ماجاء من كلام أهل الــوحدة و وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالأسقم
زعم المعترض أن في كلام شيخنا التجاني ما يقتضي القول بالإتحاد ، وهو قوله : « اللهم صل وسلم على عين الحق » ، وقوله : « اللهم صل على عين ذاتك العلية » ، وأن في كلامه وصف النبي صلى الله عليه وسلم " بالأسقم " أي " الأمرض " .
أما قوله :« اللهم صل وسلم على عين الحق » فهي كلمة وقعت في جوهرة الكمال ، ومعاذ الله أن يقصد الشيخ بها ما يُوهم الوحدة ، ودونك في شرحها ما قاله الشيخ فيما كتبه هو نفسه على الجوهرة ، وأثبته في كناشته صاحبه العارف بالله الشيخ محمد بن محمد بن المشري رضي الله عنه. قال رحمه الله : « قوله " اللهم صل وسلم على عين الحق " ، إعلم أن عين الحق له إطلاقان ، إطلاق الحق من حيث الذات ، وإطلاق صفات الذات . فإطلاق الحق من حيث الذات ، لأنّ الحق يقابله الباطل من كل وجه ، فالحق المحض هو الذات العلية المقدسة ، وما عداها كله باطل ، وإلى هذا الإشارة بقول الشاعر لبيد : " ألا كل شيء ماخلا الله باطل " ، الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدق والتحقيق . وهذا لا يطلق عليه إذ هذا الإطلاق عين الذات المقدسة لا يطلق على غيرها أصلا . والإطلاق الثاني هو العدل الذي هو صفة الحق القائم بصورة العلم الأزلي ، والمشيئة الإلهية ، والقدرة الربانية ، والحكم الإلهي الأزلي النافذ في كل شيء . وهذا العدل المذكور ، هو الساري في آثار جميع الأسماء والصفات الإلهية ، و مجموع هذا العدل ـ كلا وبعضاً ـ هو مجموع في الحقيقة المحمدية . فإذا أطلق عليها عين الحق من هذا الاعتبار ، فكلها حق لا تنحرف عن ميزان العدل الإلهي الذي هو عين الحق في الإطلاق الثاني » اهـ. كلامه .
قلت : وقد جاء الحق في كتاب الله غير مراد منه الذات العلية :
لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ البَاطِلَ (1) ،
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقْ (2) .
وأما قول الشيخ : « اللهم صل على عين ذاتك العلية »، فهي كلمة وقعت أول الصلاة المعروفة بالصلاة الغيبية ، وقد شرحها شيخنا رضي الله عنه ونفعنا به ، بنفسه ، و كتب تقييدا عليها أثبته في كناشته العارف بالله صاحبه الشيخ محمد بن المشري ، وبنقله يتبين براءة الشيخ من القول بما يُوهم الإتحاد ، ودونك نص كلامه في ذلك على ما في الكناشة : قوله : « " اللهم صل على عين ذاتك العلية " يعني : أن الحق تجلى بكمال ذاته الذاتية في الحقيقة المحمدية ، فهي لها ـ أي للذات العلية ـ كالمرآة ، تتراءى فيها . فبهذه الحيثية وبهذه النسبة ، كانت الحقيقة المحمدية كأنّها عين الذات . ولم يكن هذا التجلي في الوجود لأحد من خلقه إِلاّ له صلى الله عليه وسلم . فبهذه النسبة كأَنه عين الذات لا أنه حقيقة لكن بالنسبة التي ذكرناها . ولو كان هو عين الذات لعُبِدَ ، وهو لا يتَأتّى ، بل هو مخلوق ، وقد سجل عليه بالعبودية حيث قال :
تَبَارَكَ الذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ (3) وقوله سبحانه :
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا (4). فالعبودية لا تأتي للذات العلية ، لكنها بالنسبة التي ذكرناها الآن كأنها عينها » اهـ. كلام شيخنا في شرح هذه الكلمة .
قلت وقريب من هذا الإطلاق ، وهذا الاعتبار ، ماقاله بعض المحققين في شرح الحديث القدسي المتفق على صحته : «
وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته ، كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ،ورجله التي يمشي بها » . إذ من الأوجه فيه أنه تصوير وتمثيل . فالمعنى كنت له ظهيرا ومعينا فيما يحاوله من أموره ، حتى كأني هذه الجوارح والآلات التي يتصرف بها ، فانظر كيف صح إطلاق السمع والبصر واليد والرجل على الله تعالى ، حتى كأنه هي باعتبار أنه سبحانه يؤيد عبده ويعينه .
وأما وصف النبي بالأسقم بمعنى الأمرض ، قلنا فيه كلمتان :
الأولى : أنه ليس المراد من الأسقم الأمرض على ما صرّح به الشيخ في شرح الجوهرة ، قال : « الأسقم بمعنى المستقيم المعتدل في الاستقامة بلا اعوجاج ». اهـ. وإذ قد صرّح أن المراد الإستقامة لا السُقم ، فلا مجال للإعتراض عليه بمثل هذا .
الثانية أن أخذ الأسقم من " إستقام " وإن لم يكن جائزا ، إذ لا يصاغ أفعل التفضيل إلاّ من الثلاثي ، وقيل يُصاغ من أفعل وهو مذهب سيبويه ، والمحققين من أصحابه ، واختاره في التسهيل . إلاّ أن الذي جوّزه هنا على ما يظهر ، ولم أره لغيري ، القصد إلى السجع ، وهو من مجوزات الخروج عن القياس ، كما نص عليه أبو هلال العسكري في مبحث السجع من كتاب " الصناعتين " ، وذكر من شواهده قوله صلى الله عليه وسلم : «
أعيذه من السامة والهامة وكل عين لامة » ، فعدل عن ملمة ، وهو قياس اسم الفاعل من ألَـمّ إلى لامة محافظة على السجع ، وقوله عليه الصلاة والسلام : «
إرجعن مأزورات غير مأجورات » ، والقياس موزورات من الوزر ، وعليه فاشتقاق الأسقم من استقام للمحافظة على السجع ليس من البدع في العربية ، ولو عبّر بالأقوم لكان تكرارا ممقوتا
<< الصفحة السابقة الصفحة التالية >>
- سورة الأنفال ، الآية 8 .
- سورة الأنبياء ، الآية 18
- سورة الفرقان ، الآية 1 .
- سورة البقرة ، الآية 23 .