نفحات7 - هذه الأمة - معيار الهجرة الصالحة
الرّئيسية > هـذه الأمّـة > معيـار الهجـرة الصـالحـة

بقلم : محمود سلطاني 08/01/2008

الحديث عن الهجرة يقود إلى الحديث عن الفكر .
فصاحب كلّ فكرة يهاجر في سبيل بقاءها واستمرارها .
إنّها فرصة خلاص الأفكار من الضياع بضياع أصحابها في بيئة رفضتهم بما حملوا .
وهذا في حدّ ذاته يقودنا إلى الخوض في قضية دوافع القبول والرفض . فمَنْ يحرم مَنْ ؟ ومَنْ يحكم على مَنْ ؟ مَنِ المظلوم ؟ المهاجر أم الذين أجبروه على ذلك ؟
لو استمعنا للطرفين لوجدنا أنّ كليهما متمسّك بصحّة توجّهه ، ولاكتشفنا أنّ قناعات وحجج هذا وذاك تقف على طرفيْ نقيض .
لِمَ لا يكون الرافضون على حقّ ؟ ولِمَ لا يكون صاحب الفكرة هو الذي على حقّ ؟ من نصدّق ؟
نحن نعيش منذ وقت ، عصرا من الحرّيات ولّى معها زمن الثوابت في معظم مناطق العالم ، ووُزِنتْ الأفكار بموازين النسبية ، ولم يعد هناك مكان للقيم الموروثة المسلّم بها . لقد حلّتْ مبادئ مثل : " أنّ كلّ شيء قابل للنقاش " ، و " تغيّر المفاهيم وفقا لتغيّر الرّؤى والمراصد " ، ويقول لك مَنْ هذا حاله : " إذا كنتَ تتّهم فكري بالقصور ، وتصِفُه بالخطإ ، فلا أسهل من أن أبادلكَ نفس الإحساس ونفس القول " .
كلّنا نرى ونسمع ونقرأ عن المدافعين عن الكفر ، والإنتحار ، والإباحية ، والشذوذ ، والتنصّل من الإرث الأخلاقي ، والقفز فوق أسوار المقدّسات ، في كلّ مكان حتّى في بلداننا الإسلامية ، ولهؤلاء أيضا زعماء ، ومنظّرون ، ومناضلون ، وشهداء تُقام لهم التأبينات والنّصب .
في هذا المعترك والفوضى كيف نتبيّن الحق ؟ كيف نقول ـ جازمين ـ للمهاجر أو للمجتمع أنت على حقّ وأنت على باطل ؟ ما هي القاعدة الصلبة التي تُنبتُ أرضها سنابل الإقناع لمن يُحكم عليه بالخطإ ؟ هل نقول له : " قال الله تعالى ، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم " ؟ هو لا يؤمن بمن قال أصلا حتّى يؤمن بقوله . هل نقول له : " قال الأجداد ، وحكى التاريخ ، وروى حكماء الإنسانية ؟ " ، سيرد عليك قائلا : " ولقد قلتُ أنا أيضا ، لِمَ لا تضيف رأيي مع آراء من ذكرتَ " .
مشكلة ، ولا بدّ من حلّ !
والحلّ هو العلم .
لا ولن يتيسّر هذا الجزم في الحكم إلاّ بالعودة إلى مدار كلّ حقّ ومصلحة ، وهو : ضمان متطلّبات حياة الإنسان على الأرض . الأوْلى فالأوْلى حسب الظروف . وهي متطلّبات طبيعية من غير الممكن للعاقل أن ينكرها إلاّ جحودا مهما كان جنسه أو عرقه أو دينه أو زمنه ، لأنّ الكائن البشري مجبول على أخذ أحسن الحلول لممارسة حياته . وهو دائما يجد مجالا للإختيار والمقارنة حتّى في أحلك الملمّات .
إنّك لو خيّرتَ أحدا بين فَقْدِ الأمان أوالصحّة لضحّى بالأمان الثمين على مضض لأنّ في تلك التضحية استبقاء للأثمن الذي يُبقِي فرص الضفر بمسالك النجاة والإستمتاع بها واردة . وهي ـ مهما كانت درجة كروبها ـ أفضل من الإعتلال في لجج الأمان .
وإذا نزلنا أكثر ، سنجد أنّ لِفَـقـدِ وظيفةِ أيٍّ مِنَ الحواس فينا ـ عافانا الله بفضله ـ أثرا سلبيّا كبيراعلى حياتنا ، لكن فقدان نعمة البصر أشدّ ، انطلاقا من ارتباطه بأشدّ حاجات الإنسان لزوما ، كإيجاد الأكل والشرب ، والسعي لقضاء الحاجة .
ويصدق قولنا على كلّ مناحي الحياة الروحية والمادية للناس أفرادا ومجتمعات ، وهو : إنّ الإختيار جبلّي تفرضه المصلحة الملحّة ، ويأتيه صاحبه مقتنعا ، وإذا تجاهله فلجهله بعواقبه الآجلة ، لأنّ ثمرات الأسباب قد تتخلّف بما يكفي من الوقت فتنحجب عن القاصرين .
والأفكار والهجرة ليست بدعا من هذه القاعدة .
إنّ الفكر الذي يساهم في إحاطة الجسم والعقل والممتلكات والبيئة والمستقبل بالسلامة والعافية والنماء والإستقرار ، هو الفكر الذي على حقّ ، وهو الجدير بأن يهاجر أصحابه من أجله لينتشر على نطاق واسع ، ويعمّّ خيره .
وإذا قيّمنا أفكار الإلحاد والأباحية والطعن في الأخلاق بهذا المعيار فإنّ شواهد العلم المنطقي والتجريبي ، الغير قابل للرأي لإثبات صحّته ، تفضح لنا باطلها بإفشاء وبالها ، وشدّة فتكها المادي الملموس ، وأسباب العناء النفسي للإنسانية المنجرّة عنها .
في كلّ مرّة ينتشر البلاء تجد الإنسانية نفسها في عراء الواقع وعلى أخزى هيئة . وما يزيد من كربها ، اضطرارها إلى اعترافٍ مرّ بخطإ ما تبنّـتْـهُ من قبل ، وحالت عنجهيتها دون الإستماع لرأي ذوي الحجى المنبّه إلى الخطر المحدق فيه . وإذا أردت مثالا على ذلك فانظر إلى الحملة تلو الحملة لتحسيس الناس ولفتِ انتباههم إلى بلاوي التدخين ، والمخدّرات ، والسيدا ، والمشروبات الكحولية ، والإستعانة بكل الوسائل التي يرون فيها مردودية أكبر في إثناء المتورّطين عن المضيّ في طريق الهلاك . لقد أذاعوا كلّ ما اكتشفه العلم من مصائبِ هذه الظواهر ، بل وضخّموها ، وجعلوا لها قوانين تضيّق دائرة ممارستها تدريجيا من سنة إلى أخرى ، ولعنوا من أشار وكان إسوة في زرعها وتعاطيها ، وهم مع ذلك غير مستيقنين بنجاح خططهم على أكمل وجه .
ذلك كلّه من صدق العلم ، ومصداقية النواميس ، وإطلاق السنن ، التي لا مفرّ ممّا أُودع فيها من أسرار ، وكلّ انحراف هو مرادف للتلف .
وكانت هجرة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم هجرة الفارّ بالحق للحقّ خدمةً لحرمة الحياة السويّة التي لا يبغي فيها عاجل عن آجل ، ولا يحيف فيها جانب عن جانب .
وقد عبّر سيدنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ـ وهو الشريف المهاجر ـ عن ذلك أكمل وأحسن وأصدق تعبير حين كلّم النجاشي . قال رضوان الله عليه ـ كما جاء عن سيدتنا أمّ سلمة رضي الله عنها ـ :
« أيها الملك ، كنّا قوما أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القويّ منّا الضعيف . فكنّا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منّا نعرف نسبه ، وصدقه ، وأمانته ، وعفافه ، فدعانا إلى الله لتوحيده ولنعبده ، ونخلع ما كنّا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكفّ عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنة ، وأن نعبد الله لا نشرك به شيئا ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ـ قالت فعدّد عليه أمور الإسلام ـ فصدّقناه وآمنّا به واتبعناه على ما جاء به من عند الله ، فعبدنا الله وحده ولم نشرك به ، وحرّمنا ما حرّم علينا ، وأحللنا ما أحلّ لنا . »
لا يحتاج الإنسان إلاّ أن يكون سليم الفطرة ليعترف أنّ هذا فكرا يحمل بذور السعادة له ، وأنه نفس ما ينشده لنفسه لو سئل عمّا يناسب مصلحته التي توفّر له توازنا في حياته ، وانسجاما مع محيطه . ولعلّ في اعتذارات الأمم لبعضها البعض عبر التاريخ دليل قاطع على بشاعة وفساد سبل الظلم ، والجاهلية ، واستغلال المستضعفين . والتوحّد في الإعتراف بنقيض الحق اعتراف جماعي بالحق .
كلّ عام وأتم بخير إن شاء الله .