فصل المقال فيما يرفع الإذن في الحال
في طريقة القطب المكتوم سيّدي أحمد بن محمّد التجاني
رضي الله عنه وأرضاه وعنّا به
للشيخ العلاّمة سيّدي
محمّد الحافظ التجاني المصري
رضي الله عنه
عن سيّدنا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال :
«
كان الناس يسألون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الخير وكنتُ أسأله عن الشرّ مخافة أن يدركني
» . صحيح البخاري .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
قال سيدي محي الدين بن العربي في الفتوحات المكّية ، في الباب الحادي والثمانين والمائة ، في معرفة مقام احترام المشائخ :
واعلم أنه كما لم يكن وجود العالم بين إلهين ، والمكلّف بين رسولين مختلفي الشريعة ، ولا امرأة بين زوجين ، كذلك لا يكون المريد بين شيخين إذا كان مريد تربية . فإن كان صحبة بلا تربية فلا يبالي بصحبة الشيوخ كلّهم لأنه ليس تحت حكمهم ، وهذه تُسمّى صحبة البركة . اهـ .
وذكر مثل ذلك العلاّمة المحقق ابن حجر في خاتمة الفتاوي ، والشيخ الشعراني ، وسيدي عبد العزيز الدباغ ، والشريشي ، والإمام الفاسي ، والشيخ زرّوق ، وغيرهم . وذكر منع المريد من الزيارة سيدي محمد الكنتي في جنة المريد ، وسيدي علي الخواص ، وسيدي عبد الوهاب الشعراني في المواثيق والعهود ، ونُقل ذلك عن بعض أركان الطريقة الجنيدية ونحوه في البهجة السنية في آداب النقشبندية ، والشيخ ابن عجيبة الشاذلي ، شارح الحِكَم ، في شرحه للمباحث الأصلية ، وسيدي محمد وفا .
وقال الشيخ أبو البركات الدردير في الخريدة البهية في التوحيد ، بعد ما ذكر شيئا من آداب القوم ، ما نصّه :
ومنها أن لا يزور أحدا من الصالحين ما دام تحت التربية قبل الكمال خوفا من أن يرى كرامة ، أو خلقا في أحدهم لم يره في شيخه ، فيعتقد في شيخه النقص فيحرم مدده . اهـ
وقال الصّاوي في حاشيته على هذا الشرح ، عند الكلام على هذا المحلّ ، ما نصّه :
قوله : " أن لا يزور أحدا من الصالحين " ، أيّ حيّا وميّتا إلاّ بإذنه ، ومع هذا المنع لا يعتقد أحد حرمة الزيارة للأولياء ، أو غيرهم ، وإنما هو وقوف عند إشارة الطبيب .
وقد بيّن ذلك الشيخ المنير السمنودي في تحفة السالكين وأفاض فيه ، ونقله عن أكابر العارفين . وهو أخ للشيخ الدردير ، فكلاهما تلميذ للشيخ الحفني .
فالآداب الآتية قد نُصّ عليها في سائر كتب أهل التربية من كل الطرق ، ولسنا بمطالبين إلاّ بعدم الخروج عن آداب القوم رضي الله عنهم ، رَضيَ مَنْ لا يعرف طريقَهم أم سخط . قال تعالى :
خذ العفو وآمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين .
(1)
محمد الحافظ التجاني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ، وصلّ اللهم وسلّم وبارك على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه
قال سيّدنا رضي الله عنه وعن أصحابه :
ثلاثة تقطع التلميذ عنا :
-
أخذ ورد على وردنا
-
زيارة الأولياء ، الأحياء منهم والأموات
-
ترك الورد
-
أخذ ورد على الورد
فلا يصح إلاّ الإنفراد بها إلى الممات . ومَنْ كان له ورد أو طريقة فلا يُلَقَّن الطريقة التجانية إلاّ إذا ترك ورده وطريقته ، وانسلخ عنها ، ولا يعود إليها أبدا .
قال في الجواهر :
إعلم أنّ هذا الورد العظيم لا يلقن لمن له ورد من أوراد المشايخ إلاّ إن تركه ولا يعود إليه أبدا ، فعند ذلك يلقنه من له الإذن الخاص ، وإلاّ فليتركه هو وورده لأنّ أوراد المشايخ كلّهم رضي الله عنهم على هدى وبيّنة ، وكلّها مُسْلِكَة ومُوصِلَة إلى الله .اهـ
ومن قرأ ، بعد أخذه لها ، وردا من أوراد المشايخ اللاّزمة للدخول في طرقهم ، أو أخذ طريقة أخرى ، فقد انقطع عنها .
- زيارة الأولياء الأحياء والأموات
وهي ، إمّا زيارة بالجسد ، بأن يذهب إليهم ، سواء قَصَدَ الإنتفاع أو لم يقصده ، وإمّا بالقلب ، كأنْ يطلب الإنتفاع بهم بقلبه ، أو بقلبه ولسانه ، من غير الذهاب إليهم . فممّا تتضمّن الزيارة طلب الدعاء منهم ، أو إهداؤه ثواب العبادات من قرآن ، وصلوات ،
وأذكار ، ونذر ، وصدقة ، ونحو ذلك ممّا تعوّدَ الناس فِعلَه للأولياء لجلب نفع ، أو دفع ضرّ .
والتوسّل ، والإستمداد ، والإستغاثة ، والإستنجاد في طلب المنافع ، ودفع الشدائد ، والتبرّك والإستشفاء ، سواء بالشخص أو بأثره ، . ونسبة ما وصل إلى المرء من مَدَدٍ ونورٍ وبركةٍ وكرامةٍ لهم . وكذلك الدخول في مجالس الذكر التي لغير السادة التجانيين رضي الله عنهم .
وليكتف من يريد هذه الطريقة بزيارة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والشيخ سيدي أحمد التجاني وأصحابه رضي الله عنهم . أما العوام الذين ليسو بأولياء فتجوز زيارتهم أحياء وأموات لله تعالى لا لعلّة ولا غرض .
واعلم أنّ الشيخ رضي الله عنه أجاز في أول أمره زيارة الأولياء الأموات لأصحابه بغير قصد الإنتفاع مِنْ تعلّقٍ وتبرّكٍ وما نحوهما ، كما في الجواهر ، بخلاف الأحياء ، فإنّه منعها بتاتا سواء قَصَدَ الشخص الإنتفاع أو لم يقصد ، ثم نهى بعد عن زيارة الأموات كذلك سدّاً للذريعة . وثبتَ رجوع الشيخ عن الأمر الأول ، ومنع الزيارة ، واستمرّ في ذلك حتى ترك أصحابه الثقاة عليه ، وقد فرَغ صاحب الجواهر من تأليفه قبل وفاة الشيخ رضي الله عنه ، ولا خفاء في أنه حدثت أحكام لم تُدوَّن بعد في الجواهر . وقد ذُكِرَ المنعُ مطلقا في الجامع لسيدي محمد بن المشري الذي خلف صاحب الجواهر في صحبة سيدنا رصي الله عنه ، ثم توفي قبل الشيخ . وكذلك ذَكَرَ المنعَ صاحبُ الإفادة ، وعاش بعد الشيخ . وقال سيدي محمد جنون في رفع العتاب :
وقد رأيت بخطّ المقدّم سيّدي محمّد بن قاسم ، وهو من أصحاب سيّدنا الأجلاّء ، على نسخة من الجواهر ، أنّ الشيخ رضي الله عنه رجع عمّا كان أذِنَ فيه مِن زيارة الأموات ، ونهى مطلقا .
وعن أبي عبد الله الكنسوسي رضي الله عنه وعنّا به آمين :
أنّ بعض الأصحاب سأل سيّدنا رضي الله عنه وعنّا به آمين : إذا جاء على مولانا إدريس رضي الله عنه أيُسَلِّمُ عليه أمْ لا ؟ فأجابه رضي الله عنه بأنْ لا يسلّم عليه ، وقال رضي الله عنه : الناس كلّهم في واد وأنا مع أصحابي في واد ، والناس كلّهم في جهة وأنا مع أصحابي في جهة .
وبذلك يتبيّن لك أنّ ما ذكره في الجيش خطأ ، وصاحبه معذور لأنه لم يبلغه إلاّ ما في الجواهر ، وهو منسوخ ، وقد نَقَل النسخَ الأثباتُ العدولُ ، والمثبِت مقدَّم على النافي ، والحافظ حجّة على من لم يحفظ .
وممّن ذكر هذا النسخ سيدي العربي بن السايح في البغية ، قال رضي الله عنه :
وما في جواهر المعاني مِنْ أنّ المريد له أن يزور الأولياء الأموات بشرط أن يقصد بذلك مواصلتهم لله ، ويطلب عندهم رضى الله ورضى رسوله ورضى شيخه عنه لا غير صحيح ، لأن المنع محطه قصده الإنتفاع بالمزور ، وهو في هذه الصورة منتف بلا شك ، لأن القصد المواصلة لله تعالى ، لكن هذا يصحّ ممّن تحقق بمنزلة الإخلاص ، وبلغ في تصفية النفس وتزكيتها إلى أن صار بحيث لا يلتبس عليه شيء من دسائسها وخداعها ، وأما من كان مرتهنا في أسر شهوته ، محبوسا في سجن هواه وغفلته ، فإنه لا يعرف المواصلة لله وإن ادّعَتْ نفسه ذلك ، فهو من مكرها وخداعها لا غير . وقد كان سيدنا يقول : العامة لا تعرف العمل لله . اهـ
فالخير كلّه مجموع لنا ، معشر الضعفاء وأهل الحجاب ، في اتّهام أنفسنا ، وعدم الإغترار بشيء ممّا تدعو إليه ، وتشرئبّ إلى فعله ، وتحرص عليه ، ولهذا آل الأمر من سيّدنا رضي الله عنه في آخر عمره إلى سدّ هذا الباب ، وحسم هذه المادة من أصلها ، وعلى ذلك استمر العمل بعده من جمهور أصحابه المعتبرين .
على أن الخطب في هذا سهل عند من أنصف . فإنّ فضل المواصلة لله لا لعلّة زائدة يحصل بالإعتقاد والتعظيم القلبي ، بل ربما كان ذلك أفضل لسلامته ممّا يتوقع في القصد إلى الأولياء بأعمال الحركة الظاهرة من التصنّع والرياء والعجب ونحو ذلك ، فالإقتصار على التعظيم القلبي في حقّ المريد أوْلى له من ارتكاب ما يتوقع بارتكابه الإخلال بهذا الأصل الذي قال فيه الشيوخ إنه أصل الأصول حسبما تقدم ، وخصوصا في طريقتنا هذه ، فإن سيدنا رضي الله عنه جعل مدار التربية فيها عليه . اهـ
وذكر أيضا نظير ذلك مما وقع لصاحب الجيش مما يعذر فيه ، أنه قال : أن الشيخ رضي الله عنه لم ينشر الثوب في قيد حياته ، وإنه ممّا استحسن أصحابه بعد وفاته ، مع أنه ثبت فعلهم له بمحضره رضي الله عنه .
واعتذر له بأنه لم يبلغه الأمر على ما هو عليه لبعد ما بين بلده وبلد الشيخ رضي الله عنه ، ونشر الثواب في حياة الشيخ ذكر في المُنْيَة أيضا .
وليس حضور العلم على الولي مِنَ الزيارة بشرط أن يلاحظ الطالب أنه إنما طلب العلم عليه لأنه عالم عدل أمين لا يخون في النقل ، فإن كان لتحصل له بركته بالفهم أو توسلا به أو استمد منه ولو في كلامه أو نحو ذلك فهو قاطع لأنه ضرب من ضروب الإنتفاع بخصوصية ولايته .
هذا كلّه لا يمنع تعظيم سادتنا الأولياء ، فإنّ محبتهم وتعظيمهم وإكرامهم شيء ، والإستغناء بالشيخ عنهم شيء آخر ، ونحن مطالبون باحترامهم وإكرامهم ومودّتهم بما لا يقطعنا عن شيخنا رضي الله عنه ، كالترضّي عليهم عند ذكرهم ، وقد رأينا بعض الأكابر من أصحاب سيدنا إذا قرأ الفاتحة يقرأها للرسول صلى الله عليه وسلم وللأنبياء عليهم السلام ولأصحاب النبيّ ولسيدي أحمد التجاني وأتباعه رضوان الله عليهم على سبيل الإستمداد ، وللعوام الذين ليسو بأولياء على سبيل الإستمداد لهم بغير أي شيء ينتظره منهم ، وأما غير أولئك من الأولياء رضوان الله عليهم فيسكت عنهم بتاتا ، ولا يقرأ لهم ، لا استمدادا ولا إمدادا ، ويقول الحياد في حقّهم رضوان الله عليهم أسلم ، وهم أغنياء ، والحمد لله الذي أغنانا بأهل المشرب المصفى رضوان الله عليهم أجمعين .
-
ترك الورد تركا كليا .
وهو رفض التقيّد بالطريق ، فيجب على الإنسان الذي يريد الإنتساب إليها أن يعزم عزما أكيدا لا يتخلّله انقطاع على المداومة عليها بشروطها إلى الممات ، فإنّ أورادها تصير فرضا بالتزامها ، ولا تُعْطى الطريق إلاّ على هذا الشرط . فأورادها واجبة طوال الحياة إلاّ لعذر صحيح ، وهو المرض والحيض والنفاس .
وصدور سبٍّ أو بُغض أو عداوة في جانب الشيخ رضي الله عنه ، أو إنكار المريد نسبته إلى الطريق حيث يمكنه إظهار تلك النسبة ، كأن سئل : أأنت تجاني ؟ فقال : لا ، أو انتسب لغيرها من الطرق ، يُعَدُّ رفضا للطريق .
والردّة رفض للإسلام ، فهي رفض للطريق من باب أولى ، فيدخل ذلك تحت ترك الورد .
ومَنْ قرأ الأوراد على غير شروط صحتها ، فإمّا أن يعتقد جوازها وهو يعلم قول الشيخ فيكون مكذّبا له رضي الله عنه ، وقد مرّ ما فيه ، فإن كان لا يعلم فليتعلمْ . وإمّا أن لا يعتقد صحتها ، فيكون متهاونا بها ، ولا يخفي ضرره .
ومَنْ أباح لأحد أن يفعل شيئا ممّا يرفع الإذن ارتفع إذنُه ، ومِنْ ذلك مَن يعطي من المقدّمين الأوراد على غير الشروط المعهودة ، فقد ذكر في بعض الإجازات :
ومن خالف شرطنا فهو مرفوع عنه الإذن
وفي الجواهر عن سيدنا رضي الله عنه :
وكلّ من أذنته وأمرته بتلقين أورادنا ، وإعطاء طريقتنا ، فله هذا الشرط بان لا يلقّن أحدا ممن له ورد أو طريقة من المشايخ ، فإن فعل وخالف فقد رفعت عنه الإذن ، ولا ينفعه هو في نفسه ولا من لقنه إياه ، فليحكم هذا الشرط ويعمل عليه والسلام .
فمن فعل واحدا من هذه القواطع ارتفع عنه الإذن في الحال ، ومن خالف شرطا من بقية الشروط المذكورة في محلها ، فإن ذلك يؤدي به إلى ارتكاب ما يرفع عنه الإذن ، ومن ارتفع إذنه كان ذلك علامة على أنه ممن كتب له الوعيد الذي ذكره الشيخ رضي الله عنه وأرضاه وعنّا به ما لم يتُبْ ، ويجدّد الإذن على شروطه ، ويتمسّك به .
اللهم صلّ على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق والخاتم لما سبق ناصر الحق بالحق و الهادي إلى صراطك المستقيم وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد : فقد نلتُ الشرف الأسمي بتصحيح الأغلاط المطبعية في هذه العجالة السنية ، وفرغتُ منها بتوفيقه تعالى في 12 جمادي الأوّل سنة 1342 هـ ، ونسأله تعالى حسن الختام .
علي الخزرجي التجاني
بدار العلوم العليا