بقلم الأستاذ :
يوسف نصرات
إن الكلام عن سير الرّجال وتراجم الأفاضل والأبطال يتطلّب مجهودات كبيرة ، وخاصّة إذا تعلّق الأمر برجال سجّل التاريخ فضلهم، وشهد لهم القاصي والداّني بعلوّ الهمّة ، وسداد الرأي وصلاح الحال . وما الشيخ سيدي البشير رضي الله عنه إلاّ أحد أولئك الرّجال الّذين كرّسوا حياتهمم لخدمة الدين والوطن، وذلك مصداقا لقوله تعالى :
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا
(1) .
المولد والنشأة
ولد الشيخ سيدي البشير رضي الله عنه سنة 1918 م بقمار ـ الوادي الجزائر ـ وسُجِّلَ فيما بعد في الحالة المدنيّة بتماسين .
أبوه الخليفة الشيخ سيدي العيد بن الخليفة الشيخ سيدي البشير ، وأمّه لالّه مباركة بنت سيدي أحمد العروسي التجاني والمدعوّة لالّه باكّه .
كان والده يربّيه دائما على الإعتماد على النفس منذ صغره ، ويكرّر له هذا البيت الشعري :
إنّما رجل الدّنيا وواحدها من لا يعوّل في الدّنيا على أحد
توفي والده وهو ابن تسع سنين، تاركا وصيّة للشيخ سيدي أحمد بن حمّة . ذلك ما حكاه سيدي العيد بن سالم : أن الشيخ سيّدي العيد أملى عليه الوصيّة ، وقال له : " عندما يرجع سيدي أحمد مكّنها له، وممّا جاء فيها : ( الولد ـ ويعني سيدي البشير ـ في ذمّة الله ، وفي كفالة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وفي كفالة الشيخ سيدي أحمد رضي الله عنه ) ، وكرّرها ثلاثا ثم رمقني وقال لي : وفي كفالة سيدي أحمد بن حمّه " . ولمّا قدم مولانا سيدي أحمد رضي الله عنه من تونس قابله الشيخ سيدي العيد ، وكان في حالة الإحتضار ، صرّح له بالخلافة، ثم كرّر له المقالة التي ذكرت في الوصيّة ثلاث مرّات .
ومن ذلك الحين تولّى الشّيخ سيّدي أحمد بن حمّة تربية سيّدي البشير ، وتكفّل به حسّياً ومعنويّاً . فقد أشرف على تعليمه فحفظ القرآن الكريم حفظاً دقيقاً مع ترتيله ، وتعلّم مختلف العلوم الشّرعيّة على يد مجموعة من فطاحلة العلماء نذكر منهم : الأخوين سيدي أحمد والطّاهر بسّا ، والشيخ اللقّاني ، والشيخ الجديدي ، وسي محمد بن البُرِّيه القماري ، وغيرهم . فكوّن رضي الله عنه ثقافة إسلاميّة عالية جعلته يتفوّق على جميع أقرانه. وهكذا شبّ رضي الله بين أحضان الخليفة الشيخ سيدي أحمد بن حمّه ، فكان ملازماً له حتّى في أسفاره القريبة والبعيدة . ففي أوّل سفر للشّيخ بعد خلافته كان معه سيدي البشير . كما كان يعتمد عليه في حلّ المسائل والنزاعات ، وإصلاح ذات البيْن ، ونفهم من ذلك كلّه بأنّه كان تهيئة للشيخ سيدي البشير لحمل أعباء الخلافة .
تزوج سيدي البشير من لالّه خديجة بنت الشيخ سيدي أحمد الخليفة ، وكانت رضي الله عنها تحفظ القرآن الكريم حفظاً دقيقاً ، وكانت لها ثقافة عامّة عالية جدّاً .
كما تولّى الإمامة في مسجد سيدي الحاج علي بتماسين بعد وفاة سيدي العرابي سنة 1975 م .
أخلاقه
كان الشيخ سيدي البشير على مستوى عالٍ وراقٍ من الأخلاق الزكية ، والشمائل الفاضلة تمثّلت في كونه مسالماً ومتسامحاً في تعامله مع مخلوقات الله . وممّا شهد به الّذين عاصروه خصال كانت ملازمة له :
-
الصّدق : فكان صادقا في دينه ، وفي عمله ، وخدمته لدار الخلافة ، بحيث كان رمزاً للإخلاص والّصدق .
رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ
(2) .
-
العفو: فممّا حكي عنه أنه كان يعفو عمّن ظلمه، ولا يحمل الغلّ والحقد لأحد إلاّ لأعداء الله ورسوله .
-
الإستقامة : كما كان ذا استقامة ، وهي صفة نادرة عند معاصريه ، وذا جدّ وحزم وطهارة . فمما حكي عنه أنه جعل لنفسه ورداً يوميّاً من القرآن من عشرة أحزاب .
خلافته
بعد رحيل الخليفة الشيخ سيدي أحمد بن حمّه رضي الله عنه، تولّى سيدي البشير الخلافة : وكان ذلك يوم الثلاثاء 14 صفر 1398هـ ، الموافق لـ : 24 جانفي 1978م ، وتمّت البيعة بحضور أولاد سيدي الحاج علي ، وتحت إشراف الشيخ سيدي علي بن سيدي محمود التجاني ( عين ماضي ) .
تميزت خلافته رضي الله عنه بالتجديد والبناء . استهلّها بحركة علميّة تجلّت من خلال :
-
قضائه شهر رمضان في زاوية قمار حيث كانت تلقى دروس رمضانية تميّزت بالحضور المكثّف للأحباب من جميع أرجاء الولاية ، فساهم ذلك في التأثير على الحركة العلميّة في سوف .
-
تشجيعه الشباب الأحمديّ على ضرورة التسلّح بالعلم، و كان يدعّم ذلك مادّيا ومعنويّاً .
-
رحلاته المتواصلة داخل الوطن وخارجه : عنابة ، قسنطينة ، بسكرة ، تونس العاصمة ، توزر ... الخ ، متفقّدا أحوال الأحباب ، وممتلكات الزّاوية .
-
قيامه بدور كبير في التعريف بالطّريقة والزّاوية ، وخاصّة الإتصال المباشر بالسّلطات المحلّية والوطنيّة .
الإنجازات
كانت للشيخ سيدي البشير رضي الله عنه إنجازات وأدوار كبيرة يعجز اللّسان عن الإيفاء بها ، ونذكر منها :
-
الدّور النضالي
-
قبل الاستقلال
لقد أظهر الشيخ سيدي البشير رضي الله عنه في هذه المرحلة العصيبة الّتي مرّت بها الجزائر مواقف بطوليّة ، وأعمال ثوريّة سجّلها التّاريخ بأحرف من ذهب ، لا ينكرها إلاّ متعصّب جاهل ، وتجلّت هذه المواقف من خلال
-
تحسيس الأحباب وإقناعهم بضرورة الإلتحاق بصفوف المجاهدين .
-
كان الشيخ سيدي البشير وسيدي حمّه المساعديْن المباشريْن للشيخ سيّدي أحمد بن حمّه في أعماله الثّوريّة .
-
كان مكلّفاً بإيواء المجاهدين وإطعامهم ، نذكر منهم نصرات حشّاني وغيره من المجاهدين .
-
كلّف بقضايا سرّية لصالح الثّورة .
-
كان يشتغل أمينا للمال في الخليّة الثوريّة المشكّلة في الزّاوية .
-
بعد الإستقلال
واصل الشيخ مواقفه النّبيلة ، وآراءه السّديدة الّتي كان لها عظيم الأثر في توجيه الأحباب للمساهمة في بناء الدّولة والوطن . فلما ألمّت بالجزائر محنة الغدر ، وفُرْقةُ الصّف ، وانتشار الفكر المتطرّف ، كانت له مواقف بجانب الدّولة والوطن . فقد كان يدعو في مجالسه ولقاءاته ، سواء مع أبناء الزّاوية والأحباب ، أو مع غيرهم من الأصدقاء الّذين كانوا يتردّدون عليه ، على توحيد الصّف، ونبذ العنف، وعلى محاربة الفكر المتطرّف الهدّام ، واستبداله بالفكر المعتدل البنّاء . كما كان يدعو إلى الوقوف إلى جانب السّلطة الشرعيّة ، وعلى إخماد نار الفتنة ، وإطفاء جمرتها ، وعدم مواجهة الشرّ بالشرّ ، والعنف بالعنف . فكان رضي الله عنه رحيماً يدعو دائماً على الخروج من المآزق بمسلك حسن فيه لين ، وهذا مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«
من كان آمراً بالمعروف فليكن أمره بمعروف
»
.
الدور الثقافي والعلمي
كان للتكوين الأوّلي للشيخ رضي الله عنه ، المتمثّل في ثقافته الإسلاميّة الواسعة ، بالغ الأثر في نتاجه الميداني الّذي ظهرت بصماته من خلال :
المدرسة القرآنية
كانت هذه المدرسة ، قبل إعادة بنائها ، تقوم بواجبها في تحفيظ الطّلاب كتاب الله ، وذلك منذ تاريخ تأسيس زاوية تماسين . وقام بتجديدها كلّية الشيخ سيدي البشير رضي الله عنه ، وبعد انتقاله إلى الرّفيق الأعلى دشّنها نجله الخليفة الحالي الشيخ سيدي محمد العيد نصره الله وأيّده ، يوم الثلاثاء 05 رجب 1421 هـ ، الموافق لـ 03 أكتوبر 2000 م .
الدّور الإجتماعيّ
-
كان رضي الله عنه دائم المبادرة في جمع الصّف وتوحيد الكلمة، كلّما سنحت الفرصة لذلك وخاصّة في المناسبات ، كالمولد النّبوي الشريف ، والأعياد ، وغيرها .
-
مبادراته الكبيرة الّتي ظهرت من خلال مشروع الزّواج الجماعي سواء لأولاد سيدي الحاج علي ، أو غيرهم من الأحباب ، حتّى يسهّل وييسّر لهم القيام بهذه السّنة .
-
حثّ الأحباب على الأخذ بأيدي بعضهم البعض ، وبثّ روح التّعاون والألفة والبساطة بين أفراد هذه الطّريقة .
-
مساعدة المحتاجين والمعوزين مادّياً .
وفاته
بعد هذا المشوار العظيم الذي قضاه الشيخ رضي الله عنه حاملاً لراية الخلافة في عصر التجديد بأدواره الثّلاثة : النّضالي والثقافي والإجتماعي ، لبّى الشيخ رضي الله عنه نداء ربّه في يوم الجمعة 01 شوّال 1420 هـ ، الموافق لـ 07 جانفي 2000 م بمستشفى عين النعجة بالجزائر العاصمة . وقبر يوم الأحد 03 شوّال 1420 هـ ، الموافق لـ 09 جانفي 2000 م في موكب جنائزيّ مهيب .
من وصاياه
كان الشيخ سيّدي البشير رضي الله عنه يوصي الأحباب دائما وينصحهم ، ومن أهمّ وصاياه :
-
التسامح بين الأحباب : حتى قال رضي الله عنه : ( يا أيها الأحباب تسامحوا ، فإن لم تستطيعوا فسامحوا لأجل الشّيخ ) . وكان آخر كلامه رضي الله عنه هو تسامح الأحباب مع مخلوقات الله .
-
كان يحثّ الأحباب على احترام وتقدير المقدّمين، وفي الوقت نفسه كان يأمر المقدّمين بتأطير الأحباب ، والسّعي في حلّ نزاعاتهم ومشاكلهم ، ومساعدتهم مادّيّاً ومعنويّاً .
-
كان ينصح الأحباب بالبساطة في كلّ شيء ، وقد ورث منه ذلك الخليفة الحالي ، وهو دائماً يردّد : ( عليكم بالبساطة فإنّ العمل البسيط هو الصّعب ) .
-
كان ينصح الأحباب المتزوّجين بالصّراحة بين الزّوجين .
-
وأحسن ما نختم به ، ما قاله الشيخ سيدي عبد الجبّار رضي الله عنه في حقّ الشيخ سيّدي البشير رضي الله عنه : " لقد خدم الطّريقة حيّاً وميّتاً " ،
وذلك أنّ الفضائيات بثّت صور الموكب الجنائزي نقلاً عن التلفزة الجزائريّة ، وتحدّثت بإسهاب عن الطّريقة التجانيّة .
- سورة الأحزاب ، الآية 23 .
- سورة النور ، الآية 37 .