ فأخذه واستفاد منه ؟ هذا هو حال الحياة في كلّ الميادين : السلف يعمل ويخترع ويجاهد والخلف يجني ويستمتع ويوفّر قواه لكلّ طارئ مستجدّ . ولا أدري كيف سيكون الحال لو رفض كلّ جيل ما فعله السابقون وأعاد كلّ شيء من الصفر ، فأعاد اختراع لوازمه بنفسه ، وقام هو أيضا باختلاق وتفجير ثورة شاملة بحجّة إثبات ذاته .
ما تجب معرفته هو أنّ التقليد ليس انعكاسا مطلقا لقاعدة مطّردة للسلبية والعجز ووهن الشخصية ، ولكنّه ظاهرة تمثّل قابليات متعدّدة تحت غطاء إسمٍ واحدٍ ، وتكتسب كلّ قابلية خصائصها من استعدادات وخصائص متقمّصيها الروحية والعقلية وحدهم . وانطلاقا من هذا المفهوم فإنّ تقليد مذهبٍ من مذاهب الأئمّة ليس تقليدا لحالاتٍ مُنتهيةٍ من التطبيقات منحصرة بين حـدَّيْ بداية مهمّة الرجال ونهايتها ، وهي في أغلب الأحيان نهاية أعمارهم ، وإنّما هو تقليد للفكر الذي أفرز تلك التطبيقات ، وللوجهة الفلسفية ذات السمات الموحِّدة الرابطة بين كلّ مختلف ظاهريّا في ذلك الفكر إلى الدرجة التي حوّلتها إلى مدرسةٍ وأسلوبٍ وتيّارٍ ذاب الأشخاص بداخله وبرزت الشخصيات بحلل المنطق الإنساني الواسع ، والإنتماء للجماهير والملكية العامّة . ذلك هو أثر العبقرية الخالدة الخارقة لحجب الأزمان والأمكنة وليس العكس ، عبقرية مسترسلة تجوب العصور كما تجوب الروح أقطار الأجساد فتحييها من غير أن تشغلها عن اختيار ما يناسبها وينمّيها في كلّ حينٍ .
وما من شكّ أنّ الكلّ يؤخذ من كلامه ويُرَدّ إلاّ كلامه صلّى الله عليه وسلّم ، وأنّ الأئمّة رضي الله عنهم ليسوا رجالا معصومين من الخطإ ، ولا نعلم أحدا أبدا صرّح ، لا أقول بهذا الكلام ، بل بما من شأنه أن يوحي ولو من بعيد بمثل ذلك . لكن التسليم بإمكانية الخطإ لا يعني الخطأ بالفعل . فهل كون بني آدم خطّاء يحتّم عليّ ضرورة أن أُلْصِقَ بك خطأ ولو لم ترتكبه ؟ المعوّل عليه هنا هو ما وقع لا ما يمكن أن يقع لأنّ قابلية التعرّض وحدها لا تمنح الحقّ في إصدار أيّ حكمٍ إلاّ إذا فُعِّلت تفعيلا سلوكيّا وانجرّتْ عنها نتيجة . ليس القصد من قولي هذا محاولة بائسة يائسة للتهرّب من حتميات الإرادة الإلهية في خلقه ، لكن قصدي هو التركيز على أنّ تلك الحتميات قد تتقلّص إلى درجات دنيا لن توصلها إلى الإنعدام على كلّ حال لكنّها تقلّلها إلى درجة الندرة والإستثناء . وعند تأمّل تفاصيل حياة الأئمّة الأربعة فإنّ أوّل ما يلاقيك منها هو التأييد الإلهي في كلّ حركاتهم وسكناتهم لأنّها لا تصدر إلاّ من أجل الله تعالى ، فهي مباركة مزكّاة محفوظة لا يتسلّل الخطأ إليها إلاّ بالقدر الذي يُبْقيهم بين غير المعصومين . لقد كانوا قدوة القدوة ، وقد سطعت شموسهم بين شموس كثيرة حقيقية عاصرتهم ، ولم يكن ذلك ليحصل صدفة أو محاباة أو مجاملة ، ولكنها الإستقامة والتقوى المنقطعة النظير التي أسكنتهم العقول والقلوب ، وحوّلتهم إلى منارات هدى تتبعهم الأمّة بإحسان إلى يوم الدين .
ولم يكن قولهم " لا تقلّدوني " قولا على إطلاقه ، وقد سمع أحسن وأقرب وأكمل تلاميذهم المباشرين ذلك منهم وبالرغم منه فقد كانوا أوّل من قلّدهم ، واتّخذهم أسوة ، ودوّن أقوالهم وفتاويهم ، وحفظ آثارهم وسيرتهم . لا ! بل إنّنا نذهب إلى أكثر ممّا قلنا بالدليل . فلقد اعترف سيّدنا الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه بنفسه بأنّه مقلّد في كثير من أقواله وأفعاله ، حيث قال ، واصفا ما أورد في كتابه المطّإ الشريف : " أما أكثر ما في الكتاب برأيي فلعمري ما هو برأيي ولكن سماع من غير واحد من أهل العلم والفضل والأئمة المهتدى بهم الذين أخذت عنهم ، وهُمُ الذين كانوا يتّقون الله تعالى ، فكَثُرَ علَيَّ فقلتُ رأيي ، وذلك رأيي إذ كان رأيهم رأي الصحابة الذين أدركوهم عليه وأدركتُهم أنا على ذلك . فهذا وراثة توارثوها قرناً عن قرن إلى زماننا " . فكلّ ذي بصيرة وإنصاف يدرك أنّ كلمات من قبيل " رأيي " و " وراثة " و " توارثوها قرنا عن قرن " لا تدلّ إلاّ على التقليد البحت ولو كان الزمان غير الزمان والمكان غير المكان ، ومن غير المنطقي أن يتسرّب إلى كلّ ذي بصيرة وإنصاف طيف شكّ في كمال وصحو عقل سيّد العلماء رضوان الله عليه حين أطلق عباراته ، بل إنّ العكس لو حدث كان سيكون فعلا هو المستغرب لأنّه يتنافى مع طبيعة الحياة البشرية المتناسلة من بعضها البعض أجسادا وعقولا ووجدانا ، وحاشا لرجل مثل مولانا الإمام مالك - أو لأيّ إمام مذهب آخر - أن يتردّى في مثل هذا المنزلق في مستنقعات الغباء والبلاهة .
إنّ العالِم يحدّث ويكتب للعلماء لا بكلمات اللغة فحسب ولكن بالمعنى والسياق والإشارة ، فمن كان في مستوى الخطاب فإنّه بواسطة قوّة فهمه سيحدّد كلّ اختلاف وتغيير في أطياف معاني الموضوع على رقعة الرموز المتشابهة ، وسيقابل كلّ طيف بما يناسبه من تلبية واستجابة أو نفور واعتراض . وقد كان ذلك حال الوارثين الراسخين من علماء المذاهب في كلّ عصر حيث تلقّوا رسائل سلفهم ، وفهموا مؤدّى كلّ شريحة في خطاباتهم ، ومضوا على هدى ما عرفوه مُضِيَّ الواثق الذي لا فرق بينه وبين الشاهد الحاضر المزوّد بكلّ توضيح وتفسير .
لقد كانت مقولة " لا تقلّدوني " مقولة رجالٍ من أهل الله الموسومين بالتواضع له ولعباده صدقا وإخلاصا بحيث منَعَهم ذلك التواضع من رؤية الكثير الصحيح من سعيهم وذِكْرِهِ ودفعهم إلى تنبيه الناس إلى جوانب العجز والقصور ونِسْبَتِه لأنفسهم . وهذا الذي قلناه لا يعني أبدا ترك الحقّ ، وتبنّيه على هيئته بحجّة التجديد أو بحجّة إبعاد العامّة عن تقديس الأئمّة وتنزيههم وتقديم آرائهم على النصوص القاطعة . بل إنّ الخير كلّ الخير في التقليد إذا كان فيه حلّ معضلات العصر لأنّ من استنبط الحكم حينها كان بلا شكّ من أهل القرون المفضّلة ، والزمر المختارة الأقرب عهدا بمنهاج النبوّة وبركاتها وقوّة نورانية وروحانية عقولها . ولعمري لا أدري إلى لحظة كتابة هذه السطور بأيّ منطق يطلب منّي المنكرون ترك حكم الإمام مالك في مسألة واتّباعهم هُمْ ، وفي أحسن الأحوال فإنّ الجميع قد تساوى في الأخذ من كتاب الله وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم ؟ هل يعني ذلك أنّ هؤلاء المنكرين أكثر فهما لمحتوى ومرامي هذه المصادر ؟ هل يكونون مثلا أعظم ذكاء ونفاذ عقل وبصيرة ؟ هل هُم أقوى منه ومن تلامذته في العدول عن الخطإ وأشدّ شجاعة في إعلان ذلك على الدنيا برمّتها ؟ فلماذا إذن أتّبعهم وأدير ظهري لمن هو أطهر وأزكى روحا وجسدا وعملا ، وأوفر عقلا ، وأزخر علما ، وأقرب منزلة من عصر الخيّرين المصطفين ؟
والمنكرون - لِمن لم يتفطّنْ - يتلاعبون بالألفاظ في محلّ يحرم فيه التلاعب ، ويرسلون عبارات مخوّفة ليوهموا العامّة من المسلمين المخلصين المتّبعين للمذاهب بأنّهم على شفا جرف الضلالة . فقولهم أنّ المقلّدين يقدّمون رأي الأشخاص على النصوص القاطعة محفوف بالخبث والإلْتواء والإبهام المقصود لأنّ " النصوص القاطعة " في حقيقة فهمهم ومراميهم هي مفهومهم الخاصّ للنصّ القاطع ، وشتّان بين الأمرين . فالمسألة في نهاية المطاف لا تعدو أن تكون تقديم قول على قول وترجيح رأي على آخر ، وأدنى مُلِمٍّ بالمعرفة يعلم أنّ صواب الآراء خارج عن نطاق الزمن والمكان ، وأنّ مرتكزه الأساسي هو سلامة وقوّة عقول وبصائر مُصْدِرِيهِ ، وتطابقه مع الحقّ في كلّ آنٍ وبقعة . فنحن حين نقلّد إماما من أئمّة الهدى إنّما نقلّده لأنّنا رأينا الحقّ إلى جانب رأيه واجتهاده ، ووثقنا في استنباطه من النصّ القاطع الذي لم يظهر معه ما يبطله بحجّة لا تقبل التأويل سواء من عندنا أو من المختلفين معه .
لو احتكمنا إلى المنطق لقلنا بأنّ المنكرين على تقليد المذاهب هُم أبعد الناس عن تقليد أيّ مذهبٍ ، أو أنّ عودتهم المزعومة إلى الأخذ من حيث أخذ السلف تمنعهم من التقيّد بمذهبٍ فريد على أقلّ تقدير .
لكن ما نعلمه يقينا راسخا هو العكس .
فلو بحثتَ عن مثالٍ تصدق عليه الصفات التي ينعتون بها المقلّد لمذهب مّا لَمَا وجدتَ غير هؤلاء المنكرين أنفسهم . فإن كنّا نحن - على سبيل المثال - متقيّدين بمذهب الإمام مالك رضوان الله عليه فإنّ المنكرين " متيبّسون " على مذهب الإمام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيّم رحمهما الله . فصحوهم ونومهم ومنامهم قائم على دعائم تسمّى ابن تيمية ، ولا تكاد صفحة من كتاب أو محاضرة أو مقال يخلو من ذكر كلامه ورأيه . فهو مصدر كلّ اجتهاد صائبٍ عندهم ، وقبلة كلّ عقلٍ يبحث عن الحقّ ، ومخزن الحجج المقدّسة التي لا يعتريها الشكّ والوهن . والإنطباع العارم الذي يغزوك عند الإطّلاع على إصداراتهم هو أنّ النساء لم تلد ندّه وأنّ الزمان لم يَجُدْ بنظيره ، وأنّه هو " جُهَيْنَتهُمْ " و" جَهِيزَتهم " في حيازة اليقين وقطع أقوال الخطباء . ومهما قلتُ فلن أزعم لك بأنّني قادر على منحك صورة مستوفية لحقيقة حال هؤلاء مع هذين الرجلين العظيمين في ميدان العلم واللذين نجلّهما إجلال العلماء الأفذاذ ، وأفضل وسيلة للتحقّق من صدق قولي هو الإطّلاع المكثّف . سترى حينها أنّ التقيّد أصبح مباحا ، وأنّ التعصّب فَقَدَ صفة " العيب " فيه ، وستصطدم حتما بمبدإ " حرامٌ عليكم حلالٌ علينا " من شدّة التناقض المنهمر .
نعم أيّها الإخوة هؤلاء هُم المجدّدون ، وهكذا يكون التجديد في نظرهم .
ولعلمِ هؤلاء فإنّ التجديد لا بدّ منه لأنّه
يفرض نفسه ولا يختاره الناس ، وهو من القوّة بحيث يلوي كلّ ذراع تمتدّ محاولةً إيقافه مهما كانت مصادر قوّتها . إنّه إرادة الله في كلّ عصر ، ولا رادّ لما تقضي به إرادة الله عزّ وجلّ . فلا ولن نقبل مزايدة من أحد على أحد في هذه المسألة ، ولن تزعزع فزّاعات المنكرين وتكشيراتهم ثوابتنا وقناعاتنا .
إنّ التجديد قيمة ككلّ القيم لها مسبّباتها ولها كذلك ميادينها التي تتأثّر بسببها ، ولذلك كان لزاما على كلّ من يُدخل تلك القيمة في حسابات تحليله واستنتاجاته أن يأخذ " الرقم" الصحيح الواقعي منها كي تعكس دراستُه الحقيقة المتعلّقة بالموضوع المدروس .
واعتمادا على هذا المفهوم في قيم التجديد يمكننا القول أنّه قد مضت على الدنيا أحقابا وأحقابا اختلف الناس خلالها في أنماط معيشتهم ، وو سائل دفاعهم وبقائهم ، وطرق تفكيرهم وألوان فنونهم ، فمنهم من أخذ من كلّ ذلك بنصيبٍ وافرٍ ، ومنهم من كان حظّه أقلّ بقليل أوكثير . لكن القاسم المشترك بين تلك الشعوب والمجتمعات هو بساطة الوسائل الطاقوية وانحصار الممكن والمتاح منها في الأطر الطبيعية العادية التقليدية ، وكان " الكمّ " وحده هو الكفيل برجحان كفّة فرد على آخر أو أمّة على أخرى . هذه الندرة النمطية في الممكن والإمكانات أدّت إلى تشابه تقنيات ممارسة الحياة من ناحية وإلى بطء حركة التغيير من ناحية أخرى . فقد كان يمرّ على أقاليم برمّتها القرون لا تسري فيها رعشة جديد حتّى يفد عليها فلانٌ أو علاّنٌ من إقليم بعيد فيحقنها بجرعة طريفة في شرايينها ، ويُدخِل تجديدا على قديمها . أمّا إذا تعلّق الأمر بالقارّات فهو أشدّ صعوبة .
لقد كان المتغيّر في وضع الأرض وأهلها بعد عشرة أيّام من تاريخٍ مّا أو بعد عشر سنوات أو بعد قرنٍ هو بعض مظاهر الإعمار أو الإستعمار ، أو ومضات فكرٍ من نابغة سجّلها في مؤلّفات ، أمّا ما عدا ذلك فلا تغيير : نفس مادّة البناء والأواني ، وأدوات الحرب والكتابة والتنقّل والإمداد . ولم تكن الأمّة الإسلامية بدعا من الإنسانية وما يتعاقب عليها ، وقد بان أثر التشابه في عيّنات المعيشة والبطء في التغيير الحضاري الذي ذكرناه على حركة الإجتهاد بعد عصر الأئمّة واستقرار علوم التأصيل والتنظير بعد عصر النبوّة لأنّ ضرورة تغييره لم يُملِها أيّ ظرف . لكن ذلك لم يكن انعكاسا لجهل الرجال الوارثة ، بل إنّ يقظتهم لم تكن تختلف عن يقظة أسلافهم في رصد الأحداث المستجدّة والحكم عليها بعد تسليط مصابيح الشريعة على جليلها وحقيرها .
هذا من جهة
ومن جهة أخرى فإنّ الأمّة الإسلامية كانت صاحبة دولة وسيادة وقوّة وتحكّم في أمورها ، ما مكّنها من اختيار سياساتها بنفسها ، والتخطيط المسبق لكلّ شؤونها بما يتوافق مع دينها . هذا الوضع قلّل من التناقضات داخل المجتمع إذ كان الإجماع والمعتَـقـَدُ أنْ لا حاكمية إلاّ لدين الله عزّ وجلّ ، وقلّت معه الحاجة - نسبيّا - إلى البحث المضني المستمرّ عن حلولٍ لمشكلات لم يُحسب لها حساب أثناء التخطيط .
ثمّ دالت الأيّام ، وانقلب الوضع رأسا على عقب : الوضع الحضاري المدني ، والوضع السياسي التسييري . وكان الخاسر الأعظم في هذه العاصفة هو الأمّة الإسلامية لأنّها مرّت بجانب ما جادت به الدنيا من كنوزها ، وضاعت سيادتها على أرضها وأهلها .
لقد تغيّر الوجه القديم التقليدي للحياة بما ألْقته الإكتشافات من تطبيقات العلوم من كلّ نوع ، وحلّ محلّ التخطيط لأنفسنا ولأمّتنا التخطيط الوافد المفروض تمليه علينا أجناس لا يجمعنا بها سوى أنّها مخلوقات لله مثلنا ، أمّا ما عدا ذلك فهي النقيض الحيّ لكلّ ثوابتنا الروحية والوجدانية والأخلاقية والمادية . لقد لوّن العسر كلّ ركن في حياتنا بسبب هذا السلب المُهين ، وكان لزاما على أولي الحلّ والربط في الأمّة أن يتصرّفوا للتوفيق بين خط الأوامر والنواهي الدينية وبين ضرورات الواقع المحتوم ، وقد فعلوا . ولا زلنا نتجرّع الكدر جرّاء منوال الحياة الساري المفعول الذي لم نشترك في صنعه بالرغم من استقلالنا النسبي ، ولا يزال - من أجل ذلك - الكثير من العمل ، كمّا وكيفا ، ينتظر العلماء والفقهاء في ميادين التخصّص وفي ميادين السلوك كذلك ، إذ لا يخفى على أحد مدى أهميّة التعاون والمحبّة والإعذار والثقة والتسامح في ظروف ليست الفتنة ولا التشرذم منها ببعيد .
ومرّة أخرى ، فالإحتكام إلى المنطق ، واعتمادا على ما يدّعيه المنكرون من رفضهم للتقليد وتبنّيهم للتجديد ، فإنّنا من المفروض كنّا سنراهم في صدارة خدّام العقيدة الذين ابتلعتهم هموم وانشغالات الأمّة ، ينشطون ويتعبون ويضحّون بكلّ شيء من أجل مصلحتها وإشراقة مستقبلها .
لكنّ واقع المنكرين - للأسف - يأتي متناقضا مع القول والمظهر .
إنّ الأغلبية الساحقة من المنتمين لهذا الحزب يعيشون على هامش هذا العصر الذي يرومون تحويله ، وهُم كذلك خارج دوائر السلف التي يدّعون حمل رايتها وإحيائها . لقد تمخّض هذا الواقع الغريب عن شكلٍ من أشكال التيارات الهجينة التي لا تنتمي إلى طراز محدّد يتّسم بانسجام واقعه مع مرجعيته ليتسنّى له الإستقرار الوجودي اللاّزم لخدمة رسالته . إنّ المفعول السلبي لهذا الصنف على الرسالة المجيدة هو نفس مفعول صنف العلمانيين ، ولو كانا على طرفيْ نقيض ، يجمع بينهما اختلال التوازن الوجودي المتمثّل في الإفراط في الرفض أو التفريط في القبول .
والسبب الوحيد الذي منعهم - أيّ المنكرون - من اقتحام عصرهم كما فعله غيرهم من معاصريهم ، وكما فعله غيرهم من الغابرين بالنسبة لعصورهم ، هو بكلّ بساطة محاولة دخولهم من بابٍ لم يُخلَق لذلك أبدا مع كثرة الأبواب المناسبة والدوافع الملحّة لولوجها الأكثر منها .
هذا الباب هو : المساس بعقيدة الأمّة ، واستباحة الشكّ فيها والحكم عليها .
وهو مساس أشدّ فتكا وخطورة على الأمّة والدين من المساس بسلاسل مكوّنات الحمض النووي في خلايا الكائنات الحيّة الحامل لطلاسم الحياة وألغاز جزء من الوجود ذاته .
ويعلم الله سبحانه وتعالى أنّنا لا نفتري على المنكرين ، بل إنّنا لا نقول إلاّ ما أعلنوه ويُصِرّون على إذاعته في الناس . فَهُمْ يقولون بأنّ شيخهم الأكبر هو المجدّد على رأس قرنٍ من القرون ، وأنّ أولى انشغالاته هي تنقية عقيدة التوحيد ممّا شابها من علائق الكفر ، وأرجاس الشرك ، وأدران الدجل والخرافة .
ويعلم الله كذلك أنّ الأمّة كانت في ذلك الوقت وفي كلّ أوقاتها من قبله ومن بعده بريئة من افتراءاته ، ولقد كان ذلك أوّل الزلل في تلك الدعوة الهدّامة .
لقد أصبح الشغل الشاغل لحمَلة هذا الفكر هو التنقيب في القلوب ، وتحليل الكلام ، وتشريح المعاني ، عوض بذل المجهود لإزالة معاناة الأمّة ، وتفريج كروبها الحقيقية .
إنّ السمة الرئيسية التي تميّز هذا الفكر هي فوضى الأحكام ، وهذا منطقي لأنّها تبحث في مجهول من غير استناد إلى أدوات ملائمة أو إلى قانون ثابت . ومن شأن هذا مضاعفات سرطانية باتّجاه الأسوإ في التأويلات والإستنتاجات ، وتضاعف الشرائح المُدلية بدَلْوِها في الخضمّ العكر بلا رقيبٍ ولا حسيبٍ ، بل بتشجيع متواصلٍ لبعضها البعض .
وكان لا بدّ ممّا ليس منه بدّ .
كان لا مفرّ من نضج الثمرة الخبيثة بعد اكتمال نموّ شجرتها . ونُضْجُ الثمرة هو بلوغ الفكر الشاذّ أقصى قيَمِهِ المُقْنِعَة ، وتحوّله إلى عملٍ لإزالة ما أثبته بمنطقه من فسادٍ ، ومن غير شكّ أنّه عملٌ تطغى عليه القوّة لأنّ الطرف المقابل لن يرحّب أو يسلّم به ، وسيعتبره اعتداءً وتدخّلا في الخصوصيات ، وسيرفضه ويردّه بالقوّة .
نحن نتحدّث عن واقع مُرّ اكتسح الأمّة طيلة عشريات في كلّ زاوية من الأرض ، لا عن فرضيات قد تصدق أو تكذّبها الأيّام . لقد تفجّرت براكين العنف والفتنة وكلّ ما تبعها من مظالم بإيعاز من هذا الفكر المتطرّف الذي اعتبر جميع الخلق - سوى حامليه - خارجين عن الملّة ، عادلين عن الجادّة الناصعة ، واعتبر بمقتضى ذلك المجاهرة بقتالهم وقتلهم إخلاصا للدعوة واستقامة مع من إليه يدعو كلّ داعٍ .
لقد كان عالم المنكرين عالما ظلاميّا حقّا ولا يزال ، لعن فيه اللاّحقُ السابقَ واتّهمه بالتساهل والليونة المفرطة فتبرّأ منه ، وطار بانفعاله منساقا وراء ذاتيته يرسم خارطة ميدانه وفق رؤيته الجديدة لسحنة " الحقّ " ، وطال الأمد واتّسعت الهوّة بين الأوائل والأواخر حتّى قاتل بعضهم بعضا ، ولاحق القويّ منهم الأقلّ قوّة .
هذا الفكر الذي أنتج الويلات والدمار والتخلّف حضنتْه دولٌ وأنظمة ، وفقس في دفء رعايتها ، وكبر بأعينها ، وبشّرت به وباركت كلّ خطاه وهو يعيث فسادا ويُلحِق بالأمّة الهزائم ، إلى أن أحرقتْ نعالَها نارُه ، وسرى في هشيم عروشها وتيجانها لهيبُه وأوارُه ، فالْتفتتْ إليه سَحقا وهدما ، وجعلت بينها وبين حَمَلَتِه رَدْما . لكن كلّ ذلك لن يفيد أحدا شيئا لأنّ المطرود من الباب بدأ يُطلّ بذؤابته من النافذة لكن بمظهر وسمتٍ مختلف لا يخفى إلاّ على الأغبياء أمثالهم . إنّ هذه الأنظمة لا تزال ترعى البذرة الخبيثة ، وما المسألة إلاّ مسألة وقت وظروف ليعيد التاريخ نفسه ، ويبعث مصّاص الدماء من تابوته الأغبر من جديد .
هذا هو الأنموذج الأمثل الذي يقترحه إخواننا لخوض غمار العصر ، والتصدّي لمؤامرات الأعداء ، واسترداد الأمجاد الضائعة ، لا بل لتوحيد الفقه الإسلامي مرّة واحدة . ولا أدري أمِن أنفسهم يسخرون أم مِن الأمّة ؟ كيف يوحّد من لا يُحسن سوى الهدم ؟ أليس أوّل شروط الوحدة الحبّ وحسن الظنّ والتسامح ؟ كيف يتعامل معك - ولا أقول يتوحّد معك - من أسّس بنيانه الروحي على قاعدةِ نبذ الغير أو قبوله بشرط الإصطباغ بصبغته ؟ لعمري إنّ تلك دعوة مثيرة للضحك ، ولكنه ضحك يشبه البكاء كما يقول الشاعر القديم .
ولنتوقّف لنلخّص ونستنتج .
نحن - إذنْ - بإزاء فئة لا تحمل من العلم إلاّ اسمه ، أفعالها متناقضة مع أقوالها ، تطلق الإتّهامات جزافا ظلما وعدوانا ، ولا تتمسّك إلاّ بشكلياتٍ وهمية من بنات سقَمِ فهْمِها للنصوص والقرائن ، غائصة إلى نواصيها في التذبذب والعشوائية ، مقرّنة في أصفاد جهلها بجهلها حتّى جرفها البطر والصلف والعنجهية إلى حيث ظنّتْ أنّها علِمَتْ ، فحكمتْ بحقارة ما لم تدرك ، وضلالة ما لم تسلك .
لِمَ إنكار هؤلاء على ما رضوه علنا لأنفسهم ؟ ما الداعي لإثارة مشكلةٍ في ما لا إشكال فيه أصلا ؟ لمصلحة مَن الخوض في مسائل الضرر فيه أقرب من الفائدة والإثم أكبر من النفع ؟
والجواب هو أنّك إذا أردتَ معرفة درجة قوّة ردّة فِعْلِ المنكرين على ظاهرةٍ فانظر نصيب الصوفية فيها ، فكلّما ازداد حضورهم وحجم مشاركتهم كلّما اشتدّت عدوانية حكم المنكرين فيها .
والسرّ الأصلي في مسألة التقليد المذهبي وما أُلْصِقَ بها من تُهَمٍ هو غيرة رجال التصوّف الفائقة على الأئمّة ومذاهبهم ، وتبنّيهم المسؤول للتقليد باعتباره - مع غيره - منهجا تربويّا رئيسيّا ، ومصدرا أساسيّا للتواصل مع العقيدة الصحيحة بالتواصل مع حرّاسها الأمناء . غيرةٌ وتواصلٌ تجسّد في زواياهم وطرقهم في صور مختلفة لكنّها كلّها تجتمع في خانة خدمة الدين الحنيف .
لقد كان على المنكرين ركوب كلّ صعب وذلول لدحض هذا الفضل إلاّ أنّ فِعْلَ ذلك كان أكبر من المستحيل لأنّ إلْغاءه من إلْغاء التاريخ نفسه . ما حيلتهم في إخفاء تراث بضخامة القرون التي حملته وشهد برقيّ قيمته وقوّة تأثيره وجدواه حتّى الكفرة والملاحدة ؟ ما حيلتهم في "إعدام " آلاف المتون في كلّ فنون العلوم ، وأطنان الشروح والحواشي والمختصرات والردود التي لا أقول " إن دلّتْ على شيء " وإنّما أقول : التي دلّت بالفعل ، ولا زالت تدلّ وستحتفظ بدلالاتها إلى يوم البعث بإذن الله ، على عظمة عقول وعبقرية وجهد وإخلاص مؤلِّفيها وجلّهم من مشائخ الصوفية أو تلامذتهم أو المسلِّمين لهم رضي الله عنهم . فالتجأوا إلى حيلة استثمار كلّ ما صادفهم من سلبياتٍ اجتماعية متعلّقة بالتقليد كبعض مظاهر التعصّب والمناوشات بين المقلّدين التي لا تخلو منها ظاهرة ، خاصّة إذا كان في الزمان فسحة كافية ترفع من نسبة احتمال وقوعها مهما نَدرتْ ، ومزجوا كلّ ما جمعوه بمادّة إنكارهم المعتادة اليومية على التصوّف وأهله ، فتهيّأ لهم زبَداً وغثاءً كثيرا أشاعوه في الأمّة بصفته انحرافا خفيّا يُفضي إلى مخالفة الحقّ ، ويؤدّي بالتالي إلى الزلل والزيغ والهلاك .
قال قائلهم في إحدى المناسبات : " إنّ العقائد الثابتة مثل صفات الله والملائكة والجنّة والنار واليوم الآخر لا تقبل الإجتهاد ، ولا وصول إلى علمٍ جديدٍ فيها إلاّ بوحيٍ ، ولا وحي بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وهذا هو خلافنا الأساسيّ مع المتصوّفة ، فَهُمْ قد ركّزوا ترّهاتهم وخزعبلاتهم وكشوفاتهم المزعومة في كشف هذه الأشياء في ظنّهم " . هذا قول واحد منهم لكنه قول يتبنّاه جمعهم كلّه .
فما دخْل موضوع الإجتهاد والتقليد المذهبي بموضوع العقائد الثابتة ؟ وهل قال الصوفية أنّ ما بحوزتهم من علومٍ كشفية باطنية هي من ثمرات اجتهادهم ؟ إنّ ما صرّحوا به دائما هو أنّ علومهم من صنف العلوم اللدنية الوهبية اليقينية التي لا صلة بينها وبين أيّ وجه من وجوه الظنّ والإجتهاد .
.
لكن عند وضْعِ هذا التصريح الواضح بإزاء ما ذكرته أعلاه من أوصافٍ كـ" نسبة العصمة لأئمّة المذاهب " من طرف العامّة والخاصّة على السواء ، و" تقديم آراء الأشخاص على النصوص القاطعة " و " تعطيل العقول عن البحث في الكتاب والسنّة " ، تكتمل ملامح " المجرم " المعني ليس فحسب في ما يتعلّق بالعقائد الثابتة ولكن في كلّ ما يتعلّق باتّباع المذاهب وتقليد أئمّته ، ويقتنع كلّ من لا يزال تخامره ذرّة شكّ في إعلاني أنّ القضية لم تُـثَرْ أصلا إلاّ لأنّها تُسيل لعابَ من لعبتْ برأسه أوهام إمكانية تقويض أسس التصوّف بتقويض هذه الدعامة الصلبة التي ينسبها الصوفية - مع غيرهم - بكلّ فخر واعتزاز لأنفسهم .
وإن كانت المكيدة قد انطلت على الكثير لكنّ الغافلين سينتبهون من سباتهم على صوت التاريخ وهو يخرج أثقاله ، ويحدّث أخباره . عندها لن يجد القوم المتورّطون في أرض الحقائق اليقينية عوجا ولا أمتا ولا نتوءاً يتوارون خلفه من سوء ما بُشِّروا به . ولسوف يعود الإطّراد للقاعدة بعد استثنائها ، والإنسجام للنغمة بعد نشازها ، وينْضَمُّ من أُريدَ به خيرا إلى الجمع المبارك السائر إلى الله على بيّنة ، مُتَّبِعا لا مبتدعا ، متأدّبا مع من سيّده الله ورفعه من كلّ علماء السلف الصالح ، معترفا بجليل المعروف الذي أسدته أياديهم الطاهرة ، وتورّمت ودَمَتْ من أجل جلبه أقدامهم الشريفة . جَمْعٌ أدِلَّتُه العارفون بالله ، ومراكزه المساجد والزوايا ، ومنهجه الطريق المشيّد بالكتاب والسنّة .
وإنّه لَقَدَرٌ .
ولا محالة قادمٌ .
بإذن الله تعالى .
والله ورسوله أعلم .