بقلم :
بوبكر سلطاني 30/07/2023
لكلِّ شيءٍ حقيقةٌ إذا كان منفرِدًا بذاتهِ، غيرَ أنَّهُ يكتَسِبُ حقائقَ إضافيَّةً يلبسُهَا إذا صارَ جزْءًا من شيءٍ آخرَ. بل أكثرُ من ذلك، إنّه قد ينصبِغُ بهذه الحقائقِ الجديدةِ بحيثُ تنطمسُ فيه وتنحجبُ حقيقتُه الأصلية الأولى حينَ كان منفرِدًا، فتتغيَّرُ الأحكام المتعلّقةُ بهِ فجأةً. هذا الأصل الوجودِيُّ في الأشياءِ هو بالضَّبْطِ السببُ في اختلافِ النّاسِ المتضارِبِ حولها: واحدٌ يذمّ والآخرُ يمدحُ، واحدٌ يكرهُ والآخرُ يُحِبُّ ... الخ، لأنّ الأول يراه جزءًا من شيءٍ، والثاني يراه جزءًا من شيء آخرَ غيرِهِ. والقُرْبُ للصوابِ في الحكمِ ليس حليفَ إلّا الذي اجتهدَ لكشفِ جميعِ تلك الأشياء المُحيطةِ بذلك الشيءِ حتّى يكون على بصيرةٍ من جميع انتماءاتهِ، وهكذا لا تُفْلِتُ منه أيُّ حقائقَ مؤثِّرَةٍ يغفلُ عنها فلا يعطيها حقَّهَا. ولنضْرِبْ لذلك مثالينِ.
-
المثال الأول
عائلتان اتخذت كل منهما نظام نظافة خاصا بها. فكان النظامان ببنودهما كالتالي:
-
بنود العائلة الأولى
تنظيف كل الغرف والمرافق ـ في كل غرفة أو مرفق، تنظيف البلاط من الغبار ثم غسله بمحلول الجافيل والماء، غسل الجدران، غسل السقف ومسحه، وأخيرا: لا بد من غسل كل ركن من الأركان الأربعة جيدا.
-
بنود العائلة الثانية
لا يهم أن تنظف الغرف ـ لا يهم أن تنظف البلاط أو تنظف السقف أو تنظف الجدران، بل وسخ وأهمل ما تشاء. لكن أخيرا وهو المهم: لا بد من غسل كل ركن من الأركان الأربعة جيدا.
المثير للانتباه هنا هو البند الأخير المشترك بين العائلتين وهو: التركيز على غسل الأركان وهي جزء ضئيل جدا مقارنة بالغرفة كلها.
والمثير للانتباه فيه هو أنه رغم كونه البندَ نفسَه، إلا أنه حين يُنسب للعائلة الأولى فهو "عين الكمال" وقمة المدح، إذ يقال لهم: اتخذتم نظاما شاملا وافيا لدرجة أتممتموه بأدق التفاصيل في الحرص على النظافة. أما حين ينسب للعائلة الثانية فهو "محط التوبيخ" وقمة السخرية منهم، إذ يقال لهم: أليس عندكم في هذا النظام سوى الاهتمام بهذه التفصيلة الصغيرة؟ أنتم تبتلعون الزبرة وتتورعون عن الإبرة!
هكذا النظر للقواعد والتعليمات دائما، أن يكون الحكم عليها وعلى قيمتها منسوبةً إلى النظام الذي استخرجت منه بأكمله وبشكل شامل. لا يوجد "قاعدة تافهة" أو "تفاصيل تافهة" هكذا وحدها في الهواء! لا يوجد كلام يوصف أنه "غير مهم أو زائد" هكذا بشكل مطلق منفصل مجرد غير منسوب!
فكلُ نظامٍ متماسكٍ مصممٍ بعناية، كلُّ تفصيلة مهما صغرت فيه تزيده رونقا وتدل أكثر على مدى إحكامه وقوة اعتباراته. وكلُّ نظامٍ مهلهلٍ مزعزعٍ مفككٍ مليءٍ بالتّناقضات، التركيزُ على نفس هذه التفاصيل الصغيرة فيه لا يزيده إلا قبحا وعيبا على طريقة "أصلح الأهم ثم تحدث عن هذا!".
هذا المنهج هو ما لا يفقهه الجهال من مهاجمي الإسلام. فأنت تجدهم يأخذون عشوائيا تفصيلة شرعية تمس جانبا لطيفا من الحياة ويرددون: "ما بال هذا الدين يقول أنه من المسموح الأكل في بيوت آبائكم وبيوت أمهاتكم؟ وما باله يقول أنه من المسموح أن تأكلوا جميعا أو مع بعض؟" إشارةً إلى قوله تعالى:
ليس على الاعمى حرجٌ
إلى قوله:
أو على أنفسكمُ أن تاكلوا من بيوتِكمُ ...
الخ الآيات
. كأني باعتراضهم مقصده: ما الحاجة إلى ذكر هذا الأمر الصغير الذي لا يضُرُّ عدم ذكره؟ فنقول لهم: هذا هو الخلط بعينه. هل قال الإسلام: افعلوا ما تشاءون، واقتلوا واظلموا إن أحببتم، ولا يهم كيف تنظمون أنفسكم، المهم فقط أني أبحت لكم حرية الأكل مع بعضكم أو بمفردكم؟ لو كان هذا ما قاله فستصير تلك التفصيلة فعلا محلا للسخرية في هذا النظام الفقير المفلس.
أمَّا أنَّ الإسلامَ هو دين العجب في التشريعات الضخمة المستعصية على أنبغ العقول: تنظيم الفرد، تنظيم الأسر، تنظيم المجتمعات، تنظيم علاقات الدول، المرونة الشديدة مع العصور مع الحفاظ على البنية الأساسية بغير انحلال. فمن الطبيعي أن دينا كهذا لن يترك التفاصيل لأي أحد! من الطبيعي جدا أن يحدد لك حتى مع من تأكل بغير حرج ومع من لا تفعل ذلك، وتفاصيله هذه مؤدِّيَةٌ إلى ثمار أكثر تنعكس فوائدها الدقيقة التي لا يلاحظها بشري بعقله، لأنها تفاصيل نسبت إلى النظام كله ولم يُنظَر إليها وكأنها نبتت وحدها من تحت الأرض.
نفس الشيء اعتراض بعضهم على قوله تعالى
وما تسقط من ورقة الا يعلمها ولا حبة في ظلمات الارض
، بأن قالوا: "كيف يهتم إلهٌ بورقة أو مجرد حبة؟". تفاهة عقول! كأن الله عز وجل قال: لا علم لي بأي شيء في هذا الكون سوى هذه الورقات وهذه الحبوب! مع أنه قبلها بقليل، قال في الآية:
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر
، وفي غيرها:
وأن الله قد احاط بكل شيء علما
. فإشارته إلى إحاطة علمه بكل شيء يجعل التفاصيل زيادة في القوة. لكن هؤلاء لا منطق لديهم ولا منهج، فقط خذ أي شيء كيفما اتفق، وتحدث عنه كيفما تريد: لا سياق ولا نسبة ولا هم يحزنون!
لا تنقــــدنَّ تفـــاصـيـــلًا بمــعــزلـــــــةٍ *** كـأنَّـهـــا نـبتـــتْ فـي قـفْــرَةٍ قَـحَـلَـــــــتْ
لا تتَّهمها بـ"صغرى" ليس قيمتُها *** إلَّا النِّظامُ الذي في سلْكهِ اندرجَتْ
-
المثال الثاني: نافذة النظر
لو نظرتُ من ثقبٍ صغيرٍ في جدار غرفة فرأيتُ داخلها حروف "ح" "ل" "و" مرصوصة بجانب بعضها لتشكل كلمة "حلو"، فلا أستطيع أن أجزم هل المقصود هو فعلا كلمة "حلو"، أم أن الثقب فقط صغير جدا بحيث أخفى عني مزيدا من الحروف لم تظهر. فاحتمال أنهم لو وسّعوا هذا الثقب لرأيتُ حرفا آخر هو "ف" مرصوصا بجانب الحروف السابقة مُشَكِّلا كلمة "حلوف"، وهو الخنزير أكرمَ الله القُرّاءَ. فنظري الذي كنت أحسبه يظهر لي صورة جميلة (حلو) ما هو إلا نظر قاصر في هذه الحالة حيث أنه بعد اتساعه أظهر أن ما كنت أراه ما هو إلا جزء من صورة قبيحة (حلوف). ولكن الاحتمال أيضا أنهم لو وسّعوا هذا الثقب لرأيتُ أنه لا مزيد من الحروف، وأنّ الكلمة المقصودة فعلا هي "حلو". في هذه الحالة، ما تغيَّرتِ الصورة القديمة من اتساع النظر. ويمكن أن يستمر هذا، فقد يتسع الثقب أكثر ليكشف حروف "ي" "ا" "ل" "ص" "ف" "ا" "ت"، وبالتالي ما كنت أحسبه كلمة "حلوف" ظهر أنها جملة "حلو في الصفات". يعني ما ظننتُه أولا جميلا (حلو) ثم صححت لنفسي أنه قبيح (حلوف)، ها أنا أصحح لنفسي مجددا أنه جميل (حلو في الصفات).
ضيق نافذة النظر لا يحمل أي دلالة جازمة في نفسه على ما أراه: قد يكون ما أراه خاطئا يبدو لي صحته (أو صحيحا يبدو لي خطؤه) بسبب خفاء أجزاء أخرى، وقد أكون محظوظا حقيقته كما أراه لأنه لا أجزاء إضافية خفية متعلقة به. إن الذي نافذته صغيرة (وهذا ليس عيبا فهي هبات الله) لا يملك حق القطع، وعليه باللجوء إلى صاحب النافذة الكبيرة ما كان متاحا له، حتى يخبره هل حجم نافذته مناسب ويكفيه منظوره لالتقاط الصورة الكلية، أم لا يكفيه وعليه بالاستماع له.
فالصور الجزئية تتبع صورتها الكلية ما عُلِمَتْ هذه الأخيرة. والصورة أسفله خير مثال على ذوبان الصور الجزئية في الكلية وتَبَعِها لها في الأحكام. في تلك الصورة ثلاثة أجزاء متماثلة تماما: كل منها هي دائرة بنية اللون عند النظر إليها وحدها من نافذة ضيقة. لكن عند توسع النافذة كاشفة عن الصور الكلية، ظهرت أمامنا مدهشات الاختلافات. فالدائرة الأولى هي عين طائر، والثانية زر في جهاز تحكم، والأخيرة حرف في كلمة. ومعروف أنه ليس الطائر كالجهاز كالكلمة. كلها مفاهيم مختلفة جذريا. وعليه، تأخذ كل دائرة بنية حكما مختلفا بناء على انتمائها. لقد مُحِيَ وَهْمُ التشابه السابق من الذهن بمجرد تجلي الحقيقة له، رغم أنه كان يجزم مسبقا بهذا التشابه ولا يشك فيه. وعذر الذهن معه، لكن ليس لصاحبه العذر عندما يظل مصرا على إنكاره لمن هو أعلم منه حين يؤكد له أنه يوجد اختلاف. طبعا ما كان ذلك الأعلم أهلا للثقة، وإلا فعذر الأقل علما معه أيضا.
وهذه القضية هنا هي التي يندرج تحتها "الجمال والقبح" وكذلك "الكمال والنقص". فالذي يبدو قبيحا من نافذة ضيقة، قد يتضح جماله حين ننظر إلى صورة كلية ينتمي إليها وندرك أنها وحدة جميلة، فهو جزء يتبع حكم كُلِّهِ. والعكس صحيح، فالجميل من نافذة ضيقة قد يبدو قبحه حين ننظر إلى صورة كلية ينتمي إليها وندرك أنها وحدة قبيحة، وبالتالي يقبح معها بالتبعية. والكمال والنقص مثل ذلك أيضا.
لكن الأكيد عندنا، أن الصورة الكلية المطلقة للوجود بزمانه وموجوداته هي صورة في غاية الكمال والجمال لو نظر الناظر إليها دفعة واحدة. في هذه الحالة، تبدو له كل الأجزاء كاملة جميلة بالتبعية، ولا مكان للقبح ولا للنقص فيها، فما بدا قبح بعض الأجزاء ونقصها إلا بنسبتها إلى النظر المحدود والعلم والإدراك الجزئي القاصر. وهذا ما يفهمه المرء من كلام الشيخ سيدنا أحمد التجاني رضي الله عنه في الجواهر عند قوله: "ما في الوجود كله إلا الكمال، وما النقص فيه إلا أمر نسبي، وذلك لأنه ناشئ عن المشيئة الإلهية" أو كما قال. وهذه الصورة غير معنية بالتشريع، لأن الشرع كلف الله به البشر أن يُحكِّموهُ في حياتهم، ونظرهم فيها هو من إطار جزئي، ومنه لا مناص من رؤية الجمال والقبح معا في كثير الأمور. لكن مقصد الشرع الأساسي الغالب هو الترجيح بين كمية الصلاح وكمية الفساد في الشيء الواحد ثم تقرير حكمه بناء على ذلك.
ولهذا السبب لا يعترضِ العامة على الأحكام الشرعية التي أقرها العلماء الفضلاء بحجج واهية مثل "أيُّ خطْبٍ في هذه؟" و"لماذا قد يحرِّم الله شيئا جميلا كهذا؟" وأمثالها، متناسين أنه لو فتحت أمامهم النافذة الكبيرة المقصودُ النظرُ بها في التشريع، لرأوا صورة كلية قبيحة عيانا وفهموا من أين اكتسبت الأجزاء ذلك. وكما يقال: "الأعمى لا يعترض على البصير أبدا".
وَدَرْكُ الحَقـائــقِ فـي شكْلِهَــا *** يكونُ منَ النَّظَرِ الشَّامِــلِ
وَمَا نظَــرِي مِنْ إطــارٍ صغيـرٍ *** دليلٌ لُزومًا على الباطِلِ
فَكـمْ مِـنْ نـوافِـــذَ لـمْ يتغيَّــــــرْ *** قديمٌ بتوسيعِهَا الحاصِــلِ
وكـمْ مِـنْ نوافِــذَ إنْ وُسِّعَـــتْ *** تُفاجِـئُ بالخطــأ القـاتِـــــلِ
فمـا جـازَ جَـزْمٌ بقطــعٍ بهـــذَا *** ولا ذاكَ للفـاحِصِ العاقِـلِ
وضِيـقُ النَّوافِـذِ غيْرُ مُعـــابٍ *** ولكـنْ جُحُــودُكَ للفـاضِـلِ
إذَا كنْـتَ وَحْـدَكَ فاحكُـمْ بِهَــا *** أوَ اَعْلَمَهُمْ قُمْ بِهَا جادِلِ
وإنْ كنتَ أدْنَى فخلِّ السَّبيلَ *** وسَلِّـمْ بصَمْتِــكَ للنَّـائِـــــلِ