بقلم :
محمود سلطاني 4/04/2008
ما أكثر المفاهيم الخاطئة في الحياة !
وكم كان لِيهون ذلك لو أنه لا يترتّب عنه نتائج وخيمة على حياة الأفراد والمجتمعات !
أحسب أنّي لا أكون مبالغا إن قلتُ أنّ أكثر من أربعة أخماس المشاكل في الدنيا مزيّفة ، أُنشِئتْ قيمتها وتعريفاتها ودلالاتها في غير مختبرات الحقيقة ، وورشات الصواب ، وعلى كنّاشات دكاترة العقل والحكمة ، وكانت النتيجة تراثٌ من تلفيقٍ لعبتْ في وضعه الذاتيات الدور الأبرز ، وكانت سمته الرئيسة الفوضى الفكرية والسلوكية الهدّامة استوى في أتون نارها الناشبة الظالم والمظلوم ، وتغذّى من زقّومها كلّ رأسٍ وذنَبٍ للشرّ ، وأقام الشيطان أسس مملكته على أرضها مستبشرا بطول الملك وأسبابه .
وهذه أمثلة من الأخطاء الشائعة في استقراء المسائل والظواهر لنيل مفاهيمها والتعامل معها ، نوردها ونحاول مقابلتها بالمفاهيم الصحيحة ، وهي مفاهيم لا نبتدعها ولكنها من وضع شرائع الله ، أرسل بها رسله وأنبياءه عليهم الصلاة والسلام لهداية خلقه ، وما عملنا إلاّ التذكير بها أو في أقصى الأحوال توضيحها وفقا لرأيٍ رأيناه مناسبا وضروريا .
والله تعالى الموفّق للصواب .
- الكرامة
لو سألتَ أيّ إنسان دخل في شجار مع آخر ، أو مشادّة كلامية فاحشة فاجرة ، أو وضع حدّا لصداقة أو زمالة طويلة ، أو انتفض أمام والديه وخاطبهم بما لا يليق أن يقابل به الأبناء آباءهم وأمّهاتهم ، أو غير ما ذكرنا من السلوك العنيف الشرس المواجِه ، لقال لك : " إنّ كرامتي لا تسمح لي بالسكوت على مثل هذه الإساءة " . كلّ الناس ، إلاّ قليل ، يقولون ذلك ، فهل معنى هذا أنهم على حقّ ؟ أو بعبارة أخرى هل يعني أنّ الألم الذي تحدثه الإساءة هو معادل حقّا لجَرح الكرامة ؟ لِمَ لا يكون الذي جُرح هو جانب آخر لا صلة له بالكرامة في الناس ؟ لا بدّ لنا من مرجعية ننطلق منها ، ولا شكّ أنكم قد فهمتم قصدي ، وهي الكتاب والسنة وسيرة الصالحين رضي الله عنهم .
قال الله تعالى في محكم تنزيله :
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ
(1)
وتشهد السيرة النبوية أن سيدنا رسول الله قد تلقّى ما لا يعدّ ولا يحصى من أنواع الإهانات من أعداء الإسلام ، وأوذيَ بأقذع الشتائم وأبشع التصرفات ، لكنه لم ينتصر لنفسه منها ، بل التمَس لهم الأعذار وقال
«
اللهُمّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنّهُمْ لاَ يَعْلَمُون
» ،
لأنه لم يعرها أي اهتمام ، وكانت بالقياس له غير مدرجة في ما يمس من قدسية الكرامة .
وقد قال القطب المكتوم شيخنا سيّدي أحمد التجاني رضي الله عنه في رسالة من رسائله إلى الأحباب :
وعلى العبد أن يسأل الله العافية من تحريك شرّ الناس وفتنتهم ،
فإن تحرّك عليه من غير سبب منه ، فالوجه الأعلى الذي تقتضيه رسوم العلم مقابلتهم بالإحسان في إساءتهم ، فإن لم يقدر فبالصّفح والعفو عنهم إطفاء لنيران الفتنة ، فإن لم يقدر فبالصبر لثبوت مجاري الأقدار ، ولا يتحرك في شيء من إذايتهم لإساءتهم . فإن اشتعلت نيران شرّهم ، فليدافع بالتي هي أحسن بلين ورفق ، فإن لم يُفِدْ ذلك فعليه بالهرب إن قدر ، والخروج من مكانه ، فإن عوّقت العوائق عن الإرتحال ولم يجد قدرة ، فبالأقلّ فالأقلّ من الإذاية . فليفعل ذلك ظاهرا ويُكثِر التضرّع إلى الله ، والإبتهال سرّا في رفع شرّهم عنه ، مداوما ذلك حتى يفرّج الله عليه . فإنّ هذه الوجوه التي ذكرناها هي تقتضيها رسوم العلم .
والحذر الحذر لمن تحرّك عليه شرّ الناس منكم أن يبادر إليه بالتحرك بالشر ، لمقتضى حرارة طبعه ، وظلمة جهله ، وعزّة نفسه ، فإن المبادر للشر بهذا ـ وإن كان مظلوما ـ فاضت عليه بحور الشر من الخلق بما يستحق الهلاك به في الدنيا والآخرة ، وتلك عقوبة لإعراضه عن جناب الله أولا ، فإنه لو فزع إلى الله بالتضرع والشكاية ، واعترف بعجزه وضعفه ، لرفع الله عنه ضرر الخلق بلا سبب ولا تعب عليه ، أو يشغلهم الله بشاغل يعجزون عنه . فإمّا أن يفعل الله له هذا ، وإمّا أن ينزل عليه اللطف العظيم أو الصبر الجميل ، فيكابد غُصَصَ تلك الشرور بما هو فيه من اللطف والصبر ، حتى يَرِد عليه الفرج من الله ، فيكون مُثابا دنيا وأخرى .
إن الله كرّم ابن آدم وسخّر له السماوات والأرض وما فيها ليتمتّع بطيّباتها ، وجعل حياته مقدّسة ، وحرّم سفك دمه بالباطل والمساس بعرضه وخدش مشاعره ، ووهبَه من العقل والجوارح ما يرفعه على سائر المخلوقات إلى رتبٍ تحيطه بالتوازن الروحي والجسدي اللاّزم . وقمّة هذه الكرامة هي الإيمان بالله الواحد ، وطاعته بنيّة أنه خلقه لعبادته . فمن ابتغى معنى للكرامة في غير ما قلنا فذاك معناه أنه حَكَمَ على نفسه بالبحث المضني من غير طائل ولو عاش إلى آخر لحظة في الدنيا .
وإذا قارنّا بين مفهوم الكرامة عند جلّ الناس وبينها بالمفهوم القرآني والنبوي والصوفي فإننا نكتشف الفارق الهائل بين المفهومين ، وهو ما يعني أنّ جلّ الناس قد ضيّع ـ ولا يزال ـ جهده هباء ، وجنى محاصيل سامّة جرّاء سوء فهمه ، كمْ أُزهِقتْ بسببها أرواح ، وأتلِفَتْ أجساد ، وانكسرت نفوس ، وانقطعتْ صِلاتٌ ، ووهنتْ علاقات ، بينما أفضل وأسمى الحلول موضوعة في متناول اليد .
ما الحقيقة بالضبط ؟
إن حقيقة الأمر كامنة في الإلتباس الطاغي على النفوس في لحظات الهدوء وأكثر منها في لحظات الإنفعال . وهو في الهدوء من نتائج الجهل ، وفي الإنفعالات من عمل الشيطان المستغلّ جهل الجاهلين ، لأنّ إبليس لا يُنشِئ شيئا من مادة خام يمتلكها ، ولكنه يوظّف ما يوفّره له ابن آدم من فرص وإمكانات ، وهذا هو السبب في كثرة نجاحه في الضرب في الصميم . إنه يصيبك بما لديك في ما لديك وكأنك ضربت نفسك بنفسك في ما تعلمه من نفسك من مقاتل . إنه نوع من الإنتحار .
لقد ذكرنا عاملين اثنين هما السبب في كلّ همّ : الجهل والإنفعال .
الجهل بمفهوم الكرامة في الدين ترك الحبل على الغارب لفكر كلّ أحد كي يحيك مفهوم كرامته على مقاسه ، ولو أنّ كلّ هؤلاء اطّلعوا على معاني القرآن ، ودرسوا سيرة سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لتبيّن لهم أنّ ما عدّوه من الكرامة ليس منها في شيء ، وأنه لو كان كذلك ما سكتَ عليه الصلاة والسلام عليه ، وكيف يسكت وهو أعزّ مخلوق على الإطلاق .
ربّما يحتار البعض ، ولا يفلح في هضم كلام كهذا ، ولا يرى مسلكا يؤدّي إلى اكتساب القوّة الضرورية لتحمّله ، لكنّها الحقيقة أيها الأعزّاء لأنّ شحنات الألم والمعاناة لا تعني بأيّ حال من الأحوال أنها صادرة من كرامة مجروحة . الظاهر كاذب ، ولا يعكس إلاّ زيفا ، أتدرون لماذا ؟ تفسير ذلك أن القيم المعنوية والأخلاقية مثل المستقيمات الهندسية المرسومة في الفضاء في كلّ الإتجاهات ، ولها تقاطع يشبه تقاطع هذه الأخيرة ، وعند كلّ تقاطع هناك نقطة الْتقاء تظهر لذوي النظرة السطحية أنها مشتركة بين المستقيمين لكنها في حقيقتها مكوّنة من نقطتين مدمجتين الواحدة فوق الأخرى من غير أن ينتزع ذلك الإدماج انتماء كلّ نقطة إلى أصلها أو أن يجرّدها من خصائصه . عند تلك التقاطعات المعنوية في الإنسان ينصب الشيطان فخاخه ، ويحشد جنده ، ويشحذ خططه . عند تلك التقاطعات يتيه الكثير ، ويغيّر اتجاه مفاهيمه متّبعا مسارا مخالفا للإمتداد الطبيعي لمساره الأوّل ، بالضبط كالقطار عند تقاطع السكك ، إذا أُخْطِئ في توجيهه تقع الكوارث .
إنّ الذي يعتبره أغلب النلس كرامة هو في الحق انتصار للنفس الرافضة لكلّ كبرياء أعلى منها ، وهذا مقت في حدّ ذاته ، وما يظنّونه إهانة هو في الحقيقة انعكاس ضعف متأصّل لا يرى في سلوك الناس إلاّ تجنٍّ عليه أو احتقار ، أو أنه انعكاس لخلوّ صاحب تلك النفس من مشاغل وأعباء هدف عظيم يستغرق جميع أوقاته وقواه وانتباهه ، ويرفعه إلى أبراج الفحول الذين لا ينفقون لحظة من حياتهم ، ولا يلتفتون إلى قول أو سلوك إلاّ في سبيل رسالتهم وما يحميها ويدفعها .
مكان الكرامة الطبيعي هو مكارم الأخلاق . هي هناك أينما حلّت تلك أو ارتحلتْ . قال صلّى الله عليه وسلّم :
«
إنما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق
» ، وكان حقّا كذلك ، لم يقتصّ ، ولم يثأر ، ولم يدعُ إلاّ بالخير في أعصب الأحوال ، ولم يلق الناس منه سوى حلما وصفحا ولينا وبشرا . كان من أمره ووصاياه عدم الغضب ، وأخبر بحلول الشيطان مكان الملائكة في مجلسه عندما ردّ الصدّيق رضي الله عنه على من كان يشتمه بعد صبر طويل ، ولم يقل لصاحبه الكريم المظلوم : " لك الحق في الدفاع عن نفسك لأنّ كرامتك لا تسمح بذلك " .
ولقد تحمّل القطب المكتوم رضي الله عنه إذاية الحكّام ، ولم يرفع يدا لشقّ عصا الطاعة أو للأمر بها ، وهاجر إلى فاس حتى يفرّ من شرّ هو أكبر من شرّ ظلم السلطان . وقد قابل سيدي الحاج علي التماسيني رضي الله عنه كلّ شرور الناس بالصبر والصفح والأمر بفعل ذلك مهما وصلت درجة الظلم والعدوان ، إلاّ أن يكون الإعتداء على حدود الله .
- الحقوق
هناك أمر متفق عليه من الجميع وهو مشروعية كلّ أحد في أخذ حقّه .
لكن أخْذُه كيف ؟ هل كونه حقّا مشروعا يمنحك مشروعية أخذه بأيّ طريقة ؟
للجواب على هذا السؤال لا بدّ من سؤال آخر ، وهو : هل تستوي كلّ الحقوق في القيمة والرتبة ؟ وإذا كانت متفاوتة القيم والرتَبِ فهل ينتهج في أخذها نفس السبيل ؟
الشيء الأكيد هو أنّ شأن الحقوق ووزنها وأهمّيتها مختلف ، يتراوح داخل مجال شاسع جدّا بين الضآلة المطلّة على التفاهة والعظمة الأثمن من سائل الشرايين . هذا هو الحق الذي قرّرته شرائع الخالق وحكمة المخلوقين . وظهر الآن جليّا أنّ وسائل أخذ الحقوق ليست ذات طبيعة واحدة ، وهو ما يجهله السواد الأعظم من الناس ، ولذلك فإنهم غالبا ما يقعون فريسة مفاهيمهم الشخصية الخاطئة ، ويواجهون الحالات المتباينة بنفس الأسلوب والمعاملة فتحدث تجاوزات حتمية تكبر وتضعف بقدر الطفرة الموجودة بين أهميّة الحق المطلوب وذلك السلوك ، وهي في كثير من الأحيان تجاوزات جارحة ، مخزية ، دامية ، ثمارها الندم .
فقد يكون حقّك المشروع كلمة تقولها في مجلس ، أو لقمة من طعام ، أو أولوية في طابور ، أو خدمة في إدارة . وقد يكون أيضا عملا تقتات منه ، أو سكنا يقيك ويقي عائلتك ، أو أرضا موروثة ، أو وطنا مسلوبا ، أو عقيدة مداسة .
وغنيّ عن القول أنّ الكثير من الحقوق التي ذكرناها وأمثالها التي لم نذكرها لا تستحقّ لأخذها أكثر من عناء التقاطها ، وأما كلّ ما عدا ذلك من مجهود فهو تبذير ، وإثمه أكبر من النفع المرجو منه . نعمْ إنّ سلب الحق ولو كان ضئيلَ القيمةِ يعتبر ظلما ، وله وقْعٌ كريه مؤلم على النفس ، لكن ما قيمة أن أفجّر فتنة من أجل طعام ، أو لعبة ، أو موضع أضيّعه ، أو رأي سيظلّ مكتوما ؟
إنّ الحق الذي لا يترتّب على ضياعه ضرر على النفس أو على المجتمع والبيئة لا يجب أن يحتلّ في الوجدان والعقل سوى حيّز ثانوي ، ويكون دائما ضمن قائمة الحقوق المستعدّ صاحبها للتضحية بها إذا خرجت عن نطاقها الطبيعي والمنطقي . وأكثر منه الحق الذي سيورّث انتزاعه أو محاولة انتزاعه ظلما أسوأ من الظلم المترتّب عن هضمه لأنّ فساده أعظم من فساد الأوّل ، والعبرة أوّلا وأخيرا بالنتائج .
- حقيقة احتياج الأصدقاء
لو سألتُ وقلتُ : في أيّ الأوقات يكون الأخ أو الصديق في أقصى الإحتياج لأخيه أو صديقه ؟
سأتلقّى أجوبة كثيرة مختلفة تدور كلّها حول الظروف العصيبة التي يمكن أن تصيب الإنسان في جسده ، أو ماله ، أو أهله ، أو مركزه المهني والإجتماعي ، فلا يجد حوله سوى إخوته وأصدقاءه . والحق أنّ كلّ الحالات المقترحة لتكون أجوبة على السؤال في محلّها ، ولا تكاد تركّز على حالة حتّى تشعر فعلاً أنها طامّة عظمى لا قبَل للمرء بأعبائها . لكن بالرغم من ذلك فقد تلقى في الواقع من له صبر ٌ على االملمّات ، وشجاعة في مواجهة الكوارث ، وقوّة على االصمود تحت مطارق الإبتلاء ولو قصّر ذوو القربى والصحبة في واجباتهم .
كلام المجيبين صحيح لكنّه ليس الجواب الدقيق لسؤالي .
والجواب ـ في نظري ـ هو : إنّ قمّة حاجتي لأخي أو صديقي عندما أخطِئُ في حقّه .
وقد يتعجّب بعضكم ويقول : كيف أكون في حاجة إلى من أخطأتُ في حقّه والمفروض أنه يكون في ذلك الوقت قد تحوّل إلى عدوّ أو على أقلّ تقدير يكون قد قام بيني وبينه سور متين لا باب له ولا نافذة ؟
نعمْ أعلم ذلك ، ولكني أصرّ على اعتبار أنّ لحظة خطئي معه هي بداية حاجتي له لأنّي في تلك اللحظة أكون قد تردّيْتُ إلى أدنى مستويات إحساسي بمسؤولياتي تجاهه . إن كان أخي أو صديقي فعلا فإنّ تاريخي المسطّر في ذهنه ، وما يعلمه من ازدهار مضى في علاقاتنا سينبّهه إلى فداحة ما اعتراني من ضعفٍ ، ويهديه إلى خطر ما أتخبّط فيه من وهنٍ ، وسيراني فريسة لا عدوّا ، وغريقا أولوية أولوياتي يد تسحبني من بين الأمواج التي تبتلعني إلى برٍّ
آمنٍ .
إنّ قيمة الأخوّة والصداقة الحقّة سوف ترفض وتُكَذٍّب الواقع الجديد ، وتعتبره وافدا زائفا ، وتكون دافعا له إلى الْتِماس المعاذير إذ قد يكون السبب سوء فهم ، أو تأويل خاطئ ، أو استجابة لجانب سلبيّ في الطبع ، أو استسلام لمفعول يدٍ عابثة تستهدف قوّة اجتماع الأحبّة .
- الثقة المفرطة في النفس
أنا واثق من نفسي ... أنا واثقة من نفسي .
عبارة تعكس اعتداد من يحسّ بأنه يمتلك ـ أو تمتلك ـ قوّة ثابتة لإدارة نفسه في مختلف الأحوال التي تمرّ بها . والإرادة القويّة نعمة من الله تعالى ، وشكرها هو التحدّث بها وممارستها في الصلاح والإصلاح .
لكن الخطأ الذي يقع فيه الكثير ـ ومن الشباب خاصة ـ هو اعتبار سلاح الثقة بالنفس الملموس لديهم بدون نقاط ضعف ، وأنه كفيل بفتح كلّ باب متى وحيثما وُجِّهَ . وهذا جهل بحقيقة السلاح الذي بين يديْ صاحب مثل هذا التفكير ، والكلّ يعلم أنّ الجهل بالسلاح يسوّي بين الجميع في إمكانية الإصابة به وأوّلهم مالكه .
أنْ أثق في نفسي لا يعني أن لا أراجعها أو لا أتّهمها . وما يضير المرء إنِ اتّهم نفسه ؟ لن يخسر شيئا . إن ثبتَ له أنّها بريئة فلن ينقص من براءتها أنه تفقّدها ، وإن اكتشف بها علّة فتلك فرصة لمعالجتها بتصويبها ، وهي خيبة أمل من الطراز " الإيجابي " التي تكشف له القدر الزائف من قيمتها في ذهنه وتصوّره ، فيجبره القدر الحقيقي المتبقّي على التواضع والحذر .
وليس اعتباطا أن يكون الإفراط في الثقة بالنفس من العيوب لأنه حكمٌ على غير محدود بمحدود . فالشخص لا يثق بنفسه إلاّ انطلاقا من معرفته بها . لكن تلك المعرفة مهما كانت واسعة وعميقة فإنّها تبقى جزئية لأنّ الجوانب المجهولة فيها لا حصر لها . وعند مواجهة العالم الخارجي فإنه لن يستعمل سوى ما يعلمه من نفسه ليتحسس طريقه ، ويقابل كلّ حالة بما يناسبها من رصيد القوّة المتوفّر . فإن كان هذا القدر من الثقة هو السلاح الفعّال الصالح لحسم المعركة فهو النصر لا محالة ، وأمّا إن كان الواقع من نوع خاصّ ممّا لا يفيد في مواجهته الحاضر من السلاح فإنّه سيجد نفسه في أرض مجهولة ، ولا عهد له بعدوّه ، ولا قِبَلَ له بسطوته ومفاجآته ، ويكون حجم الإنكسار بحجم الجهل بالنفس .
ومهما حرص الإنسان على سبر أغواره محاولا اكتشاف كلّ شاذة في نفسه ، أو إضاءة كلّ نقطة مظلمة فيها فإنّه لن يفلح لأنّ المسألة ليست مسألة بحث كميّ عدديّ حثيث فحسب ، بل هي أحوال حادثة تتولّد مع الظروف ، وجزئيات الواقع المتغيّر على الدوام ، ولذلك فإنّه من المستحيل حسابها على الوجه الأكمل . والحلّ الوحيد والأمثل هو ممارسة الثقة بالنفس على مساحات الثقة بالله وبسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وما فيها من أمر ونهي لأن حدود المجهول مع المعلوم هناك .
- سورة النحل ، الآية 126 .