بقلم :
محمود سلطاني 30/07/2023
المُجْمَعُ عليه إنسانيا، هو أنّ أفضل فترة يكون خلالها معدّلُ النجاح في إعداد الفرد عند أعلى نِسَبِه هي فترة الطفولة المبكّرة، وأنّ أفضل ما في هذا الأفضل هي التربية بالقدوة. فالطفل نسخة من جميع ما يحدث في بيئته الصغيرة (العائلة) قبل أيّ بيئة أخرى، وكلّما كان تعمّد التركيز على الاقتداء أكبر وأدوم في الحيّز البيتيّ الأصغر كانت النتيجة المكتسبة أقرب إلى الصورة النهائية المستقبلية التي يمكن تخمينها مسبقا. هي سلوكاتٍ تصدر تلقائيا في البيت، فيقتفي الصغير آثارها دون أيّ استفسارات. والاقتداء ليس فقط متعلّقا بتأثير ضِيقِ الحيّز المنزلي وحتمية ما تُؤدِّي إليه ثقافةُ أهل البيت المشتركة المتكرّرة أمام الطفل طيلة سنواتٍ كاملةٍ. المسألة ليست فقط عادة. ولكن أيضا متعلّقٌ بصفة الاتّباع والتقليد الفطرية المتجذّرة في الصغير ولو انتقل إلى بيئةٍ أخرى أوسع وأكثر تنوّعا. ولا يظننّ أحدٌ أنّ اتّباع الطفل لأهل الدار هو دائما عن عبقريةٍ للوالديْن في جذْبِه إلى ما يسطّرونه له، ولكن فقط لكوْنهم أوّلَ مَن تتفتّح أعينُ ابنهم عليه. الطفل، بصفته يجهل كلّ شيء، بمثابة الـ" شفّاطة " " Aspirateur " لكلّ معلومة أو حركة، وهو وحظّه حسب نوعية تلك التصرّفات. لا مناص للطفل من قدوةٍ لأنّ تعلّمه يتمّ بالرؤية والملاحظة، ونصيبه من الفهم مرهون بما يحدث بالمشاهدة.
كان الأمر مختلفا قبل عصر الاكتشافات العلمية الحديثة، حين كانت شؤون الناس كلّها تدار حسب أخلاقياتٍ مؤسَّسَةٍ على واقعِ ما تفرضه قوى الجسد والعقل العادية المحدودة المتوفّرة. حينها كانت الحواجز وطرق التحصين ووسائل اتّقاء العدوى السلوكية تتمّ بواسطة الجدران والأبواب المغلقة. أمّا اليوم، فإنّ تلك الوسائل أصبحت عاجزة عن صدّ أهل الفضول والمتطفّلين، وتحوّلت البيوت إلى مشاعٍ ومرتعٍ للجميع، يقتحمها مَن يشاء، من خلال مَسَام الجدران نفسها، بما يشاء وقت ما يشاء دون إِذْنٍ ولا انتظار تصريحٍ، ثمّ يقبع في كلّ ركنٍ فيها، يعرض ويُملِي ويُزيِّنُ كلّ ما يأتي به مِن بضاعة. لقد تحوّل التلفاز - وهو ما يهمّنا في هذا المقال - إلى مزاحمٍ شرس لأهل البيت، ونابَهُم في معظم الأوقات في الانفراد بأطفالهم، واستحوذ على استحسانهم وتوطّدت صلة الأُنس بينهم فأصبحتْ أمتن من صلتهم بذويهم في كثير من الجوانب لأنّهم وجدوا فيه ما يشبع رغباتهم من صورٍ وألوانٍ وتنوّع، واكتشفوا فيه الرفيق الذي لا يتخلّى عنهم بحجّة وجود ما يشغل أو الإرهاق، كما هو الشأن مع الأهل. بكلامي أعني جلّ برامج التلفزيون، لكن موضوعي الساعة هو الـ" رسوم المتحرّكة " المبثوثة للأطفال. إنّ أوّل نصيحة يوجّهها الخبراء هي الرقابة والتدخّل لإبقاء تلك العلاقة في دوائر المقبول. وأنا أؤمن بضرورة الرقابة، ومِن أشدّ المنادين بها تحمّسا، وأجزم بأنْ لا شيء ولا نشاط في غِنًى عن جدواها التربوي والنظامي حين تنبعث عن نيّةٍ صادقةٍ وعزمٍ قويٍّ وتكاملٍ مطّردٍ في تطبيقها.
لكن الرسوم المتحرّكة ليست سيّئة لذاتها، والخوف ليس منها، ولكن ممّا تحمله في جوفها. فلماذا لا نستغلّ قوّتها تلك ونصرفها في النافع لتكون لنا ظهيرا في حُسْن تكوين أبنائنا؟
إنّ معظم الذين يقتحمون جدراننا وجلدنا ولحمنا وعظمنا إلى مراكز التأثير بداخلنا لم يفعلوا ذلك بنيّة مبيّتة لإفسادنا، لأنّ هدف أكثرهم هو الربح الماديّ، ومنهم من يروّج لأنموذج ثقافته، وفيهم من يعتقد أنّه يحسن صنعا ويخدم الإنسان حيثما كان. الفساد الناتج عن الرسوم المتحرّكة قد يكون عرَضيّا وليس بالضرورة بقصد الإساءة إلينا وإلهائنا عن ديننا، كما تروّج بعض الفئات. ولست الآن في معرض الحكم على نوايا المتّهِم والمتّهَم، ولكنّي أقول أنّه مهما كانت المقاصد فتجاوز المضارّ الصادرة عنها ممكنة.
السؤال هو: ما الذي أعددناه للتصدّي للمعضلة وإلغاء مفعول الأزمة التي تولّدتْ عن عملهم؟
نحن أمّة لها ماضي روحاني حضاري مقدّس، وتراث لا يكاد ينفذ كمّا ونوعاً. فهو بشهادة صلحاء البشرية وأهل الموضوعية فيهم، وأسوياء العقول من العلماء والمفكّرين والرأي السديد، ليس له مثيل بين أصلح ما أنتجتْه القرائح الإنسانية وما ألّفتْهُ ونظّرتْ له. لقد اعترفتْ النخب الحكيمة في كلّ عصر بعظمة وجدارة الثقافة الإسلامية برتبة الاستثناء الإيجابي بما يرقى إلى التواتر. كلّ تلك الرفعة والمثالية العملية كانت بفضل الدين الحنيف المنزّل من عند الله تعالى وصفات انسجام تعاليمه مع الطبيعة البشرية والفطرة الصادقة التي لا تحلّ إلا لزرع الخير، ولا ترحل إلا بعد أن تؤسّس لدوام صلاح الجميع.
إنّ في كمال تراثنا المخزون ما يكفي ليجعلنا أشدّ الأمم ثراء في كلّ موردٍ وفنٍّ ومعرفة، وليكون لنا ضمانة للحاضر والمستقبل إنْ أحْسَنَّا استقراءه، وعرفنا بدقّةٍ موضع إسقاطه المفيد في كلّ حين.
بالرغم من ذلك، فنحن في وحل الهوان والفقر الروحي نشتكي نفس ألمِ المحرومين، ونذرف الدموع على حالنا مع علْمِنا بالخلل فينا. والأدهى، أنّنا، في نفس الوقت، ننتظر وصول أسباب عذابنا على عتبات أبوابنا، في مشهدٍ تناقضيٍّ سرياليّ غير طبيعيّ بالمرّة.
ألا يقال أنّ فهم الإشكال هو نصف الحلّ؟
هل يعني أنّ بكاءنا هو بكاء من أدرك استحالة اجتياز الهوّة التي تفصلنا عن هؤلاء؟
السؤال الجدير بالطرح هو: مِن أين للذين يصدّرون إلينا أفكارهم وطرائق عيشهم كلّ هذا الكمّ من المنتجات؟
والجواب هو أنّهم فعّلوا ما يعتقدون أنّه الأصلح، واتّخذوا قرارهم انطلاقا ممّا يؤمنون أنّه شأن خاص ليس لأحد غيرهم دخْل فيه. كلّ واحد فيهم يختار المصدر الذي يحكم أنّه الأفضل لبلوغ مآربه، وليكن فكرا مبتدعا أو مستلهَما من التراث والفلسفات القديمة، فلا شيء مقدّسا عند أكثرهم إلا بقدر عائداته وقدرته على جلب الشهرة في مجتمعه.
فلماذا لا نتغيّر بدورنا، ونتبنّى خيارات من بنات أفكارنا وعقيدتنا وتراثنا بنفس منسوب الحريّة التي قدّسوها؟ لا شيء في كلّ ما نستهلكه ممّا أعدّوه مستعصٍ عن قدراتنا، لأنّه لا يتعدّى كونه ثمرة لقوّتيْن مشتركتيْن بين جميع البشر: موارد ماديّة أو معنوية وعقول تفكّر وتجرّب وتنجز. فلماذا عجَزْنا على تخطّي ذلك الحاجز الوهمي؟ إنّ فينا ممّن تغريهم تلك الفنون كفاية كي نستثمر مواهبهم ونقيم صناعة "كرتونية" بلون وطابع خصوصياتنا، ليس فقط تحمل برامج تربوية راقية، ولكن أيضا تتضمّن تحصينات ضدّ كلّ فكرٍ دخيلٍ مدمّر.
إنّ الواحد منّا يرى العجب في ما يُعرض من أفلام الرسوم المتحرّكة على فضائياتٍ متخصّصة لا تذيع سواها. العجب من البون الشاسع بين ثقافتنا وثقافتهم، وكذلك من رداءة البضاعة وتفاهة محتواها في كثير من الأحيان، ما يدفعك للشكّ في صدق من يختار تلك السلعة وصدْقِ مَن رضي بدفع جزءٍ من ماله، ولو يسيرا، ليعود إلى بلده وأطفال وطنه بها، وهي التي يرفضها كلّ من لديه ذرّة من الذوق الفنيّ ولو أعطيتْ إليه بالمجان.
من الولايات المتحدة الأمريكية إلى اليابان ومرورا بالصين وبلدانٍ أخرى، لن تجد سائدا سوى الفكر العلماني الإلحادي القائم على نسيان الخالق والدين والحياة الآخرة. فالإنسان في هذه القصص كلّها موجودٌ تائهٌ لا يبارحه اللهاث عن شيءٍ مّا، لأنّهم يصوّرونه، وفق منطقهم، في مكابدةٍ مزمنة وحربٍ دائمة مع الجميع، لا مهمّة له سوى السهر بنفسه على أمنه وبقائه في خضمّ عالم لا ثقة في من يسكنه ولا في تقلّبات أحواله التي لا تعرف الهدوء ولا الهوادة. لن تطرق أذنيك كلمة الله أو القدر، أو حتى الدعوة إلى الوسطية في السعي والتحلّي بالقناعة بصفتها خُلُقًا أصيلا في الحياة لأنّها في نظرهم خنوعا وانثناءً مخجلا أمام التحدّيات. جوهر الإنسان في الرسوم المتحرّكة هو المخلوق الطموح الذي يؤمن بالتحكّم في مصيره بحُسْنِ تدبيره ومجيئه من الباب المناسب، وما الفشل إلاّ انعكاسا لسوء اختيار سُبُل البحث عنه. الإرادة وحدها هي الوقود لتحقيق كلّ هدفٍ كما تصوّره الأحلام، وعدم النجاح راجع فقط إلى التقصير الشخصي لصاحب الهدف.
طامّة أخرى تروّج لها الرسوم المتحركة التي نستوردها، وهي صورة الحياة في القصّة المصوّرة المتناقضة مع حقيقة الحياة المعلومة للجميع. إنّ الشخوص الكرتونية المعروضة لأطفالنا لا تمثّل امتدادا للحياة الطبيعية. لم يعد صانعو تلك الأفلام يقنعون بالجانب الإبداعي في التأليف والسيناريوهات، وأساليب الرسم وتقنيات تحسين الحركات لتحاكي انسيابية ومرونة حركات الناس، بل تجاوزوا تلك العلاقة، وتحوّل عالم الرسوم المتحرّكة إلى عالم مستقلّ عن عالم الواقع إلى درجة المسخ الفاحش الذي أُلغِيَتْ بمقتضاه صفات المخلوق الحيّ المألوفة، وحلّ محلّها مخلوقٌ لم يعد يخضع لسنن الله والقوانين الطبيعية بأشكالها. لم يعد مفهوم حدود التحمّل الطبيعي للجسم والنفس مدرج في صلب الحكاية لأنّ الهدف منها هو التسلية والإضحاك والإثارة التي تضاعف الإقبال. لقد بلغ تزييف الواقع أقصى درجاته، وتحوّلت الحياة في عقل الطفل وفهمه إلى ظاهرة يمكن أن تخلو من الـ"ضرر"، لأنّه يرى أنّ الإصابة والأعطاب والتقطّع إربا إربا وسحق الجسد وتحويله إلى كرةٍ أو إلى أيّ هيئة، لم يعد مشكلة أبدا. القوم غيّبوا دور الألم وضحّوا بالموضوعية في طرح الأحداث من أجل ألاّ ينقطع تسلسل الفكرة في القصة.
ومن أمثلة التزييف، المبالغة في قوّة الطاقات النفسية والتمرّن على استعمالها حتّى أنّه لا يستعصي عليها فعل، ويشاهد الطفل باستمرارٍ خوارق أغرب من الخيال تصل إلى إحداث زلازل وبراكين بنفخةٍ من فم البطل أو ضربة بقدمه.
وأيضا، هذا الارتباط الخرافي بما تمنحه الموهبة من قدرات على التفوّق في اللعب أو النبوغ في ممارسة رياضةٍ لدرجة العشق الأشبه بالعبادة التي تستحق كلّ تضحية ونذر الحياة خدمة لها. لا شاغل للبطل، كما يحلو لهم تسميته، طيلة سنوات عمره إلا تخصصه، حتى أنّ إخلاصه يمكّنه من التواصل مع لعبته ومخاطبتها وأمْرِها وكأنّ بينهما لغة مشتركة، تفقه الأداة الخالية من الروح وتفهم مراده وتمنياته الذاتية فتطيعه فورا.
وفي السنوات القليلة الأخيرة، طغتْ القصص الكرتونية المتخصصة في غزو الفضاء وعوالم ما وراء المجموعة الشمسية والمجرّة، واجتمع الإنسان بمخلوقاتٍ آتية من كواكب أخرى، وسافر صحبة الربوتات الجبّارة مغامرا وباحثا عن متعة المجد في السيطرة على أكبر رقعة في السماء. حروب طاحنة وهمية، تُسخَّر لها كلّ ما تتخيّله العقول من أشكال المخلوقات والأسلحة وأساليب الفتك.
المطلوب هو الإثارة، ولا تهمّ كيفية بلوغها ما دام في العالم مَن يبتلع الطعم. لا وجود للشعور بوخز الضمير من التبعات الأخلاقية لكلّ هذا التهويل والكذب والتعدّي على الفطرة السليمة، والجواب الجاهز على الدوام هو أنّهم ينشطون تحت مظلّة القانون الرسمي، وأنّهم لا يجبرون أحدا على استهلاك منتجاتهم.
هذا غيض من فيضٍ ممّا يتلقّاه أطفالنا، وهم لا يزالون عجينة طيّعة، من أوّل أصابع تمسك بهم فتشكّلهم حسب هواها، ونكون نحن مَن سلّمهم لغيرنا ليربّيهم نيابة عنّا، ويكون ذلك إيذانا بخسارة كثير منهم حين يكبرون لأنّهم تلقّوا ثقافة الـ"دادة" أو الـ" babysitter" عوض ثقافتنا وعقيدتنا.
سيكون أبناؤنا ضحايا ازدواجيةٍ في شخصيتهم تعرّضهم لصراعٍ يتسلّل بصمتٍ إلى مراكز اللاشعور فيهم، فيُضعِفُ فيهم – تلقائيا، وفي أهون الأحوال - روح الإخلاص للمبادئ مهما كانت مقدّسة، وهذا مرادفٌ لتعرّض نعمة التسليم فيهم للتذبذب وإيمانهم بقابِليَةِ كلّ مُعتَقَدٍ للمناقشة والنقد كأيّ فكرة دون تمييز. ولمثل هذه الظاهرة تداعيات سلبية على منحى التغيّر في المجتمع على المدى البعيد، وأوّلها تعطيل، أو حتّى إقصاء، الإيمان بالغيب بواسطة الخبر الصحيح. يعني أن منظومة التفكير لدى الكثير منّا تصبح عرجاء تماما كما هي في قناعة مَن تصرّفَ في مفاهيمنا ليغلّب عليها مفاهيمه. وللقارئ أن يتصوّر قوة وفداحة الشرخ الأسري والاجتماعي بسبب الصراع الحاصل بين من يسمي ذلك تقدّما وحداثة ومن يسميه انتكاسا وردّة.
إننا نكتوي منذ وقت طويلٍ من شرّ هذه الأفكار التي تجاوزت كلّ حدّ، فأساءت الأدب مع ساداتنا الصحابة رضي الله عنهم، وأئمة المذاهب والحديث، وأهل الله من العارفين الواصلين. لقد ظهر في أمّتنا ذلك الصنف من الفكر العلماني المتنمّر الذي لا يخشى الإجتراء على قدسية الدين، فيعامله معاملة مَن اكتشف أنّه سبب تعفّن أوضاعنا، وأنّه عقبة في طريق الأساليب الصحيحة للتفكير والعمل والنموّ والإمساك بالحياة من نقطة ضعفها لتدجينها، وحان الوقت لإزاحتها. تلك إشارة صريحة إلى تعلّق هذه الفئة بالحياة الدنيا وحدها واعتبارها غاية تستحقّ كلّ العناء والاعتناء.
أذكر أنّي كنت على الدوام أنبّه أبنائي وبناتي الصغار إلى مواطن الزيف والأكاذيب حين كنت أجمعهم حول صينية الشاي بعد العصر أو مائدة العشاء كلّ يوم. كنت أحذّرهم من أنّ الرسوم التي يتابعونها هي من إعداد إنسانٍ يفعل بها ومنها ما يشاء فقط ليكسب المال، ولا يجب أن يصدّقوا كلّ شيء يشاهدونه.
وبديهيّ أنّي لا أحصر جميع أسباب هذا الفساد الأخلاقي في مفعول الرسوم المتحرّكة على الأطفال، لأنّي أعلم أنّ لكلِّ محطّةٍ مِن عُمُرِ الفردِ على سُلَمِ النُموّ تعقيداتها السلوكية وتجلّياتِها السلبية، التي تستوجب تعاملا وتدخّلا خاصا مختلفا لعلاجها.
إنّ ما أقترحه من تربية للأطفال ليس بعلاجٍ بالمعنى التقليدي، ولكنه إعدادٌ من الصفر لتفادي المرض أساسا. وما يتميّز به هذا الإعداد من سهولة لا يمكن اجتماعه في أيّ مرحلة من مراحل حياة الفرد:
-
التربية بالقدوة متاحة للجميع لأنّها لا تستدعي شهادات وعلمٍ غزير، وتكفي منها شحنة متكرّرة من استقامة المربّي مهما كان مستواه.
-
هي تربية تكاد تكون مجانية لأنّ آليتها – التقليد - نابعة من المتلقّي نفسه، وتُعفي المربّي من حرج تخيّر طرائق التوصيل اللازمة.
-
سعة مدى مفعول ذلك الإعداد الذي، إنْ أُحسِن توصيله، بإمكانه الإحاطة والتأثير على حياة طويلة بأكملها، ويكون خير مساعدٍ لصاحبه ولمحيطه مهما اختلفت الظروف.
إنّنا أمام حلّيْن اثنين.
-
فإمّا إبعاد الأفلام الكرتونية عن الأطفال، وهذا لا يتمّ إلا بحرمانهم من مشاهدة التلفزيون، أو على أقلّ تقدير تقنين فترات المتابعة. لكن ما يخفى على الكثير، أنّ هذا الحلّ يتطلّب توعية شاملة لجميع أولياء الأمور والكبار داخل كلّ عائلة. وذلك بكلّ بساطة مستحيل لأنّ المجتمع ليس تجمّعا لأنموذج أسرةٍ واحدة منسوخة بعدد مّا يكفي في توجيهها خطابا واحدا عامّا لتستجيب استجابة مطلقة. إنّ كلّ أسرةٍ حالة خاصة لا تشبهها أخرى، ومجال الاختلافات بينها يتجاوز قدرة أيّ مصلح مهما كانت عبقريته أو أيّ برنامج بالغا ما بلغتْ دقته، لأنّها اختلافات ذات أبعادٍ متعدّدة تعود جذورها إلى التربية الخاصة لكلّ أهل بيتٍ وإلى ما يحكمهم من عواطف وأخلاقيات ودرجات الاستعداد للسهر والمتابعة، وغير ذلك.
-
ويبقى الحلّ الثاني، وهو الأيسر والأفضل، في تسخير وسيلة الاختراق (التلفاز) لحمْل البديل المدروس الذي نختاره بعلمنا وإرادتنا، ونعدّه خصيصا لاستدراج أطفالنا نحو الأوعية التربوية الصالحة كما نراها لهم، على ضوء الثوابت والمقدّسات وكلّ منتوج إنسانيّ صحّي فيه من طهارة الحكمة ما يمكن تشاركه وتبنّيه دون خوف.
وبالرغم من أنّي أدعو إلى تأسيس استراتيجيتنا التربوية على كتاب الله، جلّ وعلا، وسنّة رسوله، صلّى الله عليه وسلّم، وتاريخ السلف المعظّم من ساداتنا الصحابة رضي الله عنهم، وسير رجال الأمّة الأتقياء الذين مارسوا الصدق والإخلاص في كلّ نفَسٍ وحركةٍ من حياتهم، عبادةً وعادةً، على وجهٍ يشبه الأساطير، لكنه حقيقة ملموسة بشهادة الثقات من الروّاة والعلماء والمجتهدين والنقّاد وفق قواعد وضعوها لتكون معيارا لصحة الأعمال وأخلاق أصحابها، قلتُ، بالرغم من ذلك، فإنّي في نفس الوقت مُدافع حريص على نشاط الوجدان والخيال الخصب وما ينتجه من إبداعٍ فنّيّ كالتأليف الأدبي البنّاء الذي تجتمع فيه فائدة الحق ومتعة التشويق عند تحويله إلى رسومٍ تُراعى في إنشائها حاجات الطفل النفسية والعقلية والجوارحية. تاريخنا حافل بكلّ أصناف المآثر المشرّفة، مِن تضحياتٍ وبطولاتٍ في الدفاع عن الحقّ والأوطان، وعبقريات دينية ونوابغ علمية وفنيّة، بإمكانها إقصاء الترّهات والبذاءات والتشويه الذي ألْحقَتْهُ بواقع الحياة، باقتناع ورحابة صدرٍ وإلى الأبد.
المؤكّد أنّ الصناعة الكرتونية تتطلّب استثماراتٍ عظيمة للمال والتأليف وتوظيف المواهب الرسّامة، لكنّ رواج منتجاتها يدلّ على ازدهار أسواقها، ولو كانت غير ذلك لأفلستْ وانتهى أمرُها. هي تجارة لا يكفّ منحنى الربح فيها عن الصعود ونشاطها واعد إلى أبعد حدٍّ، وتلك السمعة هي سبب شجاعة الكثيرين في خوض المغامرة والرهان عليها. مرتبة الرسوم المتحرّكة اليوم لا تنزل عن مراتب أشدّ الأطعمة والمشروبات شهرة في العالم. لقد تحوّلتْ، هي أيضا، إلى وجبةٍ تُستَهلَك على مدار الساعة، واستوى مفعول سحرها في الناس مع سحر الموضة وما تفصّله دُورُ الحياكة الرفيعة ذات الصيت الخرافي.
وعلى غرار أصحاب المشاريع، فَقَد وجدتْ شريحة عريضة من أصحاب الـ"رسالات" والـ"مهمّات" ضالّتها في الرسوم المتحرّكة لأنّها أدركتْ المدى الواسع والعميق والسريع لإمكاناتها المتنوّعة التي تسهّل الطريق إلى الهدف وتختصر وقت الإنجاز.
إلاّ نحن.
-
فبالرغم من إيماننا الراسخ بأننا أحوج الناس إلى أيّ طوقِ نجاةٍ نتحسّس وجوده في محيط ضياعنا.
-
وبالرغم من أنّنا لا نعاني ممّا يقضّ مضاجع الذين نجحوا، قبل انطلاقهم، وهو الغِنى والموارد والشباب والمرافق والنخب في كلّ فنّ.
-
وبالرغم من كمال تراثنا الروحاني الجاهز، واتّساقه مع الفطرة البشرية بالنص أو التأويل.
-
وبالرغم من علمنا بقدسية رسالتنا وقدسية مصدر الأمر بتحمّلها وتحيينها وفق موازيين الشريعة بكلّ نافعٍ ومباح، ثم نقلها مجدّدة إلى الخلف.
-
إضافة إلى هذا كلّه، وعيُنا بخطورة هذه الوسيلة، وقوّة تفاعلها مع النشء، وسرعة استقطابها وتغلغلها وتأثيرها.
بالرغم من كلّ هذه الدوافع التي تحرّك صخور الجبال نفسها، فلقد بقي الأمر حبيس ديماغوجية السياسيين وجهلهم، وثرثرة معظم الدعاة، وفيهم الميسورون الذين بمستطاعهم الاستثمار الحر في التقنية، وحسرة أهل الإخلاص على الثروات المهدرة التي تُنفق على المُلهيات لقتل الوقت والفرص، بينما تبقى مخطّطات كثير من مشاريعهم الحيوية لحاضر الأمّة ومستقبلها معطّلة وترافقهم إلى قبورهم.
وأنْ تأتي متأخّرا خير من لا تأتي أبدا.
ونحن اليوم عند منعطفٍ تاريخيّ كبير، حيث دورة إعادة توزيع الخفض والرفع في مملكة الله، وحيث التقديم والتأخير حسب حركات التنصيب على رقعة تداول الأيّام الذي تقرّره الإرادة الإلهية، ننادي بإدراج هذه الوسيلة التربوية الفذّة ضمن الاستراتيجيات الاستشرافية لكلّ دولة في الوطن الإسلامي، وإيلائها الاهتمام اللازم الذي يجعلها من بين الأوْلويات بعيدة المدى وطويلة النفَس. لقد قاست الأمّة الأمَرّيْن، من جور الظالمين من الكفرة والفجرة، وكذلك ممّن خنع لهم من حكّامنا الذين كانت عروشهم أوْلى بالاهتمام من مصالح أمّتهم.
إنّ أفضل الفرص في الحياة هي التي تأتي وتُستَغَلُّ تحت غطاء غفلةٍ يولّدها تغيير غير عاديّ في الدنيا، وأعتقد أنّنا على بوّابة أحدها.
فهل سنغتنم الفرصة؟