نفحات7 ـ كتاب إفحام الخصم الملد ـ الشيخ التجاني ممد جميع الأولياء
الرّئيسية > مكتبـة على الـخـطّ > إفحـام الخصـم الملـد ـ الفهرس > الشيخ التجاني ممد جميع الأولياء


تحقيق القول في إمداده للأنبياء والمرسلين وإمداد الشيخ للأولياء والعارفين

مما ثبت بالأدلة القطعية ، وعُلِم بالضرورة ، وأجمعت الأمة عليه ، فضلُ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام . ومظاهر فضله كثيرة لا يكاد الإحصاء يأتي عليها . فمنها عموم بعثته ، ومنها نسخ شريعته لما تقدم من شرائعهم ، ومنها تقدمه إماما بهم ليلة الإسراء ، وهذا مما لا نزاع فيه . وإمداده للأنبياء والمرسلين في عالم الأرواح صرّح به بعض أهل الكشف ، واستنبطه الشيخ محي الدين بن عربي من حديث « كنت نبيا وآدم بين الماء والطين » ، وله في الحديث كلام مستمد من حديث « أول ما خلق الله نوري » ، قال رحمه الله تعالى : « فكلّ نبي من آدم إلى آخر نبي ما منهم أحد يأخذ النبوءة إلاّ من مشكاة خاتم النبييين صلى الله عليه وسلم ، وإن تأخر وجود طينته بحقيقته موجود ، وهو قوله : كنت نبيا وآدم بين الماء والطين – أي - لم يكمل بدنه العنصري بعد ، فكيف من دونه أنبياء أولاده . وبيان ذلك أن الله لما خلق النور المحمدي كما أشار بقوله : أول ما خلق الله تعالى نوري ، جمع في هذا النور المحمدي جميع أرواح الأنبياء والأولياء » الخ ما قاله . وفي بعض أجوبة العارف بالله الشيخ علي الخواص للشيخ عبد الوهاب الشعراني مانصه : « فهو السيد الأعظم صلى الله عليه وسلم في جميع العالم روحانية وجسما ، فكما أنه هو الملك الأعظم في جميع الأجسام ، كذلك الحكم في روحانيته في عالم الأرواح ، إذ روحانيته ممدة لسائر أرواح العالم ، من ناطق وصامت . فهو أب جميع الروحانيات ، كما أن آدم أب جميع الجسمانيات ، وقد أخبرنا أنه كان نبيا وآدم بين الماء والطين » اهـ فراجعه .
وممن صرّح بهذا الإمداد ، الشيخ عبد العزيز الدباغ . وترى كلامه في هذا في الباب الثاني فيما سأله عنه من الآيات تلميذه الشيخ ابن المبارك من كتاب الإبريز قال أثناء كلام له في معاني الحروف المقطعة الواقعة أوائل السور ، مبينا معنى كهيعص ما نصه : « وأما المعنى المُراد منها هنا فهو إعلام من الله تعالى لجميع المخلوقات بأن جعل استمداد أنوارها من هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم » . ثم قال : « وهذا الذي فسرنا به معاني هذه الرموز معلوم عند أربابه بالكشف والعيان ، فإنهم يشاهدون سيد الوجود صلى الله عليه وسلم ، ويشاهدون ما أعطاه الله ، وما أكرمه به ربه ، بما لا يطيقه غيرهم . ويشاهدون غيره من المخلوقات كالأنبياء والملائكة عليهم السلام وغيرهم ، ويشاهدون ما أعطاهم الله من الكرامات ، ويشاهدون المادة سارية من سيد الوجود صلى الله عليه وسلم إلى كل مخلوق في خيوط من نور قابضة في نوره ، ممتدة إلى ذوات الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام ، وذوات غيرهم من المخلوقات . فيشاهد عجائب ذلك الإستمداد وغرائبه ».اهـ كلامه . ثم قال بعد كلام له ما نصه : « ولقد وقع لبعض أهل الخذلان ، نسال الله السلامة ، أنه قال : " ليس لي من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلاّ الهداية إلى الإيمان ، وأما نور إيماني فهو من الله لا من النبي صلى الله عليه وسلم " ، فقال الصالحون : " أرأيت إن قطعنا ما بين نور إيمانك وبين نوره صلى الله عليه وسلم ، وأبقينا لك الهداية التي ذكرت ، أترضى بذلك ؟ " فقال : " نعم رضيت " ، فما تمّ كلامه حتى سجد للصليب ، وكفر بالله وبرسوله ، ومات على كفره " . نسال الله السلامة بمنه وفضله . وبالجملة ، فأولياء الله تعالى ، العارفون به وبقدر رسوله صلى الله عليه وسلم ، يشاهدون جميع ما سبق عيانا كما يشاهدون جميع المحسوسات ، بل أقوى ، لأنّ نظر البصيرة أقوى من نظر البصر كما سيأتي ، وحينئذ فيشاهدون سيدنا زكرياء عليه الصلاة والسلام ، وأحواله ومقاماته من الله ممتدة من سيد الوجود صلى الله عليه وسلم إلى سيدنا زكرياء عليه الصلاة والسلام . وكذلك كل ما ذكر في السورة من سيدنا يحي عليه الصلاة والسلام وأحواله ومقاماته ، ومريم وأحوالها ومقاماتها ، وعيسى وأحواله ومقاماته ، وإبراهيم ، وإسماعيل ، وموسى ، وهارون ، وإدريس ، ونوح ، وكل نبي أنعم الله عليه ». اهـ. المقصود منه .
قلت ، وهذا الذي صرح به بعض أهل الكشف من إمداده للأنبياء والمرسلين ، بل وغيرهم على ما في الإبريز ، مظهر من مظاهر فضله ، وعلوّ مقامه وكرامته عند ربه ، فهو من الكشف الذي يشهد الشرع له ، وقد علمت مما تقدم كلام الإمام الشاطبي فيه . وربما قصر الفهم والعبارة عن تصور هذا الإمداد وتصويره ، بصفة تفصيلية ، ولكن هذا لا يحول بين المنصف المستنير البصيرة وبين التسليم بمثل هذا بعد ثبوته عمن يُوثَـق بعلمه ودينه ، وإمكانه في نظر العقل ، وشهادة الشرع لجنسه . وإنّـا لنؤمن بفتنة القبر وعذابه ونعيمه ، وعامة ما أخبر به الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم من أحواله ، ولا نتصور بتفصيل حقيقة شيء من ذلك ، ولكن لا شيء من ذلك بمحال في نظر العقل ، فآمنا به إذ صح به الخبر . وكثير من الناس من يلتبس عليه ما يقصر عنه العقل بما هو محال عنده فيرفضه .
إذا تمهد هذا ، فاعلم أن العلامة المحققة ، ناصر السنة ، الشيخ أبا إسحاق الشاطبي ، رحمه الله ، حقق أفضل تحقيق أنّ ما أُعْطيه النبي صلى الله عليه وسلم من المزايا فلأمّـتـه نموذج منه ، وبسط القول في هذا في المسالة العاشرة من مسائل النوع الرابع في بيان قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة من كتاب المقاصد من الموافقات . قال جازاه الله عن التفقه في شرعه أفضل الجزاء : « كما أنّ الأحكام والتكليفات عامة في جميع المكلفين على حسب ما كانت بالنسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ ما خص به ، كذلك المزايا . فما من مزية أعطيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سوى ما وقع استثناؤه ، إلاّ وقد أعطيت أمته منها نموذجا . فهي عامة كعموم التكاليف ، بل قد زعم ابن العربي أن سنة الله جرت أنه إذا أعطى الله نبيا شيئا ، أعطى أمته منه وأشركهم معه فيه ، ثم ذكر من ذلك أمثلة ، وما قاله يظهر في الملة بالإستقراء .
أما أولا : فالوراثة العامة في الإستخلاف على الأحكام المستنبطة ، وقد كان من الجائز أن تتعبد الأمة بالوقوف عندما حد من غير استنباط ، وكانت تكفي العمومات والإطلاق ، حسبما قاله الأصوليون ، ولكن الله منَّ على العباد بالخصوصية التي خص بها نبيه ، إذ قال تعالى لتحكم بين الناس بما أراك الله (1) وقال في الأمة لعلمه الذين يستنبطونه منهم (2) . وهذا واضح فلا نطوِّل به .
وأما ثانيا : فقد ظهر لك من مواضع كثيرة نقتصر منها على ثلاثين وجها ».اهـ.
ثم ذكرها رحمه الله وجها وجها . فمنها الإعطاء إلى الإرضاء قال تعالى في النبي صلى الله عليه وسلم ولسوف يعطيك ربك فترضى (3) ، وقال في الأمة ليدخلنهم مدخلا يرضونه (4) . ومنها الشفاعة ، قال تعالى عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا (5) ، وقد ثبت شفاعة هذه الأمة ، كقوله صلى الله عليه وسلم في أويس « يشفع في مثل ربيعة ومضر » . ومنها مناجاة الملائكة ، ففي النبي ظاهر ، وقد روي في بعض الصحابة أنه كان يكلمهم الملك ، كعمران بن حصين ، ونقل عن الأولياء . ومنها أن معاداتهم معاداة الله ، وموالاتهم موالاة الله ، قال تعالى والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم (6) ، وفي الحديث : « من آذاني فقد آذى الله » ، وفي الحديث : « من آذى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة » . ومنها الإجتباء ، فقال في الأنبياء عليهم السلام واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم (7) ، وقال في الأمة ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا (8). ومنها ، وهو خاتمة ما ذكره من الأوجه ، إمامة الأنبياء ، ففي حديث الإسراء أنه أمّ بالأنبياء قال : « وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء فحانت الصلاة فأممتهم » ، وفي حديث نزول عيسى إلى الأرض في آخر الزمان : « أن إمام هذه الأمة منها وأنه يصلي مؤتمّاً بإمامها » . قال الشاطبي : ومن تتبع الشريعة وجد من هذا كثيرا يدل على أن أمته تقتبس منه خيرات وبركات ، وترث أوصافا وأحوالا من الله تعالى ومكتسبة والحمد لله علىذلك » اهـ.
وإذا كان من فضل الله على هذه الأمة أن تُعْطى نموذجا من مزايا رسولها صلى الله عليه وسلم وفضائله ، وقد علمت أن إمداده عليه الصلاة والسلام للأنبياء والمرسلين مما صرح به غير واحد من أهل الكشف ، وهو ما ينتظم في سلك مظاهر فضله ، فلا غرابة أن يكون في أولياء هذه الأمة من تثبت له مزية إمداد الأولياء ، ولا بدع أن يكون هو الشيخ رضي الله عنه ، ومثل هذا لا يقتضي رفع مقامه على الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، إذ هي مزية لا تقتضي الأفضلية . فقد امتاز سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بأنه أقضى الصحابة ، ولم يقتض ذلك تفضيله على الخلفاء الثلاثة من قبله . وامتاز سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه باستحياء ملائكة الله منه ، ولم يقل أحد هو أفضل من الشيخين قبله . وامتاز سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بفرار الشيطان منه ، ولم يقل أحد هو أفضل من رفيق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصاحبه في الغار ، سيدنا أبي بكر رضي الله عنه . والمسالة مبسوطة للقرافي في قواعده .
والشيخ ، نفعنا الله بسيرته ورضي عنه ، يحترس من رفع مقامه على الصحابة في مقام بيان فضيلة نفسه ، إذ يحدث بنعمة الله تعالى ، وإشارته عليه الرضوان بإصبعيه السبابة والوسطى كإشارته صلى الله عليه وسلم بهما ، إذ قال : « بعثت أنا والساعة كهاتين » ، وقد مضى على مبعثه أكثر من ثلاثة عشر قرنا ، والله أعلم بما بقي . فالقرب بالإضافة إلى ما مضى من عمر الدنيا ، لا قرب حقيقي في ذاته .
فقرب الشيخ من النبي قرب نسبي من حيث أن الله أكرمه إذ جعله يمد الأولياء والعارفين في عالم الأرواح كما يمد الرسول الأنبياء والمرسلين وان كانت النسبة في ذاتها بينه وبين الرسول بعيدة ، وأين مقام الولاية من مقام من فضله الله تعالى على عامة خلقه ، وفيهم الأنبياء والمرسلون ، والملائكة المقربون ، والصحابة الأكرمون ، الذين لا يبلغ الأولياء مُدّ أحدهم ولا نصيفه .
هذا تحقيق القول في إمداد الرسول صلى الله عليه وسلم وإمداد الأستاذ رضي الله عنه ، وهو على هذا الوجه من مواهب الله ، ولم أره لغيري ببركة رسوله صلى الله عليه وسلم وبضعته المباركة شيخنا الأستاذ رضي الله عنه .

<< الصفحة السابقة    الصفحة التالية >>


  1. سورة النساء ، الآية 105 .
  2. سورة النساء ، الآية 83 .
  3. سورة الضحى ، الآية 5 .
  4. سورة الحج ، الآية 59 .
  5. سورة الإسراء ، الآية 79 .
  6. سورة التوبة ، الآية 61 .
  7. سورة الأنعام ، الآية 87 .
  8. سورة فاطر ، الآية 32 .