بقلم :
محمود سلطاني
نحن ـ التجانيون ـ ممّن يقول بوجود البدعة الحسنة في الإسلام ، ولنا من نصوص الشرع ، ومن أفعال الصحابة أثناء حياة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، ما نقيم به حجّتنا الدّامغة ، وأدلّتنا القاطعة على وجودها .
المعارضون يحتجّون بالأحاديث الصحيحة الخاصة بالبدعة ، ومنها ما جاء في سنن النسائي رضي الله عنه عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَال :
«
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ يَقُولُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ ثُمَّ يَقُولُ بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ وَكَانَ إِذَا ذَكَرَ السَّاعَةَ احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ وَعَلَا صَوْتُهُ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ كَأَنَّهُ نَذِيرُ جَيْشٍ يَقُولُ صَبَّحَكُمْ مَسَّاكُمْ ثُمَّ قَالَ مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِأَهْلِهِ وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَيَّ أَوْ عَلَيَّ وَأَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ
»
ويقولون أنّ كلمة " كلّ " في الأحاديث تعني الشمول والإستغراق الكلّي ، وأنه لم يَرِدْ في أيّ نصّ من النصوص ما يفيد التقييد أو التخصيص ، وبذلك فإنّ البدع كلّها تندرج تحت الضّلالات ، ولا شيء منها حسن .
وهذا خطأ
لأنّنا لو أخذنا الحديث على ظاهره ، ووفقاً لقاعدة " كلّ " التي يرفعها المنكرون ، لأصبحت كلّ محدثة وصاحبها في النّار من غير استثناء ، سواء كانت في العادات أم في العبادات . إنّها مسألة منطقية رياضية سليمة : إذا كانت المحدثة بدعة ، وكانت البدعة ضلالة ، فضروري أن أن تكون كلّ محدثة ضلالة تسوق كلّ كائن بشري إلى جهنّم .
لا بدّ إذن من تأويل للحديث ينأى به عن تناقض الإطلاق ، ولا أنسب من تقييد نجده في حديث أخر صحيح .
ففي مسلم ، عن سيدتنا عائشة رضي الله عنها عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
«
من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ
»
لو قال صلى الله عليه وسلّم : " من أحدث في أمرنا فهو ردّ " لكان رافدا لكلام الحديث السابق ، ولكانت كلّ محدثة بدعة فعلا . أمّا وقد قيّد " الإحداث " و" ردّه " بـ " ما ليس من الدّين " ، في نشرٍ واضحٍ ، فإنّ طيّه اللاّزم منه ـ وهو لبّ ما ندعو إليه ـ يفيد : " ومن أحدث في أمرنا ما هو منه فهو ليس بِرَدٍّ " أو " فهو مقبول " ، ويتعيّن بذلك على كلّ مسلم أن يُخضِع كل المحدثات التي يعيشها أو يشاهدها إلى هذا المقياس العظيم الدقيق ليعلم إلى أيّ الصنفين تنتسب .
فإذا عدنا إلى الحديث الأوّل ، وعلى ضوء ما أثبتناه ، فإنّ تأويله يكون بالشكل التالي : " ...وكلّ محدثة [ ليست من أمرنا ] بدعة وكلّ بدعة [ من هذا القبيل ] ( وضروري أن تكون من ذاك القبيل لأنها من صنفه ) ضلالة ، وكلّ ضلالة في النار " .
لاحظ أخي القارئ ـ سلّمك الله ـ أنّ كلمة " كلّ " تكرّرت ثلاث مرّات ، احتاجت عند ارتباطها بـ" المحدثة " وبـ" البدعة " إلى تأويل ، ثمّ استغرقت المعنى المحدود المنوط بمُسْتَغْرَقِها بمقتضى التقييد ، أما عند ارتباطها بـ " الضلالة " فلا شكّ أن صفة الإطلاق ملازمة لها لسببين ، فمن جهة أنه ليس للضّلالات إلاّ وجه واحد ومآل مشترك مهما تعددت أصنافها في الظاهر ، ومن جهة أخرى فإنّ موصوفها الذي تمّ عزله بواسطة القيد أصبح في النهاية ضلالة محضة ، وجازت عنه صفة الإطلاق بعد استقلاله ، وإبراز طرازه ، وانتفاء الخوف من كلّ لبس فيه .
ولهذا الحديث أيضا طيّ ، وهو : " وكلّ محدثة [ ممّا هو من أمرنا ] بدعة ، وكلّ بدعة [ من هذا القبيل ] [ ليست بضلالة أو هي هدى ] [ وكلّ هدى في الجنّة ] .
وروى الترمذيّ رضي الله عنه ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ :
«
اعْلَمْ قَالَ مَا أَعْلَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ اعْلَمْ يَا بِلَالُ قَالَ مَا أَعْلَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إِنَّهُ مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي قَدْ أُمِيتَتْ بَعْدِي فَإِنَّ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةَ ضَلَالَةٍ لَا تُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِ النَّاسِ شَيْئًا . حَدِيثٌ حَسَنٌ
»
إنّ وصف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم البدعة بـ" الضلالة " وبكونها " لا ترضي الله عزّ وجلّ ورسوله عليه الصلاة والسلام " لدليل على أنّ " البدعة " لا تحمل معنى ذاتي يُكْسِبُها مفهوما ثابتا لا حاجة للمزيد من الأوصاف والإيضاح لتحديده . إنّها من أصناف الكلام الذي يأخذ كنهه من ملابسات سياق استعماله ، ومن طبيعة الموضوع الذي تحمله في جوف تركيبتها . فلن تجد مثلا واحدا يقول لك : " من كذب كذبة ، أو سرق سرقة ، أو زنى زنية منكرة ، لا ترضي الله ورسوله ...." ، لأنّ معنى الكذب والسّرقة والزّنى ذاتيّ ، أُقيمت رسومه وهيئته اللغوية للدلالة عليه ، وكلّ وصف خارجيّ ابتغاء إضافة مّا هو من تحصيل الحاصل .
هو إذن وصف يشير بأنّ من البدع ما هو ليس بضلالة ، وما يرضي الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم .
بعد هذا التحليل النظري لأحاديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، ننتقل إلى سرد نماذج ممّا يعتبره المنكرون بدعا ، ويتّخذونها قاعدة لانطلاق إنكارهم ، مرفوقة بأمثلة من أعمال وسلوك الصحابة وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بين ظهرانيهم ، تدحض بها ادّعاءاتهم ، وتقدّم الدّليل على شرعية العمل المنتَقَد .
إعتبار من وضع لنفسه صيغة خاصة من الأعمال يمارسها بهيئة معيّنة كاختراع أوراد من الذّكر ، أو التنفّل بصلوات وصيام في أوقات يختارها بإرادته ، ويواظب عليها ، بدعة ضلالة تنافي المأثور من الأذكار والأدعية والسنن .
وإنّك لتتساءل ما شاء الله لك من وقت علّك تجد ما يتعارض من ذلك مع الشرع والعقل فلا تخرج بطائل . ما الضّرر الواقع على الدّين ، ومقوّمات إعمار الدنيا ، أن أخصّ نفسي بباقة أعمال أنسّقها على ذوقي ، وعلى خلاف الجميع ، من زهور الخير المتفتّحة بداخل سياج الشرع ؟ وقد فعل الصحابة رضي الله عنهم ، ونفعنا بهم أجمعين ذلك حين كان سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيّاً والقرآن ينزل .
روى الحاكم في مستدركه ـ باب الصلاة ـ عن أنس رضي الله عنه :
«
أن رجلا كان يؤمهم بقباء فكان إذا أراد أن يفتتح سورة يقرأ بها قرأ قل هو الله أحد ثم يقرأ بالسورة يفعل ذلك في صلاته كلها فقال له أصحابه أما تدع هذه السورة أو تقرأ بقل هو الله أحد فتتركها فقال لهم ما أنا بتاركها إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت وإلا فلا وكان من أفضلهم وكانوا يكرهون أن يؤمهم غيره فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا فلان ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك وما يحملك على لزوم هذه السورة فقال أحبها يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حبها أدخلك الجنة . هذا حديث صحيح
»
وروى الإمام أحمد رضي الله عنه ، عن ابْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ :
«
دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا فَقَالَ يَا بِلَالُ بِمَ سَبَقْتَنِي إِلَى الْجَنَّةِ إِنِّي دَخَلْتُ الْجَنَّةَ الْبَارِحَةَ فَسَمِعْتُ خَشْخَشَتَكَ أَمَامِي فَأَتَيْتُ عَلَى قَصْرٍ مِنْ ذَهَبٍ مُرَبَّعٍ فَقُلْتُ لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ قَالُوا لِرَجُلٍ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ قُلْتُ فَأَنَا مُحَمَّدٌ لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ قَالُو لِرَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ قُلْتُ أَنَا عَرَبِيٌّ لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ قَالُوا لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ قُلْتُ فَأَنَا قُرَشِيٌّ لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ قَالُوا لَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ بِلَالٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَذَّنْتُ قَطُّ إِلَّا صَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ وَمَا أَصَابَنِي حَدَثٌ قَطُّ إِلَّا تَوَضَّأْتُ عِنْدَهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا .
»
لقد رتّب كل صحابيّ لنفسه عملا ولازمه فكان سبب سعادته . وهذا العمل ابتدعه هذا وذاك ، والدليل على ابتداعه عدم علم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم به حتّى استفسر من أصحابه بعد أن أطلعه الله عمّا قابله من جزاء ، وأيّ جزاء !! هو إذن ليس من الأعمال التي سنّها حتّى تلك الساعة ، ممّا عُلِمَ أجره .
يقول لنا المعترض : نسلّم معك بأنّ المبادرة كانت من الصحابيّ في كلّ مرّة ، لكن الأهمّ فيها هو إقراره صلّى الله عليه وسلّم على ذلك ، والإقرار قسم من أقسام السنّة الصحيحة .
صحيح ، لكن ليس هذا منتهى ما نرمي إليه . إنّ هدفنا كامن في ما قبل الإقرار . لقد كان في وسع كلّ منهما رضي الله عنهما استشارة النبيّ عليه الصلاة والسلام قبل الإقدام على فعل ذلك ، خاصة وأنّ سيدنا بلالا رضي الله عنه كان ملازما له طول الوقت تقريبا ، وأنه حتما لم يشاهد مثل فعله منه وإلاّ ما كان سأله عن سبب سبقه إيّاه إلى الجنة ، وأنّ مدّة فعله طالت - استنتاجا من متن الحديث - ولم يَرِد على ذهنه أن يستفتيه .
تركيزنا ليس على كون العمل له أصل في الشرع كقراءة القرآن ، والصلاة ، وغيرها ، لكن على الكيفيات المخترعة ، والمحدثة في التنفّل ، والتطوّع ممّا لا يتعارض مع الدّين حتّى ولو كان على وجه غير معلوم ، وقبول الشارع لها ولطريقة إيجادها . إنه دليل على أنّ السّائد آنذاك من الفهم والنظر لا يجعل من مثل تلك التصرّفات إشكالا أصلا ، وهذا لا يتأتّى إلاّ بشيوع جوّ عدم النهي منه صلّى الله عليه وسلّم إلى درجة المألوف الشائع .
إعتبار المنكرين كثيرا من وجوه التبرّك بدعة مردودة ، ولا سند لها من الدين .
لكننا نجد في السنّة الصحيحة ما يدلّ على أنّ بعض الصحابة رضي الله عنهم قد ابتدع طريقة خاصة للتبرّك بحضور سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمدا على رأيه الخاص ، ورؤيته الشخصية في اغتنام فرص الخير ، ونفحات الله ، ومن غير أن يستشيره ابتداء .
ففي سنن أبي داود - كتاب الأدب - عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ :
«
زَارَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنْزِلِنَا فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَرَدَّ سَعْدٌ رَدًّا خَفِيًّا قَالَ قَيْسٌ فَقُلْتُ أَلَا تَأْذَنُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ذَرْهُ يُكْثِرُ عَلَيْنَا مِنَ السَّلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَرَدَّ سَعْدُ رَدًّا خَفِيًّا ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّبَعَهُ سَعْدٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أَسْمَعُ تَسْلِيمَكَ وَأَرُدُّ عَلَيْكَ رَدًّا خَفِيًّا لِتُكْثِرَ عَلَيْنَا مِنَ السَّلَامِ قَالَ فَانْصَرَفَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ لَهُ سَعْدٌ بِغُسْلٍ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ نَاوَلَهُ مِلْحَفَةً مَصْبُوغَةً بِزَعْفَرَانٍ أَوْ وَرْسٍ فَاشْتَمَلَ بِهَا ثُمَّ رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتِكَ وَرَحْمَتَكَ عَلَى آلِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ ثُمَّ أَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الطَّعَامِ فَلَمَّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ قَرَّبَ لَهُ سَعْدٌ حِمَارًا قَدْ وَطَّأَ عَلَيْهِ بِقَطِيفَةٍ فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَعْدٌ يَا قَيْسُ اصْحَبْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَيْسٌ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْكَبْ فَأَبَيْتُ ثُمَّ قَالَ إِمَّا أَنْ تَرْكَبَ وَإِمَّا أَنْ تَنْصَرِفَ قَالَ فَانْصَرَفْتُ
»
نحن أمام اجتهاد معارض ـ ظاهرا ـ لنصّ صريح من القرآن حتّى ولو كان ردّ السلام على مسلم عاديّ ، فما بالك إذا كان الزائر سيّد الوجود صلى الله عليه وسلّم . ما الذي دفع سيدنا سعد بن عبادة رضي الله عنه ونفعنا به إلى مثل هذا التصرّف الذي يصيبك بالذوبان وأنت فقط تقرؤه ؟ سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستأذن ثلاث مرّات على صاحبه ولا يسمع عبارة إذْنٍ حتى يهمّ بالرجوع ، كلّ ذلك من أجل أن يكثر من السّلام تبرّكا وتيمّنا وهو الذي علم ما أمر الله به في كتابه من وجوب ردّ السلام ، ووجوب الإستجابة والطّاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم . ولا يوجد في نصوص الدّين ما يرغّب في تأخير السلام أو إخفاؤه من أجل التبرّك ، بل لا يوجد سوى الأمر بالردّ الفوري الملزِم . إنّ في المسألة من الغموض والمحاذير ما يكفي لتردّد سيدنا سعد من فعلها حتّى يستشير رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيها ، لكنه فعلها من غير أن يرجع إليه ، وبثقة منقطعة النظير ، وهو من هو في درجة الصّحبة ، والتّقى ، والعلم ، والفهم لمحكم التنزيل . نحن أمام بدعة يفعلها مَنْ شأنُه مَا ذكرنا ، فلا يمكن أن تكون إلاّ بدعة حسنة .
وأكثر من ذلك !
أن سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يغضب ، ولم يمتعض ، ولم ينهه عن فعلته رضي الله عنه بعد أن أخبره بالسّبب ، بل دعا له ولآله بالخير ، وأكل من طعامه ، وقَبِلَ راحلته وكلّه بشر وسعادة يلمسها كلّ من فتح الله قلبه وبصيرته بمجرّد قراءة الحديث . فهل كان سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سيسكتُ على منكر لو تعلّق الأمر بمنكر ؟
إعتبار المنكرين ما يفعله الكثير من المسلمين اليوم من إضافات حسنة ، كتحريض المسلمين وتنبيهم إلى التأهّب للصلاة يوم الجمعة ، والآذان ثلاث مرّات متتالية قبل الخطبة ، والتسبيح بعد آذان الفجر ، وتشييع الميّت بترديد الشهادتين جهرا وجماعة ، وكالذكر وتلاوة القرآن جهرا وجماعة ، وغير ذلك من المحدثات التي استوجبت الظروف إيجادها ، ولا تعارض في فعلها مع نصوص الدّين ، إعتبارها بدعة سيّئة .
وهذا مردود .
روى الإمام أحمد رضي الله عنه في مسند الأنصار ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه :
«
أَنَّ الصَّلَاةَ أُحِيلَتْ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ فَذَكَرَ أَحْوَالَهَا فَقَطْ حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ وَيَزِيدُ ابْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا الْمَسْعُودِيُّ قَالَ أَبُو النَّضْرِ فِي حَدِيثِهِ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ أُحِيلَتِ الصَّلَاةُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ وَأُحِيلَ الصِّيَامُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ فَأَمَّا أَحْوَالُ الصَّلَاةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَهُوَ يُصَلِّي سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ
قَالَ فَوَجَّهَهُ اللَّهُ إِلَى مَكَّةَ قَالَ فَهَذَا حَوْلٌ قَالَ وَكَانُوا يَجْتَمِعُونَ لِلصَّلَاةِ وَيُؤْذِنُ بِهَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى نَقَسُوا أَوْ كَادُوا يَنْقُسُونَ قَالَ ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ وَلَوْ قُلْتُ إِنِّي لَمْ أَكُنْ نَائِمًا لَصَدَقْتُ إِنِّي بَيْنَا أَنَا بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ إِذْ رَأَيْتُ شَخْصًا عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَخْضَرَانِ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَثْنَى مَثْنَى حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْأَذَانِ ثُمَّ أَمْهَلَ سَاعَةً قَالَ ثُمَّ قَالَ مِثْلَ الَّذِي قَالَ غَيْرَ أَنَّهُ يَزِيدُ فِي ذَلِكَ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِّمْهَا بِلَالًا فَلْيُؤَذِّنْ بِهَا فَكَانَ بِلَالٌ أَوَّلَ مَنْ أَذَّنَ بِهَا قَالَ وَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ قَدْ طَافَ بِي مِثْلُ الَّذِي أَطَافَ بِهِ غَيْرَ أَنَّهُ سَبَقَنِي فَهَذَانِ حَوْلَانِ قَالَ وَكَانُوا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ وَقَدْ سَبَقَهُمْ بِبَعْضِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَكَانَ الرَّجُلُ يُشِيرُ إِلَى الرَّجُلِ إِنْ جَاءَ كَمْ صَلَّى فَيَقُولُ وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ فَيُصَلِّيهَا ثُمَّ يَدْخُلُ مَعَ الْقَوْمِ فِي صَلَاتِهِمْ قَالَ فَجَاءَ مُعَاذٌ فَقَالَ
لَا أَجِدُهُ عَلَى حَالٍ أَبَدًا إِلَّا كُنْتُ عَلَيْهَا ثُمَّ قَضَيْتُ مَا سَبَقَنِي قَالَ فَجَاءَ وَقَدْ سَبَقَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِهَا قَالَ فَثَبَتَ مَعَهُ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ قَامَ فَقَضَى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِنَّهُ قَدْ سَنَّ لَكُمْ مُعَاذٌ فَهَكَذَا فَاصْنَعُوا
فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ
»
وقد روى الحديث الإمام أبو داود في كتاب الصلاة ، وقال في نهايته :
«
فَقَالَ إِنَّ مُعَاذًاس قَدْ سَنَّ لَكُمْ سُنَّةً كَذَلِكَ فَافْعَلُوا
»
أوّل سؤال يطرح نفسه هو : ما الذي دفع سيدنا معاذ رضي الله عنه إلى التفكير في استبدال ما كان سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفعله ، ومواظبا عليه ؟ طبعا ليس عدم الرّضى ، فماذا يكون ؟ الجواب في قوله : «
َلا أَجِدُهُ عَلَى حَالٍ أَبَدًا إِلَّا كُنْتُ عَلَيْهَا ثُمَّ قَضَيْتُ مَا سَبَقَنِي » أيّ أنّه نفّذ اجتهادا شخصيّا بدافع من العقل الصّائب ، والعقيدة التي أبَتْ عليه مخالفة إمامه الأعظم عليه الصّلاة والسّلام تأدّبا وتأسّيا . وما كان سيدنا معاذ رضي الله عنه ليفعل ذلك لو كان المعلوم عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم النهي المتشدد عن إحداث أيّ جديد حتّى يستشار ويخبر به .
والسؤال الثاني هو : لماذا لم ينتظر سيدنا معاذ نهاية الصلاة ويطرح فكرته على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ، وقد علمنا أن الأمر لم يكن مستعجلا ؟
لكن نبع الراحة والطمأنينة تفجّر من ردّ فعله صلّى الله عليه وسلّم على ما رآه ، وهو ردّ لم يتّسم فقط بالإقرار ، بل أمر الناس بترك ما كانوا عليه واتّباع الفكرة المعروضة ، وطبعها بطابع السنّة ، وأعلن بما لا لبس فيه أنّ السنن قد يضعها غيره . ولنا عودة إلى هذه النقطة بإذن الله
إنّ ما فعله سيدنا معاذ رضي الله عنه إشارة جليّة إلى أنّ الإجتهاد ليس فحسب البحث عن موقع المسائل المعترضة في دائرة ضوء مصادر التشريع ، بل يتعدّاه إلى وضع محدثات ، لا تتعارض مع النقل والعقل ، تفرضها ظروف عصر أو فئة من الأمّة ، وتكون حلولا لما لا مخرج من معضلاته بسواها .
إن مثل سيدنا معاذ في كل وقت ، السادة العلماء الثقاة ، العدول ، الصّادقون ، ومثل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في كل حين ، كتاب الله وسنتّه الصّحيحة ، ومثل التصرّف والظرف المذكور في الحديث الشريف في كلّ زمن ، إفرازات الواقع السّائد .
وقد سُمِّيَتْ هذه المحدثات مصالح مرسلة ، لكنّ تلك التّسمية لا يمكن أن تُجرِّدها من صفتها الرّئيسية وهي الإحداث ، والإبتداع والجِدّة ، ولا أنسب من تسمية الأمور بما يميّزها .
نعمت البدعة
مقولة مشهورة صدرت عن أمير المؤمنين ، الفاروق سيّدنا عمر بن الخطّاب رضي الله عنه ، ونفعنا به ، حين رأى اجتماع المسلمين في صلاة القيام على إمام واحد .
قال المنكرون للبدعة الحسنة إنّ الإجتماع على إمام واحد سنّة فعلها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قبل ، وبذلك فعمر كان يعني البدعة اللغوية حين قال " نعمت البدعة " .
ونقول :
أوّلا : لا يوجد دليل واحد على أنّ سيّدنا عمر رضي الله عنه كان يقصد البدعة اللغوية ، وكلّ ما قيل هو آراء ليس لها من اليقين نصيب ، ولا تخصّ سوى أصحابها .
ثانيا : كلّ القرائن تدلّ على أنّ القصد كان البدعة الحسنة بمعناها الإصطلاحي ، وأنّ سيدنا عمر رضي الله عنه لم يعتمد في جمع المسلمين على قارئ واحد على تلك الحادثة التي حدثت في حياة سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم .
ولنبدأ بعرض الحديث الشريف .
ففي صحيح البخاري رضي الله عنه ، عن عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا أَخْبَرَتْهُ
«
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ لَيْلَةً مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ وَصَلَّى رِجَالٌ بِصَلَاتِهِ فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا فَاجْتَمَعَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فَصَلَّى فَصَلَّوْا مَعَهُ فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا فَكَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى فَصَلَّوْا بِصَلَاتِهِ فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عَجَزَ الْمَسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ حَتَّى خَرَجَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ فَلَمَّا قَضَى الْفَجْرَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ مَكَانُكُمْ وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْتَرَضَ عَلَيْكُمْ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ
»
فنرى جليّا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يُصَلِّ بالناس ، بل إنّ النّاس هم الذين صلّوا بصلاته ، ولم يجمعْهم ولكن هم الذين اجتمعوا بمبادرة منهم ، والفرق واضح بين الحالتين . وإذا كان صلّى الله عليه وسلّم لم يمنعهم من الصّلاة فذلك لأنه اعتبره أمر عارض منفرد ، ولم يكن ليمنع أحدا من الصلاة خلفه مهما كانت الظروف . فقد ثبت أنّ الصّحابة صلّوا بصلاته في غير تلك الحادثة .
روى الإمام أحمد رضي الله عنه ، عن عَنْ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ
«
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي بَيْتِهِ سُبْحَةَ الضُّحَى فَقَامُوا وَرَاءَهُ فَصَلَّوْا بِصَلَاتِهِ
»
فهل يعني ذلك أنّ صلاة الضحى جماعة أصبحت سنّة بمجرّد أن سكت سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ما فعله جلساؤه رضي الله عنهم ؟
ممّا لا شكّ فيه أنّ انعقاد عزمه على إنهاء المبادرة قد وقع عند خروجه في الليلة الثالثة عندما ازداد عدد الحاضرين بالمسجد إلاّ أنّه لم يرجع لاعتبارات كمال أخلاقه صلّى الله عليه وسلّم التي منعته من العودة بعد ظهوره أمام أصحابه لما في ذلك من عظيم الألم عليهم ، وهو ما عبّر عنه عند خروجه لصلاة الصّبح في اليوم التالي بقوله : «
فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ مَكَانُكُمْ » . كلام هو مزيج من الحسرة والإعتذار .
لقد كان التصرّف أحادي الجانب ، غير مُلْفِتٍ للنظر ، وكان هذا الجانب هو المُشَرَّع له ، ثمّ أخذ منحنى نوعيّا تصاعديّا خطيرا تمثّل في إمكانية فرضه مع عدم الطّاقة . هنا أوقف المصطفى الكريم الرّحيم صلّى الله عليه وسلّم " المشروع " برمّته ، وأصبح كلّ ما تعلّق به من قبل ملغيّا .
كان السّائد في أذهان أجيال الصّحابة رضي الله عنهم آنذاك هو انغلاق ذلك الباب ليس فحسب من أجل ما كان سيترتّب على فتحه أثناء حياته صلّى الله عليه وسلّم ، بل وكأنّه لم يقع أساسا . تركوه ولم يعد أحد يفكّر فيه ، ومضوا إلى ممارسة قيامهم كما كانوا من قبل .
ودليلنا على أنّهم اعتبروه أمرا منتهيّا ما سنورده إن شاء الله :
1 - روى الإمام أحمد رضي الله عنه ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ :
«
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَغِّبُ النَّاسَ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ وَيَقُولُ مَنْ قَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ النَّاسَ عَلَى الْقِيَامِ »
من غير شكّ أنّ سيدنا أبا هريرة رضي الله عنه كان عالما بما وقع في تلك الليالي ، ولكنّه لم يعتبرها اجتماعا على إمام واحد بالرغم من أنّ هيئتها كذلك ، وهو دليل على نسيانها وإسقاطها .
2 - عدم قيام الخليفة الأوّل سيدنا أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه بها .
يقول المنكرون أنّ سبب ذلك هو انشغال الصدّيق بحروب الردّة . وهو رأي فيه قصور معيب لقائله ، لأنّ أمر صلاة القيام ليس بالضخامة والتعقيد حتّى يجد الخليفة المبجّل نفسه أمام اختيارين لا قدرة له إلاّ على معالجة واحد منهما فقط . مَن يسمع هؤلاء يتعلّلون بالحرب يظنّ أن رحاها كانت تدور دائما على تخوم المدينة المنوّرة ، وأنّ إدارتها لا تترك للخليفة ولو لحظة للتفكير في غيرها .
نعم لقد كان الأمر خطيرا ، والضرر المحدق بالإسلام كان عظيما ، لكن كلّ ذي عقل راجح يعلم أنّ إنجاز المهمّات ، مهما كانت ثقيلة ، لا يعني بالضرورة ابتلاعها وقت وأهميّة غيرها ممّا هو دونها . فللْكيف دور يربو على دور الكمّ ، وفي التخطيط ، وفي حسن توزيع المسؤوليات ، وفي تضافر الجهود ، مندوحة عن كثير من الوقت .
ويخبرنا التاريخ أنّ سيّدنا عمر رضي الله عنه نفّذ هذه المهمّة في غضون أربع وعشرين ساعة على الأكثر ، فلماذا محاولة طمس الحق أيها المنكرون ؟ غفر الله لنا ولكم . ألم يكن أمير المؤمنين سيدنا عمر رضي الله عنه أيضا منشغلا بفتح الدنيا وعلى جبهات عديدة ؟
ثمّ أنّ مع سيدنا أبي بكر رضي الله عنه كان الصّحابة رضي الله عنهم ، ومن بينهم سيدنا عمر ، فلو سلّمنا أن أمير المؤمنين قد غرق حقّا في بحار انشغاله بجيوشه ومشاريعه إلى الدرجة التي استحال معها التفكير في غيرها ، أفَلَمْ يكن هؤلاء من حوله قادرين على تنبيهه إلى ما عزب عنه من أمور المسلمين الكثيرة ومن بينها صلاة القيام ؟ لم يفعلوا لأنّ أحدا لم يكن يفكّر في ذلك إطلاقا .
والحقيقة أنّ سيّدنا أبي بكر رضي الله عنه له سببه الخاص ، وهو عزمه على الإحتفاظ بالأمور على الهيئة التي تركها سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وتشدّد في ذلك حتّى أصبحت صفة من صفاته التاريخية التي تميّزه ويُعرف بها . ولقد صرّح بمنهجه المذكور مرارا ، وهو القائل مثلا : " لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعمل به إلاّ عملت به ، إنّي أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ " . وخاض حروب الرّدة بهذا العزم ، ووصل به الأمر إلى تعنيف سيّدنا عمر رضي الله عنه حين عارضه قائلا : " يا ابن الخطّاب أجبّار في الجاهلية ، خوّار في الإسلام . والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدّونها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم لجاهدتهم عليها " .
لكن هذا لا يعني أنّ تلك الصّفة كانت تعكس انغلاقا عقليّا أمام الجديد الذي يخدم الإسلام ولو لم يفعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم . فقد روى البخاري ، في كتاب فضائل القرآن ، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال :
«
أرسل إلي أبو بكر ، مقتل أهل اليمامة ، فإذا عمر بن الخطاب عنده ، قال أبو بكر رضي الله عنه : إن عمر أتاني فقال : إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن ، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن ، فيذهب كثير من القرآن ، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن . قلت لعمر : كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال عمر : هذا والله خير ، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر . قال زيد : قال أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك ، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتتبع القرآن فاجمعه . فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن . قلت : كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله ؟ قال : هو والله خير ، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال ، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري ، لم أجدها مع أحد غيره :
لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم
.حتى خاتمة براءة ، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ، ثم عند عمر حياته ، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنه.
»
نقرأ في هذا الحديث العظيم عدّة حقائق :
أوّلا - تردّد سيدنا أبي بكر رضي الله عنه في قبول المبادرة المعروضة ، وهي ردّة فعل طبيعية منه رضي الله عنه لأنّ خوفه من مخالفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان شديدا ، ثمّ اقتنع بصلاحها في الأخير مصداقا لما ذكرنا . لقد قَبِلَ سيدنا أبي بكر رضي الله عنه أن يفعل بدعة لمّا شرح الله صدره لخيرها .
ثانيا - أنّ ترديد عبارة " كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ " كان شائعا .
ثالثا - ليس لتلك العبارة المرهوبة مرادف سوى البدعة ، فإذا وُصِفَ بها تصرّف مّا بين جموع الصّحابة الكرام رضي الله عنهم ثمّ انعقد إجماعهم على فعله بالرّغم من صفته التي وصفوه بها في البداية ، فهذا هو الدّليل القاطع على أنّهم اعترفوا بوجود البدعة الحسنة .
يسألنا المنكر علينا : فلماذا لم يفكّروا إذن في تأدية صلاة التراويح وراء إمام واحد ما داموا قد عرفوا البدعة الحسنة ؟ . والجواب من جهتين : الأولى أنّ الصّحابة - في حال فكّروا فيه - لم يروا فيه خيرا في تلك الفترة ، بل لم يكونوا يرون فيه سوى مخالفة لما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالإنتهاء منه تصريحا . والثانية أنّ الإذن الإلهي في شرح الصّدور اللاّزم لرؤية الخير في الأعمال لم يقع ، والدّليل هو أنّ سيدنا عمر الذي أرساه بعد سنوات لم يُشِرْ إليه ولو تلميحا في ذلك الوقت .
هذا في ما يتعلّق بعهد الصدّيق رضوان الله عليه .
وجاء عهد الفاروق رضي الله عنه ، فعلى ماذا اعتمد كي يجمع الناس على قارئ واحد ؟ .
لقد اعتمد على الرّأي الفردي المستقل القائم على القياس على صلاة الجماعة ، والعيدين ، وصلاة الجنازة ، وصلاة الإستسقاء . إنّها فكرته هو ، أو بعبارة أخرى بدعته الحسنة كما سمّاها .
فقد روى البخاري رضي الله عنه ، عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال :
«
خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد ، فإذا الناس أوزاع متفرقون ، يصلّي الرجل لنفسه، ويصلّي الرجل فيصلي بصلاته الرهط ، فقال عمر : إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب ، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم ، قال عمر : نعم البدعة هذه ، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون ، يريد آخر الليل ، وكان الناس يقومون أوله .
»
لنحلّل الحادثة بهدوء ، ونستلهمها لإبراز ملابساتها ، ونستخرج الحالة النفسية ، الفردية والجماعية ، باستقراء المفردات المعبّر بها ومعانيها .
1 - إنّ الدّافع الرّئيسي للتغيير هو تشرذم المصلّين ، والجلبة الواقعة بالمسجد من كثرة القرّاء في آن واحد . وهو دافع ذوقي انضباطي نظامي ، منبثق أساسا من آداب مراعاة حرمة المسجد .
2 - يقول المنكرون : حاشا أن يكون عمر رضي الله عنه يقصد البدعة الإصطلاحية في قوله " نعمت البدعة " وهو التقيّ الصّارم الذي سمع قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : " كلّ بدعة ضلالة " ، ويعلم أنّ " كلّ " تفيد الشمول .
ونقول : إنّ التقوى والصّرامة والدّقة المشار إليها في سيدنا عمر رضي الله عنه عليكم لا لكم .
لو كانت كلّ بدعة ضلالة على الإطلاق ، وكان قصد أمير المؤمنين بها هو البدعة اللغوية من غير أن يفصح عن ذلك ، لكان قد استعمل عبارة خطيرة محفوفة بالضبابية تدخل الرّيب في القلوب ، وتتسبب في فتنة لا حدّ لها ، إن لم يكن بين الصّحابة فلباقي الأمّة . لكن حاشا أن يتأتّى هذا من رجل مثله ، وهو الموصوف بالدّقة في ما هو أقلّ من هذا أضعافا مضاعفة إلى درجة أنّه أصبح مثلا في هذا الميدان ، بل شدّد على نفسه إلى مستويات لا يطيقها إلاّ القليلون . فهو الذي امتنع عن أكل سوى الخبز والزّيت عام الرّمادة ، وهو الخائف من عقاب الله تعالى على عثرات البغال في أقاصي البلاد الإسلامية السالكة لطرق لم يذلّلها ، وهو الذي لم يشأ أبدا أن يحول بينه وبين المسلمين ماء لأنه أحسّ أن بعده عنهم يكون أشدّ ، وهو الذي لم يُصلِّ داخل الكنيسة في بيت المقدس ، وصلّى خارجها حتى لا يعتبرها المسلمون بعده من أملاكهم . ولا أبالغ إنْ قلتُ أنّ كلّ حياته صالحة كي تكون مثالا ملائما للإستشهاد على دقّته وجدّه وعظمته .
هذا الجهبذ الذي يفكّر في المسلمين منذ وقته إلى قيام السّاعة في أمور قد تقع وقد لا تقع ، ولم يشأ أن يرحل تاركا وراءه ثمرات مسؤولياته يكتنفها الضباب ، والإبهام ، والشكّ ، والإحتمال ، يأتي ويدثّر تصرّفاته بتصريحات هي الغموض وشقاء الأمة نفسه ؟ لو كانت فعلا تدلّ على غير ظاهرها لكان أسرع إلى الإشارة إلى مقصوده منها ، لأنّ المعهود عنه هو حبّ الوضوح والتحديد ، هذا الوضوح كان - حتما وبلا تردد نقولها - سيأبى عليه استعمال كلمة " البدعة " أصلا سدّا لكلّ التباس .
لو كان جمْعُه الناس على قارئ واحد إحياء لِمَا وقع في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لكان أشار إليه من قريب أو من بعيد ، كأن يقول : " هكذا فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم " ، أو " هكذا أحسن " ، أو أيّ عبارة بينها وبين النطق بكلمة " بدعة " بعد المشرق عن المغرب .
3 - لو كان الأمر كما وصفه المنكرون بأنّه سنّة ، فإنّ استعمال كلمة " بدعة " ، لغوية كانت أم اصطلاحية ، يكون خروجا عن سياق ومنطق الموضوع لأنّه لا يوجد ما يستدعيها ، بل إنها ستكون هذيانا ممجوجا يتنزّه عنه أقلّ النّاس علما باللغة بله سيدنا عمر رضي الله عنه . لكن حينما نرصد الحادثة من زاويتنا - وبكلّ موضوعية - نحسّ أنّ خلفية مّا ، ذات صلة وطيدة بالموضوع ، وراء ذكر كلمة البدعة . إنّنا نلمس نوعا من الإسراع في التصريح في هيئة جواب على سؤال لم يُسْأل ، و قد يُسأل . هذا السؤال كان شائعا كما تبيّن لنا سابقا ، وهو : " كيف تفعل ما لم يفعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ؟ " .
وقد ورد في كتب السيرة ما يدلّ على ما ذهبنا إليه من رأي ، وهو اعتبار الإجتماع لصلاة القيام بدعة . فقد قال سيدنا أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه :
«
أحدثتم قيام شهر رمضان ولم يكتب عليكم ، إنما كتب عليكم الصيام ، فدوموا على القيام إذ فعلتموه ولا تتركوه ، فإن أناسا من بني إسرائيل ابتدعوا بدعا لم يكتبها الله عليهم ابتغوا بها رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فعاتبهم الله بتركها فقال :
وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا
»
إذَنْ فالصّحابة اعتبروها من المحدثات وليست من السنة ، لكنهم قبلوها لأنها محدثة حسنة
. والملفت للإنتباه أنهم كانوا لا يفرّقون بين مفهوم المحدثة والبدعة . فسيدنا أبي أمامة رضي الله عنه وصف الأمر أوّلا بكلمة " أحدثتم " مشجّعا الصّحابة على المداومة على ما أحدثوا ، ثمّ انتقل إلى كلمة " البدعة " عندما قارن عملهم بعمل بني إسرائيل الذين تعرّضوا للّوم من أجل عدم رعاية ما ابتدعوه لا من أجل الإبتداع نفسه ، وما كان سيدنا رضي الله عنه ليقارن بين عملين إلاّ إذا كانا من نفس الجنس والطبيعة .
ولنعد إلى منظومة أحاديث " من سنّ سنّة إلخ ... .
المنكرون للبدعة الحسنة لا يصرّون على كون مفهوم سنّ السنّة الحسنة المذكورة في الأحاديث النبوية مخالف لمفهوم البدعة الحسنة فحسب ، بل ويؤوّلون " السنّ " بإحياء السنن المتروكة ، وهو قصور فادح أوقعهم في مصيدتَيْ خطأين اثنين أفدح .
وفي سنن ابن ماجة عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ :
«
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَمِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا
»
إن الدليل المنطقي الرياضي يرفض أن تكون السنة المعنية في الحديث هي سنّة المصطفى عليه الصلاة والسلام والدليل على ذلك ورود صفة " حسنة " ملازمة لها ، وهذا لا يتأتّى إلاّ لمن يحتمل كلامه الخطأ والصواب ، أما هو صلّى الله عليه وسلم فحاشا أن تحتاج سنّته إلى مثل هذا الوصف المصنِّف والمنمِّط لمسمّيات ليس لها من المعاني الذاتية ما يغنيها عن الإضافات المميِّزة . يكفي أن يقال " سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليُفهم معها تلقائيّا أنها حسنة ، بل إنّ ما ذهب إليه المنكرون من تفسير هو سوء الأدب بعينه ، لأن اعتبار تلك السنّة " الحسنة " هي سنّة النبيّ يوحي لنا أن للنبيّ سننا سيّئة ، نستغفر الله ونعوذ به من قول ذلك أو التفكير فيه . والمعنى الحقيقي للحديث الشريف هو ابتداع عمل لا يتعارض مع نصوص الدين ومقاصده بمبادرة من الخيّريين في الأمة ، ثم يتبنّاه النلس ، ويستمرّ العمل به بعده لِما فيه من منفعة .
قال المنكرون : إن السبب الذي جعلنا نقول أن معنى " سنُّ السنّةِ " هو نفسه معنى إحياؤها ، ما ورد في أحاديث أخرى تنصّ صراحة على عظيم أجر من أحيا سنّة من سننه عليه الصلاة والسلام .
وهذا هو الخطأ الثاني في المصيدة
ويا عجبي من قوم يؤوّلون عندما تكون حقائق الأمور متباينة ، ويتركونه عندما يكون ضرورة تفرضها تناقضات ظاهر النصوص !
سوف نضع الحديثين جنبا إلى جنب ، وندعو كل من يحترم عقله إلى مقارنة النصّين ثم ليحكم :
الحديث الأوّل :
«
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَمِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا
»
الحديث الثاني :
«
اعْلَمْ قَالَ مَا أَعْلَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ اعْلَمْ يَا بِلَالُ قَالَ مَا أَعْلَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إِنَّهُ مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي قَدْ أُمِيتَتْ بَعْدِي فَإِنَّ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةَ ضَلَالَةٍ لَا تُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِ النَّاسِ شَيْئًا . حَدِيثٌ حَسَنٌ
»
إنّ كل من لديه ذوق لأساليب البيان العربي بصفة خاصة ، ومعرفة بأصول روح هذا الجانب من وسائل الإتصال ، والمتمثّل في اللسانيات وأدواتها وأهدافها بصفة عامة ، يدرك دونما عناء أن المعنى المراد في الحديث الأول مختلف عنه في الحديث الثاني ولو اشتركا في بعض العبارات .
فأول سمة للسنّة في الحديث الأول هي التنكير ، وفي الثاني عرّفها بنسبتها إليه صلى الله عليه وسلم ، ودعّمها بنعتٍ إضافي يرسخ تلك النسبة في حال لم ينتبه القارئ للحديث إليها عند ذكرها الأوّلي . فلم يكتف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : «
سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي » بل أردفها بعبارة : «
قَدْ أُمِيتَتْ بَعْدِي » ، وهو ما يقيم الفرق اللغوي الكلّي ، الماحي لكلّ احتمال للإلتباس وتداخل المعاني .
وقد مرّ بك أخي القارئ قوله عليه الصلاة والسلام عندما رأى ما فعله سيدنا معاذ رضي الله عنه :
«
إِنَّهُ قَدْ سَنَّ لَكُمْ مُعَاذٌ فَهَكَذَا فَاصْنَعُوا
» . فلم يعد هناك مجال للشك في أن السنّة قد تصدر عن غير الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم ، وتكون حسنة أو منكرة وفقا لتطابقها أو عدمه مع سنّته التي وضّحها في أحاديث أخرى .
ويعتمد المنكرون في رفض نسبة السنة إلى غير سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على كون التشريع لا يمكن أن يكون لغيره لأنّه وحي من الله الكامل المتفرّد في تشريعه لخلقه ، ولا دور لعقل المخلوق الناقص في إضافة أو نقصان أو تعقيب .
وهذا كلام صحيح ، نؤمن به ونتبنّاه لأنّه محور عقيدة التوحيد الحقّ .
والظاهر أن إخوتنا في الإيمان قد التبس عليهم معنى السنّة من المنظور الإصطلاحي الديني ، والذي يفهم منه كلّ ما صدر عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفعال وأقوال وتقرير ، ومعناها من المنظور العامّ الذي يشير إلى إعمال العقل ، لا للتعقيب أو الحذف أو الإضافة ، بل إلى التفكير والتدبّر والتأويل والإستنباط والإبتكار وفقا لمرجعية ثابتة هي الكتاب والسنّة المطهّرة ، إمّا من أجل مستجدّات لا تحتمل التعليق لأنها لا تحتمل التجاهل لضرورتها ، أو من أجل مبادرات مبتدعة يطلقها أفذاذ أخيار يرون أنها الأصلح لتلك الشريحة من الأمة في ذلك الوقت وفي ذلك المكان ، وقد تكون تلك المبادرة من العظمة ، فتتخطّى حدود زمانها ومكانها ، وتتزيّى بزيّ الإنسانية ، ويكون نفعها ذا وجهين : أخروي ودنوي .
لقد قلت أن المبادرة " مبتدعة " كونها ممّا لم تُعلم هيئته من قبل ، لكن ليس هذا هو المهمّ ، وإنما المهمّ هو موقعها في دائرة ضوء الدين المسلط على كلّ سلوك صادر من المخلوقات . فإن كانت بداخل تلك البقعة المباركة فالمشكلة قد حلّت .
ولقد ترك لنا سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم معيارا عظيما نكتشف بواسطته البدعة السيّئة والمنكرة ، وهو ما لم يتنبّه إليه المنكرون للبدعة الحسنة . هذا المعيار هو ما جاء في الحديث التالي :
وفي كتاب السنّة للأجري من طريق الوليد بن مسلم
عن سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه قال :
«
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : إذا حدث في أمّتي البدع وشُتِمَ أصحابي ، فلْيُظْهِر العالم علمه ، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين .
»
فالبدع الضلالة هي من جنس شتم صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وعليهم وسلم ، وأين ذلك من أفعال أهل الله والعارفين من أولياءه المقرّبين الذين أقاموا طرقهم وزواياهم على كمال الأدب مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أصحابه رضوان الله عليهم .