بقلم الأستاذ :
خالد
إبراهيم
ما الذي يدفع الخيّر إلى إتيان الخير إلاّ رحمة حُبّبَت في قلبه أنعم عليه بها المنعم سبحانه ، واختاره لها وأهّّله للقيام بها، والله أعلم حيث يجعل فضله ، فهو مدفوع للخير بيد التّوفيق الرّبّاني ، أرسله الرّحمن برسالة مقتبسة من رسالة الّنبوّة المقدّسة رحمةً من الرّحمة ، ونوراً من النّور ، وهدياً من الهدي .
هذه المعاني قصدنا بها رجلاً أفنى حياته خدمة للحق ورسالة الحق وعبادة الحقّ . رجل لم يجعل للّذائذ الفانية ميزاناً لراحة الضّمير ، بل اعتبرها عدماً لأنّه كان من أصحاب المبادئ السّاميَة . إنّه سيّدي الحاج بن عمر التجاني رضي الله عنه .
نسبه الشريف
هو سيّدي الحاج بن عمر بن سيّدي محمد الكبير بن سيّدي محمد البشير بن سيّدي محمد الحبيب بن القطب المكتوم والبرزخ المحمدي المعلوم سيّدنا الشيخ أحمد بن محمد التجاني رضي الله عنه و أرضاه وعنا به آمين .
مولده
ولد رضي الله عنه سنة 1904 ، وتوفي يوم الأحد 25 فيفري 1962 عن عمر يناهز 58 سنة .
ولعلّك تلاحظ - أخي العزيز - كيف أن الرّجل لم يكن من المعمّرين ، ولكنّك وبعد الإطّلاع على أعماله الجليلة وصفاته النّبيلة تدرك العناية الإلهيّة لمثل هؤلاء الأشخاص ، فهُمْ يقومون في أعمارهم الوجيزة بأعمال تستغرق السّنين الطّوال لو قسناها بميزان العقل . ولكنّها بركة القطب المكتوم سارية في أبنائه وأحفاده إلى يوم الدّين .
كان رضي الله عنه عالي الهمّة ، طاهراً مطهّراً ، إستولتْ على قلبه الرّحمة ، وأناره الله بنور العرفان ، فسار في النّاس شمسَ فضل لينشر ما أنعم الله عليه من فضله .
بدأ حياته مجاهدا بلسانه وقلمه ، ليست دعوته دعوة التراب للتراب ، وإنما هي دعوة الرّوح للرّوح ، ودعوة العلم إلى العلم ، والرّحمة إلى الرّحمة، ودعوة البرهان إلى اليقين ، غاية اليقين . لذلك استجابت لها القلوب من مختلف الطّوائف والطّبقات والمراتب.اتّخذ من إفريقية مركزاً لهاته الدّعوة لأسباب عدّة .
-
الحالة الدّينيّة والإجتماعيّة
ولم نفصل بين الحالتين لأنّ المعتقدات الإفريقية تتجاوز الفرد ، فكلّ معتقد يقابل نمطاً مميّزاً من أنماط المجتمع سواء كان المعتقد يخلق هذا النمط أم ينبثق منه .
ولأنّ أنماط السّلوك الإجتماعي تتحدّد بالمعتقدات فأوّل ما يشعر به كلّ إنسان الوازع الدّيني: أو الخوف من الخطر ، ثم الثقة في مساندة الجماعة التي ينتمي إليها ، ثم الخضوع للتقاليد التي تفرضها هذه الجماعة ، أو تفرضها الطّقوس والشّعائر الدّينيّة ،
وعليه نقول إن الدّيانة التي سادت المجتمع الإفريقي هي الدّيانة الإحيائية ، وهي مجموعة معتقدات يعتنقها مجتمع بدائي تدور في مجملها على اعتقاد أنّ في هذا الكون المنظّم قوّة تتحرّك يتعيّن على المعتقد تحديد مسار حركتها بطقوس دينيّة لمنع الكوارث التي يمكن أن تصيب الإنسان في نفسه أو ماله أو أبنائه ، وهذه القوّة عندهم كائن يعلو فوق الكائنات قام بخلق العالم دفعة واحدة ثم تسامى عن البشر ، وأخلد إلى الرّاحة ، وأناب عنه في إدارة شؤون السّماء الإله " لوا " ، حيث كلّفه بالبرق والرّعد والمطر ، والخير والموت والحياة ...الخ ، وهو منزّه عن الصّفات البشريّة . وأناب عنه في إدارة شؤون الأرض الإله " سو " ، حيث وضع في يده أدوات العمل والسّحر والخير والشّرّ ، ويتوجّه الإحيائيون إلى عبادة الأسلاف ليكونوا وسطاء لهم عند تلك القوّة الخفيّة .
-
العادات والتقاليد السّائدة
-
وأد الأطفال: وهذا لأتفه الأسباب : إذا نقص إصبع أو زاد ، المهمّ إذا ولد خلاف العادة ، والإعتقاد السّائد أن روحاً شرّيرة أتت به .
-
الكهانة
-
السّحر: صرف شيء عن حقيقته
-
الشعوذة: نظام الطّبقات .
-
الحالة السياسيّة والاقتصادية
لم تكن أحسن حظّا من سابقتها ، حيث تميّزت السياسة بنظام الملوكيّة : لكلّ قبيلة ملك ومعتقد... أمّا النّاحية الاقتصاديّة فكانت تعتمد أساساً على الزّراعة والتجارة ، ولكنّ مردود هذه الأخيرة ضعيف . وبقيت إفريقية على هذه الحال قرونا إلى أن جاء الفتح الإسلامي بوفود المسلمين إلى الحبشة ، ومنها بدأت تظهر بوادر هذا الدّين وتعاليمه السمحة .
ذكرنا هذه الأحداث حتى نعلم الأصول المكوّنة لهذا المجتمع الّذي سيقتحمه سيّدي الحاج بن عمر رضي الله عنه حيث نلحظ تواجد أقليّات مسلمة ، أغلبيات مسيحيّة ، ثمّ مجوس ووثنيين .
وهذا ما أنهض ذلك الرّجل الفذّ سيّدي الحاج بن عمر التجاني ، سليل الشّرفاء ، فترك أهله وداره ومصالحه الخاصّة ليجول هذه الأقطار الشاسعة ، ويقتحم المجاهل والمخاطر ، ليتمّم عمل أسلافه في نشر هذا الدّين القويم . فقام يدعو الضّالَّ إلى الهدى ، ويأخذ بيد المظلوم ، ويمسح الآلام عن الضعفاء والبؤساء والمنكوبين ، يدعو العالم إلى تحقيق العدالة الشّاملة ، العدالة التي تنظم حياة الرّوح مع الجسد .
فانطلق رضي الله عنه إلى مسعاه لأنّه كان دائم التفكير في شؤون العالم الإسلامي ، محبّاً للوقوف على أحوالهم ، يرجو لهم الخير والصّلاح ، وترِدُ إليه المكاتيب من سائر الأقطار حاملة أشواق أصحابها وتطلّعهم لزيارته .
ولمّا كانت زيارة هذه الأقطار تتطلّب موافقة الهيئات العليا الحاكمة سألها هل إذا أراد مسلم زيارة إخوانه في مختلف الأقطار الإفريقية أهناك مانع ، فكان الجواب أن لا مانع ، فصرّحوا له بالسّفر ، فتوجّه رضي الله عنه نحو المغرب الأقصى لزيارة جدّه بفاس ومنها إلى الرّباط فالدّار البيضاء ، ومن مطارها أخذ الطّائرة إلى (داكار) رفقة كاتبه أحمد لَعْنَايَهْ وتابعه الخاصّ محمد السّمغوني . وكان في استقباله جملة من الأفاضل وأكابر رؤساء الدّين بالسّينغال ، من بينهم سيّدي إبراهيم نياس ، وأبناء الحاج مالك سي ، وما لا يحصى من الخلائق .
ومن داكار ذهب إلى غامبيا ، ثم إلى غينيا ، وعموما فقد زار أغلب بلدان إفريقية الإستوائية والكامرون ، مستعملا في ذلك الوسائل المتاحة حسب تضاريس المنطقة : طائرات ، بواخر ، سيارات ، قطارات ، وخيول .
والملفت للنظر ، أنّ هذا السّيد العظيم كان إذا نزل ببلاد ازدحمت الجماهير حتى إنّه ليجد صعوبة في النّزول محبّة وشوقاً . فيزور مسجد تلك الجهة ، ويحاضر فيه داعياً مرشداً موجّهاً ، وناصحاً أمينا شفوقاً . وهنا سأتبع منهج التقرير في سرد الحوادث والأحداث التي واجهته في جهاده العلمي .
-
كان هدفه الأساسي الأسمى هو الدّعوة إلى الإسلام وبثّ تعاليمه السّمحة الشرعيّة والرّوحيّة ، وألّف في ذلك كتاباً أسماه (المجموع الواضح) يبيّن فيه عوائد الإسلام السّمحة ، مواجهاً بها تلك العوائد القبيحة المنتشرة هناك .
-
بعث إلى سيدي محمد الحافظ التجاني المصري يطلب منه كتبا ً في تعاليم الإسلام بلغات أجنبيّة .
-
كان ينير من اعتنق الإسلام بالعهد الأحمديّ للسّلوك .
-
كان يتصلّ برؤساء كلّ منطقة يحلّ بها ، ويدعو مَنْ لهم تأثير فيها إلى الإسلام ، فأسلم على يديه الكثير من المجوس وغيرهم من الوثنيين .
-
مواجهة الحركات الهدّامة كالقاديانية ، والوهّابية ، التي غزتهم مع الحجيج ، بل كان يعمل على نشر الوعي الديني المدعم بحبّ آل البيت ونصرة الأولياء .
-
حضّ الرّؤساء على الإهتمام بشؤون المسلمين وتقديرهم .
-
الدّعوة إلى فتح مدارس لتعليم العربيّة ، ومبادئ الشّريعة الإسلاميّة .
-
عند تعرّضه لمجموعة من المسلمين تفرقهم حزازات نفسيّة أو فوارق كان رضي الله عنه يبذل قصارى جهده لإصلاح ذات البيْن ، ويعمل لإزالتها ومحو آثارها ، كما وقع في (كنصاصة) ، حيث فوجئ بوجود شقاق مستفحل بين المسلمين منذ سنوات ، فقضى عليه ، ووعظهم وأرشدهم ، حتى صاروا إخوة بعد أن كانوا يعدّون ذلك ضرباً من المستحيل .
-
كان يدعو الحكّام إلى الإحتكاك بالمحكومين تحقيقاً للتواضع والمصالح العامّة ، كما وقع للسلطان (أحمد بن بوبكر) حيث أمره بالصّلاة بالنّاس يوم الجمعة ، فحقّق بذلك رابطة اجتماعيّة قويّة .
-
كانت الإجتماعات الخاصّة بالوظيفة تضمّ ما يزيد عن 1500 شخص في كلّ منطقة يؤمّها .
-
كانت مجالسه الوعظيّة تستغرق السّاعات الطّوال ، وكانت ثمرتها دخول الآلاف إلى الإسلام والتمسّك بالعهد الأحمدي ، تحقيقاً لقوله صلى الله عليه وسلم :
«
لئن يهدي بك الله رجلا واحداً خير لك ممّا طلعت عليه الشّمس
»
.
-
لم تقتصر دعوته على الجانب الوعظيّ والإرشاديّ فقط ، بل تعدّتها إلى المساعدات المادّية كما وقع في قبيلة (بني عريان) ، وهم قبيلة اعتادت على العري ، فلمّا مرّ عليهم قطار سيّدي بن عمر رضي الله عنه محمّلاً بالأطنان من الألبسة ، لحقوه بغية الرؤية والتوجيه ، والحصول على ما سترون به عريهم .
واستطاع رضي الله عنه أن يؤثر في مسؤولي الجهة بجعل حدّ للتعرّي في تلك الجهة ، وقد كانت له الرّيادة في ذلك .
ولو تتبعنا دقائق ما حصل له في رحلاته وجهاده لما استطعنا الإلمام بها في هذه المحاضرة ، ولكننا أردنا تسليط الضّوء على هذه الشخصية الفذّة ، ولتبيين الجهد الذي يتكبّده رجال الطريقة في نشر الإسلام الدّيانة الخاتمة ، وفي مساعدة الخلق وإسعادهم دينا ودنيا ، حتى تكون هذه المعلومات دعما للمعتقد ، وتبكيتاً للناعق المنتقد ، ولنحرّك في إخواننا الطّلبة جذوة العمل الدّؤوب نصرة لهذا المبدأ وخدمة للحق وأهله .
ونحن عندما نذكر هؤلاء العظماء فإننا نودّ بذلك أن نذكر مثلاً يُحتذَى ، وأثراً يُقتفَى في الإستماتة في نصرة الشّريعة والطّريقة ، لأنّه لا يوجد أحد أحقّ بهذه المزيّة من التجانيين .
وإيّاك أن تفشل وتقول : ومن أين لنا أن نقوم بهذا ؟ فإنّ الجود من الموجود ، وما لا يقدر على كلّه لا يترك جلّه.